البداية والنهاية/الجزء الأول/فصل في البحار والأنهار
قال الله تعالى: ﴿وَهُوَ ٱلَّذِی سَخَّرَ ٱلۡبَحۡرَ لِتَأۡكُلُواْ مِنۡهُ لَحۡمࣰا طَرِيࣰّا وَتَسۡتَخۡرِجُواْ مِنۡهُ حِلۡيَةࣰ تَلۡبَسُونَهَاۖ وَتَرَى ٱلۡفُلۡكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبۡتَغُواْ مِن فَضۡلِهِۦ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ ١٤ وَأَلۡقَىٰ فِی ٱلۡأَرۡضِ رَوَ ٰسِیَ أَن تَمِيدَ بِكُمۡ وَأَنۡهَـٰرࣰا وَسُبُلࣰا لَّعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ ١٥ وَعَلَـٰمَـٰتࣲۚ وَبِٱلنَّجۡمِ هُمۡ يَهۡتَدُونَ ١٦ أَفَمَن يَخۡلُقُ كَمَن لَّا يَخۡلُقُۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ١٧ وَإِن تَعُدُّواْ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ لَا تُحۡصُوهَاۤۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَغَفُورࣱ رَّحِيمࣱ ١٨﴾ [النحل:14–18]
وقال تعالى: ﴿وَمَا يَسۡتَوِی ٱلۡبَحۡرَانِ هَـٰذَا عَذۡبࣱ فُرَاتࣱ سَاۤئِغࣱ شَرَابُهُۥ وَهَـٰذَا مِلۡحٌ أُجَاجࣱۖ وَمِن كُلࣲّ تَأۡكُلُونَ لَحۡمࣰا طَرِيࣰّا وَتَسۡتَخۡرِجُونَ حِلۡيَةࣰ تَلۡبَسُونَهَاۖ وَتَرَى ٱلۡفُلۡكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبۡتَغُواْ مِن فَضۡلِهِۦ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ ١٢﴾ [فاطر:12]
وقال تعالى: ﴿وَهُوَ ٱلَّذِی مَرَجَ ٱلۡبَحۡرَيۡنِ هَـٰذَا عَذۡبࣱ فُرَاتࣱ وَهَـٰذَا مِلۡحٌ أُجَاجࣱ وَجَعَلَ بَيۡنَهُمَا بَرۡزَخࣰا وَحِجۡرࣰا مَّحۡجُورࣰا ٥٣﴾ [الفرقان:53]
وقال تعالى: ﴿مَرَجَ ٱلۡبَحۡرَيۡنِ يَلۡتَقِيَانِ ١٩ بَيۡنَهُمَا بَرۡزَخࣱ لَّا يَبۡغِيَانِ ٢٠﴾ [الرحمن:19–20]
فالمراد بالبحرين: البحر الملح المر، وهو الأجاج، والبحر العذب هو هذه الأنهار السارحة بين أقطار الأمصار، لمصالح العباد، قاله ابن جريج، وغير واحد من الأئمة.
وقال تعالى: ﴿وَمِنۡ ءَايَـٰتِهِ ٱلۡجَوَارِ فِی ٱلۡبَحۡرِ كَٱلۡأَعۡلَـٰمِ ٣٢ إِن يَشَأۡ يُسۡكِنِ ٱلرِّيحَ فَيَظۡلَلۡنَ رَوَاكِدَ عَلَىٰ ظَهۡرِهِۦۤۚ إِنَّ فِی ذَ ٰلِكَ لَءَايَـٰتࣲ لِّكُلِّ صَبَّارࣲ شَكُورٍ ٣٣ أَوۡ يُوبِقۡهُنَّ بِمَا كَسَبُواْ وَيَعۡفُ عَن كَثِيرࣲ ٣٤﴾ [الشورى:32–34]
وقال تعالى: ﴿أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱلۡفُلۡكَ تَجۡرِی فِی ٱلۡبَحۡرِ بِنِعۡمَتِ ٱللَّهِ لِيُرِيَكُم مِّنۡ ءَايَـٰتِهِۦۤۚ إِنَّ فِی ذَ ٰلِكَ لَءَايَـٰتࣲ لِّكُلِّ صَبَّارࣲ شَكُورࣲ ٣١ وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوۡجࣱ كَٱلظُّلَلِ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخۡلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ فَلَمَّا نَجَّىٰهُمۡ إِلَى ٱلۡبَرِّ فَمِنۡهُم مُّقۡتَصِدࣱۚ وَمَا يَجۡحَدُ بِـَٔايَـٰتِنَاۤ إِلَّا كُلُّ خَتَّارࣲ كَفُورࣲ ٣٢﴾ [لقمان:31–32]
وقال تعالى: ﴿إِنَّ فِی خَلۡقِ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَـٰفِ ٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ وَٱلۡفُلۡكِ ٱلَّتِی تَجۡرِی فِی ٱلۡبَحۡرِ بِمَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ وَمَاۤ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَاۤءِ مِن مَّاۤءࣲ فَأَحۡيَا بِهِ ٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَاۤبَّةࣲ وَتَصۡرِيفِ ٱلرِّيَـٰحِ وَٱلسَّحَابِ ٱلۡمُسَخَّرِ بَيۡنَ ٱلسَّمَاۤءِ وَٱلۡأَرۡضِ لَءَايَـٰتࣲ لِّقَوۡمࣲ يَعۡقِلُونَ ١٦٤﴾ [البقرة:164]
فامتنَّ تعالى على عباده بما خلق لهم من البحار والأنهار، فالبحر المحيط بسائر أرجاء الأرض، وما ينبت منه في جوانبها، الجميع مالح الطعم مر، وفي هذا حكمة عظيمة لصحة الهواء، إذ لو كان حلوا لأنتن الجو، وفسد الهواء، بسبب ما يموت فيه من الحيوانات، فكان يؤدي إلى تفاني بني آدم.
ولكن اقتضت الحكمة البالغة أن يكون على هذه الصفة لهذه المصلحة. ولهذا لما سئل رسول الله ﷺ عن البحر قال: « هو الطهور ماؤه، الحل ميتته ».
وأما الأنهار: فماؤها حلو، عذب، فرات سائغ شرابها، لمن أراد ذلك. وجعلها جارية، سارحة ينبعها تعالى في أرض، ويسوقها إلى أخرى، رزقًا للعباد. ومنها: كبار، ومنها: صغار، بحسب الحاجة والمصلحة.
وقد تكلم أصحاب علم الهيئة والتفسير على تعداد البحار، والأنهار الكبار، وأصول منابعها، وإلى أين ينتهي سيرها، بكلام فيه حكم ودلالات على قدرة الخالق تعالى، وأنه فاعل بالاختيار والحكمة.
وقوله تعالى: ﴿وَٱلۡبَحۡرِ ٱلۡمَسۡجُورِ ٦﴾ [الطور:6]
فيه قولان:
أحدهما: أن المراد به البحر الذي تحت العرش المذكور في حديث الأوعال. وأنه فوق السموات السبع، بين أسفله وأعلاه، كما بين سماء إلى سماء، وهو الذي ينزل منه المطر قبل البعث، فتحيا منه الأجساد من قبورها. وهذا القول هو اختيار الربيع بن أنس.
والثاني: أن البحر اسم جنس يعم سائر البحار التي في الأرض، وهو قول الجمهور.
واختلفوا في معنى البحر المسجور: فقيل المملوء، وقيل: يصير يوم القيامة نارا تؤجج، فيحيط بأهل الموقف، كما ذكرناه في التفسير، عن علي، وابن عباس، وسعيد بن جبير، وابن مجاهد، وغيرهم.
وقيل: المراد به الممنوع المكفوف المحروس عن أن يطغى، فيغمر الأرض ومن عليها، فيغرقوا.
رواه الوالبي عن ابن عباس، وهو قول السدي وغيره، ويؤيده الحديث الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا يزيد، حدثنا العوام، حدثني شيخ كان مرابطًا بالساحل، قال: لقيت أبا صالح مولى عمر بن الخطاب فقال: حدثنا عمر بن الخطاب، عن رسول الله ﷺ قال:
« ليس من ليلة، إلا والبحر يشرف فيها ثلاث مرات على الأرض، يستأذن الله عز وجل أن يتفصح عليهم، فيكفه الله عز وجل ».
ورواه إسحاق بن راهويه، عن يزيد بن هارون، عن العوام بن حوشب، حدثني شيخ مرابط قال: خرجت ليلة لمحرس، لم يخرج أحد من المحرس غيري، فأتيت الميناء، فصعدت، فجعل يخيل إلي أن البحر يشرف، يحاذي برءوس الجبال، فعل ذلك مرارًا، وأنا مستيقظ، فلقيت أبا صالح فقال:
حدثنا عمر بن الخطاب أن رسول الله ﷺ قال:
« ما من ليلة إلا والبحر يشرف ثلاث مرات، يستأذن الله أن يتفصح عليهم، فيكفه الله عز وجل ».
في إسناده رجل مبهم، والله أعلم.
وهذا من نعمه تعالى على عباده أن كف شر البحر عن أن يطغى عليهم، وسخره لهم، يحمل مراكبهم ليبلغوا عليها إلى الأقاليم النائية، بالتجارات وغيرها، وهداهم فيه بما خلقه في السماء والأرض، من النجوم والجبال التي جعلها لهم علامات يهتدون بها في سيرهم، وبما خلق لهم فيه من اللآلىء، والجواهر النفيسة، العزيزة الحسنة الثمينة، التي لا توجد إلا فيه، وبما خلق فيه من الدواب الغريبة، وأحلها لهم حتى ميتتها.
كما قال تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمۡ صَيۡدُ ٱلۡبَحۡرِ وَطَعَامُهُۥ﴾ [المائدة:96]
وقال النبي ﷺ: « هو الطهور ماؤه، الحل ميتته ».
وفي الحديث الآخر:
« أحلت لنا ميتتان ودمان: السمك والجراد، والكبد والطحال ».
رواه أحمد، وابن ماجه، وفي إسناده نظر.
وقد قال الحافظ أبو بكر البزار في (مسنده): وجدت في كتاب عن محمد بن معاوية البغدادي، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة رفعه قال:
« كلم الله هذا البحر الغربي، وكلم البحر الشرقي، فقال للغربي: إني حامل فيك عبادًا من عبادي، فكيف أنت صانع بهم؟.
قال أغرقهم.
قال: بأسك في نواحيك، وحرمه الحلية والصيد.
وكلم هذا البحر الشرقي، فقال: إني حامل فيك عبادًا من عبادي، فما أنت صانع بهم؟.
قال: أحملهم على يدي، وأكون لهم كالوالدة لولدها، فأثابه الحلية والصيد. ثم قال لا تعلم أحدًا ».
ما رواه عن سهيل إلا عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر، وهو منكر الحديث.
قال: وقد رواه سهيل، عن عبد الرحمن بن أبي عياش، عن عبد الله بن عمرو موقوفًا.
قلت: الموقوف على عبد الله بن عمرو بن العاص أشبه، فإنه قد كان وجد يوم اليرموك زاملتين مملوءتين كتبًا من علوم أهل الكتاب، فكان يحدث منهما بأشياء كثيرة من الإسرائيليات، منها: المعروف، والمشهور، والمنكور، والمردود.
فأما المعروف: فتفرد به عبد الرحمن بن عبد الله بن عمرو بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، أبو القاسم المدني قاضيها.
قال فيه الإمام أحمد: ليس بشيء، وقد سمعته منه، ثم مزقت حديثه، كان كذابًا، وأحاديثه مناكير.
وكذا ضعَّفه ابن معين، وأبو زرعة، وأبو حاتم، والجوزجاني، والبخاري، وأبو داود، والنسائي.
وقال ابن عدي: عامة أحاديثه مناكير، وأفظعها حديث البحر.
قال علماء التفسير: المتكلمون على العروض، والأطوال، والبحار، والأنهار، والجبال، والمساحات، وما في الأرض من المدن، والخراب والعمارات، والأقاليم السبعة الحقيقية، في اصطلاحهم، والأقاليم المتعددة العرفية، وما في البلدان والأقاليم من الخواص، والنباتات، وما يوجد في كل قطر من صنوف المعادن والتجارات.
قالوا: الأرض مغمورة بالماء العظيم، إلا مقدار الربع منها، وهو: تسعون درجة، والعناية الإلهية اقتضت انحسار الماء عن هذا القدر منها، لتعيش الحيوانات عليها، وتنبت الزرع، والثمار منها، كما قال تعالى: ﴿وَٱلۡأَرۡضَ وَضَعَهَا لِلۡأَنَامِ ١٠ فِيهَا فَـٰكِهَةࣱ وَٱلنَّخۡلُ ذَاتُ ٱلۡأَكۡمَامِ ١١ وَٱلۡحَبُّ ذُو ٱلۡعَصۡفِ وَٱلرَّيۡحَانُ ١٢ فَبِأَیِّ ءَالَاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ١٣﴾ [الرحمن:10–13].
قالوا: المعمور من هذا البادي منها قريب الثلثين منه، أو أكثر قليلًا، وهو خمس وتسعون درجة.
قالوا: فالبحر المحيط الغربي، ويقال له: أوقيانوس، وهو الذي يتاخم بلاد المغرب، وفيه الجزائر الخالدات، وبينها وبين ساحله عشر درج، مسافة شهر تقريبًا.
وهو بحر لا يمكن سلوكه، ولا ركوبه، لكثرة موجه، واختلاف ما فيه من الرياح والأمواج، وليس فيه صيد، ولا يستخرج منه شيء، ولا يسافر فيه لمتجر، ولا لغيره، وهو آخذ في ناحية الجنوب، حتى يسامت الجبال القمر.
ويقال جبال القمر، التي منها أصل منبع نيل مصر، ويتجاوز خط الإستواء، ثم يمتد شرقًا، ويصير جنوبي الأرض.
وفيه هناك جزائر الزابج، وعلى سواحله خراب كثير. ثم يمتد شرقًا وشمالًا، حتى يتصل بحر الصين والهند. ثم يمتد شرقًا حتى يسامت نهاية الأرض الشرقية المكشوفة. وهناك بلاد الصين.
ثم ينعطف في شرق الصين، إلى جهة الشمال، حتى يجاوز بلاد الصين، ويسامت سد يأجوج، ومأجوج.
ثم ينعطف، ويستدير على أراضي غير معلومة الأحوال.
ثم يمتد مغربًا في شمال الأرض، ويسامت بلاد الروس، ويتجاوزها، ويعطف مغربًا وجنوبًا، ويستدير على الأرض، ويعود إلى جهة الغرب، وينبثق من الغربي، إلى متن الأرض الزقاق، الذي ينتهي أقصاه إلى أطراف الشام من الغرب.
ثم يأخذ في بلاد الروم، حتى يتصل بالقسطنطينية وغيرها من بلادهم.
وينبعث من المحيط الشرقي بحار أخر، فيها جزائر كثيرة، حتى إنه يقال: إن في بحر الهند ألف جزيرة، وسبعمائة جزيرة، فيها مدن، وعمارات، سوى الجزائر العاطلة، ويقال لها: البحر الأخضر. فشرقيه بحر الصين، وغربيه بحر اليمن، وشماله بحر الهند، وجنوبيه غير معلوم.
وذكروا أن بين بحر الهند، وبحر الصين، جبالًا فاصلة بينهما، وفيها فجاج يسلك المراكب بينها، يسيرها لهم الذي خلقها، كما جعل مثلها في البر أيضًا، قال الله تعالى: { وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ } ﴿وَجَعَلۡنَا فِی ٱلۡأَرۡضِ رَوَ ٰسِیَ أَن تَمِيدَ بِهِمۡ وَجَعَلۡنَا فِيهَا فِجَاجࣰا سُبُلࣰا لَّعَلَّهُمۡ يَهۡتَدُونَ ٣١﴾ [الأنبياء:31].
وقد ذكر بطليموس أحد ملوك الهند، في كتابه المسمى (بالمجسطي) الذي عُرب في زمان المأمون، وهو أصل هذه العلوم، أن البحار المتفجرة من المحيط الغربي والشرقي، والجنوبي والشمالي، كثيرة جدًا.
فمنها ما هو واحد، ولكن يسمى بحسب البلاد المتاخمة له. فمن ذلك بحر القلزم. والقلزم: قرية على ساحله، قريب من أيلة.
وبحر فارس، وبحر الخزرة، وبحر ورنك، وبحر الروم، وبحر بنطش، وبحر الأزرق، مدينة على ساحله. وهو بحر القرم أيضًا، ويتضايق حتى يصب في بحر الروم، عند جنوبي القسطنطينية، وهو خليج القسطنطينية.
ولهذا تسرع المراكب في سيرها من القرم إلى بحر الروم، وتبطيء إذا جاءت من الإسكندرية إلى القرم، لاستقبالها جريان الماء.
وهذا من العجائب في الدنيا، فإن كل ماء جار، فهو حلو إلا هذا، وكل بحر راكد، فهو ملح أجاج، إلا ما يذكر عن بحر الخزر، وهو بحر جرجان، وبحر طبرستان، أن فيه قطعة كبيرة ماء حلوًا فراتًا، على ما أخبر به المسافرون عنه.
قال أهل الهيئة: وهو بحر مستدير الشكل إلى الطول ما هو. وقيل: إنه مثلث كالقلع، وليس هو متصلًا بشيء من البحر المحيط، بل منفرد وحده، وطوله ثمانمائة ميل، وعرضه ستمائة، وقيل أكثر من ذلك، والله أعلم.
ومن ذلك: البحر الذي يخرج منه المد والجزر، عند البصرة، وفي بلاد المغرب، نظيره أيضًا يتزايد الماء من أول الشهر، ولا يزال في زيادة إلى تمام الليلة الرابعة عشر منه، وهو المد.
ثم يشرع في النقص، وهو الجزر، إلى آخر الشهر.
وقد ذكروا تحديد هذه البحار، ومبتداها، ومنتهاها، وذكروا ما في الأرض من البحيرات المجتمعة من الأنهار، وغيرها من السيول، وهي البطائح.
وذكروا ما في الأرض من الأنهار المشهورة الكبار، وذكروا ابتداءها وانتهاءها، ولسنا بصدد بسط ذلك والتطويل فيه، وإنما نتكلم على ما يتعلق بالأنهار الوارد ذكرها في الحديث.
وقد قال الله تعالى: ﴿ٱللَّهُ ٱلَّذِی خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاۤءِ مَاۤءࣰ فَأَخۡرَجَ بِهِۦ مِنَ ٱلثَّمَرَ ٰتِ رِزۡقࣰا لَّكُمۡۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلۡفُلۡكَ لِتَجۡرِیَ فِی ٱلۡبَحۡرِ بِأَمۡرِهِۦۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلۡأَنۡهَـٰرَ ٣٢ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَ دَاۤئِبَيۡنِۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلَّيۡلَ وَٱلنَّهَارَ ٣٣ وَءَاتَىٰكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلۡتُمُوهُۚ وَإِن تَعُدُّواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ لَا تُحۡصُوهَاۤۗ إِنَّ ٱلۡإِنسَـٰنَ لَظَلُومࣱ كَفَّارࣱ ٣٤﴾ [إبراهيم:32–34].
ففي (الصحيحين): من طريق قتادة، عن أنس بن مالك، عن مالك بن صعصعة، أن رسول الله ﷺ، لما ذكر سدرة المنتهى، قال:
« فإذا يخرج من أصلها نهران باطنان، ونهران ظاهران. فأما الباطنان: ففي الجنة، وأما الظاهران: فالنيل، والفرات ».
وفي لفظ في البخاري: وعنصرهما أي مادتهما، أو شكلهما، وعلى صفتهما، ونعتهما، وليس في الدنيا مما في الجنة، إلا سماوية.
وفي (صحيح مسلم): من حديث عبيد الله بن عمر، عن خبيب بن عبد الرحمن، عن حفص بن عاصم، عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: « سيحان، وجيحان، والفرات، والنيل، كل من أنهار الجنة ».
وقال الإمام أحمد: حدثنا ابن نمير، ويزيد، أنبأنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال رسول الله ﷺ:
« فجرت أربعة أنهار من الجنة: الفرات، والنيل، وسيحان، وجيحان ». وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم.
وكأن المراد، والله أعلم من هذا: أن هذه الأنهار تشبه أنهار الجنة في صفائها وعذوبتها وجريانها، ومن جنس تلك في هذه الصفات ونحوها، كما قال في الحديث الآخر، الذي رواه الترمذي، وصححه من طريق سعيد بن عامر، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، أن رسول الله ﷺ قال: « العجوة من الجنة، وفيها شفاء من السم ».
أي تشبه ثمر الجنة، لا أنها مجتناة من الجنة، فإن الحس يشهد بخلاف ذلك، فتعين أن المراد غيره.
وكذا قوله ﷺ: « الحمى من فيح جهنم، فأبردوها بالماء ».
وكذا قوله: « إذا اشتد الحمى، فأبردوها بالماء، فإن شدة الحر من فيح جهنم ».
وهكذا هذه الأنهار، أصل منبعها مشاهد من الأرض.
أما النيل: وهو النهر الذي ليس في أنهار الدنيا له نظير في خفته، ولطافته، وبعد مسراه فيما بين مبتداه إلى منتهاه؛ فمبتداه من الجبال القمر، أي البيض. ومنهم من يقول: جبال القمر بالإضافة إلى الكواكب، وهي: في غربي الأرض، وراء خط الإستواء، إلى الجانب الجنوبي.
ويقال: إنها حمر ينبع من بينها عيون، ثم يجتمع من عشر مسيلات متباعدة، ثم يجتمع كل خمسة منها في بحر، ثم يخرج منها أنهار ستة، ثم يجتمع كلها في بحيرة أخرى، ثم يخرج منها نهر واحد هو: النيل، فيمر على بلاد السودان الحبشة، ثم على النوبة، ومدينتها العظمى دمقلة، ثم على أسوان، ثم يفدُ على ديار مصر.
وقد تحمل إليها من بلاد الحبشة زيادات أمطارها، واجترف من ترابها، وهي محتاجة إليهما معًا، لأن مطرها قليل، لا يكفي زروعها، وأشجارها.
وتربتها رمال، لا تنبت شيئًا، حتى يجيء النيل بزيادته وطينه، فينبت فيه ما يحتاجون إليه، وهي من أحق الأراضي، بدخولها في قوله تعالى: ﴿أَوَلَمۡ يَرَوۡاْ أَنَّا نَسُوقُ ٱلۡمَاۤءَ إِلَى ٱلۡأَرۡضِ ٱلۡجُرُزِ فَنُخۡرِجُ بِهِۦ زَرۡعࣰا تَأۡكُلُ مِنۡهُ أَنۡعَـٰمُهُمۡ وَأَنفُسُهُمۡۚ أَفَلَا يُبۡصِرُونَ ٢٧﴾ [السجدة:27].
ثم يجاوز النيل مصر قليلًا، فيفترق شطرين عند قرية على شاطئه، يقال لها: شطنوف، فيمر الغربي على رشيد، ويصب في البحر المالح.
وأما الشرقي: فتفترق أيضًا عند جوجر فرقتين، تمر الغربية منهما على دمياط من غربيها، ويصب في البحر. والشرقية منهما تمر على أشمون طناح، فيصب هناك في بحيرة شرقي دمياط، يقال لها بحيرة تنيس، وبحيرة دمياط.
وهذا بعد عظيم فيما بين مبتداه إلى منتهاه. ولهذا كان ألطف المياه.
قال ابن سينا: له خصوصيات دون مياه سائر الأرض.
فمنها: أنه أبعدها مسافة من مجراه إلى أقصاه.
ومنها: أنه يجري على صخور ورمال، ليس فيه خز، ولا طحلب، ولا أوحال.
ومنها: أنه لا يخضر فيه حجر، ولا حصاة، وما ذاك إلا لصحة مزاجه، وحلاوته، ولطافته.
ومنها: أن زيادته في أيام نقصان سائر الأنهار، ونقصانه في أيام زيادتها وكثرتها.
وأما ما يذكره بعضهم من أن أصل منبع النيل من مكان مرتفع، اطلع عليه بعض الناس، فرأى هناك هولًا عظيمًا، وجواري حسانًا، وأشياء غريبة، وأن الذي اطلع على ذلك، لا يمكنه الكلام بعد هذا، فهو من خرافات المؤرخين، وهذيانات الأفاكين.
وقد قال عبدالله بن لهيعة، عن قيس بن الحجاج، عمن حدثه قال: لما فتح عمرو بن عاص مصر، أتى أهلها إليه، حين دخل شهر بؤنة من أشهر العجم القبطية، فقالوا: أيها الأمير إن لنيلنا هذا سنة، لا يجري إلا بها.
فقال لهم: وما ذاك؟
قالوا: إذا كان لثنتي عشرة ليلة، خلت من هذا الشهر، عمدنا إلى جارية بكر بين أبويها، فأرضينا أبويها، وجعلنا عليها من الحلي، والثياب أفضل ما يكون، ثم ألقيناها في هذا النيل، فقال لهم عمرو:
إن هذا لا يكون في الإسلام، وإن الإسلام يهدم ما قبله، فأقاموا بؤنة، والنيل لا يجري لا قليلًا، ولا كثيرًا.
وفي رواية: فأقاموا بؤنة، وأبيب، ومسرى، وهو لا يجري، حتى هموا بالجلاء.
فكتب عمرو إلى عمر بن الخطاب بذلك، فكتب إليه عمر: إنك قد أصبت بالذي فعلت، وإني قد بعثت إليك بطاقة، داخل كتابي هذا، فألقها في النيل.
فلما قدِمَ كتابه، أخذ عمرو البطاقة، ففتحها، فإذا فيها: من عبد الله عمر، أمير المؤمنين، إلى نيل مصر، أما بعد:
فإن كنت تجري من قبلك، فلا تجرِ، وإن كان الله الواحد القهار هو الذي يجريك، فنسأل الله أن يجريك.
فألقى عمرو البطاقة في النيل، فأصبح يوم السبت. وقد أجرى الله النيل، ستة عشر ذراعًا، في ليلة واحدة، وقطع الله تلك السنة، عن أهل مصر إلى اليوم.
وأما الفرات: فأصلها من شمالي أررن الروم، فتمر إلى قرب ملطيه، ثم تمر على شميشاط، ثم على البيرة قبليها، ثم تشرق إلى بالس، وقلعة جعبر، ثم الرقة، ثم إلى الرحبة شماليها، ثم إلى عانة، ثم إلى هيت، ثم إلى الكوفة، ثم تخرج إلى فضاء العراق، ويصب في بطائح كبار، أي بحيرات وترد إليها، ويخرج منها أنهار كبار معروفة.
وأما سيحان: ويقال له سيحون أيضًا، فأوله من بلاد الروم، ويجري من الشمال، والغرب، إلى الجنوب، والشرق، وهو غربي مجرى جيحان ودونه في القدر، وهو ببلاد الأرض التي تعرف اليوم ببلاد سيس، وقد كانت في أول الدولة الإسلامية في أيدي المسلمين.
فلما تغلب الفاطميون على الديار المصرية، وملكوا الشام وأعمالها، عجزوا عن صونها عن الأعداء، فتغلب تقفور الأرمني على هذه البلاد، أعني بلاد سيس، في حدود الثلاثمائة، وإلى يومنا هذا. والله المسؤول عودها إلينا بحوله وقوته.
ثم يجتمع سيحان وجيحان عند أذنه فيصيران نهرًا واحدًا. ثم يصبان في بحر الروم بين أياس، وطرسوس.
وأما جيحان: ويقال له جيحون أيضًا، وتسميه العامة جاهان. وأصله في بلاد الروم، ويسير في بلاد سيس، من الشمال إلى الجنوب، وهو يقارب الفرات في القدر، ثم يجتمع هو وسيحان عند أذنة، فيصيران نهرًا واحدًا، ثم يصبان في البحر عند اياس، وطرسوس، والله أعلم.