ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الأول/الباب السابع
في أصول الأحكام في الديانة وأقسام المعارف وهل على النافي دليل أو لا ؟
- قال علي : قد ذكرنا فيما خلا من هذا الكتاب وفي غيره من كتبنا :
أنه لا طريق إلى العلم أصلاً إلاَّ من وجهين :
أحدهما ما أوجبته بديهة العقل ، وأوائل الحس .
والثاني مقدمات راجعة إلى بديهة العقل وأوائل الحس .
وقد بيّنا كل ذلك في غير هذا المكان ، فأغنى عن ترداده ؛ وقد بينا أيضاً أن بالمقدمات الصحاح الضرورية المذكورة علمنا صحة التوحيد ، وصحة نبوة محمد وصدقه في كل ما قال ، وأن القرآن الذي أتى به هو عهد الله تعالى إلينا ، فلما كان فيما ذكر لنا عن ربه تعالى ، وجوب أشياء ألزمناها اجتهاد هذا الإِنسان لم يكلفه الله تعالى أكثر ما في وسعه ؛ والانتهاء عن أشياء منعنا منها ووعد بالنعيم الأبدي من أطاعه ، وبالعذاب الشديد من عصاه ، وتيقَّنا وجوب صدقه في ذلك لزمنا الانقياد لما أمرنا له بالانقياد له ، وتيقنّا صحة كل ما ذكر لنا ضرورة ولا محيد للنفس عنها بما نقلته الكواف مما أظهر من المعجزات التي لا يقدر عليها إلا الخالق الأول تعالى ، والشاهد لنبيه بها على صحة ما أتى به عنه تعالى ، فوجب علينا تفهم القرآن والأخذ بما فيه ، فوجدنا فيه التنبيه على صحة ما كنا متوصلين به إلى معرفة الأشياء على ما هي عليه من مدارك العقل والحواس ، ولسنا نعني بذلك أننا نصحح بالقرآن شيئاً كنا نشك فيه من صحة ما أدركه العقل والحواس ، ولو فعلنا ذلك لكنا مبطلين للحقائق ، ولسلكنا برهان الدور الذي لا يثبت به شيء أصلاً .
وذلك أننا كنا نسأل فيقال لنا : بم عرفتم أن القرآن حق ؟ فلا بد أن نقول بمقدمات صحاح يشهد لها العقل والحس .
ثم يقال لنا : بماذا عرفتم صحة العقل والحس المصححين لتلك المقدمات ؟ فكنا نقول بالقرآن ، فهذا استدلال فاسد مبطل للحقائق .
ولكنا قلنا : إن في القرآن التنبيه لأهل الجهل والغفلة وحسم شغب أهل العناد ، وذلك أن قوماً من أهل ملتنا يبطلون حجج العقول ويصححون حجج القرآن فأريناهم أن في القرآن إبطال قولهم ، وإفساد مذاهبهم ، وأن الله تعالى قد علم أن سيكون في العالم أمثالهم ، فأخبرنا بما يبطل به شغبهم ، ويزيل شكوكهم ، كما قال تعالى : {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ }
فمما أمرنا فيه تعالى باستعمال دلائل العقل والحواس قوله تعالى : {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } وصدق الله تعالى ما شكره من إبطال دلائل سمعه وبصره وعقله .
وقال تعالى : {أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَينِ } .
وذمّ تعالى من لم يستعمل دلائلها ، فقال حاكياً عن قوم معذبين ، ولإعراضهم عن الاستدلال المؤدي الى معرفة الحقائق ، قال الله تعالى : {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَآ أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ * وَللَّهِ الأَسْمَآءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } إلى قوله : {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَآ أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ * وَللَّهِ الأَسْمَآءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } وقال تعالى حاكياً عن مثلهم : {وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ } فصدقهم الله عز وجل في قولهم ذلك فقال تعالى : {فَاعْتَرَفُواْ بِذَنبِهِمْ فَسُحْقاً لأَصْحَابِ السَّعِيرِ } وقال تعالى: {وَلَقَدْ مَكَّنَاهُمْ فِيمَآ إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَآ أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُواْ يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِه مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } فذم تعالى من لم ينتفع بما أعطاه من الحواس والعقل .
- قال أبو محمد : أترى هؤلاء المقرين على أنفسهم أنهم كانوا لا يسمعون ولا يعقلون ، ولو سمعوا أو عقلوا ما دخلوا النار، أكانت صمخ آذانهم ذات آفات مانعة من تأدية الأصوات ؟ أو كانوا جاهلين بأمور دنياهم وأحكام حرثهم وغراستهم ؟ والقيام على مواشيهم ونفقات أموالهم وإنمائها ، وبنيان منازلهم وعمارة بساتينهم ، وتدبير متاجرهم وصناعاتهم ، وحفظ أموالهم ، وطلب الجاه والرياسة ؟ كلا والذي عذبهم وأخزاهم وذمهم ؟ بل كانوا أعلم بذلك كله ، وأشد اهتبالاً به ، وأشغل نفوساً فيه ، وأبصر لنموه وتكثيره وحياطته من أهل الفضل ، المقتصرين من ذلك مما يضيع العيال والجسم بتركه أو ما جاءهم من ذلك على ما لا بد منه عفواً ، وكان غير شاغل لهم عما هو آكد عليهم ، المقبلين على طلب معرفة الحقائق ، والوقوف على العلم والعمل ، الموصلين إلى معرفة الآخرة والسعادة في دار البقاء في الجنة التي وعدها الله تعالى أولياءه والمبعدين من الهلاك والقرار في دار العذاب في النار التي وعدها الله عز وجل لأعدائه المشتغلين بذلك عما تهافت عليه أهل الجهل والنقصان .
كما ثنا عبدالله بن يوسف بن نامي ، عن أحمد بن فتح ، عن عبدالوهاب بن عيسى عن أحمد بن محمد ، عن أحمد بن علي ، عن مسلم بن الحجاج ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد ، وكلاهما عن أسود بن عامر قال : ثنا حماد بن سلمة عن هشام بن عروة وثابت البناني : هشام عن أبيه عن عائشة ، وثابت عن أنس بن مالك أن رسول الله ﷺ قال : «أَنْتُمْ أَعْلَمْ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ» في حديث قوله ﷺ في تلقيح النخل فتركوه فخرج شيصاً ، ولكن هؤلاء المعذبون أضربوا عن استعمال السمع والبصر ، واللمس والذوق الشم ، والعقل في الاستدلال على الخالق تعالى ، ولم يقرب منه من عقد وقول وعمل وصرفوا كل ذلك في حطام فان ، لا يجدي ولا يغني، بل يثقل ويندم ، وبالله تعالى التوفيق .
- قال أبو محمد : ووجدنا في القرآن إلزامنا الطاعة لما أمرنا به ربنا تعالى فيه ، ولما أمرنا نبيه ، مما نقله عنه الثقات ، أو جاء عنه بتواتر أجمع عليه جميع علماء المسلمين على نقله عنه ﷺ ، فوجدناه تعالى قد ساوى بين هذه الجمل الثلاث في وجوب طاعتها علينا ، فنظرنا فيها فوجدنا منها جملاً إذا اجتمعت قام منها حكم منصوص على معناه ، فكان ذلك كأنه وجه رابع ، إلا أنه غير خارج عن الأصول الثلاثة التي ذكرنا وذلك نحو قوله ﷺ : {كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ} فأنتج ذلك كل مسكر حرام فهذا منصوص على معناه نصاً جلياً ضرورياً . لأن المسكر هو الخمر ، والخمر هي المسكر ، والخمر حرام ، فالمسكر الذي هو هي حرام.
ومثل قوله تعالى : {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَآ أَوْ دَيْنٍ آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } .
وقد تيقنا بالفعل الذي به علمنا الأشياء على ما هي عليه أن كل معدود فهو ثلث وثلثان ، فإذا كان للأم الثلث فقط وهي والأب وارثان فقط فالثلثان للأب ، وهذا علم ضروري لا محيد عنه للعقل، ووجدنا ذلك منصوصاً على المعنى وإن لم ينص على اللفظ .
ومثل إجماع المسلمين على أن الله تعالى حكم بأن دم زيد حرام لإسلامه ثم قال قائل : قد حل دمه فقلنا : قد تيقنا بالنص وجوب الطاعة للإجماع ، وقد صح نقل الإجماع على أن دمه حرام ، فلا يجوز لنا خلاف ذلك إلا بنص منقول بالثقات أو بتواتر أو بإجماع ناقل لنا.
فهذا منصوص على معناه.
ومثل أن يدعي زيد على عمرو بمال فنقول : إن الله تعالى نص على إيجاب اليمين على عمرو ، لأن النص قد جاء بإيجاب اليمين على من ادعي عليه ، وعمرو مدعى عليه فقد أوجب النص اليمين على عمرو ، فلا سبيل إلى معرفة شيء من أحكام الديانة أصلاً إلا من أحد هذه الوجوه الأربعة ، وهي كلها راجعة إلى النص، والنص معلوم وجوبه ، ومفهوم معناه بالعقل على التدريج الذي ذكرناه .
وقد ادعى قوم : أن من الشرائع ما لا سبيل في القدرة إلى تغييره ، فأتوا بأمر عظيم ، وأدى قولهم هذا الفاسد إلى أن ربهم تعالى مضطر إلى الأمر بما أمر من ذلك : فمن التزم منهم ما توجبه مقدمته الفاسدة كفر ، ومن جبن عن التزامه تناقض وقضى بفساد معتقده الذي هو ثابت عليه ، إلا أنهم استعظموا أن يطلقوا ما يوجبه مذهبهم فحسنوه بعبارة كنوا بها عنه فقالوا : لا سبيل في العقل إلى تغييره .
- قال أبو محمد : والعقل لا يوجب على الباري تعالى حكماً ، بل الباري تعالى خالق العقل بعد أن لم يكن ، ومرتب له وفيه ما قد رتب مما لو شاء أن يخترعه ويرتبه على خلاف ذلك لفعل . وإنما العقل مفهم عن الله تعالى مراده ، ومميز للأشياء التي قد رتبها الباري تعالى على ما هي عليه فقط .
فقال هؤلاء : إن الكفر والظلم لا يتوهم جواز استباحته .
- قال أبو محمد : ولا دليل على ما ذكروا، بل قد كان ممكناً أن يأمرنا تعالى بالكفر به وبجحده وبعبادة الأوثان وبالظلم ، ولكنه تعالى قد أخبرنا أنه لا يفعل ذلك فعلمنا أن ذلك لا يكون أبداً ، ليس لأنه ممتنع منه عز وجل لو شاءه ، ولا أنه تعالى عاجز عن ذلك لو أراده ، ولكن لأنه لا يقول إلا الصدق ، وقد أخبرنا أن ذلك لا يكون ، وأنه لا يرضى لنا الكفر ، ولا يأمر أن نتخذ إلهين اثنين ، فلما أخبرنا بذلك منعنا من كونه ، كما منعنا أن يأتي رسول بعد محمد ﷺ وكما منعنا من عمارة مكان قفر قد رأيناه غير معمور إلى وقتنا هذا ، ومن خلاء مدينة قد عهدناها معمورة إلى وقتنا هذا ، وقد كان في الممكن خلاء تلك المدائن ، وعمران هذا القفر : ولكن الله تعالى لم يرد ذلك إلى الآن . فعلى هذا الوجه منعنا أن يأمر بالكفر به لا على أن العقل مانع من جواز ذلك لو شاءه عز وجل .
- قال أبو محمد : وبرهان ذلك أننا واجدون بالمشاهدة أكثر أنواع الحيوان لم تتعبد بالإيمان بالله عز وجل ، ولا ركب فيها التمييز الذي لا يعرف الله عز وجل إلا به فلو شاء تعالى أن يجعل الإنسان غير مأمور لفعل .
ولما كان هنالك شيء يمنعه من ذلك تعالى وجهه ، ولا يوجب عليه فعل ما فعل ولا بد ، وهؤلاء الصبيان الذين بلغوا الأربعة عشر عاماً ولم يشعروا ولم يحتلموا بإجماع أكثر الأمة بالإيمان أمر إلزام ، ولا منهيين عن الكفر نهي تحريم ، فإذا احتلموا لزمهم الإيمان فرضاً ، وحرم عليهم الكفر حتماً ، ولم يكن بين تعريهم من الأوامر والنواهي ، وبين حلولها عليهم إلا نومة لعلها أقل من مقدار شَيّ بيضة ، ولم يزد التمييز الذي كان فيهم في تلك النومة شيئاً . بل هو على حسبه الذي كان عليه قبل أن ينامها ، ولا فرق .
هذا شيء يعلم بالحس والمشاهدة ، يعني تساوي التمييز فيهم في ذينك الوقتين . وهذا شيء قد يشهد النص به ولا خلاف فيه بين جمهور أهل الملة التي وضعنا كتابنا هذا في أحكامهم وعبادتهم ، اختلافهم في معنى براءة من لم يشعر ولم يحتلم ، ولا حاض إن كان امرأة ، ولا بلغ خمسة عشر عاماً من جميع الأوامر الواردة من الله تعالى ولزومها لمن احتلم وبلغ خمسة عشر عاماً مع الاحتلام ، أو حاض إن كان امرأة في هذه السن ، ولا فرق في العقل بين جواز عدم الأمر بالإيمان في كلتا الحالتين المذكورتين ، وبين جواز وجود الأمر به في كلتيهما .
فإن شغب مشغب بتعلم الصبيان الصلاة وضربهم عليها؛ وأراد بذلك غرور الضعفاء المقلدين، فليعلم أنه لا خلاف عند الحاضرين من خصومنا في أن ذلك على سبيل التدريب وتعليم الخير، لا على سبيل الإيجاب لذلك عليهم، وكذلك دعاؤنا إياهم إلى الإسلام .
وبرهان ذلك : أننا لا نقتلهم إن ارتدوا حتى يحتلموا، ولا نقتلهم إن قتلوا، ولا نحدهم إن زنوا، ولا يحرم الميراث وإن ارتد قبل بلوغه من موروثه المسلم.
فإن ادعى مدع : أن البهائم متعبدة ، واختار اللحاق بأحمد بن حابط والخروج عن إجماع المسلمين ، فحسبه مفارقة الإسلام واللحاق بالكفر ، وليس هذا مكان محاجة أهل هذا المذهب ، وقد بينا ذلك في كتاب الفصل . وإنما قصدنا في كتابنا هذا بيان جمل الأحكام فقط فمن أراد أن يقف على هدم ما ذكرنا من الشغب فليقرأ كتابنا المرسوم بكتاب الفصل إن شاء الله تعالى .
- قال أبو محمد : فإذ قد بينا أقسام المعارف جملة ، ثم بينَّا أقسام الأصول التي لا يعرف شيء من الشرائع إلا منها ، وأنها أربعة وهي : نص القرآن ، ونص كلام رسول الله ﷺ ، الذي إنما هو عن الله تعالى مما صح عنه ﷺ نقل الثقات أو التواتر ، وإجماع جميع علماء الأمة ، أو دليل منها لا يحتمل إلا وجهاً واحداً ، فلنصف بحول الله وقوته كيف يستعمل المناظران أو المتعلم أو العالم السبيل إلى معرفة الحقائق مما ذكره .
فنقول وبالله تعالى التوفيق : أول ذلك سؤال السائل مسؤوله عن مذهبه في مسألة كذا ، إما مستفهماً أو مناظراً ، فإذا أجابه سأله: ما دليلك على كذا ؟ فإذا أجابه فقد وصلا إلى ميدان المعارضة ، فإن لم يكن هنالك إلا أن يصف كل واحد منهما مذهبه ، ولم يزد المسؤول على ذكر مذهبه فقط ، ولم يأت بدليل فقد سقط وبطل واكتفى بذلك عن تكلف إبطاله ، إذ قد بينا فيما تقدم من كتابنا هذا إبطال كل قول لم يقم عليه دليل ، فإن عارض المسؤول السائل بدليل ، مثل أن يستدل أحدهما على صحة مذهبه بآية ، فيحتج عليه الآخر بآية أخرى ، هي في ظاهرها مخالفة الحكم للتي احتج بها خصمه أو بحديث كذلك .
أو احتج أحدهما بحديث فعارضه الآخر بآية هي ظاهرها مخالفة الحكم لذلك الحديث أو بحديث كذلك . فسنفرد لذلك باباً موعباً في كتابنا هذا إن شاء الله عز جل عند كلامنا في الأخبار، وإن أمدنا الله بمده وقوته فسنفرد لكل هذه الوجوه كتباً مفردة في أشخاص الأحاديث والآي التي ظاهرها التعارض ، ونحن نبين بحول الله وقوته نفي الاختلاف عن كل ذلك وبالله تعالى نعتصم ونتأيد .
وقد ذكر مخالفونا تعارض العلل.
- قال أبو محمد : وسنبين في آخر كتابنا هذا إن شاء الله تعالى بطلان العلل في الشرائع بالجملة ، وإن أمدنا الله تعالى بمده وعون من قبله عز وجل فسنفرد في المسائل النظرية ، وهي التي دلائلها نتائج مأخوذة من مقدمات نصية أو إجماعية ديواناً موعباً نتقصى فيه إن شاء الله تعالى الأدلة الصحيحة ، وبطلان علل أصحاب القياس ومفاسدها بالجملة ، وبالله تعالى التوفيق .
ثم رأينا كتابنا المعروف بالإيصال جامع لكل ذلك مغن عن إفراد كتب لكل صنف منها.
- قال أبو محمد : وكل من قال بقبول خبر الواحد ، ثم صح عنده خبر عن النبي متكامل الشروط التي بوجودها يصح عنده الخبر جملة. فإن تركه لحديث آخر فهو مجتهد ، إما مخطىء ، وإما مصيب ، وكذلك إن تركه لنص قرآن ، وكذلك إن ترك نص قرآن لحديث آخر ، أو نص قرآن ، إلا أنه إن كان قد ترك في مكان آخر مثل تلك الآية التي أخذ بها الآن أو الحديث الذي أخذ به أو أخذ بمثل الحديث أو الآية اللذين ترك ههنا ، وخالف ترتيب أخذه في المسائل ، فإن كان لم يتنبه لذلك فهو غافل معذور بالجهل ، فإن نبه على ذلك فتمادى على خطأه فهو فاسق لإقراره في مكان ما بأن مثل ذلك العمل الذي استعمل ههنا باطل ، فهو مقدم على الأخذ بما يدري أنه باطل .
وذلك مثل من أخذ بقول رسول الله ﷺ : «لا قَطْعَ إلا فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِداً» وترك ظاهر قول الله تعالى : {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } : ثم إنه ترك قول رسول الله ﷺ : «لا تُحَرِّمُ الرَّضْعَةُ والرَّضْعَتَانِ»
وأخذ بظاهر قوله عز وجل : {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً }
فهذا إذا وقف على تناقض فعله وتمادى عليه فهو فاسق . لأنه في أحد الموضعين مقر بأن ترك ظاهر القرآن للحديث خطأ لا يحل ، وفي الموضع الثاني استعمل ما أقر أنه لا يحل ، فهو مقدم على ما لا يجوز له بإقراره ، فإن علل حديث الرضعتين أريناه في حديث السارق مثل تلك العلل بعينها ، فإن تمادى على الأخذ بأحدهما وترك الآخر ، فهو فاسق متلاعب بدينه .
وإن ترك نصًّا لقياس بعد قيام الحجة عليه بإبطال القياس فهو فاسق أيضاً وإن ترك نصًّا لقول صاحب فمن دونه ، فإن كان يعتقد أن عند ذلك الصاحب علماً عن النبي ﷺ وقامت عليه الحجة ببطلان ذلك، فتمادى ولم يتب فهو فاسق ، فإن كان يعتقد أن لأحد بعد موت النبي ﷺ أن يحرم شيئاً كان حلالاً إلى حين موته ﷺ ، أو يحل شيئاً كان حراماً إلى حين موته ﷺ ، أو يوجب حدًّا لم يكن واجباً إلى حين موته ﷺ ، أو يشرع شريعة لم تكن في حياته ﷺ ، فهو كافر مشرك حلال الدم والمال حكمه حكم المرتد ولا فرق .
وقد ظن قوم مثل هذا في المنع من بيع أمهات الأولاد ، وفي حلّ الخمر، وفي إسقاط ست قراءات كانت على عهد النبي ﷺ مباحة ، فمن لم تقم عليه الحجة في بطلان هذا المعتقد فهو معذور بالجهل . وأما من قامت عليه وتمادى على مذهبه في ذلك فهو كافر مشرك مرتد حلال الدم والمال كما ذكرنا . وسنبين بحول الله وقوته وجوه هذه المسائل الثلاث في كلامنا في الإِجمال من كتابنا هذا ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
- قال أبو محمد : وكل ما قلنا فيه إنه يفسق فاعله أو يكفر بعد قيام الحجة عليه ، فهو ما لم تقم عليه الحجة معذور مأجور وإن كان مخطئاً ، وصفة قيام الحجة عليه هو أن تبلغه فلا يكون عنده شيء يقاومها ، وبالله تعالى التوفيق .
- قال أبو محمد : والوجه الذي ذكرنا آنفاً ، وهو الذي فيه ظاهر تعارض بين آي وآي ، وبين حديث وحديث ، وبين حديث وآي ، فلسنا نقطع فيه على أننا مصيبون للحق ، ولا أننا علمناه يقيناً ، ولا كنا نقول فيه هذا هو الحق عندنا .
ونبين كل مسألة من ذلك في موضعها إن شاء الله تعالى ، وهذه هي المتشابهات التي أخبر بها النبي ﷺ في قوله : «الحَلالُ بَيِّنٌ والحرام بينٌ وَبَيْنَهُما مُتَشَابِهَاتٌ لا يَعْلَمُها كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ» وليس هذا من المتشابه الذي ذكر الله عز وجل في قوله : {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ }
وسنبين ذلك كله في باب مفرد في آخر كتابنا هذا إن شاء الله تعالى عز وجل.
إلا أننا قاطعون باتوّن على أن علم الحقيقة فيما أشكل علينا موجود عند غيرنا ولا بد لقول الله تعالى : {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيْؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }
ولقول رسول الله ﷺ: «اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ» . قالوا : اللهم نعم ، قال ﷺ «اللَّهُمَّ اشْهَدْ» .
وأما كل حديث صح عندنا أنه ناسخ ولم يأت له معارض ، وكل آية وردت كذلك لا معارض لها .
أو كل نص من حديث صحيح أو آية عارضهما نص آخر منهما . فإن الزائد في حكمه على الآخر هو الحق المتيقن .
لأنه شرع وارد من عند الله تعالى لا يحل تركه إلا بنص يبين أنه منسوخ أو مخصوص ، فما كان هكذا من النصوص كلها فنحن موقنون بأننا فى اعتقاد موجبها محقون عند الله عز وجل وأن مخالفنا فيها مخطىء عند الله عز وجل . وكل إجماع صح وتيقن على نقله عن النبي ﷺ فنحن قاطعون أيضاً على أننا فيه محقون عند الله عز وجل .
وإن حدث بعد الإجماع اختلاف في فرع من فروع المسألة .
وإن استدلَّ المخالف بحديث مرسل أو نقل ضعيف ، لم نتبعه ولم نقطع على أنه مبطل عند الله عز وجل .
بل نقول : هذا الحق عندنا إلا أن نتيقن أن ذلك الخبر لم يأت قط مسنداً من طريق يصح، فنقطع حينئذ على أنه باطل عند الله تعالى على ما نبين بعد هذا في باب الكلام في الأخبار إن شاء الله تعالى .
فإن لم يحتج في ذلك بشيء من نص ، لكن بتقليد أو قياس ، فنحن قاطعون بأنه مخطىء عند الله تعالى ، وأننا محقون عنده تعالى ، ولكل استدلال ما عدا ما ذكرناه من تقليد صاحب فمن دونه ، أو قياس أو استحسان ، فهو باطل بيقين عند الله عز وجل وبالله تعالى التوفيق .