البداية والنهاية/الجزء الأول/فصل: فيما ورد في صفة خلق العرش والكرسي
قال الله تعالى: { رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ } [غافر: 15] . وقال تعالى: { فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ } [المؤمنون: 116] .
وقال الله تعالى: { اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } [النمل: 26] .
وقال: { وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ } [البروج: 14 -15] .
وقال تعالى: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى }. [طه: 5] .
وقال: { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } [الرعد: 2] . في غير ما آية من القرآن.
وقال تعالى: { الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا } [غافر: 7] .
وقال تعالى: { وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ } [الحاقة: 17] .
وقال تعالى: { وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [الزمر: 75] .
وفي الدعاء المروي في الصحيح في دعاء الكرب: « لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش الكريم، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض رب العرش الكريم ».
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا يحيى بن العلاء، عن عمه شعيب بن خالد، حدثني سماك بن حرب، عن عبد الله بن عميرة، عن الأحنف بن قيس، عن عباس بن عبد المطلب، قال: كنا جلوسا مع رسول الله ﷺ، بالبطحاء، فمرت سحابة، فقال رسول الله ﷺ: « أتدرون ما هذا؟ »
قال: قلنا السحاب.
قال: « والمزن ».
قال: قلنا: والمزن.
قال: « والعنان ».
قال: فسكتنا.
فقال: « هل تدرون كم بين السماء والأرض؟ »
قال قلنا: الله ورسوله أعلم.
قال: « بينهما مسيرة خمسمائة سنة. ومن كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة سنة. وكثف كل سماء مسيرة خمسمائة سنة.
وفوق السماء السابعة بحر، بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض، ثم فوق ذلك ثمانية أوعال بين ركبهن وأظلافهن كما بين السماء والأرض، ثم على ظهورهم العرش، بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض، والله فوق ذلك، وليس يخفى عليه من أعمال بني آدم شيء ».
هذا لفظ الإمام أحمد، ورواه أبو داود، وابن ماجه، والترمذي، من حديث سماك بإسناده نحوه.
وقال الترمذي: هذا حديث حسن، وروى شريك بعض هذا الحديث عن سماك، ووقفه.
ولفظ أبي داود: « وهل تدرون بُعد ما بين السماء والأرض؟ ».
قالوا: لا ندري.
قال: « بعد ما بينهما إما واحدة أو اثنتين أو ثلاثة وسبعون سنة » والباقي نحوه.
وقال أبو داود: حدثنا عبد الأعلى بن حماد، ومحمد بن المثنى، ومحمد بن بشار، وأحمد بن سعيد الرباطي، قالوا: حدثنا وهب بن جرير.
قال أحمد: كتبناه من نسخته، وهذا لفظه، قال حدثنا أبي، قال سمعت محمد بن إسحاق، يحدث عن يعقوب بن عقبة، عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، عن جده، قال: أتى رسول الله ﷺ أعرابي، فقال: يا رسول الله، جهدت الأنفس، وجاعت العيال، ونهكت الأموال، وهلكت الأنعام، فاستسق الله لنا، فإنا نستشفع بك على الله، ونستشفع بالله عليك.
قال رسول الله ﷺ: « ويحك أتدري ما تقول؟
وسبح رسول الله ﷺ، فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه.
ثم قال: ويحك إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه، شأن الله أعظم من ذلك.
ويحك أتدري ما الله؟! إن عرشه على سمواته لهكذا.
وقال: بأصابعه مثل القبة عليه، وإنه ليئط به أطيط الزحل بالراكب ».
قال ابن بشار في حديثه: « إن الله فوق عرشه، وعرشه فوق سمواته... » وساق الحديث
وقال عبد الأعلى: وابن المثنى، وابن بشار، عن يعقوب بن عقبة، وجبير بن محمد بن جبير، عن أبيه، عن جده.
قال أبو داود: والحديث بإسناد أحمد بن سعيد، وهو الصحيح، وافقه عليه جماعة منهم: يحيى بن معين، وعلي بن المديني، ورواه جماعة منهم عن ابن إسحاق، كما قال أحمد أيضا.
وكان سماع عبد الأعلى وابن المثنى وابن بشار في نسخة واحدة فيما بلغني، تفرد بإخراجها أبو داود.
وقد صنف الحافظ أبو القاسم ابن عساكر الدمشقي جزءا في الرد على هذا الحديث سماه: ببيان الوهم والتخليط، الواقع في حديث الأطيط..
واستفرغ وسعه في الطعن على محمد بن إسحاق بن بشار، راويه، وذكر كلام الناس فيه، ولكن قد روي هذا اللفظ من طريق أخرى عن غير محمد بن إسحاق.
فرواه عبد بن حميد، وابن جرير، في (تفسيريهما)، وابن أبي عاصم، والطبراني، في كتابي (السنة) لهما، والبزار في (مسنده)، والحافظ الضياء المقدسي في (مختاراته)، من طريق أبي إسحاق السبيعي، عن عبد الله بن خليفة، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال:
أتت امرأة إلى رسول الله ﷺ، فقالت: ادع الله أن يدخلني الجنة.
قال: (فعظَّم الربَّ تبارك وتعالى).
وقال: إن كرسيه وسع السموات والأرض، وإن له أطيطًا، كأطيط الزحل الجديد من ثقله ».
عبد الله بن خليفة هذا: ليس بذاك المشهور، وفي سماعه من عمر نظر، ثم منهم من يرويه موقوفًا، ومرسلا، ومنهم من يزيد فيه زيادة غريبة، والله أعلم.
وثبت في (صحيح البخاري): عن رسول الله ﷺ، أنه قال:
« إذا سألتم الله الجنة، فسلوه الفردوس، فإنه أعلى الجنة، وأوسط الجنة، وفوقه عرش الرحمن ».
يروى (وفوقَه) بالفتح على الظرفية، وبالضم، قال: شيخنا الحافظ المزي، وهو أحسن، أي وأعلاها عرش الرحمن.
وقد جاء في بعض الآثار: أن أهل الفردوس يسمعون أطيط العرش، وهو تسبيحه وتعظيمه وما ذاك إلا لقربهم منه.
وفي الصحيح أن رسول الله ﷺ، قال: « لقد اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ ».
وذكر الحافظ ابن الحافظ: محمد بن عثمان بن أبي شيبة، في كتاب (صفة العرش) عن بعض السلف: أن العرش مخلوق من ياقوتة حمراء، بُعد ما بين قطريه، مسيرة خمسين ألف سنة.
وذكرنا عند قوله تعالى: { تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } [المعارج: 4] أنه بعد ما بين العرش إلى الأرض السابعة مسيرة خمسين ألف سنة، واتساعه خمسون ألف سنة.
وقد ذهب طائفة من أهل الكلام إلى أن العرش فلك مستدير من جميع جوانبه، محيط بالعالم من كل جهة، ولذا سموه الفلك التاسع والفلك الأطلس، والأثير.
وهذا ليس بجيد، لأنه قد ثبت في الشرع أن له قوائم تحمله الملائكة، والفلك لا يكون له قوائم ولا يحمل، وأيضًا فإنه فوق الجنة، والجنة فوق السموات، وفيها مائة درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، فالبعد الذي بينه وبين الكرسي ليس هو نسبة فلك إلى فلك.
وأيضًا فإن العرش في اللغة عبارة عن السرير الذي للملك، كما قال تعالى: { وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ } [النمل: 23] وليس هو فلكًا، ولا تفهم منه العرب ذلك. والقرآن إنما نزل بلغة العرب فهو سرير ذو قوائم تحمله الملائكة، وهو كالقبة على العالم، وهو سقف المخلوقات.
قال الله تعالى: { الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا } [غافر: 7]
وقد تقدم في حديث الأوعال أنهم ثمانية، وفوق ظهورهن العرش، وقال تعالى: { وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ } [الحاقة: 17] .
وقال شهر بن حوشب: حملة العرش ثمانية: أربعة منهم يقولون سبحانك اللهم وبحمدك، لك الحمد على حلمك بعد علمك، وأربعة يقولون: سبحانك اللهم وبحمدك، لك الحمد على عفوك بعد قدرتك.
فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد:
حدثنا عبد الله بن محمد، هو أبو بكر ابن أبي شيبة، حدثنا عبدة بن سليمان، عن محمد بن إسحاق، عن يعقوب بن عقبة، عن عكرمة، عن ابن عباس:
أن رسول الله ﷺ صدَّق أمية يعني ابن أبي الصلت في بيتين من شعره فقال:
رجل وثور تحت رجل يمينه * و النسر للأخرى وليث مرصد
فقال رسول الله ﷺ: « صدق ».
فقال:
والشمس تطلع كل آخر ليلة * حمراء مطلع لونها متورد
تأبى فلا تبدو لنا في رسلها * إلا معذبة وإلا تجلد
فقال رسول الله ﷺ: « صدق ».
فإنه حديث صحيح الإسناد رجاله ثقات. وهو يقتضي أن حملة العرش اليوم أربعة، فيعارضه حديث الأوعال. اللهم إلا أن يقال إن إثبات هؤلاء الأربعة على هذه الصفات لا ينفي ما عداهم. والله أعلم.
ومن شعر أمية بن أبي الصلت في العرش قوله:
مجِّدوا الله فهو للمجد أهل * ربنا في السماء أمسى كبيرا
بالبناء العالي الذي بهر النا * س وسوى فوق السماء سريرا
شرجعًا لا يناله بصر العيـ * ـن ترى حوله الملائك صورا
صور: جمع، أصور: وهو المائل العنق لنظره إلى العلو. والشرجع: هو العالي المنيف.
والسرير: هو العرش في اللغة.
ومن شعر عبد الله بن رواحة رضي الله عنه، الذي عرض به عن القراءة لامرأته حين اتهمته بجاريته:
شهدت بأن وعد الله حق * وأن النار مثوى الكافرينا
وأن العرش فوق الماء طاف * وفوق العرش رب العالمينا
وتحمله ملائكة كرام * ملائكة الإله مسومينا
ذكره ابن عبد البر، وغير واحد من الأئمة.
وقال أبو داود: حدثنا أحمد بن حفص بن عبدالله، حدثني أبي، حدثنا إبراهيم بن طهمان، عن موسى بن عقبة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله، أن النبي ﷺ قال:
« أُذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله عز وجل من حملة العرش، أن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام ».
ورواه ابن أبي عاصم، ولفظه محقق الطير مسيرة سبعمائة عام.