إحياء علوم الدين/كتاب أسرار الصلاة ومهماتها/الباب الثاني
ينبغي للمصلي إذا فرغ من الوضوء والطهارة من الخبث في البدن والمكان والثياب وستر العورة من السرة إلى الركبة أن ينتصب قائماً متوجهاً إلى القبلة ويزواج بين قدميه ولايضمهما فإن ذلك مما كان يستدل به على فقه الرجل وقد "نهى ﷺ عن الصفن والصفد في الصلاة" والصفد هو اقتران القدمين معاً ومنه قوله تعالى "مقرنين في الأصفاد" والصفن هو رفع إحدى الرجلين ومنه قوله عز وجل "الصافنات الجياد" هذا ما يراعيه في رجليه عند القيام ويراعى في ركبتيه ومعقد نطاقه الانتصاب، وأما رأسه إن شاء تركه على استواء القيام وإن شاء أطرق والإطراق أقرب للخشوع وأغض للبصر وليكن بصره محصوراً على مصلاه الذي تصلي عليه، فإن لم يكن له مصلى فليقرب من جدار الحائط أو ليخط خطاً، فإن ذلك يقصر مسافة البصر ويمنع تفوق الفكر وليحجر على بصره أن يجاوز أطراف المصلى وحدود الخط? وليدم على هذا القيام كذلك إلى الركوع من غير التفات. هذا أدب القيام فإذا استوى قيامه واستقباله وإطراقه كذلك فليقرأ "قل أعوذ برب الناس" تحصناً به من الشيطان، ثم ليأت بالإقامة وإن كان يرجو حضور من يقتدي به فليؤذن أولاً ثم ليحضر النية وهو أن ينوي في الظهر مثلاً ويقول بقلبه: أؤدي فريضة الظهر لله، ليميزها بقوله أؤدى: عن القضاء وبالفريضة عن النفل، وبالظهر عن العصر وغيره، ولتكن معاني هذه الألفاظ حاضرة في قلبه فإنه هو النية، والألفاظ مذكرات وأسباب لحضورها. ويجتهد أن يستديم ذلك إلى آخر التكبير حتى لا يعزب فإذا حضر في قلبه ذلك فليرفع يديه إلى حذو منكبيه بعد إرسالهما بحيث يحاذي بكفيه منكبيه وبإبهاميه إلى القبلة ويبسط الأصابع ولا يقبضها، ولا يتكلف فيها تفريجاً ولا ضماً بل يتركها على مقتضى طبعها، إذ نقل في الأثر النشر والضم وهذا بينهما فهو أولى "وإذا استقرت اليدان في مقرهما ابتدأ التكبير مع إرسالهما وإحضار النية، ثم يضع اليدين على ما فوق السرة وتحت الصدر ويضع اليمنى على اليسى إكراماً لليمنى بأن تكون محمولة، وينشر المسبحة والوسطى من اليمنى على طول الساعد ويقبض بالإبهام والخنصر والبنصر على كوع اليسرى، وقد روي أن التكبير مع رفع اليدين ومع استقرارهما ومع الإرسال فكل ذلك لا حرج فيه وأراه بالإرسال أليق فإنه كلمة العقد، ووضع إحدى اليدين على الأخرى في صورة العقد ومبدؤه الإرسال وآخره الوضع. ومبدأ التكبير الألف وآخره الراء فيليق مراعاة التطابق بين الفعل والعقد، وأما رفع اليد فكالمقدمة لهذه البداية. ثم لا ينبغي أن يرفع يديه إلى قدام رفعاً عند التكبير ولا يردهما إلى خلف منكبيه ولا ينفضهما عن يمين وشمال نفضاً إذا فرغ من التكبير ويرسلهما إرسالاً خفيفاً رفيقاً ويستأنف وضع اليمين على الشمال بعد الإرسال، وفي بعض الروايات أنه ﷺ "كان إذا كبر أرسل يديه وإذا أراد أن يقرأ وضع اليمنى على اليسرى" فإن صح هذا فهو أولى مما ذكرناه. وأما التكبير فينبغي أن يضم الهاء من قوله "الله" ضمة خفيفة من غير مبالغة ولا يدخل بين الهاء والألف شبه الواو، وذلك ينساق إليه بالمبالغة: ولا يدخل بين باء أكبر ورائه ألفاً، كأنه يقول "أكبار" ويجزم راء التكبير ولا يضمها فهذه هيئة التكبير وما معه.
القراءة
ثم يبتدىء بدعاء الاستفتاح وحسن أن يقول عقب قوله الله أكبر "الله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً وسبحان الله بكرة وأصيلاً وجهت وجهي - إلى قوله - وأنا من المسلمين" ثم يقول "سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك وجل ثناؤك ولا إله غيرك" ليكون جامعاً بين متفرقات ما ورد في الأخبار. وإن كان خلف الإمام اختصر إن لم يكن للإمام سكتة طويلة يقرأ فيها ثم يقول "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" ثم يقرأ الفاتحة يبتدىء فيها ب "بسم الله الرحمن الرحيم" بتمام تشديداتها وحروفها ويجتهد في الفرق بين الضاد والظاء ويقول "آمين" في آخر الفاتحة ويمدها مداً، ولا يصل "آمين" بقوله "ولا الضالين" وصلا. ويجهر بالقراءة في الصبح والمغرب والعشاء إلا أن يكون مأموماً، ويجهر بالتأمين. ثم يقرأ السورة أو قدر ثلاث آيات من القرآن فما فوقها، ولا يصل آخر السورة بتكبير الهوى بأن يفصل بينهما بقدر قوله "سبحان الله" ويقرأ في الصبح من السور الطوال من المفصل وفي المغرب من قصاره، وفي الظهر والعصر والعشاء نحو "والسماء ذات البروج" وما قاربها. وفي الصبح في السفر "قل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد" وكذلك في ركعتي الفجر والطواف والتحية وهو في جميع ذلك مستديم للقيام ووضع اليدين كما وصفنا في أول الصلاة.
الركوع ولواحقه
ثم يركع ويراعى فيه أموراً وهو أن يكبر للركوع وأن يرفع يديه مع تكبيرة الركوع وأن يمد التكبير مداً إلى الانتهاء إلى الركوع وأن يضع راحتيه على ركبتيه في الركوع وأصابعه منشورة موجهة نحو القبلة على طول الساق وأن ينصب ركبتيه ولا يثنيهما وأن يمد ظهره مستوياً وأن يكون عنقه ورأسه مستويين مع ظهره كالصفيحة الواحدة لا يكون رأسه أخفض ولا أرفع وأن يجافي مرفقيه عن جنبيه. وتضم المرأة مرفقيها إلى جنبيها. وأن يقول "سبحان ربي العظيم" ثلاثاً والزيادة إلى السبعة وإلى العشرة حسن، إن لم يكن إماماً، ثم يرتفع من الركوع إلى القيام ويرفع يديه ويقول "سمع الله لمن حمده" ويطمئن في الاعتدال ويقول "ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد" ولا يطول هذا القيام إلا في صلاة التسبيح والكسوف والصبح. ويقنت في الصبح في الركعة الثانية بالكلمات المأثورة قبل السجود.
السجود
ثم يهوي إلى السجود مكبراً فيضع ركبتيه على الأرض ويضع جبهته وأنفه وكفيه مكشوفة ويكبر عند الهوي ولا يرفع يديه في غير الركوع، وينبغي أن يكون أول ما يقع منه على الأرض ركبتاه وأن يضع بعدهما يديه ثم يضع بعدهما وجهه وأن يضع جبهته وأنفه على الأرض وأن يجافي مرفقيه عن جنبيه: ولا تفعل المرأة ذلك. وأن يفرج بين رجليه. ولا تفعل المرأة ذلك. وأن يكون في سجوده مخوياً على الأرض. ولا تكون المرأة مخوية. والتخوية: رفع البطن عن الفخذين والتفريج بين الركبتين. وأن يضع يديه على الأرض حذاء منكبيه ولا يفرح بين أصاعهما بل يضمهما ويضم الإبهام إليهما، وإن لم يضم الإبهام فلابأس، ولا يفترش ذراعيه على الأرض كما يفترش الكلب فإنه منهي عنه. وأن يقول "سبحان ربي الأعلى" ثلاثاً فإن زاد فحسن إلا أن يكون إماماً. ثم يرفع من السجود فيطمئن جالساً معتدلاً فيرفع رأسه مكبراً ويجلس على رجله اليسرى وينصب قدمه اليمنى ويضع يديه على فخذيه والأصابع منشورة ولا يتكلف ضمها ولا تفريجها. ويقول "رب اغفر لي وارحمني وارزقني وأهدني واجبرني وعافني واعف عني" ولا يطول هذه الجلسة إلا في سجود التسبيح. ويأتي بالسجدة الثانية كذلك ويستوي منها جالساً جلسة خفيفة للاستراحة في كل ركعة لا تشهد عقيبها. ثم يقوم فيضع اليد على الأرض ولا يقدم إحدى رجليه في حال الارتفاع ويمد التكبير حتى يستغرق ما بين وسط ارتفاعه من القعود إلى وسط ارتفاعه إلى القيام. بحيث تكون الهاء من قوله "الله" عند استوائه جالساً؛ وكاف "أكبر" عند اعتماده على اليد للقيام، وراء "أكبر" في وسط ارتفاعه إلى القيام ويبتدىء في وسط ارتفاعه إلى القيام حتى يقع التكبير في وسط انتقاله ولا يخلو عنه إلا طرفاه وهو أقرب إلى التعميم. ويصلي الركعة الثانية كالأولى ويعيد التعوذ كالابتداء.
التشهد
ثم يتشهد في الركعة الثانية التشهد الأول. ثم يصلي على رسول الله ﷺ وعلى آله ويضع يده اليمنى على فخذه اليمنى ويقبض أصابعه اليمنى إلا المسبحة، ولابأس بإرسال الإبهام أيضاً، ويشر بمسبحة يمناه وحدها عند قوله "إلا الله" لا عند قوله "لا إله" ويجلس في هذا التشهد على رجله اليسرى كما بين السجدتين. وفي التشهد الأخير يستكمل الدعاء المأثور بعد الصلاة على النبي ﷺ وسننه كسنن التشهد الأول لكن يجلس في الأخير على وركه الأيسر، لأنه ليس مستوفزاً للقيام بل هو مستقر، ويضجع رجله اليسرى خارجة من تحته وينصب اليمنى ويضع رأس الإبهام إلى جهة القبلة إن لم يشق عليه. ثم يقول "السلام عليكم ورحمة الله" ويلتفت يميناً بحيث يرى خده الأيمن من وراءه من الجانب اليمين ويلتفت شمالاً كذلك. ويسلم تسليمة ثانية وينوي الخروج من الصلاة بالسلام وينوي بالسلام من على يمينه الملائكة والمسلمين في الأولى، وينوي مثل ذلك في الثانية. ويجزم التسليم ولا يمده مداً فهو السنة. وهذه هيئة صلاة المنفرد، ويرفع صوته بالتكبيرات ولا يرفع صوته إلا بقدر ما يسمع نفسه. وينوي الإمام الإمامة لينال الفضل فإن لم ينو صحت صلاة القوم إذا نووا الاقتداء ونالوا فضل الجماعة، ويسر بدعاء الاستفتاح والتعوذ كالمنفرد، ويجهر بالفاتحة والسورة في جميع الصبح وأولي العشاء والمغرب. وكذلك المنفرد. ويجهر بقوله "آمين" في الصلاة الجهرية وكذلك المأموم. ويقرن المأموم تأمينه بتأمين الإمام معاً لا تعقيباً. ويسكت الإمام سكتة عقيب الفاتحة ليثوب إليه نفسه ويقرأ المأموم الفاتحة في الجهرية في هذه السكتة ليتمكن من الاستماع عند قراءة الإمام. ولا يقرأ المأموم السور في الجهرية إلا إذا لم يسمع صوت الإمام. ويقول الإمام "سمع الله لمن حمده" عند رفع رأسه من الركوع وكذا المأموم. ولا يزيد الإمام على الثلاث في تسبيحات الركوع والسجود، ولا يزيد في التشهد الأول بعد قوله "اللهم صل على محمد وعلى آل محمد" ويقتصر في الركعتين الأخيرتين على الفاتحة ولا يطول على القوم ولا يزيد على دعائه في التشهد الأخير على قدر التشهد والصلاة على رسول الله ﷺ. وينوي عند السلام: السلام على القوم والملائكة. وينوي القوم بتسليمهم جوابه ويثبت الإمام ساعة حتى يفرغ الناس من السلام ويقبل على الناس بوجهه. والأولى أن يثبت إن كان خلف الرجال نساء لينصرفن قبلهن ولا يقوم واحد من القوم حتى يقوم. وينصرف الإمام حيث يشاء عن يمينه وشماله واليمين أحب إلي. ولا يخص الإمام نفسه بالدعاء في قنوت الصبح بل يقول "اللهم اهدنا" ويجهر به ويؤمن القوم ويرفعون أيديهم حذاء الصدور، ويمسح لوجه عند ختم الدعاء. لحديث نقل فيه، وإلا فالقياس أن لا يرفع اليد كما في آخر التشهد.
المنهيات
نهى رسول الله ﷺ عن الصفن في الصلاة والصفد وقد ذكرناهما وعن الإقعاء وعن السدل والكفت وعن الاختصار وعن الصلب وعن المواصلة وعن صلاة الحاقن والحاقب والحازق وعن صلاة الجائع والغضبان والمتلثم وهو ستر الوجه. أما الإقعاء: فهو عند أهل اللغة أن يجلس على وركيه وينصب ركبتيه ويجعل يديه على الأرض كالكلب. وعند أهل الحديث أن يجلس على ساقيه جاثياً وليس على الأرض منه إلا رءوس أصابع الرجلين والركبتين. وأما السدل: فمذهب أهل الحديث فيه أن يلتحف بثوبه ويدخل يديه من داخل فيركع ويسجد كذلك. وكان هذا فعل اليهود في صلاتهم فنهوا عن التشبه بهم. والقميص في معناه فلا ينبغي أن يركع ويسجد ويداه في بدن القميص. وقيل معناه أن يضع وسط الإزار على رأسه ويرسل طرفيه عن يمينه وشماله من غير أن يجعلهما على كتفيه. والأول أقرب. وأما الكف فهو أن يرفع ثيابه من بين يديه أو من خلفه إذا أراد السجود. وقد يكون الكف في شعر الرأس فلا يصلين وهو عاقص شعره والنهى للرجال. وفي الحديث "أمرت أن أسجد على سبعة أعضاء ولا أكفت شعراً ولا ثواباً" وكره أحمد بن حنبل رضي الله عنه أن يأتزر فوق القميص في الصلاة ورآه من الكفت، وأما الاختصار: فأن يضع يديه على خاصرتيه. وأما الصلب فأن يضع يديه على خاصرتيه في القيام ويجافي بين عضديه في القيام. وأما المواصلة: فهي خمسة؛ اثنان على الإمام أن لا يصل قراءته بتكبيرة الإحرام ولا ركوعه بقراءته واثنان على المأموم أن لا يصل تكبيرة الإحرام بتكبيرة الإمام ولا تسليمه بتسليمه، وواحدة بينهما أن لا يصل تسليمة الفرض بالتسليمة الثانية وليفصل بينهما وأما الحاقن: فمن البول، والحاقب: من الغائط. والحازق: صاحب الخف الضيق. فإن كل ذلك يمنع من الخشوع. وفي معاه الجائع والمهتم. وفهم نهي الجائع من قوله ﷺ "إذا حضر العشاء وأقيمت الصلاة فابدءوا بالعشاء إلا أن يضيق الوقت أو يكون ساكن القلب" وفي الخبر "لا يدخلن أحدكم الصلاة وهو مقطب ولا يصلين أحدكم وهو غضبان" وقال الحسن: كل صلاة لا يحضر فيها القلب فهي إلى العقوبة أسرع. وفي الحديث "سبعة أشياء في الصلاة من الشيطان: الرعاف والنعاس والوسوسة والتثاؤب والحكام والالتفات والعبث بالشيء" وزاد بعضهم "السهو والشك" وقال بعض السلف: أربعة في الصلاة من الجفاء - الالتفات ومسح الوجه وتسوية الحصى وأن تصلي بطريق من يمر بين يديك "ونهى أيضاً عن أن يشبك أصابعه أو يفرقع أصابعه أو يستر وجهه أو يضع إحدى كفيه على الأخرى يدخلهما بين فخذيه في الركوع" وقال بعض الصحابة رضي الله عنهم: كنا نفعل ذلك فنهينا عنه. ويكره أيضاً أن ينفخ في الأرض عند السجود للتنظيف وأن يسوي الحصى بيده فإنها أفعال مستغنى عنها ولا يرفع إحدى قدميه فيضها على فخذه ولا يستند في قيامه إلى حائط فإن استند بحيث لوسل ذلك الحائط لسقط فالأظهر بطلان صلاته والله أعلم.
تمييز الفرائض والسنن
جملة ما ذكر يشتمل على فرائض وسنن وآداب وهيئات مما ينبغي لمريد طريق الآخرة أن يراعي جميعها. فالفرض من جملتها اثنتا عشرة خصلة: النية والتكبير والقيام والفاتحة، والانحناء في الركوع إلى أن تنال راحتاه ركبتيه مع الطمأنينة والاعتدال عنه قائماً، والسجود مع الطمأنينة ولا يجب وضع اليدين والاعتدال عنه قاعداً، والجلوس للتشهد الأخير والتشهد الأخير والصلاة على النبي ﷺ، والسلام الأول. فأمانية الخروج فلا تجب وما عدا هذا فليس بواجب بل هي سنن وهيئات فيها وفي الفرائض: أما السنن فمن الأفعال أربعة: رفع اليدين في تكبيرة الإحرام وعند الهوي إلى الركوع وعند الارتفاع إلى القيام، والجلسة للتشهد الأول. فأما ما ذكرناه من كيفية نشر الأصابع وحد رفعها فهي هيئات تابعة لهذه السنة، والتورك والافتراش هيئات تابعة للجلسة والإطراق وترك الالتفات هيئات للقيام وتحسين صورته، وجلسة الاستراحة لم نعدها من أصول السنة في الأفعال لأنها كالتحسين لهيئة الارتفاع من السجود إلى القيام لأنها ليست مقصودة في نفسها ولذلك لم تفرد بذكر. وأما السنن من الأذكار فدعاء الاستفتاح ثم التعوذ ثم قوله "آمين" فإنه سنة مؤكدة ثم قراءة السورة ثم تكبيرات الانتقالات، ثم الذكر في الركوع والسجود والاعتدال عنهما، ثم التشهد الأول والصلاة فيه على النبي ﷺ، ثم الدعاء في آخر التشهد الأخير، ثم التسليمة الثانية وإن جمعناها في اسم السنة فلها درجات متفاوتة إذ تجبر أربعة منها بسجود السهو. وأما من الأفعال فواحدة: وهي الجلسة الأولى للتشهد الأول فإنها مؤثرة في ترتيب نظم الصلاة في أعين الناظرين حتى يعرف بها أنها رباعية أم لا? بخلاف رفع اليدين فإنه لا يؤثر في تغيير النظم فعبر عن ذلك بالبعض. وقيل الأبعاض تجبر بالسجود: وأما الأذكار فكلها لا تقتضي سجود السهو إلا ثلاثة: القنوت والتشهد الأول والصلاة على النبي ﷺ فيه، بخلاف تكبيرات الانتقالات وأذكار الركوع والسجود والاعتدال عنهما، لأن الركوع والسجود في صورتهما مخالفان للعادة ويحصل بهما معنى العبادة مع السكوت عن الأذكار وعن تكبيرات الانتقالات فعدم تلك الأذكار لا تغير صورة العبادة. وأما الجلسة للتشهد الأول ففعل معتاد وما زيدت إلا للتشهد فتركها ظاهر التأثير. وأما دعاء الاستفتاح والسورة فتركهما لا يؤثر مع أن القيام صار معموراً بالفاتحة ومميزاً عن العادة بها، وكذلك الدعاء في التشهد الأخير والقنوت أبعد ما يجبر بالسجود ولكن شرع مد الاعتدال في الصبح لأجله فكان كمد جلسة الاستراحة إذ صارت بالمد مع التشهد جلسة للتشهد الأول. فبقي هذا قياماً ممدوداً معتاداً ليس فيه ذكر واجب وفي الممدود احتراز عن غير الصبح وفي خلوه عن ذكر واجب احتراز عن أصل القيام في الصلاة. فإن قلت: تمييز السنن عن الفرائض معقول إذ تفوت الصحة بفوت الفرض دون السنة ويتوجه العقاب به دونها فأما تمييز سنة عن سنة والكل مأمور به على سبيل الاستحباب ولا عقاب في ترك الكل والثواب موجود على الكل فما معناه? فاعلم أن اشتراكهما في الثواب والعقاب والاستحباب لا يرفع تفاوتهما، ولنكشف ذلك لك بمثال: وهو أن الإنسان لا يكون إنساناً موجوداً كاملاً إلا بمعنى باطن وأعضاء ظاهرة، فالمعنى الباطن هو الحياة والروح، والظاهر أجسام أعضائه. ثم بعض تلك الأعضاء ينعدم الإنسان بعدمها كالقلب والكبد والدماغ، وكل عضو تفوت الحياة بفواته، وبعضها لا تفوت بها الحياة ولكن يفوت بها مقاصد الحياة كالعين واليد والرجل واللسان، وبعضها لا يفوت بها أصل الجمال ولكن كماله كاستقواس الحاجبين وسواد شعر اللحية والأهداب وتناسب خلقة الأعضاء وامتزاج الحمرة بالبياض في اللون فهذه درجات متفاوتة؛ فكذلك العبادة صورة صورها الشرع وتعبدنا باكتسابها فروحها وحياتها الباطنة الخشوع والنية وحضور القلب والإخلاص - كما سيأتي - ونحن الآن في أجزائها الظاهرة فالركوع والسجود والقيام وسائر الأركان تجري منها مجرى القلب والرأس والكبد إذ يفوت وجود الصلاة بفواتها. والسنن التي ذكرناها من رفع اليدين ودعاء الاستفتاح والتشهد الأول تجري منها مجرى اليدين والعينين والرجلين ولا تفوت الصحة بفواتها كما لا تفوت الحياة بفوات هذه الأعضاء ولكن يصير الشخص بسبب فواتها مشوه الخلقة مذموماً غير مرغوب فيه، فكذلك من اقتصر على أقل ما يجزي من الصلاة كان كمن أهدى إلى ملك من الملوك عبداً حياً مقطوع الأطراف. وأما الهيئات وهي ما وراء السنن فتجري مجرى أسباب الحسن من الحاجبين واللحية والأهداب وحسن اللون، وأما وظائف الأذكار في تلك السنن فهي مكملات للحسن كاستقواس الحاجبين واستدارة اللحية وغيرهما. فالصلاة عندك قربة وتحفة تتقرب بها إلى حضرة ملك الملوك كوصيفة يهيدها طالب القربة من السلاطين إليهم وهذه التحفة تعرض على الله عز وجل. ثم ترد عليك يوم العرض الأكبر فإليك الخيرة في تحسين صورتها وتقبيحها. فإن أحسنت فلنفسك وإن أسأت فعليها. ولا ينبغي أن يكون حظك من ممارسة الفقه أن يتميز لك السنة عن الفرض فلا يعلق بفهمك من أوصاف السنة إلا أنه يجوز تركها فتتركها فإن ذلك يضاهي قول الطبيب: إن فقء العين لا يبطل وجود الإنسان ولكن يخرجه عن أن يصدق رجاء المتقرب في قبول السلطان إذا أخرجه في معرض الهدية - فهكذا ينبغي أن تفهم مراتب السنن والهيئات والآداب، فكل صلاة لم يتم الإنسان ركوعها وسجودها فهي الخصم الأول على صاحبها تقول: ضيعك الله كما ضيعتني. فطالع الأخبار التي أوردناها في كمال أركان الصلاة ليظهر لك وقعها.