ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الأول/الباب التاسع
في تأخير البيان
- قال علي : واختلفوا في نوع من أنواع البيان :
فقالت طائفة : إنما يرد المجمل ثم يرد المفسر .
وقال آخرون: لا يردان إلا معاً .
وقال آخرون: جائز ورود المجمل قبل المفسر ، والمفسر قبل المجمل ، وورودهما معاً ، كل ذلك جائز .
- قال علي : وبهذا نقول : إلا أنه لا يجوز أن يتأخر البيان عن وقت إيجاب العمل البتة ، ولا يجوز أن يؤخره النبي ﷺ بعد وروده عليه طرفة عين ، ولسنا نقول بهذا لأن العقل يمنع ذلك ، لكن لأن النص قد ورد بذلك ، وإنما منعنا من تأخير الله البيان عن وقت وجوب العمل لقول الله تعالى : {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ }
وقد علمنا أنه ليس في وسع أحد أن يعمل بما لا يعرف به ، وإنما منعنا من تأخير النبي ﷺ البيان عن ساعة وروده ﷺ لقول الله تعالى : {يَـأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } فلو أخر ﷺ البيان عن ساعة وروده عليه لكان ﷺ في تلك المدة ، وإن قلت مستحقاً لاسم أنه لم يبلغ ، ولو أنه لم يبلغ لكان عاصياً ، ولا ينسب هذا إلى النبي ﷺ إلا جاهل ، ومن تمادى على نسبة المعصية إليه في طي الشريعة وترك تبليغها فهو كافر بإجماع الأمة .
- قال علي : وقد نزلت الصلوات الخمس مفسرة بمكة ، ثم جاءت آيات كثيرة مدنيات فيها : أقيموا الصلاة فقط ، فصح بذلك ما ذكرنا من أنه قد ينزل المفسر قبل المجمل ، وأما نزول المجمل قبل المفسر فقد نزل ذلك في الصيام وتحريم حشيش مكة ثم جاء تخصيص الإذخر .
- قال علي : وأما قولنا بتأخير الله عز وجل البيان ما لم يأت وقت إيجابه تعالى العمل به ، فهو منصوص في قوله تعالى : {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ }
وقد أنزل الله عز وجل آيات كثيرة فيها : قصة موسى ، وقصة عيسى عليهما السلام ، وقصة عاد وثمود وإبراهيم عليهم السلام ، بعضها قبل بعض ، وبعضها بمكة ، وبعضها بالمدينة ، وبعضها أكمل من بعض ، فهلا اعترض المانعون ربهم تعالى من أن يفعل ما يشاء بغير نص منه تعالى أنه لا يفعله على ربهم فيما ذكرنا فيقولون : هلا نزلت هذه القصص كاملة في مكان واحد ، فتكون أتم للوعظ ، وأشفى للخبر ، ثم يؤكدها كذلك إن شاء .
وليت شعري إذ أقر هؤلاء بأن التأكيد حكمة ، فماذا يقولون في قصص كثيرة ومواعظ لم يذكرها عز وجل في القرآن إلا مرة واحدة ؟ أتراها عريت عن الحكمة إذ لم تكرر ولا وكدت ؟ .
وأيضاً فإن أكد تعالى تكرار مسألة موسى عليه السلام عشرين مرة مثلاً ما الفرق بين عشرين مرة ، وبين إحدى وعشرين مرة أو تسع عشر مرة ؟ فإن ادعى أن هذا العدد أبلغ في الحكمة ادعى القحة وبانت قلة الحياء في وجهه ، وقال ما يعلم أنه بخلاف ما يقول ، وسألناه أيضاً عن قصص أخر كررت أقل من تكرار قصة موسى عليه السلام . فإن قال اكتفى بتكرار قصة موسى .
قيل له : ما الفرق أن يكتفي بتكرار قصة موسى عن تكرار قصة إبراهيم . ولا يكتفي بتكرار قصة إبراهيم عن تكرار قصة موسى ؟ وما الفرق بين ذكره تعالى ما ذكر من قصص الأنبياء عليهم السلام ، وبين ما أمسك عنه تعالى من ذكره لبعضهم ؟ وما الفرق بين ذلك وبين أن لو ذكر من أمسك عنه وأمسك عمن ذكر، وقد ذكر من لا شريعة له غير شريعة من قبله كثيراً ، كإلياس واليسع وذي الكفل ، وغيرهم ، ولعل من أمسك عنه تعالى ولم يذكره من الرسل أعظم آية ، وأبلغ في الوعظ ممن ذكر .
- قال علي : وأنا أقطع ولا أمتري أن ملقي هذه النكتة إلى ضعفاء المسلمين مغمور في دينه ، ضعيف في عقله ، كائد للشريعة ، ولا شك في ذلك ، ثم تهافت بالتقليد مع من تهافت ، وبالله تعالى التوفيق .
ومما سأل عنه المانعون من تأخير البيان جملة أن قالوا : ما تقولوا فيمن سمع آية قطع السارق ، ولم يسمع الحديث المبين للتوقيت في ذلك ، أيقطع كل سارق لفلس من ذهب ؟ وفيمن سمع آية الزنى ولم يسمع حكم الرجم ، وفيمن سمع آية الرضاع ولم يسمع الحديث في التوقيت في ذلك ، أيجلد المحصن ولا يرجم ؟ ويجلد الأمة مائة ويحرم برضعة واحدة أم كيف يفعل ؟
فإن قلتم : ينفذ ما سمع على جملته ، كنتم قد أمرتموه بالباطل .
وإن قلتم : لا يفعل ، أمرتموه بمعصية ما سمع من القرآن .
فالجواب : أننا لم نجد قط تأخير ورود البيان عن وقت وجوب العمل ، وأما قبل وجوبه فليس يلزمه إلا الإقرار بالجملة ، وأن يقول : سمعت وأطعت ، ولا مزيد إذا لم تكن مبينة مفهومة مثل قوله تعالى : {وَآتُواْ الزَّكَاةَ} فهذا ليس عليه إلا الإقرار بتصديق ذلك كما قلنا فقط .
إذ لم يأته بيان ما كلف من ذلك ، وأما إن كان النص مفهوماً بيناً فعليه العمل به حتى يبلغه نسخه ، أو تخصيصه ولا بد ، إذاً من قال : لا يلزمه العمل بما بلغه من ذلك فقد قال له : لا تطع ربك ، ولا تعمل بما أمرك .
فلعل ههنا نصاً ناسخاً لهذا النص ، أو نصاً مخصصاً له ، وهذا خلاف أمر الله تعالى في القرآن بطاعته .
ومن طرد هذا القول السخيف لزمه ألا يعمل بشيء من القرآن ، ولا السنن أبداً .
حتى يستوعب معرفة جميع أحكام القرآن ، وضبط جميع السنن ، وفي هذا الخروج عن الإسلام وإبطال الشريعة .
- قال علي : ونسألهم في ردّ هذا السؤال عليهم فنقول : ما الذي يلزم من سمع أمراً ما ، والرسول ﷺ حي مما جاء النسخ بعد ذلك فيه ، أيعتقد في ذلك الأمر التأييد فيكون معتقداً للباطل .
أو يعتقد فيه السقوط بعد حين فيعتقد المعصية لما سمع ؟ فجوابهم ها هنا جوابنا آنفاً فيما سألونا عنه ، وأنه يلزم من سمع ذلك الإقرار والطاعة والاعتقاد أنه حق لازم ما لم يأت ما ينسخه فهو على التأييد ، وإن جاء ما ينسخه فهو متروك للناسخ .
- قال علي : وتأخير الاستثناء والتخصيص عندنا جائز كتأخير البيان جملة ولا فرق ، وهو جائز ما لم يأت وقت إيجاب العمل ، وبالله تعالى التوفيق .
- قال علي : ومما يبين صحة قولنا قوله تعالى : {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } وثم توجب مهلة وقوله تعالى في قصة الملائكة القائلين لإبراهيم عليه السلام : {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ * فأَنْجَيْناهُ وأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ * وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُواْ عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُواْ لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَإِن تُكَذِّبُواْ فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ * أَوَلَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِيءُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِىءُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَآءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ * وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَآءِ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ * وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَآئِهِ أُوْلَـئِكَ يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِي وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ * فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ * وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُواْ إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُواْ ظَالِمِينَ * قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُواْ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ }
فعموا في أول الأمر وأخروا البيان حتى وقع السؤال عن لوط فأجابوا بأنهم لم يعنوه بالهلاك حاشا امرأته فقط .
وقد اعترض في هذا بعض من منع من تأخير البيان جملة بأن قال : قد كان يجب أن يعلم إبراهيم عليه السلام أن لوطاً خارج عن العذاب لقولهم: {إِنَّ أَهْلَهَا كَانُواْ ظَالِمِينَ } ولوط ليس ظالماً ، قيل لهم ، وبالله تعالى التوفيق .
يمكن أن يحدث من لوط ما يستحق به الظلم ، فأشفق إبراهيم عليه السلام من ذلك فسأل عنه ، وقد أجمل لنوح عليه السلام خلاص أهله ، فظن أن الأهل هم القرابة حتى بيّن له بعد ذلك أن المراد بأهله أهل دينه .
فإن قال قائل : فما المراد من المجمل الوارد قبل ورود بيانه ؟ قيل له وبالله تعالى التوفيق : المراد منا فيه هو المراد منا في المتشابه الذي أمرنا بأن نبحث عنه ، ولا نبتغي تأويله ، وأن يقول كل من عند ربنا ، وأما المراد فيه فالذي يأتي به البيان إذا أتى ويبين قولنا قول الله تعالى : {يبين الله لكم أن تضلوا} فإنما يبين لنا لئلا نضل ولا ضلال في ورود الأمر ما لم يأت وقت وجوب العمل به ، فأما إذا جاء وقت وجوب العمل به فلو تركنا نعمل بغير ما أريد منا لكنا قد ضللنا ، وقد أخبرنا تعالى بأن ذلك لا يكون ، وقوله تعالى صدق وحق بالله تعالى التوفيق .
فعلى هذا الوجه منعنا من تأخير البيان عند وجوب العمل ، وإلا فليس في العقل ما يمنع من ذلك لو شاء تعالى ، ولو فعل الله تعالى ذلك لكان تعنيتاً لنا ، وقد أخبرنا تعالى فقال : {ولو شاء الله لأعنتكم} فأخبر تعالى أنه لو أراد أن يكلفنا العنت فعل ، وهذا نفس قولنا وبالله تعالى التوفيق .
- قال علي : يختلف في الوضوح ، فيكون بعضه جلياً ، وبعضه خفياً ، فيختلف الناس في فهمه فيفهمه بعضهم ويتأخر بعضهم عن فهمه ، كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : إلا أن يؤتي الله رجلاً فهماً في دينه ، وكما تعذر على عمر رضي الله عنه ، وهو الغاية في العلم بنص النبي على ذلك فيه فَهْم آية الكلالة فمات وهو يقر أنه لم يفهمها وفهمها غيره من الصحابة رضي الله عنهم ، وانتهره ﷺ وأخبره بأنها بينة يكفي من فهمها الآية التي نزلت في الصيف ، وكما عرض لعدي في توهمه أن الخيط الأبيض والأسود من خيوط الناس حتى زاده الله تعالى بياناً في أن ذلك من الفجر ، وقد اكتفى غير عدي بالآية نفسها ، وعلم أن المراد الفجر .
وكما توهم ابن أم مكتوم أنه ملوم في تأخره عن الغزو ، فزاده الله بياناً باستثناء أولي الضرر ، وقد اكتفى غير ابن أم مكتوم بسائر النصوص الواردة في رفع الحرج ، وأن لا حرج على مريض ولا أعمى ، وأن الله تعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها .
- قال علي : فهذه حقائق الكلام في البيان وتأخيره مجموعة باستيعاب وإيجاز وبالله تعالى التوفيق .
والتأكيد نوع من أنواع البيان ، قال الله عز وجل: { تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} وقال تعالى : { فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً } بعد أن ذكر تعالى ثلاثين ليلة وعشراً ، فإن قال قائل : إن الله تعالى علمنا الحساب بذلك فقد افترى ، لأننا كنا نعلم الحساب قبل نزول القرآن ، نعني النوع الإنسان جملة ، وبالله تعالى التوفيق .
وقد أتى بعض أهل القياس المتحذلقين المتنطعين في قوله تعالى : {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } بآبدة فقال معنى قوله تعالى : {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } ، دليل على أن الهدي الذي عوض منه الصوم في التمتع لا يكون إلا كاملاً .
- قال علي : وأول ما في هذا القول الدعوى بلا دليل ، وهذا حرام لاسيما على الله عز وجل ، وأيضاً فإنه قد جل الله تعالى عن أن يريد أن يكون الهدي كاملاً فيترك أن يصفه بذلك ، ويقتصر على أن يقول : { فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } ثم ينبه على كمال الهدي بذكر أن تكون العشرة الأيام في الصوم كاملةٌ ، فبان كذب هذا القائل ، وصح أن قوله تعالى : { عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } كقول رسول الله ﷺ في حديث الزكاة ، «فَابْنُ لَبْونٍ ذَكَرٌ» ، وكقوله ﷺ في حديث الفرائض : «فَما أَبْقَتِ الفَرَائِضُ فَلأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ» وإنما هذا توكيد وبيان زائد فقط .
- قال علي : ومما يبين أن الله تعالى يؤخر البيان قبل أن يريد منا تعالى العمل بالحديث الوارد عن النبي ﷺ بأن الله تعالى يعرض في الخمر ، فمن كان عنده منها شيء فليبعها ، فما أتى الوقت الذي أراد الله تعالى أن يوجب علينا اجتنابها أنزل الآيات في تحريمها، وتلا ذلك رسول الله ﷺ على الناس من وقته وقد يزيد ﷺ بياناً بعد تقدم البيان قبله ، فيكون تأكيداً وإخباراً لمن يبلغه الخبر الأول ، كما نزلت الصلوات الخمس بمكة مبينة بأوقاتها ، ثم سأل السائل بالمدينة عن أوقاتها وأوائلها وأواخرها فأراه ﷺ ذلك بالعمل ، وقد بينها أيضاً بكلامه ﷺ لغير ذلك السائل .
وكما أخر الله تعالى عن النبي ﷺ بيان المناسك قبل أن يأتي وقت وجوب عملها ، فلما أتى وقت وجوبها بينها له ﷺ , فبينها ﷺ بفعله غير مؤخر لها ، ومن ادعى أنه ﷺ كان عنده بيان المناسك وكتمها عن أصحابه ، ومنعهم الأجر بالعلم بها وبالإقرار بجملتها ، فقد افترى وكذب نبيه ﷺ إذ يقول : «إِنَّ حَقّاً عَلَى كُلِّ نَبِيَ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى أَحْسَنِ ما يُعَلِّمُهُ لَهُمْ»
ومن قال بهذا فقد أكذب ربه تعالى إذ يقول عز وجل واصفاً لنبيه ﷺ : {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ }
وإذا كتمهم ما يستعجلون الأجر بالإقرار به ويزدادون علماً بفهمه ، فقد خالف الصفة التي ذكرها الله تعالى ، ومن قال ذلك فقد فارق الإسلام .
فإن قال قائل : فأنت تصف الآن محمداً ﷺ بأنه يريد أن يزداد أهل الأرض خيراً ، وهذا خلاف قولك إن الله عز وجل لم يرد هذا بكل الناس، فقد وصفت محمداً ﷺ بأفضل مما وصفت به الله عز وجل ، وبأنه أرأف بنا من الله تعالى .
- قال علي : فنقول وباللـه التوفيق : هذه شغبية ضعيفة ، وإنما يماثل بين الشيئين أو يفاضل بينهما ، إذا كانا واقعين تحت نوع واحد ، أو تحت جنس واحد ، وليس صفتنا للـه تعالى من نوع صفتنا للمخلوقين ، ورحمة محمد ﷺ بالناس هي من جنس تراحمنا بعضنا لبعض ، إلا أنها أعلى من كل رحمة لإنسي ، وأكمل وأتم وأدوم ، وليس اللـه تعالى واقعاً معنا تحت نوع البشرية كوقوع محمد ﷺ معنا تحتها ، وإن كان أفضل من كل من دونه ، ولا يثنى على اللـه عز وجل بما يثني به على خلقه ، ألا ترى أننا نصف اللـه عز وجل مثنين عليه بأنه جبار متكبر ؟ وهذا في كل مخلوق دونه تعالى ذم شديد ، واستنقاص عظيم ، ونصفه تعالى بأنه ذو غضب شديد ، أنه يفعل ما يريد ، وأنه ذو مكر لا يؤمن . وكل هذا لو وصفنا به مخلوقاً لكان ذمَّاً ونقصاً . ونمدح المخلوقين بالعقل والكيس ، والنبل والنجدة والعفة وكل هذا لا يجوز أن يوصف به اللـه عز وجل ، فمن أراد أن يقيس رحمة اللـه تعالى لخلقه برحمة نبيه لـهم فقد ألحد في وصفه لربه تعالى ، وقد علمنا يقيناً أن اللـه عز وجل لم يرد قط أن يهدي أبا طالب ولو شاء أن يؤمن لشرح صدره للإسلام ، بل أراد أن يعذبه في نار جهنم أبداً ، وعلمنا يقيناً أن محمداً ﷺ كان من أبعد آمالـه أن يؤمن أبو طالب ، وقد كفانا اللـه تعالى ذلك بقولـه: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } .
فأما من آمن باللـه فاللـه أرأف به من نفسه بنفسه ، ومن محمد ﷺ ومن أبيه وأمه اللذين ولداه . لأنه جازاه على ذلك بما لو ملك الاختيار لم يبلغ مقدار ما أعطاه اللـه تعالى في الجنة ، ولا سمح لـه أبواه بذلك ، ولأنه تعالى غفر لـه ما لو فعلـه عاصياً لأبيه ما غفر لـه ذلك ، فإن الرجل يزني بأمة اللـه تعالى فيغفر لـه بالتوبة ، وبموازنة حسناته لسيئاته ، ولو زنى بأمة أبيه لقطعه .
وأما من لم يؤمن فما أراد اللـه به خيراً قط ، ولو أراد به خيراً لأماته سقطاً ، فمن قال : إن اللـه تعالى لم يقدر على ذلك فقد ألحد ووصف ربه تعالى بغاية النقص ، ومن قال : إن اللـه تعالى أراد الخير بفرعون فنحن نباهلـه .
ونقول : اللـهم لا ترد بنا من الخير ما أردته بفرعون ، فليدع ربه تعالى أن يريد به من الخير ما أراده بفرعون .
فإن شغب مشغب فقال : إنك الآن تصف محمداً ﷺ بأنه أراد غير ما أراد اللـه عز وجل ، وباللـه تعالى التوفيق : وهذه شغبية ضعيفة كالتي قبلـها.
نعم كذلك نقول في هذا المكان مقرين بما قال ربنا عز وجل من أن محمداً ﷺ أحب أن يهتدي قوم لم يحب الله تعالى أن يهديهم ، وليس في اختلاف ما أراد الله تعالى ههنا وما أراد نبيه ﷺ , عيب على نبيه ﷺ لأنه إنما يمدح النبي ﷺ فمن دونه من المخلوقين بالائتمار لربه تعالى فقط ، لا بأن يوافق ربه فيما لم يكلفه ، ألا ترى أننا نمدح أنفسنا بالنكاح والأولاد وهما منفيان عن الله عز وجل لم يردهما لنفسه قط ، ونمدح بالصدقة على المحتاج الذي لم يرد الله أن يغنيه ، ولو أراد أن يغنيه لكان قادراً عز وجل على ذلك فلم نؤمن نحن قط أن تريد ما أراده الله عز وجل في كل وقت ، بل نهينا عن ذلك فقد أراد الله عز وجل قتل من سلط عليه الكفار من المؤمنين ، ولو أردنا نحن ذلك لفسقنا ، وإنما أريد منا الائتمار لما أمرنا به والانتهاء عما نهينا عنه ، وقول خصومنا يؤول إلى قول بعض أهل
الإلحاد : أن الواجب علينا التشبه بالله عز وجل ، وهذا كفر عندنا ، لأن الله تعالى لا يشبهه شيء ، فلا يروم التشبه به إلا كافر ملحد . وهذا بيّن ، وبالله تعالى التوفيق .
ثم نرجع إلى بقية الكلام في تأخير البيان ، فإن احتج بعض من يجيز تأخير البيان عن وقت وجوب الأمر بقصة موسى والخضر عليهما السلام فلا سواء ، فموسى عليه السلام لم يلزمه قط أمر في تلك القصة يلزمه التقصير إن لم يأته ، وإنما سأله ناسياً والنسيان مرفوع ، وكذلك كان سؤال نوح عليه السلام في ابنه ناسياً ، لأن الله تعالى قد كان بيّن له أن يحمل أهله إلا من سبق عليه القول منهم ، فنسي نوح عليه السلام هذا الاستثناء ، وقد كان كافيه لأن ابنه كان كافراً قد سبق عليه القول في جملة من كفر .
واحتجوا أيضاً بأمر بقرة بني إسرائيل ، وأنه تعالى أخر عنهم بيان الصفات التي زادهم بعد ذلك .
- قال علي: وهذا لا حجة لهم فيه ، لأن تلك الصفات إنما هي زيادات شرائع لو لم يسألوا عنها لم يزادوهم ؛ ولو ذبحوا في أول ما أمروا بقرة بيضاء أو حمراء أو بلقاء لأجزت عنهم؛ لكنهم لما زادوا سؤالاً زيدوا شرعاً ، ودخلوا بذلك في جملة من ذم الله تعالى على لسان نبيه ﷺ ؛ إذ يقول: «إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ جُرْماً فِي الإِسلامِ مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ فَحَرَّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ» . وفي قوله ﷺ : «إِنَّما هَلكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةَ مَسَائِلِهِمْ وَاخْتِلاَفِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ» . ويبين صحة قولنا هذا قوله عز وجل : {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ * قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ }
فأخبر تعالى بنص ما قلنا وله الحمد ، وبين لنا أن الأشياء معفوة ساقطة عنا قبل أن نسأل عنها ، فإذا سألنا عنها لزمتنا ؛ ولعلنا نعصي حينئذ فنهلك ، وكل ذلك قد سبق في علمه عز وجل .
وأما تأخر نزول : {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ } في قصة ابن الزبعرى إذ اعترض على النبي ﷺ في تلاوة : {اعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }
فقال : نحن نعبد الملائكة والنصارى يعبدون عيسى ، فهم في جهنم معنا ، فإن ابن الزبعرى كان مغفلاً عن تدبر الآية الأولى وقد كان له فيها كفاية له عقل ، ولكن الثانية أتت مؤكدة لها فقط وهي إخباره تعالى عن سؤاله الملائكة فقال تعالى : {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ أَهَـؤُلاَءِ إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ } فأخبر تعالى عن الملائكة الصادقين المقدسين أنهم قالُوا : {قَالُواْ سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْـثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ }
فليس قول القائل : أنا أعبد الملائكة ، ولا قول النصارى : نحن نعبد المسيح موجب لصدقهم ، لأن العبادة إنما هى الاتباع والانقياد مأخوذة من العبودية ، وإنما يعبد المرء من ينقاد له ، ومن يتبع أمره ، وأما من يعصي ويخالف فليس عابداً له وهو كاذب في ادعائه أنه يعبده .
فالقائلون نحن نعبد الملائكة والمسيح كذبة في دعواهم لذلك ما عبدوهم قط ، وإنما عبدوا الشياطين لانقيادهم لأمرهم واتباعهم إغواءهم ، ولو اتبعوا الملائكة والمسيح عليه السلام ما أمروهم إلا بعبادة الله عز وجل ، وبأن يقولوا : إننا لا نعبد شيئاً من دون الله عز وجل، بل كانوا ينهونهم عن الكذب وهذا عين الكذب ، وقد بيّن ﷺ معنى قول ربه تعالى : {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَآ أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهاً وَاحِداً لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ }
فقال قائل : يا رسول الله ما كنا نعبدهم ، فأخبرهم ﷺ أنهم إذا أطاعوهم في تحريم ما حرموا ، وتحليل ما أحلوا ، فقد اتخذوهم أرباباً ، ونحن إنما أطعنا أمر نبينا ﷺ لعلمنا أنه كله من عند الله عز وجل ، وأنه لا يقول من تلقاء نفسه شيئاً . قال الله عز وجل : {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى } .
فإن قال قائل : فعلى قولك فمن عصى منا لم يعبد الله عز وجل ؟
قيل له : نعم ، لم يعبد الله تعالى لتلك المعصية ولا فيها، ولكن عبده في سائر طاعته وإقراره بالتوحيد.
فإن قال قائل: فعلى قولك إننا إذا أطعنا الرسول لقد عبدناه .
قيل له وبالله تعالى التوفيق : إن طاعة الرسول توجب ألا يطلق لفظ العبادة ولا معناها إلا لله عز وجل وحده لا شريك له ، وتوجب أن من أطاع الشيطان في الكفر فقد عبده ، وهذه معان شرعية لا يتجاوز فيها ما أتت به الشريعة فقط ، وأما من ادعى بيان كون أن السلب للقاتل نزل بعد آية قسم الغنائم، فدعوى لا يقوم عليها دليل ولا روي ذلك قط من وجه يصح ، وكذلك القول في بيان سهم ذي القربى وأن بيان كون بني هاشم وبني عبد المطلب هم ذو القربى ، دون بني عبد شمس وبني نوفل ، نزل متأخراً عن الآية دعوى لا تصح أصلاً .
فإن قال قائل : فإنّ عثمان رضي الله عنه ، وجبير بن مطعم جهلا هذا .
قيل له : نعم ، وما في هذا علينا من الحجة ، ومتى منعنا أن يخفى على الصاحب والصاحبين والعشرة والأكثر منهم فهم آية أو آيات من القرآن .
وقد كان في قسمة رسول الله ﷺ لبني المطلب دونهما ما يكفي، لأنهما كانا يوقنان بلا شك أن رسول الله ﷺ لا يمنع ذا حق حقه ، ولا يعطي أحداً غير حقه ؛ فكان في هذا كفاية ، لأنه لو كان لبني عبد شمس ، وبني نوفل حق في سهم ذوي القربى ما منعهم إياه رسول الله ﷺ ، ولوكان بنو عبد المطلب خارجين من ذوي القربى ما أعطاهم النبي ﷺ حقًّا ليس لهم ، ولكن عثمان وجبير رضي الله عنهما أرادا علم السبب الذي من أجله استحق بنو المطلب الدخول فيما خرج قومهما منه ، والخصلة التي بان بها بنو عبد المطلب دون بني عبد شمس وبني نوفل ، وقد قال عثمان رضي الله عنه في الجمع بين الأختين بملك اليمين : أحلتهما آية وحرمتهما آية ، فأخبر رضي الله عنه أنه خفيت عليه رتبة هاتين الآيتين ، ولم يدر أيهما يغلب ويستثني من الأخرى ، ولا يجوز عند ذي فهم ولُب أن يعتقد الشيء حراماً حلالاً في وقت واحد ، على شخص واحد، فيكون يحل له أن يفعله ولا يحل له أن يفعله ، فيفعل ولا يفعل ، وهذا محال ظاهر الامتناع ، ومن بلغ ههنا كفانا نفسه ، وأما العرايا فقد جاء الحديث موصولاً في استثنائها من التمر بالرطب ، وبالله تعالى التوفيق .