نسب ولد حام
ولد حام كوشا وماريع، فولد كوش الحبشة، ولد لماريح بن حام كنعان بن ماريع بن حام فولد بربر بن ماريع ونوبة بن ماريع، وولد حام قبط بن حام وسند بن حام وقول بن حام وعامور بن حام، وولد يافث عجلان بن يافث، وولد يافث عوجان بن يافث وبرجان بن يافث، فولد عجلان بن يافث ياجوج وماجوج والترك والخزر أولاد عجلان بن يافث، وولد عوجان بن يافث صقالب بن عوجان وسكس بن عوجان وقوط بن عوجان. قال وهب بن منبه: ولما خلق الله الجنة جعلها خير معد لأوليائه وخلق الألسن فاختار لجنته من جميعها العربية وخلق بني آدم فاختار للعربية العرب. قال وهب: ولما أراد الله إتمام أمره وإظهار العربية أنزل كتاباً مقطعاً وهو: {شهد الله بالحق بسم الله الرحمن الرحيم شهد الله إنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم}. حكم الحي القيوم إنه إذا اعتكر الزمان وكثر النسيان وحكم في ذرية آدم الشيطان وغلب هذا اللسان فعبدت الأوثان وقتل الولدان بعث الله محمداً بالعدل والبيان يصدع بالقرآن وينصر الإيمان زمان ظهور السودان نبي لا نبي بعده ولم يخلف الله وعده. قال وهب قال جبريل يا نوح خذ هذه الصحيفة فإنها كنز لذريتك فاحبسها عنهم فانه من صارت له من ولدك القسلة تعلم إنه خير ولدك وذريته خير ذريتك محمد صلى الله عليه وآله وسلم. فلم يزل تبارك وتعالى ينقله من الأصلاب الطاهرة والمحتد الطيب حتى بعثه الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكانت الصحيفة عند نوح لا يعلم ما فيها حتى نعيت إليه نفسه فقال له جبريل: ساهم بين بنيك بني سام وحام ويافث فقال لهم نوح: اقترعوا على هذه الصحيفة فأيكم صارت له فهو خير ولدي وذريته خير ذريتي، فاقترعوا عليها فارت لسام فأخذها سام فصارت إليه وكانت في يدي سام ولا يعلم ما فيها. (سام): تفسيره بالعربية اسما، ومات نوح وولي أمر أهل الأرض سام وهو وصي نو. وقال بعض أهل العلم: أن وصي نوح ابنه نون بن نوح. قال وهب: وكان سام جزوعاً من الموت فسأل نوح الله ألا يميته حتى يسأل الموت. فعاش أربعة آلاف عام نبي القين وعمّر ألفين وإن سام اعتل بنسمة فسأل ربه الموت فمات. قال وهب: أتى الحواريون عيسى بن مريم فقالوا له: يا روح الله وكلمته أرنا جدنا سام بن نوح ليزيدنا الله يقيناً فسار بهم عيسى إلى قبر سام فقال: أجب بإذن الله يا سام بن نوح فقام بقدرة الله كالنخلة السحوق قال له: كم عشت يا سام؟ قال له عشت أربعة آلاف سنة تنبيت ألفين وعمرت ألفين، قال له عيسى: فكيف كانت الدنيا هناك؟ قال له سام: كبيت ببابين دخلت من هذا وخرجت من هذا ثم أن ساع قرع بين أولاده في الصحيفة فصارت إلى ارفخشد فعلم سام إنه خير ولده فأوصى له واستخلفه وولي ارفخشد. وتفسير (ارفخشد) بالعربي مصباح مضيء، وارفخشد باللسان السرياني واسمه بالعبراني ارفخشاد، فعاش ارفخشد أربعمائة وثلاثاً وستين سنة فكانت الصحيفة عنده لا يعلم ما فيها وهو على دين الله فساهم بين بنيه فصارت الصحيفة بالسهم إلى شالخ بن ارفخشد وولي أمر الناس شالخ. وشالخ بالعربي وكيل وكان على حق والصحيفة لا يعلم ما فيها، فعاش ثلاث مائة سنة وثلاثاً وستين سنة، فلما حضرته الوفاة ساهم بين بنيه فصارت الصحيفة إلى عابر بن شالخ فأوصى شالخ إلى ابنه عابر فولي أمر الناس عابر بالحق والعدل فبنى المجدل وحلب النهر والصحيفة عنده لا يعلم ما فيها حتى أراد الله تفرقة الألسن للذي سبق في علمه لظهور الحجة. قال الله {واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين}. قال وهب: وإن عابر رأى في منامه كأن باباً من السماء فتح له ونزل منه ملك فأخذ بيديه فأقامه قائماً فشق صدره ونزع قلبه فشقه وغسله ثم أطبقه فعاد صحيحاً كما كان ثم رده في صدره وريده فعاد سوياً. فلما أصبح داخلته وحشة وهيام منها فتوارى عن أخوته وقومه وأنكره أهله وولده وامتنع من الطعام. فلما رأى إلى فراشه رأى كما رأى في الليلة الأولى، فرأى كأن الملك آتاه فأخذ بيديه وأقامه على نفسه ثم قال: هات الصحيفة يا عبر فأتى بالصحيفة عابر فقال له الملك: اقرأ يا عابر، قال له عابر: ما الذي اقرأ؟ قال: (اقرأ (شهد الله بالحق بسم الله الرحمن الرحيم شهد الله إنه لا إله إلا هو). إلى آخر الصحيفة ثم قرأها معه مراراً فلما أصبح عابر ازداد وحشة وفراراً من قومه، فقالوا: أن عابر خولط في عقله، فجعلوا يحرسونه وهو يتوارى عنهم بالصحيفة يتذاكر ما علمه الملك ويتدبر الأحرف بعقله وافتراقها كيف واتصالها كيف نهاره أجمع. فلما أوى إلى فراشه عادت الرؤيا ثم أخذ الملك بيده فأقامه وقال هات الصحيفة يا عابر! فلما آتاه بها قال له: يا عابر أمر هذه الأحرف وسمها بما أعطاك لسانك وشفتاك ألا ترى أنك قلت باء بشفتك فسم حرف الباء، ثم قلت سين فهو سين، ثم قلت ميم توالي الحرف بالحرف يكن بسم. وكذلك سائر الحروف فتدبرها وسمها بما أعطاك لسانك وشفتاك لتسعد. فلما أفاق عابر تدبر الصحيفة كما رأى فسهل عليه أمرها وفتحت له قراءتها فقرأها وعلم ما فيها فدعا ابنه هود وهو هود النبي ﷺ - فقال له: يا هود إن الله اختصني بعلم عظيم جليل القدر لنا به الشرف في الدنيا والآخرة، ثم أخرج الصحيفة فقرأها فقال له هود: يا أبت رأيت رؤيا كأن آتياً أتاني فأطعمني طعاماً فلما وصل إلى جوفي تضوع له من فمي نور ملأ ما بين المشرق والمغرب. قال له عابر: أنت يا بني صاحب الصحيفة سيقال لك وتقول فاحترس بما في يديك. ثم تبلبلت ألسن الخلق فأقاموا بالمجدل وبأرض بابل يموجون ويعالجون اللغات فسلبوا اللسان السرياني إلا أهل الجودي فإنهم لم يعتوج لهم لسان يتكلمون بالسرياني. وأجرى جبريل صلى الله عليه على كل لسان كل أمة لغة فنطق بالألسن العجمي والعربي وأفصح يعرب بالعربية وهود أبوه وفالغ بن عابر أخو هود بالجودي يتكلم بالسرياني، ويتكلم مع عابر جميع أخوته وبني عمه أرم بن سام ما خلا الفرس فإنها تكلمت بلسان أعجمي، وأما عاد وثمود وطسم وجديس وعملاق وراتش فإنهم نطقوا مع ابن عمهم عابر بالعربية فأدركتهم بركتها وشرفوا وتغلبوا على جميع من كان معهم من الألسن حتى زهوا على الناس وأظهروا فيهم الطغيان وأشرفوا على الناس وكانوا كذلك إلى حين والناس إذ ذاك ببابل. قال وهب: ولما تغلب المتعربون من ولد سام بن نوح على الناس ببابل وطغوا عليهم وعاثوا فيهم، بعث الله إليهم أخاهم هوداً نبياً فدعاهم إلى طاعة الله فعتوا وهو قول الله تعالى: {وإلى عاد أخاهم هوداً}. فإنه لما تغلب بنو عابر على جميع أهل الألسن وقهروا الناس، هبت الرياح الأربع الصبا والدبور والشمال والجنوب وهو أن تقف وتستقبل بوجهك مطلع الشمس فما هب عن وجهك فهو صبا وما هب عن يمينك فهو جنوب وما هب عن شمالك فهو شمال وما هب عن خلفك فهو دبور. قال وهب: ولما هبت لقوم تبعوا ريح الصبا أين سارت واقتدوا بها وهم بنو حام فساروا حتى نزلوا اليمن ولم يسم إذ ذاك يمن. ثم هبت بعدهم ريح فتبعها قوم من بني يافث وهم القوط فنزلوا بجوار بني حام والموضع الذي نزلت به بنو حام يسمى العالية والموضع الذي نزلت فيه بنو يافث يسمى الهيفاء، فعملوا الأرض وافتتحوها وغرسوا الثمار وأجروا الأنهار ثم تنافس بنو حام وبنو يافث فاقتتلوا فغلب بنو حام على بني يافث وملكوهم وأجروا عليهم الخراج، والقوط أول من أدى الخراج على الأرض من ولد نوح، وفي ذلك كله هود يدعو الناس ببابل إلى الله ثم أن هوداً رأى رؤيا كأن آتياً أتاه فقال له: يا هود إذا ضربت رائحة المسك إليك أو إلى أحد من ولدك من ناحية من نواحي الأرض فليتبع من وجد رائحة المسلك ذلك النسيم حتى إذا كف عنه فذلك مستقره وللناس سعى ولله فيه علم وقضاء سبق ذلك فجاء مكنون علم الله. فقص الرؤيا هود ﷺ على ولده وقومه. ثم آتاه آت في الليلة الثانية فقال له: يا هوج من وجد رائحة المسك اتبعه فإنه يفضي به إلى خير بلد الله وفيه بيته العتيق وحرمه وهو البيت الذي بناه آدم والملائكة ورفعه الله من الطوفان. وقال بعض الرواة: بل هدمه ثوم نوح. فأقام هود ببابل على الرجاء فلا يجد شيئاً وهو يدعو الناس المتقربين من ولد سام بن نوح عاد أو ثمود وطسماً وجديساً وراتشاً وعملاقاً وبني ارفخشد بن سام وعاد وإخوانهم بنو أرم بن سام ببابل. قال وهب: وإن يعرب بن قحطان بن هود النبي عليه السلام وجد رائحة المسك فقال له هود: دانت ميمون النقيبة يا يعرب أنت أيمن ولدي مر فإذا سكن عنك ما تجد فانزل على اليمن ولا تمر فإنها لك خير وطن وجاور بيت الله يا خير جوار. فصار يعرب بمن تبعه من بني قحطان وبني عابر ومن خف معه من بني ارفخشد فساروا في جمع عظيم ووجوه أهل بابل وكان يعرف وسيماً كريماً أفضل غلام ببابل وقال في ذلك:
- أنا ابن قحطان الهمام الأقيل ... لست لكاك ولا مؤمل
- يا قوم سيروا في الرحيل الأول ... قحطاننا الأوفر غير الأرذل
- إني أنادي باللسان المسهل ... بالمنطق الأبين غير المشكل
- ومنطق الأملاك بعدي الكمل ... حسرت والأمة في تبليل
- أجرى بعين الشمس في تمهل ... لا قهر الأملاك بالتفضل
- عن قول نوح غير ذي تغزل ... وقول نوح ذاك علم الفيصل
- يرجى لتعقيب الزمان الأحول ... زمان ذي الوحي الكريم المفصّل
- محمد الهادي النبي المرسل ... والناس عند سبقنا بمعزل
- عن خير قول قلته وأجمل ... لله در الماجد المستقبل
قوله بمنطق الأملاك يعدي الكمل: طعن في علم ما يكون بعده أراد منطق التبابعة من ولده وأراد بقوله الزمان الأهول بعد ما بعث محمد صلى الله عليه وآله وسلم إنه يحارب الجار جاره ويعادي المرء كلبه ووالده وأمه. قال وهب: وقوله عن قول نوح - يريد الصحيفة كنز ذرية سام - ثم سكنت عنه رائحة المسك على رأس العالية فنزل بجوار بني حام فشاجره بنو حام كما فعلوا ببني يافث فرجعوا إلى يعرب وبني عابر اللذين معه فقاتلهم قتالاً شديداً فهزمهم يعرب ونفاهم إلى غربي الأرض فآتاه بنو يافث مذعنين فأمرهم بالإقامة ورفع عنهم الخراج الذي كانوا يؤدونه إلى بني حام. قال وهب: وورث يعرب أرض اليمن. قال وهب: اسم (يعرب) يمن ولذلك قيل أرض يمن وأقام يعرب بها يغرس الثمار ويجري الأنهار. وكان يعرب أول من قال شعر ووزنه وذهب في جميع الأعاريض ومدح ووصف وقص وشيب فتعلم منه أخوته وبنو عمه حتى وصل الأمر إلى المتعربين ببابل عاد وثمود وطسم وعملاق وراتش فاستطابوا الشعر وخف على ألسنتهم وراموا قوله فنسج لهم قوله. قال وهب: وبلغ عادا ما يعرب فيه هو وبنو أبيه من النعمة ورفد العيش وكان شخص مع يعرب من بابل إلى أرض يمن رجل من عاد يقال له رقيم ابن عويل بن الجماهر بن عوص بن أرم فلما رأى يعر ومن معه في أمن وسعة ورغد من عيشهم حسدهم وكان يعرب يرى الأسباب في منامه وكان يخبر بها قومه ليكون الذي رأى رواية - رأى أن آتياً آتاه فقال له: يا يعرب هلا جعلت نقباً في الجبل الأغر من أرض برهوث في غربي الأرض فإنه معدن عقيان وأفقر شرقيه فإنه معدن لحين ففعل ثم إنه يرى ويستخرج معدن الجوهر من العقيق والجوهر فكبر اللجين والعقيان في أرض يمن وإنما زيد في يمن الألف واللام لصلة الكلام، وإن رقيم بن عويل لما رأى أرض اليمن أتى قومه عاداً وكان فيهم رأساً فجمع عاداً ثم أخبرهم بما فيه بنو قحطان مع يعرب وأنكم ها هنا لستم على شيء وأعنتم على أنفسكم هوداً بكل من غشيم عليه وقهرتموه من جميع الناس فصاروا يداً عليكم مع هود ولكن لاينوا هوداً وأعطوه عقوداً حتى يلين لكم ثم اخرجوا إلى اليمن وانزلوا ناحية منها واسألوا أخوانكم الجوار فإذا سكنتم كنتم من وراء أمركم فويل للمنزول عليه من النازل. قال وهب: فأوحى الله إلى هود يخادعونك والله من ورائهم محيط أعطهم ما سألوا فاني لا أخشى فوتاً فوعزتي وجلالي ما ينتقلون إلا من أرضي إلى أرضي ولا يفرون من قدرتي إلا إلى قدرتي. فأعطاهم هود ما سألوه ورفعوا إلى اليمن فنزلوا بالأحقاف فلما نزلوا الأحقاف لم يتعرض لهم يعرب بشيء وقال لقومه: أخوانكم لجئوا إليكم فقال لهم رقيم: تحرموا عليهم الديون حتى يقاتلوكم فإذا طفرتم بهم قويتم على حرب هود بقتلكم ذريته فليس لأحد بكم طاقة وذلك إن الله خلقهم خلقاً عظيماً. قال الله تعالى: {ألم تر كيف فعل ربك بعاد ارم ذات العماد} أي ذات الأصلاب الطوال التي لم يخلق مثلها في البلاد ثم إن عاداً شاجرت يعرب وبني قحطان وتسببوا إليهم للحرب. فقال يعرب: يا بني قحطان إن كان أعطى الله عاداً أعظم الأجسام فقد أعطاكم الصبر والجلد فقاتلوهم بإذن الله تعالى ثم التقى بنو قحطان ويعرب ومن معهم مع عاد بموضع من اليمن يقال له بارق بين الأحقاف والعالية فاقتتلوا قتالاً شديداً فهزمهم يعرب وقتلهم مقتلة عظيمة فقال يعرب في ذلك:
- لعمري لقد شادت على الدهر خطبة ... سيوف بني قحطان في يوم بارق
- لقد حضرت عاد إلى الموت ضحوة ... وللمرهفات الغر فوق العواتق
- دلفنا إلى عاد بجمع كأنه ... على الأرض يعدو كالسيول الدوافق
- أرادوا دفاع الله والله غالبٌ ... فكن عليهم منه إحدى الصواعق
- لنا لجة وسط العجاج يُرى لها ... على فارسات الصبر حر الودائق
- إذا عججوا أو لججوا خلت جمعهم ... صخوراً تدلت من رؤوس الشواهق
- بكل فتى ماضٍ على الهول باسقٍ ... يلاقي المنايا بالسيوف البوارق
- نفينا بني حام عن الأرض عنوة ... إلى الجانب الغربي رجم المضايق
- لنا شرفات العز من حصن عابر ... علونا بها عن كل بان وسابق
- أبونا هو الهادي النبي الذي له ... على أمم الدنيا عهود المواثق
- سمونا إلى هود ومن كان مثلنا ... يقول بفخر واضح النور صادق
قال وهب: وإن الله أنزل على هود صحيفة أمره فيها بالحج إلى البيت الحرام وأنزل عليه ما بقي على أبيه من العربة وأنزل عليه (اب ت ث ج ح خ د ذ ر ز ط ظ ع غ س ش هـ ولا ي) فأنزل لها تسعة وعشرين حرفاً ولذلك علا اللسان العربي على جميع الألسن لأن كل لسان من الألسن مثل العبراني والسرياني إنما هو اثنان وعشرون حرفاً، وأنزل عليه - يا هو أن الله قد آثرك أنت وذريتك بسيد الكلام وبهذا الكلام يكون لك ولذريتك من بعدك استطالة وقدرة وفضيلة على جميع العباد إلى يوم القيامة ويجري هذا الكلام فيهم أبد الأبد حتى يختم بنبوءة محمد صلى الله عليه وآله وسلم آخره في الأصلاب الطاهرات يخرجه من صلب إلى صلب نبي مطهر ثم يخرج من ولد أخيك فالغ على عشر آباء من نوح إليه. قال وهب: فحج هود وقحطان ابنه ولحق بهم بمكة يعرب بن قحطان وحج معه يعرب بن قحطان والبيت مهدوم، فإذا مر بموضع الحجر الأسود وهو مدفون أومأ إليه واستلم فقضى حجه. فقال يعرب: أتأمرني يا رسول الله أبنيه قال له: لا قد أخر الله أمره يبنيه ويبني معه النبي بعده وتعينه الملائكة وذلك قول الله {وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت} (وقال} وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل}. قال وهب: نبي معه إسماعيل. قال وهب: ثم أن رأس عاد وهو عاد بن رقيم بن عابر بن عوص بن ارم قال لرقيم: أنت مشئوم ورأيك نكد دعوتنا إلى حرب يعرب ولم يردونا بسوء فلما قتل عاد أدرك الجزع فلبست الذل وإن ملك عاد عاد بن رقيم دعاه إلى حرب يعرب وأنشأ يقول:
- ألا يا عاد ويحكم فسيروا ... إلى العلياء واحتملوا برشد
- لقد ظفرت بنو قحطان منا ... بيوم طالع من غير سعد
- لقد نزلوا البلاد فأوطنوها ... وكانوا في المحافل غير جند
- ولينوا في مداهنة لهود ... فقد صرتم إلى ذل وجهد
- وداروه ومن يهوى هواه ... ليرضى من سجيتكم بود
- وفي غب النفوس يكون غلا ... دفينا في الصدور له بحقد
فأجابوه إلى المسير وخرجوا إلى حربه ويعرب بمكة ومعه وجوه بني قحطان وحملة أمورهم فلما برزت عاد أنشأ يقول عاد بن رقيم:
- يا قوم أجيبوا صوت ذا المنادي ... سيروا إليهم غير ما أرواد
- إني أنا عاد الطويل النادي ... وسام جدي غير جد هادي
- سيروا إلى أرض بذي اطواد ... بنهد أرض في ثرى الثماد
- اذ يعرب سار على الجياد ... يظهر قفر أو ببطن وادي
- قد شد من قبل على الآساد ... حتى سبا وعاث في البلاد
- قوموا ليشهد خافق الفؤاد ... ويلق منا صولة الأعادي
- يرمي إلينا مرسن القياد
وبلغ بنو قحطان خروج عاد بقومه فعادوا إليهم فخرجوا والتقوا ببارق فاقتتلوا قتالاً شديداً ونال بعضهم من بعض فكان بينهم قتل عظيم وبلغ ذلك يعرب بمكة فأمره هود بالانصراف إلى اليمن، فلما جاءهم يعرب تهيأ للزحف إلى عاد وإن الله أمر هود بالمسير إلى اليمن لينذر عاداً ويدعوهم إلى طاعة الله تعالى. فسار هود حتى نزل بجوار الأحقاف بموضع يقال له الهنيبق وأمر يعرب فكف عما كان عليه من حرب عاد ودعا عاداً إلى الله تعالى ووعدهم الجنة إن هم أطاعوا الله وخوفهم بالنار إن هم لجوا وتمادوا على ما هم عليه من الكفر فقالوا له: صف لنا هذه الجنة التي وعدتنا؟ فقال لهم: هي جنة بناؤها بطون العقيان وطينها لجين وفيها حور العين أبكار والفواكه الدائمة التي لا تنقطع والأنهار من كل الأشربة تجري بين القصور تحتها والغرف المبنية من الياقوت على أعمدة اللؤلؤ والزمرد والزبرجد وقيعانها من فتيت المسك والكافور والزعفران. قالوا: فصف لنا النار؟ قال لهم: هي سوداء مظلمة مدلهمة وهي طبقات الهاوية والحجيم ولظاً وجهنم والسعير وأوديتها موبق والزمهرير وطعامها الزقوم من أكله سالت عيناه وأحرق حشاه وشرابها الغسلين يتساقط منها لحم الوجوه قبل أن يصل إلى أفواه الشاربين مع مقاربة الزبانية المعذبين. فقالوا وهذا هود قد وصف لنا ولكن أرسلوا إليه وفداً من أهل الرياسة والشرف والعقول يسألونه أن يريهم الجنة ويريهم النار؟ فأجمع أمرهم على ذلك فأرسلوا ألف رجل وفداً. فقال لهم ملكهم عاد بن رقيم: اسألوه أن يريكم هذه الجنة وسموها على اسم جدكم أرم بن سام بن نوح فيكون اسم جدكم موجوداً مذكوراً أبداً ويكون له به فضيلة على الخلق أجمعين وينسى اسم جدهم ارفخشد فيكون لكم علواً ولهم ضعة إلى آخر الدهر. فبعثوا منهم رجلاً من أهل الشرف والرياسة والمنطق يقال له البعيث بن وقاد بن خضرم بن هاد بن عاد بن عوص بن أرم بن سام بن نوح، فوفد البعيث على هود مع ألف رجل فقال له: يا هود أنت وعدتنا بالجنة ووصفتها لنا وأوعدتنا بالنار ووصفتها لنا في الآخرة وخير هذه الدنيا قد رأيناه فلسنا تاركين الحاضر للغائب بقول قائل صادق أو كاذب فنحن من قولك في شك أو تبين ما قلت من جنة أو نار وإلا فأنت كاذب وإنا رأينا حور الدنيا وفواكه الدنيا، ثم وصفت لنا ما هو أحسن من هذا فحقيق على من كان له لب أن يرغب فيما وصفت ثم رأينا نار الدنيا محرقة فزعمت أن تلك النار أشد إحراقاً وظلماً فحقيق لمن خوفته بها أن يخافها فاخرج لنا مدينة نسكنها ونسميها على اسم أبينا أرم بن سام بن نوح تكون لنا فضيلة إلى آخر الأبد واخرج لنا ناراً نتعظ بها ونزداد فيما دعوتنا إليه رغبة وتخرج لنا حيث نريد - وهم يسألونه ذلك على وجه الاستهزاء به وأنه لا يقدر على ذلك - فقال لهم هود: سألتم أمراً وهو يسير عليه ولكن أخشى عليكم أن لا تقوموا لله بوفاء العهود وإنما يقول له كن فيكون فإن عصيتم الآية قال: لما يهلككم كن فيكون فاذهب يا بعيث مع أصحابك فخذوا عهودهم لله ثم أعلموهم أن هم أعطاهم الله سوء لهم أن كذبوا أن الله يهلكهم بمثلة تكون عبرة للعابرين فرجع البعيث والذين معه فقال للملك ولعاد البعيث:
- لقد جئتكم من عنج هود بقصة ... وما عنده قول إلى الحق يتبع
- دعاكم لأمر ليس فيه حقيقة ... وما فيه شيء للجماعة ينفع
- دعاكم لآمال غرور بعيدة ... وترك الذي يهوى ألذ وأنفع
- كتمت له في النفس مني جوابه ... وظني به يا عاد يخدع
- واني مشير فيكم بنصيحة ... وإن أصبحت عاد تطيع وتسمع
- فإن تقبلوا رأي تنالوا سعادة ... خذوه برشد في الذي قال أو دعوا
- ذروني أقل من قبل يبدأ قائل ... فاني له إن قلت بالفلج أطمع
قال له عاد: ما رأيك يا بعيث؟ قال له: نسير إلى هود فنسأله أن يخرج لنا هذه المدينة في الحفيف. وهو واد يسيل ويخرج من بين جبال وجرز وعود شعث والحفيف نهر يسير ليلاً ونهاراً بالرمل يتيهأ بالرياح العواصف. فخرج من عاد ثلاثة آلاف وفدا إلى هود، فاتوا هوداً فقالوا له: يا هود اخرج لنا هذه المدينة على عهد الله علينا وعلى قومنا أن نؤمن وأخرجها لنا بنهر الحفيف؟ فسار معهم حتى وقفوا على الحفيف. فقال لهم هود: اذهبوا عني إلى نجاد الأحقاف فإذا هب لكم نسيم المسك أقبلتم إلي. فذهبوا وناجى هود ربه فأخرجها الله لهم قصور الياقوت على أعمدة اللؤلؤ والزمرد والدر والزبر جد وقصوراً مبنية بلبن اللجين والعقيان وقيعانها بالمسك والكافور والزعفران. فلما رأوا ذلك عشيت أبصارهم وخشعت قلوبهم وداخل قلوبهم منها رعب ورقي إليهم منها نور كشعاع الشمس. فقال لهم هود: هذه التي اسمها أرم على أسم أبيكم فإن آمنتم كان لكم بها فضيلة على الخلق إلى يوم القيامة وإن رغبتم فإن الله قوي عزيز يهلككم كما أهلك من قبلكم ممن كان أشد منكم عتواً في الأرض، فأنا أعلم أنكم لم تؤمنوا ولن يراها أحد من خلق الله إلا رجل من أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم. قال وهب بن منبه: رآها تميم الداري زمان عمر بن الخطاب، ثم هموا بدخولها فعميت أبصارهم واقشعرت جلودهم فولوا مدبرين، فقال لهم ميسعان بن عفير: ويحكم آمنوا فإنها آية من الله، فقالوا: أن هوداً لساحر من سحرة أرض بابل، قال لهم ميسعان: آمنت بما جاء به هود، ثم ساروا ومعهم ميسعان يعظهم حتى بلغوا موضعاً يقال له لكنة المعتال فأنزل الله عليهم ناراً بريح صرصر عاتية فأحرقتهم وخلص ميسعان فلذلك الموضع يسمى الحرقانهة إلى اليوم فانطلق ميسعان سالماً حتى أتى عاداً ليلاً أول رقده فاستوى على شرف من رمل ونادى بأعلى صوته وهو يقول شعراً:
- قد منحت القوم رشداً ناصحاً ... فأبى لي النصح من قد وفدوا
- آمنوا بالله وارضوا بالذي ... قال هود يال قوم اعبدوا
- بعد أن ساروا وسألوا آية ... فرضوها بعد عقد عقدوا
- جعلوا الآية فيهم نسبا ... كانتساب الأب لما وردوا
- ثم قالوا إنما هم أرم ... وهي بحر عليها وكدوا
- فرضي هود بما قالوا معا ... فسني المسك ولاح العمد
- قد رضوها فرأوها نسبا ... واليها بعد عاد قصدوا
- ثم خانوا بعد صلح ورضي ... وعهود لنبي عهدوا
- إنما مهرج شؤم وبه ... عن هوى هود لعمري عمدوا
- حلت النار لهم فاحترقوا ... وكذا النار عليهم تقدُ
- أوقد النار عليهم خيرهم ... ما نجا غيري منهم أحد
- ويل عاد يا ويل لهم ... قدموا شيئاً فها هم وجدوا
ومهرج هو الذي أمرهم أن لا يؤمنوا لهود، وأنها لما سمعت عاد ميسعان ثاروا عليه في جوف الليل فقص عليهم ما كان من شأنهم فصاروا إليه يداً واحدة وقالوا له: يا ميسعان لقد دلنا شعرك على هوجك ولقد أعميت على وفدنا بالهوى. ولميسعان منعة بأخوته وولده وقومه فكرهوا أن يسرعوا إليه بسوء حتى يعذروا إلى قومه، فلما أعذروا إليهم قال له قومه: يا ميسعان ما حملك على خلاف جماعة قوم عاد؟ قال لهم ميسعان: لقد أوضحت لهم المنهاج أنرت لهم السراج لئلا يجهلوا الحق لاشتباه الفتنة وتخليط العمى أني رأيت آية باهرة للعقول أقام الله علينا بها حجة ثم صدرنا إلى قومنا منذرين لهم فرجعوا عنه إلى جماعة يعتذرون عنه فكفت عنه عاد فقال لهم هجال بن رفيدة: يا معشر عاد عليكم بهود فلاينوه حتى يسكن جأشكم فإن مصيبتكم بما حل في وفدكم عظيمة. قال لهم ميسعان: يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به ثم سيروا إليه في الهنيبق نستبدل ما هو خير بما هو أدنى. قالوا له: لا حاجة لنا بقولك يا ميسعان فأنشأ ميسعان يقول شعراً:
- إلى جزع الهنيبق عاد سيري ... توفي الأمن والرأي المبينا
- وتبدو لي الحرون وحقف رمل ... وتترك بارقاً أبداً حزينا
- وترتحلي إلى بلد كريم ... وتتخذي المصانع والعيونا
- من الماء المعين وكل غرس ... بها ترضونه عنباً وتينا
- وتتخذون فاكهة وزرعا ... وماء في جعافره معينا
- ترون برأيكم فيها بحزم ... إذا ما كان رأيكم مبينا
وإن عاداً عملت مهداً فاسداً للماء غرسوا تحته الجنات فكانت عجيبة بها من جميع الفواكه والزرع، وأقاموا على ملاينتهم لهود حولين كاملين يرجو إيمانهم وهم من ذلك في حيرة ويعرب معتزل لحربهم فأرسل إلى هود أن عادا قد مردت وأصرت فأذن لي في حربهم فأرسل إليه هود أن أمر الله أعظم من حربك فكف. قال وهب: وإن الله تبارك وتعالى رفع عن عاد الغيث عامين العامين اللذين هادنوا فيها هوداً فهلكت زروعهم وأسرع الهلاك في جناتهم وهلكت أنعامهم وأسرع الهلاك في أموالهم فأتوا إلى ملكهم عاد فشكوا إليه ما نزل بهم فقال: استسقوا فقصدوا إلى شيخ لهم يقال له قيل بن عنز كان طلق اللسان خطيباً فقدموه وخرجوا خلفه فأنشأ أبو الهجال يقول:
- ألا يا قيل ويحك قم فهنيم ... لعل الله يسقينا غماما
- فيسقي أرض عاد أن عادا ... قد أمسوا ما يبينون الكلاما
- فما ترجو بها غرساً وزرعاً ... ولا الشيخ الكبير ولا الغلاما
ثم أن عاداً أرسلت إلى هود فشكت إليه ما نزل بها من القحط، فقال لهم هو دان: الله يرسل عليكم ثلاث سحابات: سحابة صفراء وسحابة حمراء وسحابة سوداء ويخيركم في إحداهن فاختاروا لأنفسكم ما شئتم؟ فرجعوا إلى قومهم فأعلموهم بقول هود. ثم أن الله أرسل ثلاث سحابات: سحابة صفراء وسحابة حمراء وسحابة سوداء فأقامت عليهم ثلاثة أيام معلقة من جهة المغرب فأرسلوا إلى هود: أنا قد اخترنا السوداء ولا حاجة لنا في الصفراء والحمراء. قال لهم: إن الله يرسلها عليكم واضمحلت الصفراء وذهبت ثم تبعتها الحمراء ثم أرسل الله عليهم ريحاً صرصراً أحمت الشجر ولونت الزرع، وكان درب العرب في الغربي من اليمن وكان في الدرب ثلاثة فجوج فنفحت عليهم من الفج الأوسط من الدرب فذلك الفج يسمى إلى اليوم فج العقيم وكان في طاعة عاد خمس مائة رجل طوال الأجسام - كما ذكر الله - فخرج منهم ثلاث مائة رجل إلى الفج يريدون يبنون الفج لدفع الريح وتعسكر الباقون إلى هود لئلا من خلفهم وبينهم وبينه ثلاثة أيام، وبينهم وبين يعرب شهران، وإن عاد بن رقيم ملكهم انتصب إلى هود بعاد وتكفل الطوال بالفج فجعلوا إذا وضعوا حجراً قلبته الريح، فقالوا: اجعلوا رجالاً منكم يردون الريح عن البناء حيث يثبت، فقدموا الخلخال وكان أطول عاد جسماً وأشدهم بطشاً، وخرج إليه هازل بن غسان فأمسك عنهم الريح وأسسوا بنيانهن إلى آخر النهار فعصفت الريح وصرصرت فأخذت رأس الخلخال وهازل فنزعت رؤوسهما بقلوبهما وأكبادهما وحشاً أجوافهما فرمت بهما وألقت أجسامهما وبقي الأساس على حاله لما أراد الله من هلاكهم وكان ذلك يوم الأحد ثم أرسل الله الريح يوم الاثنين أول النهار لينة لما أراد الله من هلاكهم ويجعلهم مثلاً للأولين والآخرين وعبرة للعابرين فلما غدوا الفج قلبت الريح الحجر فأخرجوا شداد بن حمام والأمنع بن اصبغ إلى آخر نهارهم فهبت الريح وصرصرت ثم أخذت رؤوسهما فنزعتهما بالأحشاء وألقت بأجسامهما ثم قام يوم الثلاثاء سجار بن الهيعقان ومبدع بن قفال فنزل بهم مثل ما نزل بأولئك، ثم قام يوم الأربعاء يافث بن شرعب وسلاب بن الهيلجان فمثل ذلك، ثم قام يوم الخميس شرس ين عقاب وسجيل بن واغل فمثل ذلك، ثم قام يوم الجمعة تبان بن واقد وميدعان بن السبل فمثل ذلك، ثم قام يوم السبت سرحان بن عنبل وعامر ابن سالف فمثل ذلك، ثم قام يوم الأحد الرفصان بن هزيم فمثل ذلك، وخلفه الهندوان بن العميل فمثل ذلك، فاشتدت الريح وصرصرت لتمام سبع ليال وثمانية أيام فعصفت الريح وصرصرت فلم تدع منهم أحداً وهدمت الجبال وخددت الأرض وحطمت الشجر وأخذت الحجر كما قال الله تبارك وتعالى: {وفي عاد أرسلنا عليهم الريح العقيم ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم} فأخرجتهم من الكهوف والقنون فكانوا كما قال الله {وأما عاد فاهلكوا بريح صرصر عاتية سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما}، فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية فهل ترى لهم من باقية)، فلم يبق منهم إلا ميسعان بن عفير وبنوه الذين آمنوا معه وإنهم لعلى الدنيا إلى اليوم ولم يبق من الكافرين أحد فقال في ذلك ميسعان:
- ألم تر الريح العقيم إلا يدا ... والعارض العراض فيها الأسودا
- تمطر بالنار وتهمي باردي ... تخدد الأرض وتذري الجلمدا
- أرسلها صرا عليهم سرمدا ... أضحت بها عاد رمادا أرمدا
- فلم تدع في الأرض منهم أحداً ... إلا هشيماً بالمنايا والردا
قال وهب: وإن الله أنزل على هود أربع صحف، ثم أن الله تبارك وتعالى قبض هوداً ودفن بالأحقاف بموضع منه يقال له الهنيبق بجوار الحفيف فإن نهر الحفيف أخرج الله فيه الماء المعين وغرست فيه الثمار من يوم أخرج الله فيه آية هود. قال وهب: عن ابن عباس: أن هود النبي عليه صلى الله وسلم أرى عاداً الآيتين الجنة فأما النار فرأوها في وادي برهوت وزعم أن ببرهوت عيناً من عيون جهنم، وإن جهنم في أرض المغرب يسكن عليها شرار خلق الله وهم الحبشة. قال وهب: وأراهم الجنة بنهر الحفيف - قال: وصار أمر هود إلى وصيه ابنه (قحطان). فقام قحطان بأمر الله وهو خليفة هود وانه تغلب بأذربيجان الاسكنان بن جاموس بن جلهم بن شاد بن عجلجان بن يافث بن نوح على جميع الألسن ببابل بعد هود طسم وعملاق فهربت بنو عملاق إلى بيت مكة إلى جوار قحطان ولحقت بهم رائش وتبعتهم طسم وجديس فنزلوا اليمامة ورحلت ثمود ونزلوا بمأرب من أرض اليمن وشكوا إلى قحطان ما نزل بهم من الاسكنان بن جاموس فجمع قحطان أهل اللسان العربي وزحف إلى بابل يريد الاسكنان بأذربيجان وانتصب له الاسكنان في بني يافث فلقيه قحطان فهزمه وقتل الاسكنان وفضت جموعه من بني يافث إلى أرض أرمينية وإلى ما خلفها من الأرض وما والاها وهربت القوط والسكس والإفرنج وهم بنو عرجان بن يافث ولحق بهم أخوتهم الصقالب بنو عرجان بن يافث. قال وهب: وكان قد تملك بيت المقدس وملك الشام ونمرود بن كنعان ابن ماريع بن كنعان بن حام بن نوح وأنه زحف إلى بيت المقدس وقحطان بسمرقند، فلم يكن لبني عملاق به طاقة فأجابوه ودافعه رائش بن لاوذ ابن سام بن نوح فقتلهما فمن بقي من رائش صاروا في إخوانهم عملاق في آخر الدهر. فأول قبيل انقطع عن الدنيا من ولد ارم بن سام عاد ورائش وبلغ قحطان خبر نمرود بن كنعان فأقبل إليه بجموعه فلم يستطع بنو حام مدافعة بني سام ومن لف إليهم من بني يافث فهربت النوبة والفرار إلى المغرب فنزلت النوبة والفراور بجوار القوط من بني يافث ولكنهم تقربوا إلى المغرب وكان القوط قبل ذلك باليمن فتبعتهم عاد إلى الشام وهربوا من قحطان إلى المغرب وإن قحطان لما نزلوا على بني كنعان ببيت المقدس وخذلهم إخوانهم من بني حام ورحلوا عنهم القوط فنزلوا على النيل أخذ نمروداً أسيراً فقتله وصلبه ببيت المقدس وكان النمرود بن كنعان أول قتيل صلب. ثم حج قحطان ورجع إلى اليمن فعاش مدة طويلة ثم مات بمأرب، وولي أمره ابنه يعرب بن قحطان، وكان ولي الملك من ولد قحطان لصلبه عشرة إلا أنهم من تحت ملك أخيهم يعرب بن قحطان وهم: جرهم بن قحطان وعاد بن قحطان وناعم بن قحطان وحضرموت بن قحطان وظالم بن قحطان وغاشم بن قحطان وأيمن بن قحطان وقطان بن قحطان والسلف بن قحطان وهميسع بن قحطان. فولي جرهم بن قحطان أمر مكة فنتملك أمر من كان بها، وولي عاد بن قحطان أرض بابل، وولي حضرموت بن قحطان أرض الحبشة، وولي ناعم بن قحطان عمان.
وولي أيمن بن قحطان الجزيرة، فلم يكن من هؤلاء من لم ينل الملك، ويعرب يملكهم ذلك، وعاش يعرب مدة طويلة ثم مات فولي (يشجب بن يعرب) بعد أبيه وكان سقيماً فدام به السقم حيناً ثم مات ولم يعمر في الملك. فلما مات يشجب ادعى كل رجل شريف من بني عابر الملك وأراد أن يتمنع ومرج أمر الناس فقام (عبد شمس بن يشجب) فجمع بني قحطان وبني هود فملكوه على أنفسهم. قال وهب: فلما ملك عبد شمس قال: يا بني قحطان إنكم ألا تقاتلوا الناس قاتلوكم وألا تغزوهم ولم يغز قوم قط في عقر دارهم إلا ركبتهم الذلة، فاغزوا الناس قبل أن يغزوكم وقاتلوهم قبل ان يقاتلوكم واعلموا أن الصبر فوز والعمل مجد والأمل منهل فمن صبر أدرك ومن فعل فاز فلتطب أنفسكم لغزو الأمم يعز غابركم، ففي الصبر النجاة وفي الجزع الدرك، ولا تغشكم الدعة فيطول داءكم والرأي اليوم لا غد وهو رزق مطلوب فواجد ومحروم فاعتمدوا العزم وكل ما هو كائن كائن وكل جميع بائن والدهر صرفان صرف رخاء وصرف بلاء والدهر يومان يوم لك ويوم عليك فإن أدر يوم من يوميك فلا تقنط من الرجاء في يوم معقب، وإن الناس رجلان رجل لك ورجل عليك والزمان دول له حين ينصر وحين يغدر - والناس مجتهدون فمن لقي رشداً كان محموداً ومن لقي غياً كان مذموماً ورأى الناس منتظرين كل محتال لثواقب الدهر غير محتال للموت والتجارب علم والعزم عون وكل هذا الناس ينو الدنيا صحبوا أقدارها خيراً وشراً راجين خائفين ليس أحد آخذاً منها عهداً ولا آمناً غدراً قاصدين أجداداً حتمت وأقداراً قسمت حتمها غير نائم وقسمها من لا يلومه لائم فقد يسعى المرء إلى الميقات يوم فيه فراق الدنيا أو بلوغ العليا والدنيا صاحبة الغالب وعدوة المغلوب والصبر باب العز والجزع بابا الذل ليس جمع خيراً من جمع ولكن جد خير من جد ولرب حيلة أزكى من قوة وكيد أسرع عياناً من جيش والأمل الخالب ولقدر الغالب والمرء الحازم من كيس دهره خالس) محملاً في بادله اقتصاده في دوله قدر ولم ينظر وبلى يخذل حذر من دهره ما لم ينزل به شرف همته بمحل النجم لم يرض من الزمان بأيسر خطة فلا تصحبوا التواني فإنه شر صاحب ولا ترضوا بالمنى فإنه مراتع العاجزين ولا تقروا على ضيم فإنه مصارع الأذلاء فقوموا قبل أن تمنعوا القيام. قال وهب: فأجابوه فسار إلى أرض بابل فافتتحها وقتل من كان بها من البوار حتى بلغ أرض أرمينية وافتتح أرض بني يافث، ثم أراد أن يعبر نهر الأردن يريد الشام فلم يستطع ذلك، فقيل له: إياها الملك ليس لك مجاز غير الرجوع في طريقك فبنى قنطرة سنجة وهي من أوابد الدنيا وجاز عليها إلى الشام، والشام اسم أعجمي من لغة حام وهو طيب تفسيره بالعربي فأخذ الشام إلى الدرب ولم يكن خلف الدرب أحد ثم نهض إلى المغرب فبلغ النيل فنزل عليه فدعا أهل مشورته، ثم قال: لهم إني رأيت أن أبني مصراً بين هذين البحرين يكون صلة بين المشرق والمغرب فإنه يلجأ إليه أهل المشرق والمغرب، قالوا له: نعم الرأي أيها الملك. فبنى المدينة وسميت مصر - كما قال لهم - وبنو حام بالمغرب سكنوا براري مصر فوصل إلى قمونية والقوط من ولد يافث بقمونية.
قال وهب: وإن عبد شمس كل من قتل من الأمم سبى ذراريهم وعيالاتهم، ولذلك سمى سبأ، وإن سبأ ولي على مصر ابنه بابليون وإليه تنسب مصر لملكه عليها ثم انصرف سبأ عبد شمس يريد مكة فسار بالعساكر على الشام وأوصى ابنه بابليون وأنشأ يقول:
- ألا قل لبابليون والقول حكمة ملكت زمام الشرق والغرب فأجمل
- وخذ لبني حام من الأمر وسطه ... فإن صدفوا يوماً عن الحق فاقتل
- وإن جنحوا بالقول للرفق طاعة ... يريدون وجه الحق والعدل فاعدل
- ولا تظهرن الرأي في الناس يجتروا ... عليك به واجعله ضربة فيصل
- ولا تأخذن المال من غير وجهه ... فإنك أن تأخذه بالرفق تسهل
- ولا تتلفن المال في غير حقه ... وإن جاء ما لابد منه فابذل
- وداو ذوي الأحقاد بالسيف إنه ... متى يلق منك السيف ذو الحقد يعقل
- وخذ لذوي الإحسان ليناً وشدة ... ولا تك جباراً عليهم وأمهل
- وكن لسؤال الناس غيثاً ورحمة ... ومن يك ذا عرف من الناس يسأل
- وإياك والسفر الغريب فانه ... سيثني بما توليه في كل منهل
قال وهب: ورجع سبأ إلى اليمن فبنى السد الذي ذكر الله في كتابه وهو سد فيه سبعون نهراً ويقبل إليه السيل من مسيرة ثلاثة أشهر وإن سبأ لما أسس قواعد السد لم يتم له بناؤه حتى نزل به الموت وكان عمره خمسمائة عام وسبعين عاماًُ وكان ملكه خمسمائة عام فدعا بحمير وكهلان ابنيه. وكان لسبأ عدد عظيم من ولده غير إنه لم يكن له من ينقل ملكه إليه إلا إلى حمير وكهلان، وانه لما مات سبأ صار الملك بعده إلى ابنه (حمير) وقال ابنه حمير يرثي أباه سبأ وهب أول مرثية في العرب فأنشأ يقول:
- عجبت ليومك ماذا فعل ... وسلطان عزك كيف انتقل
- فأسلمت ملكك لا طائعاً ... وسلمت للأمر لما نزل
- فيومك يوم وجيع العزاء ... ورزؤك في الدهر رزء جلل
- فلا تبعدن فكل امرئ ... سيدركه بالمنون الأجل
- لأن صحبتك بنات الزمان ... وبدت يد الدهر أوجه الأمل
- لقد كنت بالملك ذا قوة ... لك الدهر بالعزعان وجل
- بلغت من الملك أعلى المنى ... نقلت وعزك لم ينتقل
- فطحطحت في الشرق آفاقه ... وجبت من الغرب حرب الدول
- جريت مع الدهر إطلاقه ... فنلت من الملك ما لم ينل
- وحملت عزمك ثقل الأمور ... فقام بها جازماً واستقل
- فأبقيت ملكك بالخافقات ... وليس لرأيك فيها زلل
- له قدم بمحل العلا ... فزلت بك النعل عنه فزل
- فسام لك العيش عيب الهوى ... شربت بذلك نهلا وعل
- صحبت الدهور فأفنيتها ... وما شاء سيفك فيها فعل
- بنيت قصوراً كمثل الجبال ... ذهبت لم يبق إلا الظلل
- وجردت للدهر سيف الفنا ... تطاير عن جانبيه القلل
- نعمنا بأيامك الصالحات ... شبنا بسجلك وبلا وطل
- تؤمل في الدهر أقصى المنى ... ولم ندر بالأمر حتى نزل
- فزالت لفقدك شم الجبال ... ولم يك حزنك فيها هبل
- كأن الذي قد مضى لم يكن ... وفقدك بعد الفناء لم يزل
- وللدهر صرف يريد الردى ... فصرح عن قيل ما لم يقل
- نهار وليل به مسرعان ... فهذا مقيم وهذا رحل
- يسومان بالخسف ما يبديان ... أطاعا لما شاء فينا لال
- فيا عبد شمس بلغت المدى ... وشيدت مجداً فلم يمتثل
- وشيدت ذخراً لدار البقاء ... فلما أفلت إليها أفل
- فلم يبق من ذاك إلا التقى ... وذاك لعمري أبقى العمل
- فأحكمت من هود المحكمات ... وآمنت من قبله بالرسل
- وأحرمت فأهللت حتى إذا ... أناف الهلال بها واستهل
- رحلت وزادك خير التقى ... وقوضت * * عن حرميها بحل