انتقل إلى المحتوى

موافقات الشاطبي - الجزء الأول

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

1

1 الموافقات في أصول الشريعة


19 بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم الحمد لله الذي أنقذنا بنور العلم من ظلمات الجهالة وهدانا بالاستبصار به عن الوقوع في عماية الضلالة ونصب لنا من شريعة محمد أعلى علم وأوضح دلالة وكان ذلك أفضل ما من به من النعم الجزيلة والمنح الجليلة وأناله فلقد كنا قبل شروق هذا النور نخبط خبط العشواء وتجرى عقولنا في اقتناص مصالحنا على غير السواء لضعفها عن حمل هذه الأعباء ومشاركة عاجلات الأهواء على ميدان النفس التي هي بين المنقلبين مدار الأسواء فنضع السموم على الأدواء مواضع الدواء طالبين للشفاء كالقابض على الماء ولا زلنا نسبح بينهما في بحر الوهم فنهيم ونسرح من جهلنا بالدليل في ليل بهيم ونستنتج القياس العقيم ونطلب آثار الصحة من الجسم السقيم ونمشي إكبابا على الوجوه ونظن أنا نمشي على الصراط المستقيم حتى ظهر محض الإجبار في عين الأقدار وارتفعت حقيقة أيدي الأضطرار إلى الواحد القهار وتوجهت إليه أطماع أهل الإفتقار لما صح من ألسنة الأحوال صدق الإقرار وثبت في مكتسبات الأفعال حكم الأضطرار فتداركنا الرب الكريم بلطفه العظيم ومن علينا البر الرحيم بعطفه العميم إذ لم نستطع من دونه حيلا ولم نهتد بأنفسنا سبلا بأن جعل العذر مقبولا والعفو عن الزلات قبل بعث الرسالات

20 مأمولا فقال سبحانه وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا فبعث الأنبياء عليهم السلام في الأمم كل بلسان قومه من عرب أو عجم ليبينوا لهم طريق الحق من أمم ويأخذوا بحجزهم عن موارد جهنم وخصنا معشر الآخرين السابقين بلبنة تمامهم ومسك ختامهم محمد بن عبد الله الذي هو النعمة المسداة والرحمة المهداة والحكمة البالغة الأمية والنخبة الطاهرة الهاشمية أرسله إلينا شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا وأنزل عليه كتابه العربي المبين الفارق بين الشك واليقين الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ووضع بيانه الشافي وإيضاحه الكافي في كفه وطيبه بطيب ثنائه وعرفه بعرفه إذ جعل أخلاقه وشمائله جملة نعته وكلى وصفه فصار عليه السلام مبينا بقوله وإقراره وفعله وكفه فوضح النهار لذى عينين وتبين الرشد من الغي شمسا من غير سحاب ولا غين فنحمده سبحانه والحمد نعمة منه مستفادة ونشكر له والشكر أول الزيادة ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين خالق الخلق أجمعين وباسط الرزق للمطيعين والعاصين بسطا يقتضيه العدل والإحسان والفضل والإمتنان جاريا على حكم الضمان قال الله تعالى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين وقال تعالى وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى كل ذلك ليتفرغوا لإداء الأمانة التي عرضت عليهم عرضا فلما تحملوها على حكم الجزاء حملوها فرضا ويا ليتهم اقتصروا على الإشفاق والإباية وتأملوا في البداية خطر النهاية لكنهم لم يخطر لهم خطرها على بال كما خطر للسماوات والأرض والجبال فلذلك سمي الإنسان ظلوما جهولا وكان أمر الله مفعولا دل على هذه الجملة المستبانة شاهد قوله وانا عرضنا الأمانة فسبحان من أجرى الأمور بحكمته


21 وتقديره عل وفق علمه وقضائه ومقاديره لتقوم الحجة على العباد فيما يعملون لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ونشهد أن محمدا عبده ورسوله وحبيبه وخليله الصادق الأمين المبعوث رحمة للعالمين بملة حنيفية وشرعة بالمكلفين بها حفية ينطق بلسان التيسير بيانها ويعرف أن الرفق خاصيتها والسماح شأنها فهي تحمل الجماء الغفير ضعيفا وقويا وتهدي الكافة فهيما وغبيا وتدعوهم بنداء مشترك دانيا وقصيا وترفق بجميع المكلفين مطيعا وعصيا وتقودهم بخزائمهم منقادا وأبيا وتسوي بينهم بحكم العدل شريفا ودنيا وتبوىء حاملها في الدنيا والآخرة مكانا عليا وتدرج النبوءة بين جنبيه وإن لم يكن نبيا وتلبس المتصف بها ملبسا سنيا حتى يكون لله وليا فما أغنى من والاها وإن كان فقيرا وما أفقر من عادها وإن كان غنيا فلم يزل عليه السلام يدعو بها وإليها ويبث للثقلين ما لديها ويناضل ببراهينها عليها ويحمي بقواطعها جانبيها بالغ الغاية في البيان يقول بلسان حاله ومقاله أنا النذير العريان وعلى آله وأصحابه الذين عرفوا مقاصد الشريعة فحصلوها وأسسوا قواعدها وأصلوها وجالت أفكارهم في آياتها وأعملوا الجد في تحقيق مباديها وغاياتها وعنوا بعد ذلك باطراح الآمال وشفعوا العلم بإصلاح الأعمال وسابقوا إلى الخيرات فسبقوا وسارعوا إلى الصالحات فما لحقوا إلى أن طلع في آفاق بصائرهم شمس الفرقان وأشرق في قلوبهم نور الإيقان فظهرت ينابيع الحكم منها على اللسان فهم أهل الإسلام والإيمان والإحسان وكيف لا وقد كانوا أول من قرع ذلك الباب فصاروا خاصة الخاصة ولباب اللباب ونجوما يهتدى بأنوارهم أولو الألباب رضي الله 22 عنهم وعن الذين خلفوهم قدوة للمقتدين وأسوة للمهتدين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد أيها الباحث عن حقائق أعلى العلوم الطالب لأسنى نتائج الحلوم المتعطش إلى أحلى موارد الفهوم الحائم حول حمى ظاهر المرسوم طمعا في إدراك باطنه المرقوم معاني مرتوقة في فتق تلك الرسوم فإنه قد آن لك أن تصغى إلى من وافق هواك هواه وأن تطارح الشجى من ملكه مثلك شجاه وتعود إذ شاركته في جواه محل نجواه حتى يبث إليك شكواه لتجري معه في هذا الطريق من حيث جرى وتسري في غبشه الممتزج ضوؤه بالظلمة كما سرى وعند الصباح تحمد إن شاء الله عاقبة السرى فلقد قطع في طلب هذا المقصود مهامه فيحا وكابد من طوارق طريقه حسنا وقبيحا ولاقى من وجوهه المعترضة جها وصبيحا وعاتى من راكبته المختلفة مانعا ومبيحا فإن شئت ألفيته لتعب السير طليحا أو لما حالف من العاء طريحا أو لمحاربة العوارض الصادة جريحا فلا عيش هنيئا ولا موت مريحا وجملة الأمر في التحقيق أن أدهى ما يلقاه السالك للطريق فقد الدليل مع ذهن لعدم نور الفرقان كليل وقلب بصدمات الأضغاث عليل فيمشي على غير سبيل وينتمي إلى غير قبيل إلى أن من الرب الكريم البر الرحيم الهادي من يشاء إلى صراط مستقيم فبعثت له أرواح تلك الجسوم وظهرت حقائق تلك الرسوم وبدت مسميات تلك الوسوم فلاح في أكنافها الحق واستبان وتجلى من تحت سحابها شمس الفرقان وبان وقويت النفس الضعيفة وشجع القلب الجبان وجاء الحق فوصل أسبابه وزهق الباطل فبان فأورد من أحاديثه الصحاح الحسان وفوائده الغريبة البرهان وبدائعه الباهرة للأذهان ما يعجز عن تفصيل بعض أسراره 23 العقل ويقصر عن بث معشارة اللسان ايرادا يميز المشهور من الشاذ ويحقق مراتب العوام والخواص والجماهير والأفذاذ ويوفي حق المقلد والمجتهد والسالك والمربي والتلميذ والأستاذ على مقاديرهم في الغباوة والذكاء والتواني والإجتهاد والقصور والنفاذ وينزل كلا منهم منزلته حيث حل ويبصره في مقامه الخاص به بما دق وجل ويحمله فيه على الوسط الذي هو مجال العدل والإعتدال ويأخذ بالمختلفين على طريق مستقيم بين الإستصعاد والإستنزال ليخرجوا من انحرافي التشدد والإنحلال وطرفي التناقض والمحال فله الحمد كما يجب لجلاله وله الشكر على جميل إنعامه وجزيل إفضاله ولما بدأ من مكنون السر ما بدا ووفق الله الكريم لما شاء منه وهدى لم ازل اقيد من اوابده واضم من شوارده تفاصيل وجملا واسواق من شواهده في مصادر الحكم وموارده مبينا لا مجملا معتمدا على الاستقراآت الكلية غير مقتصر على الافراد الجزئية ومبينا اصولها النقلية بأطراف من القضايا العقلية حسبما اعطته الاستطاعة والمنة في بيان مقاصد الكتاب والسنة ثم استخرت الله تعالى في نظم تلك الفرائد وجمع تلك الفوائد إلى تراجم تردها إلى اصوالها وتكون عونا على تعقلها وتحصيلها فانضمت إلى تراجم الاصول الفقهية وانتظمت في اسلاكها السنية البهية فصار كتابا منحصرا في خمسة اقسام الاول في المقدمات العلمية المحتاج اليها في تمهيد المقصود والثاني في الأحكام وما يتعلق بها من حيث تصورها والحكم بها أو عليها كانت من خطاب الوضع أو من خطاب التكليف والثالث في المقاصد الشرعية في الشريعة وما يتعلق بها من الأحكام والرابع في حصر الأدلة الشرعية وبيان ما ينضاف إلى ذلك فيها على الجملة وعلى التفصيل وذكر مآخذها وعلى أي 24 وجه يحكم بها على أفعال المكلفين والخامس في أحكام الإجتهاد والتقليد والمتصفين بكل واحد منهما وما يتعلق بذلك من التعارض والترجيح والسؤال والجواب وفي كل قسم من هذه الأقسام مسائل وتمهيدات وأطراف وتفصيلات يتقرر بها الغرض المطلوب ويقرب بسببها تحصيله للقلوب ولأجل ما أودع فيه من الأسرار التكليفية المتعلقة بهذه الشريعة الحنيفية سميته بعنوان التعريف بأسرار التكليف ثم انتقلت عن هذه السيماء لسند غريب يقضي العجب منه الفطن الأريب وحاصله أني لقيت يوما بعض الشيوخ الذين أحللتهم مني محل الإفادة وجعلت مجالسهم العلمية محطا للرحل ومناخا للوفادة وقد شرعت في ترتيب الكتاب وتصنيفه ونابذت الشواغل دون تهذيبه وتأليفه فقال لي رأيتك البارحة في النوم وفي يدك كتاب ألفته فسألتك عنه فأخبرتني أنه كتاب الموافقات قال فكنت أسألك عن معنى هذه التسمية الظريفة فتخبرني أنك وفقت به بين مذهبي ابن القاسم وأبي حنيفة فقلت له لقد أصبتم الغرض بسهم من الرؤيا الصالحة مصيب وأخذتم من المبشرات النبوية بجزء صالح ونصيب فإني شرعت في تأليف هذه المعاني عازما على تأسيس تلك المباني فإنها الأصول المعتبرة عند العلماء والقواعد المبني عليها عند القدماء فعجب الشيخ من غرابة هذا الإتفاق كما عجبت أنا من ركوب هذه المفازة وصحبة هذه الرفاق ليكون أيها الخل الصفي والصديق الوفي هذا الكتاب عونا لك في سلوك الطريق وشارحا لمعاني الوفاق والتوفيق لا ليكون عمدتك في كل تحقق وتحقيق ومرجعك في جميع ما يعن لك من تصور وتصديق إذ قد صار علما من جملة العلوم ورسما كسائر الرسوم وموردا لاختلاف العقول وتعارض الفهوم لا جرم أنه قرب عليك في المسير وأعلمك كيف ترقى في علوم الشريعة وإلى أين تسير ووقف بك من الطريق السابلة على 25 الظهر وخطب لك عرائس الحكمة ثم وهب لك المهر فقدم قدم عزمك فإذا أنت بحول الله قد وصلت وأقبل على ما قبلك منه فها أنت إن شاء الله قد فزت بما حصلت وإياك وإقدام الجبان والوقوف مع الطرق الحسان والإخلاد إلى مجرد التصميم من غير بيان وفارق وهد التقليد راقيا إلى يفاع الإستبصار وتمسك من هديك بهمة تتمكن بها من المدافعة والإستنصار إذا تطلعت الأسئلة الضعيفة والشبه القصار وألبس التقوى شعارا والإتصاف بالإنصاف دثارا واجعل طلب الحق لك نحلة والإعتراف به لأهله ملة لا تملك قلبك عوارض الأغراض ولا تغر جوهرة قصدك طوارق الإعراض وقف وقفة المتخيرين لا وقفة المتحيرين إلا إذا اشتبهت المطالب ولم يلح وجه المطلوب للطالب فلا عليك من الإحجام وإن لج الخصوم فالواقع في حمى المشتبهات هو المخصوم والواقف دونها هو الراسخ المعصوم وإنما العار والشنار على من اقتحم المناهي فأوردته النار لا ترد مشرع العصبية ولا تأنف من الإذعان إذا لاح وجه القضية أنفة ذوي النفوس العصية فذلك مرعى لسوامها وبيل وصدود عن سواء السبيل فإن عارضك دون هذا الكتاب عارض الإنكار وعمي عنك وجه الإختراع فيه والإبتكار وغر الظان أنه شىء ما سمع بمثله ولا ألف في العلوم الشرعية الأصلية أو الفرعية ما نسج على منواله أو شكل بشكله وحسبك من شر سماعه ومن كل بدع في الشريعة ابتداعه فلا تلتفت إلى الأشكال دون اختبار ولا ترم بمظنة الفائدة على غير اعتبار فإنه بحمد الله أمر قررته الآيات والأخبار وشد معاقده السلف الأخيار ورسم معالمه العلماء الأحبار وشيد أركانه أنظار النظار وإذا وضح السبيل لم يجب الإنكار ووجب قبول ما حواه والإعتبار بصحة ما أبداه والإقرار حاشا ما يطرأ على البشر من الخطأ والزلل 26 ويطرق صحة أفكارهم من العلل فالسعيد من عدت سقطاته والعالم من قلت غلطاته وعند ذلك فحق على الناظر المتأمل إذا وجد فيه نقصا أن يكمل وليحسن الظن بمن حالف الليالي والأيام واستبدل التعب بالراحة والسهر بالمنام حتى أهدى إليه نتيجة عمره ووهب له يتيمة دهره فقد ألقى إليه مقاليد ما لديه وطوقه طوق الأمانة التي في يديه وخرج عن عهدة البيان فيما وجب عليه وإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل إمرىء ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه جعلنا الله من العاملين بما علمنا وأعاننا على تفهيم ما فهمنا ووهب لنا علما نافعا يبلعنا رضاه وعملا زاكيا يكون عدة لنا يوم نلقاه إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير وها أنا أشرع في بيان الغرض المقصود وآخذ في انجاز ذلك الموعود والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم 27 مقدمات المؤلف 28 مقدمات المؤلف 29 تمهيد المقدمات المحتاج إليها قبل النظر في مسائل الكتاب وهي بضع عشر مقدمة المقدمه الأولى إن أصول الفقه في الدين قطعية لاظنية والدليل على ذلك أنها راجعة إلى كليات الشريعة وما كان كذلك فهو قطعي بيان الأول ظاهر بالإستقراء المفيد للقطع وبيان الثاني من أوجه أحدها أنها ترجع إما إلى أصول عقلية وهى قطعية وأما إلى 30 الإستقراء الكلي من أدلة الشريعة وذلك قطعي أيضا ولا ثالث لهذين إلا المجموع منهما والؤلف من القطعيات قطعي وذلك أصول الفقه والثاني أنها لو كانت ظنية لم تكن راجعة إلى أمر عقلي إذ الظن لا يقبل في العقليات ولا إلى كلي شرعي لأن الظن إنما يتعلق بالجزئيات إذ لو جاز تعلق الظن بكليات الشريعة لجاز تعلقه بأصل الشريعة لأنه الكلي الأول وذلك غير جائز عادة وأعني بالكليات هنا الضروريات والحاجيات والتحسينيات وأيضا لو جاز تعلق الظن بأصل الشريعة لجاز تعلق الشك بها وهي لا شك فيها ولجاز تغييرها وتبديلها وذلك خلاف ما ضمن الله عز وجل من حفظها 31 والثالث أنه لو جاز جعل الظني أصلا في أصول الفقه لجاز جعله أصلا في أصول الدين وليس كذلك باتفاق فكذلك هنا لأن نسبة أصول الفقه من أصل الشريعة كنسبة أصول الدين وإن تفاوتت في المرتبة فقد استوت في أنها كليات معتبرة في كل ملة وهي داخلة في حفظ الدين من الضروريات وقد قال بعضهم لا سبيل إلى إثبات أصول الشريعة بالظن لأنه تشريع ولم نتعبد بالظن إلا في الفروع ولذلك لم يعد القاضي ابن الطيب من الأصول تفاصيل العلل كالقول في عكس العلة ومعارضتها والترجيح بينها وبين غيرها وتفاصيل أحكام الأخبار كإعداد الرواة والإرسال فإنه ليس بقطعي واعتذر ابن الجويني عن إدخاله في الأصول بأن التفاصيل المبنية على الأصول المقطوع بها داخلة بالمعنى فيما دل عليه الدليل القطعي قال المازري وعندي أنه لا وجه للتحاشي عن عد هذا الفن من الأصول وأن كان ظنيا على طريقة القاضي في أن الأصول هي أصول العلم لأن تلك الظنيات قوانين كليات وضعت لا لأنفا لكن ليعرض عليها أمر غير معين مما لا ينحصر قال فهي في هذا كالعموم والخصوص قال ويحسن من أبي المعالي أن لا يعدها من الأصول لأن الأصول عنده هي الأدلة والأدلة عنده 32 ما يفضي إلى القطع وأما القاضي فلا يحسن به إخراجها من الأصول على أصله الذي حكيناه عنه هذا ما قال والجواب أن الأصل على كل تقدير لا بد أن يكون مقطوعا به لأنه إن كان مظنونا تطرق إليه احتمال الإخلاف ومثل هذا لا يجعل أصلا في الدين عملا بالإستقراء والقوانين الكلية لا فرق بينها وبين الأصول الكلية التي نص عليها ولأن الحفظ المضمون في قوله تعالى إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون إنما المراد به حفظ أصوله الكلية المنصوصة وهو المراد بقوله تعالى اليوم أكملت لكم دينكم أيضا لا أن المراد المسائل الجزئية إذ لو كان كذلك لم يتخلف عن الحفظ جزئي من جزئيات الشريعة وليس كذلك لأنا نقطع بالجواز ويؤيده الوقوع لتفاوت الظنون وتطرق الإحتمالات في النصوص الجزئية ووقوع الخطأ فيها قطعا فقد وجد الخطأ في أخبار الآحاد 33 وفي معاني الآيات فدل على أن المراد بالذكر المحفوظ ما كان منه كليا وإذ ذاك يلزم أن يكون كل أصل قطعيا هذا على مذهب أبي المعالي وأما على مذهب القاضي فإن إعمال الأدلة القطعية أو الظنية إذا كان متوقفا على تلك القوانين التي هي أصول الفقه فلا يمكن الإستدلال بها إلا بعد عرضها عليها واختبارها بها ولزم أن تكوم مثلها بل أقوى منها لأنك أقمتها مقام الحاكم على الأدلة بحيث تطرح الأدلة إذا لم تجر على مقتضى تلك القوانين فكيف يصح أن تجعل الظنيات قوانين لغيرها ولا حجة في كونها غير مرادة لأنفسها حتى يستهان بطلب القطع فيها فإنها حاكمة على غيرها فلا بد من الثقة بها في رتبتها وحينئذ يصلح أن تجعل قوانين وأيضا لو صح كونها ظنية لزم منه جميع ما تقدم في أول المسألة وذلك غير صحيح ولو سلم ذلك كله فالإصطلاح اطرد على أن المظنونات لا تجعل 34 أصولا وهذا كاف في اطراح الظنيات من الأصول بإطلاق فما جرى فيها مما ليس بقطعي فمبني على القطعي تفريعا عليه بالتبع لا بالقصد الأول المقدمة الثانية إن المقدمات المستعملة في هذا العلم والأدلة المعتمدة فيه لا تكون إلا قطعية لأنها لو كانت ظنية لم تفد القطع في المطالب المختصة به وهذا بين وهي إما عقلية كالراجعة إلى أحكام العقل الثلاثة الوجوب والجواز والإستحالة وإما عادية وهي تتصرف ذلك التصرف أيضا إذ من العادي ما هو واجب في العادة أو جائز أو مستحيل وإما سمعية وأجلها المستفاد من الأخبار المتواترة في اللفظ بشرط أن تكون قطعية الدلالة أو من الأخبار المتواترة في المعنى أو المستفاد من الإستقراء في موارد الشريعة فإذا الأحكام المتصرفة في هذا العلم لا تعدو الثلاثة الوجوب والجواز والإستحالة ويلحق بها الوقوع أو عدم الوقوع فأما كون الشيء حجة أو ليس بحجة فراجع إلى وقوعه كذلك أو عدم وقوعه كذلك وكونه صحيحا أو غير صحيح راجع إلى الثلاثة الأول وأما كونه 35 فرضا أو مندوبا أو مباحا أو مكروها أو حراما فلا مدخل له في مسائل الأصول من حيث هي أصول فمن أدخلها فيها فمن باب خلط بعض العلوم ببعض المقدمة الثالثة الأدلة العقلية إذا استعملت في هذا العلم فإنما تستعمل مركبة على الأدلة السمعية أو معينة في طريقها أو محققة لمناطها أو ما أشبه ذلك لا مستقلة بالدلالة لأن النظر فيها نظر في أمر شرعي والعقل ليس بشارع وهذا مبين في علم الكلام فإذا كان كذلك فالمعتمد بالقصد الأول الأدلة الشرعية ووجود القطع فيها على الإستعمال المشهور معدوم أو في غاية الندور أعني في آحاد الأدلة فإنها إن كانت من أخبار الآحاد فعدم إفادتها القطع ظاهر وإن كانت متواترة فإفادتها القطع موقوفة على مقدمات جميعها أو غالبها ظني والموقوف على الظني لا بد أن يكون ظنيا فإنها تتوقف على نقل اللغات وآراء النحو وعدم 36 الإشتراك وعدم المجاز والنقل الشرعي أو العادي والإضمار والتخصيص للعموم والتقييد للمطلق وعدم الناسخ والتقديم والتأخير والمعارض العقلي وإفادة القطع مع إعتبار هذه الأمور متعذر وقد اعتصم من قال بوجودها بإنها ظنية في أنفسها لكن إذا اقترنت بها قرائن مشاهدة أو منقولة فقد تفيد اليقين وهذا كله نادر أو متعذر وإنما الأدلة المعتبرة هنا المستقرأة من جملة أدلة ظنية تضافرت على معنى واحد حتى أفادت فيه القطع فإن للإجتماع من القوة ما ليس للإفتراق ولأجله أفاد التواتر القطع وهذا نوع منه فإذا حصل من استقراء أدلة المسألة مجموع يفيد العلم فهو الدليل المطلوب وهو شبيه بالتواتر المعنوي بل هو كالعلم بشجاعة علي رضي الله عنه وجود حاتم المستفاد من كثرة الوقائع المنقولة عنهما ومن هذا الطريق ثبت وجوب القواعد الخمس كالصلاة والزكاة وغيرهما قطعا وإلا فلو استدل مستدل على وجوب الصلاة بقوله تعالى أقيموا الصلاة أو ما أشبه ذلك لكان في الإستدلال بمجرده نظر من أوجه لكن حف بذلك من الأدلة الخارجية والأحكام المترتبة ماصار به فرض الصلاة ضروريا في الدين لا يشك فيه إلا شاك في أصل الدين 37 ومن ههنا اعتمد الناس في الدلالة على وجوب مثل هذا على دلالةالإجماع لأنه قطعي وقاطع لهذه الشواغب وإذا تأملت أدلة كون الإجماع حجة أو خبر الواحد أو القياس حجة فهو راجع إلى هذا المساق لأن أدلتها مأخوذة من مواضع تكاد تفوت الحصر وهي مع ذلك مختلفة المساق لا ترجع إلى باب واحد إلا أنها تنتظم المعنى الواحد الذي هو المقصود بالإستدلال عليه وإذا تكاثرت على الناظر الأدلة عضد بعضها بعضا فصارت بمجموعها مفيدة للقطع فكذلك الأمر في مآخذ الأدلة في هذا الكتاب وهي مآخذ الأصول إلا أن المتقدمين من الأصوليين ربما تركوا ذكر هذا المعنى والتنبيه عليه فحصل إغفاله من بعض المتأخرين فاستشكل الإستدلال بالآيات على حدتها وبالأحاديث على انفرادها إذ لم يأخذها مأخذ الإجتماع فكر عليها بالإعتراض نصا نصا واستضعف الإستدلال بها على قواعد الأصول المراد منها القطع وهي إذا أخذت على هذا السبيل غير مشكلة ولو أخذت أدلة الشريعة على الكليات 38 والجزئيات مأخذ هذا المعترض لم يحصل لنا قطع بحكم شرعي ألبتة إلا أن نشرك العقل والعقل إنما ينظر من وراء الشرع فلا بد من هذا الإنتظام في تحقيق الأدلة الأصولية فقد اتفقت الأمة بل سائر الملل على أن الشريعة وضعت للمحافظة على الضروريات الخمس وهي الدين والنفس والنسل والمال والعقل وعلمها عند الأمة كالضروري ولم يثبت لنا ذلك بدليل معين ولا شهد لنا أصل معين يمتاز برجوعها إليه بل علمت ملاءمتها للشريعة بمجموع أدلة لا تنحصر في باب واحد ولو استندت إلى شيء معين لوجب عادة تعيينه وأن يرجع أهل الإجماع إليه وليس كذلك لأن كل واحد منها بانفراده ظني ولأنه كما لا يتعين في التواتر المعنوي أو غيره أن يكون المفيد للعلم خبر واحد دون سائر الأخبار كذلك لا يتعين هنا لإستواء جميع الأدلة في إفادة الظن على فرض الإنفراد وإن كان الظن يختلف بإختلاف أحوال الناقلين وأحوال دلالات المنقولات وأحوال الناظرين في قوة الإدراك وضعفه وكثرة البحث وقلته إلى غير ذلك فنحن إذا نظرنا في الصلاة فجاء فيها أقيموا الصلاة على وجوه وجاء مدح المتصفين بإقامتها وذم التاركين لها وإجبار المكلفين على فعلها وإقامتها قياما وقعودا وعلى جنوبهم وقتال من تركها أو عاند في تركها إلى غير ذلك مما 39 في هذا المعنى وكذلك النفس نهي عن قتلها وجعل قتلها موجبا للقصاص متوعدا عليه ومن كبائر الذنوب المقرونة بالشرك كما كانت الصلاة مقرونة بالإيمان ووجب سد رمق المضطر ووجبت الزكاة والمواساة والقيام على من لا يقدر على إصلاح نفسه وأقيمت الحكام والقضاة والملوك لذلك ورتبت الأجناد لقتال من رام قتل النفس ووجب على الخائف من الموت سد رمقه بكل حلال وحرام من الميتة والدم ولحم الخنزير إلى سائر ما ينضاف لهذا علمنا يقينا وجوب الصلاة وتحريم القتل وهكذا سائر الأدلة في قواعد الشريعة وبهذا امتازت الأصول من الفروع إذ كانت الفروع مستندة إلى آحاد الأدلة وإلى مآخذ معينة فبقيت على أصلها من الإستناد إلى الظن بخلاف الأصول فإنها مأخوذة من استقراء مقتضيات الأدلة بإطلاق لا من آحادها على الخصوص فصل وينبني على هذه المقدمة معنى آخر وهو أن كل أصل شرعي لم يشهد له نص معين وكان ملائما لتصرفات الشرع ومأخوذا معناه من أدلته فهو صحيح يبنى عليه ويرجع إليه إذا كان ذلك الأصل قد صار بمجموع أدلته مقطوعا به لأن الأدلة لا يلزم أن تدل على القطع بالحكم بإنفرادها دون انضمام غيرها إليها كما تقدم لأن ذلك كالمتعذر ويدخل تحت هذا ضرب الإستدلال المرسل الذي أعتمده مالك والشافعي فإنه وإن لم يشهد للفرع أصل 40 معين فقد شهد له أصل كلي والأصل الكلي إذا كان قطعيا قد يساوي الأصل المعين وقد يربى عليه بحسب قوة الأصل المعين وضعفه كما أنه قد يكون مرجوحا في بعض المسائل حكم سائر الأصول المعينة المتعارضة في باب الترجيح وكذلك أصل الإستحسان على رأي مالك ينبني على هذا الأصل لأن معناه يرجع إلى تقديم الإستدلال المرسل على القياس كما هو مذكور في موضعه فإن قيل الإستدلال بالأصل الأعم على الفرع الأخص غير صحيح لأن 41 الأصل الأعم كلى وهذه القضية المفروضة جزئية خاصة والأعم لا إشعار له بالأخص فالشرع وإن اعتبر كلى المصلحة من أين يعلم اعتباره لهذه المصلحة الجزئية المتنازع فيها فالجواب أن الأصل الكلى إذا انتظم في الاستقراء يكون كليا جاريا مجرى العموم في الأفراد أما كونه كليا فلما يأتى في موضعه إن شاء الله وأما كونه يجرى مجرى العموم في الأفراد فلأنه في قوة اقتضاء وقوعه في جميع الأفراد ومن هنالك استنبط لأنه انما استنبط من أدلة الأمر والنهى الواقعين على جميع المكلفين فهو كلى في تعلقه فيكون عاما في الأمر به والنهى للجميع لا يقال يلزم على هذا اعتبار كل مصلحة موافقة لمقصد الشارع أو مخالفة وهو باطل لأنا نقول لا بد من اعتبار الموافقة لقصد الشارع لأن المصالح إنما اعتبرت مصالح من حيث وضعها الشارع كذلك حسبما هو مذكور في موضعه من هذا الكتاب فصل وقد أدى عدم الالتفات إلى هذا الأصل وما قبله إلى أن ذهب بعض الأصوليين إلى أن كون الاجماع حجة ظنى لا قطعى إذ لم يجد في آحاد الأدلة بانفردها ما يفيده القطع فأداه ذلك إلى مخالفة من قبله من الأمة ومن بعده ومال أيضا بقوم آخرين إلى ترك الاستدلال بالأدلة اللفظية في الأخذ 42 بأمور عادية أو الاستدلال بالإجماع على الإجماع وكذلك مسائل أخر غير الإجماع عرض فيها أنها ظنية وهى قطعية بحسب هذا الترتيب من الاستدلال وهو واضح إن شاء الله تعالى المقدمة الرابعة كل مسألة مرسومة في أصول الفقه لا ينبنى عليها فروع فقهية أو آداب شرعية أو لا تكون عونا في ذلك فوضعها في أصول الفقه عارية والذي يوضح ذلك أن هذا العلم لم يختص بإضافتة إلى الفقه إلا لكونه مفيدا له ومحققا للاجتهاد فيه فإذا لم يفد ذلك فليس بأصل له ولا يلزم على هذا أن يكون كل ما انبنى عليه فرع فقهي من جملة أصول الفقه وإلا أدى ذلك إلى أن يكون سائر العلوم من أصول الفقه كعلم النحو واللغة والاشتقاق والتصريف والمعانى والبيان والعدد والمساحة والحديث وغير ذلك من العلوم التى 43 يتوقف عليها تحقيق الفقه وينبنى عليها من مسائله وليس كذلك فليس كل ما يفتقر إليه الفقه يعد من أصوله وإنما اللازم أن كل أصل يضاف إلى الفقه لا ينبنى عليه فقه فليس بأصل له وعلى هذا يخرج عن أصول الفقه كثير من المسائل التى تكلم عليها المتأخرون وأدخلوها فيها كمسألة ابتداء الوضع ومسألة الإباحة هل هى تكليف أم لا ومسألة أمر المعدوم ومسألة هل كان النبي متعبدا بشرع أم لا ومسألة لا تكليف إلا بفعل كما أنه لا ينبغى أن يعد منها ماليس منها ثم البحث فيه في عمله وأن انبنى عليه الفقه كفصول كثيرة من النحو نحو معانى الحروف 44 وتقاسيم الإسم والفعل والحرف والكلام على الحقيقة والمجاز وعلى المشترك والمترادف والمشتق وشبه ذلك غير أنه يتكلم من الأحكام العربية في أصول الفقه على مسألة هى عريقة في الأصول وهى أن القرآن عربي والسنة عربية لا بمعنى أن القرآن يشتمل على ألفاظ أعجمية في الأصل أو لا يشتمل لأن هذا من علم النحو واللغة بل بمعنى أنه في ألفاظه ومعانيه وأساليبه عربى بحيث إذا حقق هذا التحقيق سلك به في الاستنباط منه والاستدلال به مسلك كلام العرب في تقرير معانيها ومنازعها في أنواع مخاطباتها خاصة فإن كثيرا من الناس يأخذون أدلة القرآن بحسب ما يعطيه العقل فيها لا بحسب ما يفهم من طريق الوضع وفى ذلك فساد كبير وخروج عن مقصود الشارع وهذه مسألة مبينة في كتاب المقاصد والحمد لله فصل وكل مسألة في أصول الفقه ينبنى عليها فقه إلا أنه لا يحصل من الخلاف فيها خلاف في فرع من فروع الفقه فوضع الأدلة على صحة بعض المذاهب أو إبطاله عارية أيضا كالخلاف مع المعتزلة في الواجب المخير والمحرم المخير فإن كل فرقة موافقة 45 للآخرى في نفس العمل وإنما اختلفوا في الإعتقاد بناء على أصل محرر في علم الكلام وفى أصول الفقه له تقريرا أيضا وهو هل الوجوب والتحريم أو غيرهما راجعة إلى صفات الأعيان أو إلى خطاب الشارع وكمسألة تكليف الكفار بالفروع عند الفخر الرازي وهو ظاهر فإنه لا ينبنى عليه عمل وما أشبه ذلك من المسائل التى فرضوها مما لا ثمرة له في الفقه لا يقال إن ما يرجع الخلاف فيه إلى الاعتقاد ينبنى عليه حكم ذلك الاعتقاد من وجوب أو تحريم وأيضا ينبنى عليه عصمة الدم والمال والحكم بالعدالة أو غيرها من الكفر إلى مادونه وأشباه ذلك هو من علم الفروع لأنا نقول هذا جار في علم الكلام في جميع مسائله فليكن من أصول الفقه وليس كذلك وإنما المقصود ما تقدم 46 المقدمة الخامسة كل مسألة لا ينبنى عليها عمل فالخوض فيها خوض فيما لم يدل على استحسانه دليل شرعى وأعنى بالعمل عمل القلب وعمل الجوارح من حيث هو مطلوب شرعا والدليل على ذلك استقراء الشريعة فإنا رأينا الشارع يعرض عما لا يفيد عملا مكلفا به ففى القرآن الكريم يسألونك عن الأهلة قل هى مواقيت للناس والحج فوقع الجواب بما يتعلق به العمل إعراضا عما قصده السائل من السؤال عن الهلال لم يبدو في أول الشهر دقيقا كالخيط ثم يمتلىء حتى يصير بدرا ثم يعود إلى حالته الأولى ثم قال وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها بناء على تأويل من تأول أن الآية كلها نزلت في هذا المعنى فكان من جملة الجواب أن هذا السؤال في التمثيل إتيان للبيوت من ظهورها والبر إنما هو التقوى لا العلم بهذه الأمور التى لا تفيد نفعا في التكليف ولا تجر إليه وقال تعالى بعد سؤالهم عن الساعة أيان مرساها فيم أنت من ذكراها أى إن السؤال عن هذا سؤال عما 47 لا يعنى إذ يكفى من علمها أنه لا بد منها ولذلك لما سئل عليه الصلاة والسلام عن الساعة قال للسائل ما أعددت لها بإسناد البخاري ومسلم إعراضا عن صريح سؤاله إلى ما يتعلق بها مما فيه فائدة ولم يجبه عما سأل وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم نزلت في رجل سأل من أبي روى أنه عليه السلام قام يوما يعرف الغضب في وجهه فقال لا تسألوني عن شىء إلا أنبأتكم فقام رجل فقال يا رسول الله من أبي قال أبوك حذافة فنزلت وفى البابين روايات أخر وقال ابن عباس في سؤال بنى إسرائيل عن صفات البقرة لو ذبحوا بقرة ما لأجزأتهم ولكن شددوا فشدد الله عليهم وهذا يبين أن سؤالهم لم يكن فيه فائدة وعلى هذا المعنى يجرى الكلام في الآية قبلها عند من روى أن الآية نزلت فيمن سأل احجنا هذا لعامنا أم للأبد فقال عليه السلام للأبد ولو قلت نعم لو جبت وهذه الجملة ملفقه من حديثين في قصتين مختلفتين 48 وفى بعض رواياته فذرونى ما تركتكم فانما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم أنبياءهم الحديث وإنما سؤالهم هنا زيادة لا فائدة عمل فيها لأنهم لو سكتوا لم يقفوا عن عمل فصار السؤال لا فائدة فيه ومن هنا نهى عليه السلام عن قيل وقال وكثرة السؤال رواه البخاري صحيح لانه مظنة السؤال عما لا يفيد وقد سأله جبريل عن الساعة فقال ما المسئول عنها باعلم من السائل رواه البخاري صحيح فأخبره 49 أن ليس عنده من ذلك علم وذلك يبين أن السؤال عنها لا يتعلق به تكليف ولما كان ينبنى على ظهور أماراتها الحذر منها ومن الوقوع في الأفعال التى هى من أماراتها والرجوع إلى الله عندها أخبره بذلك ثم ختم عليه السلام ذلك الحديث بتعريفه عمر أن جبريل أتاهم ليعلمهم دينهم فصح إذا أن من جملة دينهم في فصل السؤال عن الساعة أنه مما لا يجب العلم به أعنى علم زمان إتيانها فليتنبه لهذا المعنى في الحديث وفائدة سؤاله له عنها وقال إن أعظم الناس جرما من سأل عن شىء لم يحرم فحرم من أجل مسألته الشيخين صحيح وهو مما نحن فيه فإنه إذا لم يحرم فما فائدة السؤال عنه بالنسبة إلى العمل وقرأ عمر بن الخطاب وفاكهة وأبا وقال هذه الفاكهة فما الأب ثم قال نهينا عن التكلف وفى القرآن الكريم ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربى الآية وهذا بحسب الظاهر يفيد أنهم لم يجابوا وأن هذا مما لا يحتاج إليه في التكليف وروى أن أصحاب النبى ملوا ملة فقالوا يا رسول الله حدثنا فأنزل الله تعالى الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها الآية وهو كالنص في الرد عليهم فيما سألوا وأنه لا ينبغى السؤال إلا فيما يفيد في التعبد لله ثم ملوا ملة فقالوا حدثنا حديثا فوق الحديث ودون القرآن فنزلت سورة يوسف انظر الحديث في فضائل القرآن لأبى عبيد وتأمل خبر عمر بن الخطاب مع ضبيع في سؤاله الناس عن أشياء من القرآن لا ينبنى عليها حكم تكليفى وتأديب عمر له وقد سأل ابن الكواء علي بن أبى طالب عن الذاريات ذروا فالحاملات وقرا الخ فقال له علي ويلك 50 سل تفقها ولا تسأل تعنتا ثم أجابه فقال له ابن الكواء أفرأيت السواد الذي في القمر فقال أعمى سأل عن عمياء ثم أجابه ثم سأله عن أشياء وفى الحديث طول وقد كان مالك بن أنس يكره الكلام فيما ليس تحته عمل ويحكى كراهيته عمن تقدم وبيان عدم الاستحسان فيه من أوجه متعددة منها أنه شغل عما يعنى من أمر التكليف الذي طوقه المكلف بما لا يعنى إذ لا ينبنى على ذلك فائدة لا في الدنيا ولا في الآخرة أما في الآخرة فإنه يسأل عما أمر به أو نهى عنه وأما في الدنيا فإن عمله بما علم من ذلك لا يزيده في تدبير رزقه ولا ينقصه وأما اللذة الحاصلة عنه في الحال فلا تفى مشقة اكتسابها وتعب طلبها بلذة حصولها وإن فرض أن فيه فائدة في الدنيا فمن شرط كونها فائدة شهادة الشرع لها بذلك وكم من لذة وفائدة يعدها الإنسان كذلك وليست في أحكام الشرع إلا على الضد كالزنى وشرب الخمر وسائر وجوه الفسق والمعاصى التى يتعلق بها غرض عاجل فإذا قطع الزمان فيما لا يجنى ثمره في الدارين مع تعطيل ما يجنى الثمرة من فعل مالا ينبغى ومنها أن الشرع قد جاء ببيان ما تصلح به أحوال العبد في الدنيا والآخرة على أتم الوجوه وأكملها فما خرج عن ذلك قد يظن أنه على خلاف ذلك وهو مشاهد في التجربة العادية فإن عامة المشتغلين بالعلوم التى لا تتعلق بها 51 ثمرة تكليفية تدخل عليهم فيها الفتنة والخروج عن الصراط المستقيم ويثور بينهم الخلاف والنزاع المؤدي إلى التقاطع والتدابر والتعصب حتى تفرقوا شيعا وإذا فعلوا ذلك خرجوا عن السنة ولم يكن أصل التفرق إلا بهذا السبب حيث تركوا الاقتصار من العلم على ما يعنى وخرجوا إلى ما لا يعنى فذلك فتنة على المتعلم والعالم وإعراض الشارع مع حصول السؤال عن الجواب من أوضح الأدلة على أن اتباع مثله من العلم فتنة أو تعطيل للزمان في غير تحصيل ومنها أن تتبع النظر في كل شىء وتطلب علمه من شأن الفلاسفة الذين يتبرأ المسلمون منهم ولم يكونوا كذلك إلا بتعلقهم بما يخالف السنة فاتباعهم في نحلة هذا شأنها خطأ عظيم وانحراف عن الجادة ووجوه عدم الاستحسان كثيرة فإن قيل العلم محبوب على الجملة ومطلوب على الإطلاق وقد جاء الطلب فيه على صيغ العموم والإطلاق فتنتظم صيغه كل علم ومن جملة العلوم ما يتعلق به عمل وما لا يتعلق به عمل فتخصيص أحد النوعين بالاستحسان دون الآخر تحكم وأيضا فقد قال العلماء إن تعلم كل علم فرض كفاية كالسحر والطلسمات وغيرهما من العلوم البعيدة الغرض عن العمل فما ظنك بما قرب منه كالحساب والهندسة وشبه ذلك وأيضا فعلم التفسير من جملة العلوم المطلوبة وقد لا ينبنى عليه عمل وتأمل حكاية الفخر الرازي أن بعض العلماء مر بيهودى وبين يديه مسلم يقرأ عليه علم هيئة العالم فسأل اليهودي عما يقرأ عليه فقال له أنا أفسر له آية من كتاب الله فسأله ما هى وهو متعجب فقال قوله 52 تعالى أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج قال اليهودي فأنا أبين له كيفية بنائها وتزيينها فاستحسن ذلك العالم منه هذا معنى الحكاية لا لفظها وأيضا فإن قوله تعالى أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شىء يشمل كل علم ظهر في الوجود من معقول أو منقول مكتسب أو موهوب وأشباهها من الآيات ويزعم الفلاسفة أن حقيقة الفلسفة إنما هو النظر في الموجودات على الإطلاق من حيث تدل على صانعها ومعلوم طلب النظر في الدلائل والمخلوقات فهذه وجوه تدل على عموم الإستحسان في كل علم على الإطلاق والعموم فالجواب عن الأول أن عموم الطلب مخصوص وإطلاقه مقيد بما تقدم من الأدلة والذي يوضحه أمران أحدهما أن السلف الصالح من الصحابة والتابعين لم يخوضوا في هذه الأشياء التي ليس تحتها عمل مع أنهم كانوا أعلم بمعنى العلم المطلوب بل قد عد عمر ذلك في نحو وفاكهة وأبا من التكلف الذي نهى عنه وتأديبه ضبيعا ظاهر فيما نحن فيه مع أنه لم ينكر عليه ولم يفعلوا ذلك إلا لأن رسول الله صلى الله وسلم لم يخض في شىء من ذلك ولو كان لنقل لكنه لم ينقل فدل على عدمه والثاني ما ثبت في كتاب المقاصد أن هذه الشريعة أمية لأمة أمية وقد قال عليه السلام نحن أمة أمية لا نحسب ولا نكتب الشهر هكذا وهكذا وهكذا صحيحمسلم والنسائي رواية إلى نظائر ذلك والمسألة مبسوطة هنالك والحمد لله وعن الثاني أنا لا نسلم ذلك على الإطلاق وإنما فرض الكفاية رد كل فاسد وإبطاله علم ذلك الفاسد أو جهل إلا أنه لا بد من علم أنه فاسد والشرع متكفل بذلك والبرهان على ذلك أن موسى عليه السلام لم يعلم علم السحر الذي جاء به السحرة مع أنه بطل على يديه بأمر هو أقوى من السحر وهو المعجزة ولذلك لما سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم خاف موسى من ذلك ولو كان عالما به لم يخف كما لم يخف العالمون به وهم السحرة فقال الله له لا تخف إنك أنت الأعلى 53 ثم قال إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى وهذا تعريف بعد التنكير ولو كان عالما به لم يعرف به والذي كان يعرف من ذلك أنهم مبطلون في دعواهم على الجملة وهكذا الحكم في كل مسألة من هذا الباب فإذا حصل الإبطال والرد بأي وجه حصل ولو بخارقة على يد ولي لله أو بأمر خارج عن ذلك العلم ناشىء عن فرقان التقوى فهو المراد فلم يتعين إذا طلب معرفة تلك العلوم من الشرع وعن الثالث أن علم التفسير مطلوب فيما يتوقف عليه فهم المراد من الخطاب فإذا كان المراد معلوما فالزيادة على ذلك تكلف ويتبين ذلك في مسألة عمر وذلك أنه لما قرأ وفاكهة وأبا توقف في معنى الأب وهو معنى إفرادي لا يقدح عدم العلم به في علم المعنى التركيبي في الآية إذ هو مفهوم من حيث أخبر الله تعالى في شأن طعام الإنسان أنه أنزل من السماء ماء فأخرج به أصنافا كثيرة مما هو من طعام الإنسان مباشرة كالحب والعنب والزيتون والنخل ومما هو من طعامه بواسطة مما هو مرعى للأنعام على الجملة فبقي التفصيل في كل فرد من تلك الأفراد فضلا فلا على الإنسان أن لا يعرفه فمن هذا الوجه والله أعلم عد البحث عن معنى الأب من التكلف وإلا فلو توقف عليه فهم المعنى التركيبى من جهته لما كان من التكلف بل من المطلوب علمه لقوله ليدبروا أياته ولذلك سأل الناس على المنبر 54 عن معنى التخوف في قوله تعالى أو يأخذهم على تخوف فأجابه الرجل الهذلي بأن التخوف في لغتهم التنقص وأنشده شاهدا عليه تخوف الرحل منها تامكا قردا كما تخوف عود النبعة السفن فقال عمر يأيها الناس تمسكوا بديوان شعركم في جاهليتكم فإن فيه تفسير كتابكم ولما كان السؤال في محافل الناس عن معنى والمرسلات عرفا والسابحات سبحا مما يشوش على العامة من غير بناء عمل عليه أدب عمر ضبيعا بما هو مشهور فإذا تفسير قوله أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها الآية بعلم الهيئة الذي ليس تحته عمل غير سائغ ولأن ذلك من قبيل مالا تعرفه العرب والقرآن إنما نزل بلسانها وعلى معهودها وهذا المعنى مشروح في كتاب المقاصد بحول الله وكذلك القول في كل علم يعزى إلى الشريعة لا يؤدى فائدة عمل ولا هومما تعرفه العرب فقد تكلف أهل العلوم الطبيعية وغيرها الاحتجاج على صحة الأخذ في علومهم بآيات من القرآن وأحاديث عن النبي كما استدل أهل العدد بقوله تعالى فاسأل العادين وأهل الهندسة بقوله تعالى أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها الآية وأهل التعديل النجومى بقوله الشمس والقمر بحسبان وأهل المنطق في أن نقيض الكلية السالبة جزئية 55 موجبة بقوله إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شىء قل من أنزل الكتاب الآية وعلى بعض الضروب الحملية والشرطية بأشياء أخر وأهل خط الرمل بقوله سبحانه أو أثارة من علم وقوله عليه السلام كان نبي يخط في الرمل رواه مسلم صحيح إلى غير ذلك مما هو مسطور في الكتب وجميعه يقطع بأنه مقصود لما تقدم وبه تعلم الجواب عن السؤال الرابع وأن قوله أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شىء لا يدخل فيه من وجوه الاعتبار علوم الفلسفة التي لا عهد للعرب بها ولا يليق بالأميين الذين بعث فيهم النبي 56 الأمى بملة سهلة سمحة والفلسفة على فرض أنها جائزة الطلب صعبة المأخذ وعرة المسلك بعيدة الملتمس لا يليق الخطاب بتعلمها كى تتعرف آيات الله ودلائل توحيده للعرب الناشئين في محض الأمية فكيف وهى مذمومة على ألسنة أهل الشريعة منبه على ذمها بما تقدم في أول المسألة فإذا ثبت هذا فالصواب أن مالا ينبنى عليه عمل غير مطلوب في الشرع فإن كان ثم ما يتوقف عليه المطلوب كألفاظ اللغة وعلم النحو والتفسير وأشباه ذلك فلا إشكال أن ما يتوقف عليه المطلوب مطلوب إما شرعا وإما عقلا حسبما تبين في موضعه لكن هنا معنى آخر لا بد من الالتفاف إليه وهو المقدمة السادسة وذلك أن ما يتوقف عليه معرفة المطلوب قد يكون له طريق تقريبى يليق بالجمهور وقد يكون له طريق لا يليق بالجمهور وإن فرض تحقيقا فأما الأول فهو المطلوب المنبه عليه كما إذا طلب معنى الملك فقيل إنه خلق من خلق الله يتصرف في أمره أو معنى الإنسان فقيل إنه هذا الذى أنت من جنسه أو معنى التخوف فقيل هو التنقص أو معنى الكوكب فقيل هذا الذى نشاهده بالليل ونحو ذلك فيحصل فهم الخطاب مع هذا الفهم التقريبى حتى يمكن الامتثال وعلى هذا وقع البيان في الشريعة كما قال عليه السلام الكبر بطر 57 الحق وغمط الناس رواه مسلم والترمذي ففسره بلازمه الظاهر لكل أحد وكما تفسر ألفاظ القرآن والحديث بمرادفاتها لغة من حيث كانت أظهر في الفهم منها وقد بين عليه السلام الصلاة والحج بفعله وقوله على ما يليق بالجمهور وكذلك سائر الأمور وهو عادة العرب والشريعة عربية ولأن الأمة أمية فلا يليق بها من البيان إلا الأمي وقد تبين هذا في كتاب المقاصد مشروحا والحمد لله فإذا التصورات المستعملة في الشرع إنما هى تقريبات بالألفاظ المترادفة وما قام مقامها من البيانات القريبة وأما الثاني وهو ما لا يليق بالجمهور فعدم مناسبته للجمهور أخرجه عن اعتبار الشرع له لأن مسالكه صعبة المرام وما جعل عليكم في الدين من حرج كما إذا طلب معنى الملك فأحيل به على معنى أغمض منه وهو ماهية مجردة عن المادة أصلا أو يقال جوهر بسيط ذو نهاية ونطق عقلى أو طلب معنى الإنسان فقيل هو الحيوان الناطق المائت أو يقال ما الكوكب فيجاب بأنه جسم بسيط كرى مكانه الطبيعى نفس الفلك من شأنه أن ينير متحرك على الوسط غير مشتمل عليه أو سئل عن المكان فيقال هو السطح الباطن من الجرم الحاوى المماس للسطح الظاهر من الجسم المحوى وما أشبه ذلك من الأمور التى لا تعرفها العرب ولا يوصل إليها إلا بعد قطع أزمنة في طلب تلك المعانى ومعلوم أن الشارع لم يقصد إلى هذا ولا كلف به وأيضا فإن هذا تسور على طلب معرفة ماهيات الأشياء وقد اعترف أصحابه بصعوبته بل قد نقل بعضهم أنه عندهم متعذر وأنهم أوجبوا أن لا يعرف شىء من الأشياء على حقيقته إذ الجواهر لها فصول مجهولة والجواهر عرفت بأمور 58 سلبية فإن الذاتي الخاص إن علم في غير هذه الماهية لم يكن خاصا وإن لم يعلم فكان غير ظاهر للحس فهو مجهول فإن عرف ذلك الخاص بغير ما يخصه فليس بتعريف والخاص به كالخاص المذكور أولا فلا بد من الرجوع إلى أمور محسوسة أو ظاهرة من طريق أخرى وذلك لا يفي بتعريف الماهيات هذا في الجوهر وأما العرض فإنما يعرف باللوازم إذ لم يقدر أصحاب هذا العلم على تعريفه بغير ذلك وأيضا ما ذكر في الجواهر أو غيرها من الذاتيات لا يقوم البرهان على أن ليس ذاتي سواها وللمنازع أن يطالب بذلك وليس للحاد أن يقول لو كان ثم وصف آخر لاطلعت عليه إذ كثير من الصفات غير ظاهر ولا يقال أيضا لو كان ثم ذاتي آخر ما عرفت الماهية دونه لأنا نقول إنما تعرف الحقيقة إذا عرف جميع ذاتياتها فإذا جاز أن يكون ثم ذاتي لم يعرف حصل الشك في معرفة الماهية فظهر أن الحدود على ما شرطه أرباب الحدود يتعذر الإيتان بها ومثل هذا لا يجعل من العلوم الشرعية التي يستعان بها فيها وهذا المعنى تقرر وهو أن ماهيات الأشياء لا يعرفها على الحقيقة إلا باريها فتسور الإنسان على معرفتها رمى في عماية هذا كله في التصور وأما التصديق فالذي يليق منه بالجمهور ما كانت مقدمات الدليل فيه ضرورية أو قريبة من الضرورية حسبما يتبين في آخر هذا الكتاب بحول 59 الله وقوته فإذا كان كذلك فهو الذي ثبت طلبه في الشريعة وهو الذي نبه القرآن على أمثاله كقوله تعالى أفمن يخلق كمن لا يخلق وقوله تعالى قل يحييها الذي أنشأها أول مرة إلى آخرها وقوله تعالى الله الذي خلقكم ثم وزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شىء وقوله تعالى لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا وقوله تعالى أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون وهذا إذا احتيج إلى الدليل في التصديق وإلا فتقرير الحكم كاف وعلى هذا النحو مر السلف الصالح في بث الشريعة للمؤالف والمخالف ومن نظر في استدلالهم على إثبات الأحكام التكليفية علم أنهم قصدوا أيسر الطرق وأقربها إلى عقول الطالبين لكن من غير ترتيب متكلف ولا نظم مؤلف بل كانوا يرمون بالكلام على عواهنه ولا يبالون كيف وقع في ترتيبه إذا كان قريب المأخذ سهل الملتمس هذا وإن كان راجعا إلى نظم الأقدمين في التحصيل فمن حيث كانوا يتحرون إيصال المقصود لا من حيث احتذاء من تقدمهم وأما إذا كان الطريق مرتبا على قياسات مركبة أو غير مركبة إلا أن في إيصالها إلى المطلوب بعض التوقف للعقل فليس هذا الطريق بشرعي ولا تجده في القرآن ولا في السنة ولا في كلام السلف الصالح فإن ذلك متلفة للعقل 60 ومحارة له قبل بلوغ المقصود وهو بخلاف وضع التعليم ولأن المطالب الشرعية إنما هي في عامة الأمر وقتية فاللائق بها ما كان في الفهم وقتيا فلو وضع النظر في الدليل غير وقتي لكان مناقضا لهذه المطالب وهو غير صحيح وأيضا فإن الإدراكات ليست على فن واحد ولا هي جارية على التساوي في كل مطلب إلا في الضروريات وما قاربها فإنها لا تفاوت فيها يعتد به فلو وضعت الأدلة على غير ذلك لتعذر هذا المطلب ولكان التكليف خاصا لا عاما أو أدى إلى تكليف ما لا يطاق أو ما فيه حرج وكلاهما منتف عن الشريعة وسيأتي في كتاب المقاصد تقرير هذا المعنى المقدمة السابعة كل علم شرعي فطلب الشارع له إنما يكون حيث هو وسيلة إلى التعبد به لله تعالى لا من جهة أخرى فإن ظهر فيه اعتبار جهة أخرى فبالتبع والقصد الثاني لا بالقصد الأول والدليل على ذلك أمور 61 أحدها ما تقدم في المسألة قبل أن كل علم لا يفيد عملا فليس في الشرع ما يدل على استحسانه ولو كان له غاية أخرى شرعية لكان مستحسنا شرعا ولو كان مستحسنا شرعا لبحث عنه الأولون من الصحابة والتابعين وذلك غير موجود فما يلزم عنه كذلك والثاني أن الشرع إنما جاء بالتعبد وهو المقصود من بعثة الأنبياء عليهم السلام كقوله تعالى يأيها الناس اتقوا ربكم الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير أن لا تعبدوا إلا الله الآيات كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون أي يسوون به غيره في العبادة فذمهم على ذلك وقال وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا يوحى إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون إنا أنزلنا 62 إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين ألا لله الدين الخالص الآية وما أشبه ذلك من الآيات التي لا تكاد تحصى كلها دال على أن المقصود التعبد لله وإنما أوتوا بأدلة التوحيد ليتوجهوا إلى المعبود بحق وحده سبحانه لا شريك له ولذلك قال تعالى فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وقال فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون وقال هو الحي لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين ومثله سائر المواضع التي نص فيها على كلمة التوحيد لا بد أن أعقب بطلب التعبد لله وحده أو جعل مقدمة لها بل أدلة التوحيد هكذا جرى مساق القرآن فيها إلا تذكرة إلا كذا وهو واضح في أن التعبد لله هو المقصود من العلم والآيات في هذا المعنى لا تحصى والثالث ما جاء من الأدلة الدالة على أن روح العلم هو العمل وإلا فالعلم عارية وغير منتفع به فقد قال الله تعالى إنما يخشى الله من عباده العلماء وقال وإنه لذو علم لما علمناه قال قتادة يعني لذو عمل بما علمناه وقال تعالى أمن هو قانت انآء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة إلى أن قال قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون الآية وقال تعالى أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب وروى عن أبي جعفر محمد بن علي في قول الله تعالى فكبكبوا فيها هو والغاوون قال قوم وصفوا الحق والعدل بألسنتهم وخالفوه إلى غيره وعن أبي هريرة في البخاري ومسلم صحيح قال إن 63 فى جهنم أرحاء تدور بعلماء السوء فيشرف عليهم من كان يعرفهم في الدنيا فيقول ما صيركم في هذا وإنما كنا نتعلم منكم قالوا إنا كنا نأمركم بالأمر ونخالفكم إلى غيره وقال سفيان الثوري إنما يتعلم العلم ليتقى به الله وإنما فضل العلم على غيره لأنه يتقى الله به وعن النبى انه قال لا تزول قدما العبد يوم القيامة حتى يسأل عن خمس خصال اخرجه الترمذي ضعفها وفي رواية اخرى صححها وذكر فيها وعن علمه ماذا عمل فيه وعن أبي الدرداء إنما أخاف أن يقال لي يوم القيامة أعلمت أم جهلت فأقول علمت فلا تبقى آية من كتاب الله آمرة أو زاجرة إلا جاءتنى تسألنى فريضتها فتسألنى الآمرة هل ائتمرت والزاجرة هل ازدجرت فأعوذ بالله من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع ومن نفس لا تشبع ومن دعاء لا يسمع وحديث أبى هريرة في الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار يوم القيامة قال فيه ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتى به فعرفه نعمه فعرفها فقال ما عملت فيها قال تعلمت فيك العلم وعلمته وقرأت القرآن قال كذبت ولكن ليقال فلان قارئ فقد قيل ثم أمر به فسحب على 64 وجهه حتى ألقى في النار رواه احمد والنسائي ومسلم وقال إن من أشد الناس عذابا يوم القيامة عالما لم ينفعه الله بعلمه ضعفه الترمذي والطبرانى وغيرهم وروى أنه عليه السلام كان يستعيذ من علم لا ينفع عن زيد بن ارقم وقالت الحكماء من حجب الله عنه العلم عذبه على الجهل وأشد منه عذابا من أقبل عليه العلم فأدبر عنه ومن أهدى الله إليه علما فلم يعمل به وقال معاذ بن جبل اعلموا ما شئتم أن تعلموا فلن يأجركم الله بعلمه حتى تعملوا وروى أيضا مرفوعا إلى النبى وفيه زيادة إن العلماء همتهم الرعاية وإن السفهاء همتهم الرواية وروى موقوفا أيضا عن أنس بن مالك وعن عبد الرحمن بن غنم قال حدثنى عشرة من أصحاب رسول الله قالوا كنا نتدارس العلم في مسجد قباء إذ خرج علينا رسول الله فقال تعلموا ما شئتم أن 65 تعلموا فلن يأجركم الله حتى تعملوا سندها ضعيف وكان رجل يسأل أبا الدرداء فقال له كل ما تسأل عنه تعمل به قال لا قال فما تصنع بازدياد حجة الله عليك وقال الحسن اعتبروا الناس بأعمالهم ودعوا أقوالهم فإن الله لم يدع قولا إلا جعل عليه دليلا من عمل يصدقه أو يكذبه فإذا سمعت قولا حسنا فرويدا بصاحبه فإن وافق قوله عمله فنعم ونعمة عين وقال ابن مسعود إن الناس أحسنوا القول كلهم فمن وافق فعله قوله فذلك الذي أصاب حظه ومن خالف فعله قوله فإنما يوبخ نفسه وقال الثوري إنما يطلب الحديث ليتقى به الله عز وجل فلذلك فضل على غيره من العلوم ولولا ذلك كان كسائر الأشياء وذكر مالك أنه بلغه عن القاسم بن محمد قال أدركت الناس وما يعجبهم القول إنما يعجبهم العمل والأدلة على هذا المعنى أكثر من أن تحصى وكل ذلك يحقق أن العلم وسيلة من الوسائل ليس مقصودا لنفسه من حيث النظر الشرعى وإنما هو وسيلة إلى العمل وكل ما ورد في فضل العلم فإنما هو ثابت للعلم من جهة ما هو مكلف بالعمل به فلا يقال إن العلم قد ثبت في الشريعة فضله وإن منازل العلماء فوق منازل الشهداء وإن العلماء ورثة الأنبياء وإن مرتبة العلماء تلى مرتبة الأنبياء وإذا كان كذلك وكان الدليل الدال على على فضله مطلقا لا مقيدا فكيف ينكر أنه فضيلة مقصودة لا وسيلة هذا وإن كان وسيلة من وجه فهو مقصود لنفسه أيضا كالإيمان فإنه شرط في صحة العبادات ووسيلة إلى قبولها ومع ذلك فهو مقصود لنفسه 66 لأنا نقول لم يثبت فضله مطلقا بل من حيث التوسل به إلى العمل بدليل ما تقدم ذكره آنفا وإلا تعارضت الأدلة وتناقضت الآيات والأخبار وأقوال السلف الأخيار فلا بد من الجمع بينها وما ذكر آنفا شارح لما ذكر في فضل العلم والعلماء وأما الإيمان فإنه عمل من أعمال القلوب وهو التصديق وهو ناشىء عن العلم والأعمال قد يكون بعضها وسيلة إلى البعض وإن صح أن تكون مقصودة في أنفسها أما العلم فإنه وسيلة وأعلى ذلك العلم بالله ولا تصح به فضيلة لصاحبه حتى يصدق بمقتضاه وهو الإيمان بالله فإن قيل هذا متناقض فإنه لا يصح العلم بالله مع التكذيب به قيل بل قد يحصل العلم مع التكذيب فإن الله قال في قوم وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم وقال الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون وقال الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون فأثبت لهم المعرفة بالنبى ثم بين أنهم لا يؤمنون وذلك مما يوضح أن الإيمان غير العلم كما أن الجهل مغاير للكفر نعم قد يكون العلم فضيلة وإن لم يقع العمل به على الجملة كالعلم بفروع الشريعة والعوارض الطارئة في التكليف إذا فرض أنها لم تقع في الخارج فإن العلم بها حسن وصاحب العلم مثاب عليه وبالغ مبالغ العلماء لكن من جهة ما هو مظنة الانتفاع عند وجود محله ولم يخرجه ذلك عن كونه وسيلة كما أن في تحصيل الطهارة للصلاة فضيلة وإن لم يأت وقت الصلاة بعد أو جاء ولم يمكنه اداؤها لعذر فلو فرض أنه تطهر على عزيمة أن لا يصلى لم يصح له ثواب الطهارة فكذلك إذا علم على أن لا يعمل لم ينفعه علمه وقد وجدنا وسمعنا أن كثيرا من النصارى واليهود يعرفون دين الإسلام ويعلمون كثيرا من أصوله وفروعه ولم يكن ذلك نافعا 67 لهم من البقاء على الكفر باتفاق أهل الإسلام فالحاصل أن كل علم شرعى ليس بمطلوب إلا من جهة ما يتوسل به إليه وهو العمل فصل ولا ينكر فضل العلم في الجملة إلا جاهل ولكن له قصد أصلى وقصد تابع فالقصد الأصلى ما تقدم ذكره وأما التابع فهو الذي يذكره الجمهور من كون صاحبه شريفا وإن لم يكن في أصله كذلك وان الجاهل دنىء وإن كان في أصله شريفا وأن قوله نافذ في الأشعار والأبشار وحكمه ماض على الخلق وأن تعظيمه واجب على جميع المكلفين إذ قام لهم مقام النبى لأن العلماء ورثة الأنبياء وأن العلم جمال ومال ورتبة لا توازيها رتبة وأهله أحياء أبد الدهر إلى سائر ماله في الدنيا من المناقب الحميدة والمآثر الحسنة والمنازل الرفيعة فذلك كله غير مقصود من العلم شرعا كما أنه غير مقصود من العبادة والانقطاع إلى الله تعالى وإن كان صاحبه يناله وأيضا فإن في العلم بالأشياء لذة لا توازيها لذة إذ هو نوع من الاستيلاء على المعلوم والحوز له ومحبة الاستيلاء قد جبلت عليها النفوس وميلت إليها القلوب وهو مطلب خاص برهانه التجربة التامة والاستقراء العام فقد يطلب العلم للتفكه به والتلذذ بمحادثته ولا سيما العلوم التى للعقول فيها مجال وللنظر في أطرافها متسع ولاستنباط المجهول من المعلوم فيها طريق متبع ولكن كل تابع من هذه التوابع إما أن يكون خادما للقصد الأصلى أو لا فإن كان خادما له فالقصد إليه ابتداء صحيح وقد قال تعالى فىمعرض المدح والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما وجاء عن بعض السلف الصالح اللهم اجعلنى من أئمة المتقين وقال عمر لابنه حين وقع في نفسه أن الشجرة التى هى مثل 68 المؤمن النخلة لأن تكون قلتها أحب إلى من كذا وكذا وفى القرآن عن إبراهيم عليه السلام واجعل لي لسان صدق في الآخرين فكذلك إذا طلبه لما فيه من الثواب الجزيل في الآخرة وأشباه ذلك وإن كان غير خادم له فالقصد إليه ابتداء غير صحيح كتعلمه رياء أو ليمارى به السفهاء أويباهى به العلماء أو يستميل به قلوب العباد أو لينال من دنياهم أو ما أشبه ذلك فإن مثل هذا إذا لاح له شىء مما طلب زهد في التعلم ورغب في التقدم وصعب عليه إحكام ما ابتدأ فيه وأنف من الإعتراف بالتقصير فرضى بحاكم عقله وقاس بجهله فصار ممن سئل فأفتى بغير علم فضل وأضل أعاذنا الله من ذلك بفضله وفى الحديث لا تعلموا العلم لتباهوا به العلماء ولا لتماروا به السفهاء ولا لتحتازوا به المجالس فمن فعل ذلك فالنار النار صحيح وقال من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به غرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة صحيح على شرط البخاري ومسلم وفى بعض الحديث سئل عليه السلام عن الشهوة الخفية فقال هوالرجل يتعلم العلم يريد أن يجلس إليه الحديث وفى القرآن العظيم إن الذين يكتمون ما أنرل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار الآية والأدلة في المعنى كثيرة 69 المقدمة الثامنة العلم الذي هو العلم المعتبر شرعا أعني الذي مدح الله ورسوله أهله على الإطلاق هو العلم الباعث على العمل الذي لا يخلي صاحبه جاريا مع هواه كيفما كان بل هو المقيد لصاحبه بمقتضاه الحامل له على قوانينه طوعا أو كرها ومعنى هذه الجملة أن أهل العلم في طلبه وتحصيله على ثلاث مراتب المرتبة الأولى الطالبون له ولما يحصلوا على كماله بعد وإنما هم في طلبه في رتبة التقليد فهؤلاء إذا دخلوا في العمل به فبمقتضى الحمل التكليفي والحث الترغيبي والترهيبي وعلى مقدار شدة التصديق يخف ثقل التكليف فلا يكتفي العلم ههنا بالحمل دون أمر آخر خارج مقوله من زجر أو قصاص أو حد أو تعزير أو ما جرى هذا المجرى ولا إحتياج ههنا إلى إقامة برهان على ذلك إذ التجربة الجارية في الخلق قد أعطت في هذه المرتبة برهانا لا يحتمل متعلقه النقيض بوجه والمرتبة الثانية الواقفون منه على براهينه إرتفاعا عن حضيض التقليد المجرد واستبصارا فيه حسبما أعطاه شاهد النقل الذي يصدقه العقل تصديقا يطمئن إليه ويعتمد عليه إلا أنه بعد منسوب إلى العقل لا إلى النفس بمعنى أنه لم يصر كالوصف الثابت للإنسان وإنما هو كالأشياء المكتسبة والعلوم المحفوظة التي يتحكم عليها العقل وعليه يعتمد في استجلابها حتى تصير من جملة مودعاته فهؤلاء إذا دخلوا في العمل خف عليهم خفة أخرى زائدة على مجرد التصديق في المرتبة الأولى بل لا نسبة بينهما إذ هؤلآء يأبى لهم البرهان المصدق أن يكذبوا ومن جملة التكذيب الخفي العمل على مخالفة 70 العلم الحاصل لهم ولكنهم حين لم يصر لهم كالوصف ربما كانت أوصافهم الثابتة من الهوى والشهوة الباعثة الغالبة أقوى الباعثين فلا بد من الإفتقار إلى أمر زائد من خارج غير أنه يتسع في حقهم فلا يقتصر فيه على مجرد الحدود والتعزيرات بل ثم أمور أخر كمحاسن العادات ومطالبة المراتب التي بلغوها بما يليق بها وأشباه ذلك وهذه المرتبة أيضا يقوم البرهان عليها من التجربة إلا إنها أخفى مما قبلها فيحتاج إلى فضل نظر موكول إلى ذوي النباهة في العلوم الشرعية والأخذ في الإتصافات السلوكية والمرتبة الثالثة الذين صار لهم العلم وصفا من الأوصاف الثابتة بمثابة الأمور البديهية في المعقولات الأول أو تقاربها ولا ينظر إلى طريق حصولها فإن ذلك لا يحتاج إليه فهؤلاء لا يخليهم العلم وأهواءهم إذا تبين لهم الحق بل يرجعون إليه رجوعهم إلى دواعيهم البشرية وأوصافهم الخلقية وهذه المرتبة هي المترجم لها والدليل على صحتها من الشريعة كثير كقوله تعالى أمن هو قآنت آنآء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه ثم قال قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون الآية فنسب هذه المحاسن إلى أولي العلم من أجل العلم لا من أجل غيره وقال تعالى الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم والذين يخشون ربهم هم العلماء لقوله إنما يخشى الله من عباده العلماء وقال تعالى وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق الآية ولما كان السحرة قد بلغوا في علم السحر مبلغ الرسوخ فيه وهو معنى هذه المرتبة بادروا إلى الإنقياد والإيمان حين عرفوا من علمهم أن ما جاء به موسى عليه السلام حق ليس بالسحر ولا الشعوذة ولم يمنعهم من ذلك التخويف ولا التعذيب الذي توعدهم به فرعون وقال تعالى وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون فحصر تعقلها 71 في العالمين وهو قصد الشارع من ضرب الأمثال وقال أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى ثم وصف أهل العلم بقوله الذين يوفون بعهد الله إلى آخر الأوصاف وحاصلها يرجع إلى أن العلماء هم العاملون وقال في أهل الإيمان والإيمان من فوائد العلم إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم إلى أن قال أولئك هم المؤمنون حقا ومن هنا قرن العلماء في العمل بمقتضى العلم بالملائكة الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون فقال تعالى شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لآ اله إلا هو فشهادة الله تعالى وفق علمه ظاهرة التوافق إذ التخالف محال وشهادة الملائكة على وفق ما علموا صحيحة لأنهم محفوظون من المعاصي وأولو العلم أيضا كذلك من حيث حفظوا بالعلم وقد كان الصحابة رضي الله عنهم إذا نزلت عليهم آية فيها تخويف أحزنهم ذلك وأقلقهم حتى يسألوا النبي كنزول آية البقرة وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه الآية وقوله الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم الآية وإنما القلق والخوف من آثار العلم بالمنزل والأدلة أكثر من إحصائها هنا وجميعها يدل 72 على أن العلم المعتبر هو الملجىء إلى العمل به فإن قيل هذا غير ظاهر من وجهين أحدهما أن الرسوخ في العلم إما أن يكون صاحبه محفوظا به من المخالفة أولا فإن لم يكن كذلك فقد استوى أهل هذه المرتبة مع من قبلهم ومعناه أن العلم بمجرده غير كاف في العمل به ولا ملجىء إليه وإن كان محفوظا به من المخالفة لزم أن لا يعصي العالم إذا كان من الراسخين فيه لكن العلماء تقع منهم المعاصي ما عدا الأنبياء عليهم السلام ويشهد لهذا في أعلى الأمور قوله تعالى في الكفار وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا وقال الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون وقال وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وقال ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاق ثم قال ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون وسائر ما في هذا المعنى فأثبت لهم المعاصي والمخالفات مع العلم فلو كان العلم صادا عن ذلك لم يقع والثاني ما جاء من ذم العلماء السوء وهو كثير ومن أشد ما فيه قوله عليه السلام إن أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه وفي القرآن أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب وقال إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى الآية وقال إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا الآية وحديث الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار يوم القيامة والأدلة فيه 73 كثيرة وهو ظاهر في أن أهل العلم غير معصومين بعلمهم ولا هو مما يمنعهم عن إتيان الذنوب فكيف يقال إن العلم مانع من العصيان فالجواب عن الأول أن الرسوخ في العلم يأبى للعالم أن يخالفه بالأدلة المتقدمة وبدليل التجربة العادية لأن ما صار كالوصف الثابت لا يتصرف صاحبه إلا على وفقه اعتيادا فإن تخلف فعلى أحد ثلاثة أوجه الأول مجرد العناد فقد يخالف فيه مقتضى الطبع الجبلي فغيره أولى وعلى ذلك دل قوله تعالى وجحدوا بها الآية وقوله تعالى ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق وأشباه ذلك والغالب على هذا الوجه أن لا يقع إلا لغلبة هوى من حب دنيا أو جاه أو غير ذلك بحيث يكون وصف الهوى قد غمر القلب حتى لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا والثاني الفلتات الناشئة عن الغفلات التي لا ينجو منها البشر فقد يصير العالم بدخول الغفلة غير عالم وعليه يدل عند جماعة قوله تعالى إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب الآية وقال تعالى إن الذين اتقو إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون ومثل هذا الوجه لا يعترض على أصل المسألة كما لا يعترض نحوه على سائر الأوصاف الجبلية فقد لا تبصر العين ولا تسمع الأذن لغلبة فكر أو غفلة أو غيرهما فترتفع في الحال منفعة العين والأذن حتى يصاب ومع ذلك لا يقال إنه غير مجبول على السمع والإبصار فما نحن فيه كذلك والثالث كونه ليس من أهل هذه المرتبة فلم يصر العلم له وصفا أو كالوصف مع عده من أهلها وهذا يرجع إلى غلط في اعتقاد العالم في نفسه أو اعتقاد غيره فيه ويدل عليه قوله تعالى ومن أضل ممن اتبع 74 هواه بغير هدى من الله وفي الحديث إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس إلى أن قال اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا رواه للشيخانصحيح و وقوله ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة أشدها فتنة على أمتي الذين يقيسون الأمور بآرائهم ابن عبدالبر بسند لم يرضه الحديث فهؤلاء وقعوا في المخالفة بسبب ظن الجهل علما فليسوا من الراسخين في العلم ولا ممن صار لهم كالوصف وعند ذلك لا حفظ لهم في العلم فلا اعتراض بهم فأما من خلا عن هذه الأوجه الثلاثة فهو الداخل تحت حفظ العلم حسبما نصته الأدلة وفي هذا المعنى من كلام السلف كثير وقد روى عن النبي أنه قال إن لكل شىء إقبالا وإدبارا وإن لهذا الدين إقبالا وإدبارا وإن من إقبال هذا الدين ما بعثني الله به حتى إن القبيلة لتتفقه من عند أسرها أو قال آخرها حتى لا يكون فيها إلا الفاسق أو الفاسقان فهما مقموعان ذليلان إن تكلما أو نطقا قمعا وقهرا واضطهدا الحديث رواه ابن السنى وابو نعيم الحديث وفي الحديث سيأتي 75 على أمتي زمان يكثر القراء ويقل الفقهاء ويقبض العلم ويكثر الهرج اخرجه الطبراني في الاوسط والحاكم عن ابي هريرة إلى أن قال ثم يأتي من بعد ذلك زمان يقرأ القرآن رجال من أمتي لا يجاوز تراقيهم ثم يأتي من بعد ذلك زمان يجادل المنافق المشرك بمثل ما يقول وعن علي يا حملة العلم اعملوا به فإن العالم من علم ثم عمل ووافق علمه عمله وسيكون أقوام يحملون العلم لا يجاوز تراقيهم تخالف سريرتهم علانيتهم ويخالف علمهم عملهم يقعدون حلقا يباهي بعضهم بعضا حتى إن الرجل ليغضب على جليسه أن يجلس إلى غيره ويدعه أولئك لا تصعد أعمالهم تلك إلى الله عز وجل وعن ابن مسعود كونوا للعلم رعاة ولا تكونوا له رواة فإنه قد يرعوى ولا يروي وقد يروي ولا يرعوى وعن أبي الدرداء لا تكون تقيا حتى تكون عالما ولا تكون بالعلم جميلا حتى تكون به عاملا وعن الحسن العالم الذي وافق علمه عمله ومن خالف علمه عمله فذلك راوية حديث سمع شيئا فقاله وقال الثوري العلماء إذا علموا عملوا فإذا عملوا شغلوا فإذا شغلوا فقدوا فإذا فقدوا طلبوا فإذا طلبوا هربوا وعن الحسن قال الذي يفوق الناس في العلم جدير أن يفوقهم في العمل وعنه في قول الله تعالى وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قال علمتم فعلمتم ولم تعملوا فو الله ما ذلكم بعلم وقال الثوري العلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل وهذا تفسير معنى كون العلم هو الذي يلجىء إلى العمل وقال الشعبي كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل به ومثله عن وكيع بن الجراح وعن ابن مسعود ليس العلم عن كثرة الحديث إنما العلم خشية الله والآثار في هذا النحو كثيرة 76 وبما ذكر يتبين الجواب عن الإشكال الثاني فإن علماء السوء هم الذين لا يعملون بما يعلمون وإذا لم يكونوا كذلك فليسوا في الحقيقة من الراسخين في العلم وإنما هو رواة والفقه فيما رووا أمر آخر أو ممن غلب عليهم هوى غطى على القلوب والعياذ بالله على أن المثابرة على طلب العلم والتفقه فيه وعدم الإجتزاء باليسير منه يجر إلى العمل به ويلجىء إليه كما تقدم بيانه وهو معنى قول الحسن كنا نطلب العلم للدنيا فجرنا إلى الآخرة وعن معمر أنه قال كان يقال من طلب العلم لغير الله يأبى عليه العلم حتى يصيره إلى الله وعن حبيب بن أبي ثابت طلبنا هذا الأمر وليس لنا فيه نية ثم جاءت النية بعد وعن الثوري قال كنا نطلب العلم للدنيا فجرنا إلى الآخرة وهو معنى قوله في كلام آخر كنت أغبط الرجل يجتمع حوله ويكتب عنه فلما ابتليت به وددت أني نجوت منه كفافا لا علي ولا لي وعن أبي الوليد الطيالسي قال سمعت ابن عيينة منذ أكثر من ستين سنة يقول طلبنا هذا الحديث لغير الله فأعقبنا الله ما ترون وقال الحسن لقد طلب أقوام العلم ما أرادوا به الله وما عنده فما زال بهم حتى أرادوا به الله وما عنده فهذا أيضا مما يدل على صحة ما تقدم فصل ويتصدى النظر هنا في تحقيق هذه المرتبة وما هي والقول في ذلك على الإختصار أنها أمر باطن وهو الذي عبر عنه بالخشية في حديث ابن مسعود وهو راجع إلى معنى الآية وعنه عبر في الحديث في أول ما يرفع من العلم الخشوع رواه الترمذي وقال مالك ليس العلم بكثرة الرواية ولكنه نور 77 يجعله الله في القلوب وقال أيضا الحكمة والعلم نور يهدي به الله من يشاء وليس بكثرة المسائل ولكن عليه علامة ظاهرة وهو التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود وذلك عبارة عن العمل بالعلم من غير مخالفة وأما تفصيل القول فيه فليس هذا موضع ذكره وفي كتاب الإجتهاد منه طرف فراجعه إن شئت وبالله التوفيق المقدمة التاسعة من العلم ما هو من صلب العلم ومنه ما هو ملح العلم لا من صلبه ومنه ما ليس من صلبه ولا ملحه فهذه ثلاثة أقسام القسم الأول هو الأصل والمعتمد والذي عليه مدار الطلب وإليه تنتهي مقاصد الراسخين وذلك ما كان قطعيا أو راجعا إلى أصل قطعي والشريعة المباركة المحمدية منزلة على هذا الوجه ولذلك كانت محفوظة في أصولها وفروعها كما قال الله تعالى إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون لأنها ترجع إلى حفظ المقاصد التي بها يكون صلاح الدارين وهي الضروريات والحاجيات والتحسينات وما هو مكمل لها ومتمم لأطرفها وهي أصول الشريعة وقد قام البرهان القطعي على اعتبارها وسائر الفروع مستندة إليها فلا إشكال في أنها علم أصل راسخ الأساس ثابت الأركان هذا وإن كانت وضعية لا عقلية فالوضعيات قد تجاري العقليات في إفادة العلم القطعي وعلم الشريعة من جملتها إذ العلم بها مستفاد من الإستقراء العام الناظم لأشتات أفرادها حتى تصير في العقل مجموعة في كليات مطردة عامة ثابتة غير زائلة ولا متبدلة وحاكمة غير محكوم عليها وهذه خواص 78 الكليات العقليات وأيضا فإن الكليات العقلية مقتبسة من الوجود وهو أمر وضعى لا عقلى فاستوت مع الكليات الشرعية بهذا الاعتبار وارتفع الفرق بينهما فإذا لهذا القسم خواص ثلاث بهن يمتاز عن غيره إحداها العموم والإطراد فلذلك جرت الأحكام الشرعية في أفعال المكلفين على الإطلاق وإن كانت آحادها الخاصة لا تتناهى فلا عمل يفرض ولا حركة ولا سكون يدعى إلا والشريعة عليه حاكمة إفرادا وتركيبا وهو معنى كونها عامة وإن فرض في نصوصها أو معقولها خصوص ما فهو راجع إلى عموم كالعرايا وضرب الدية على العاقلة والقراض والمساقاة والصاع في المصراة وأشباه ذلك فإنها راجعة إلى أصول حاجية أو تحسينية أو ما يكملها وهي أمور عامة فلا خاص في الظاهر إلا وهو عام في الحقيقة والإعتبار في أبواب الفقه يبين ذلك والثانية الثبوت من غير زوال فلذلك لا تجد فيها بعد كمالها نسخا ولا تخصيصا لعمومها ولا تقييدا لإطلاقها ولا رفعا لحكم من أحكامها لابحسب 79 عموم المكلفين ولا بحسب خصوص بعضهم ولا بحسب زمان دون زمان ولا حال دون حال بل ما أثبت سببا فهو سبب أبدا لا يرتفع وما كان شرطا فهو أبدا شرط وما كان واجبا فهو واجب أبدا أو مندوبا فمندوب وهكذا جميع الأحكام فلا زوال لها ولا تبدل ولو فرض بقاء التكليف إلى غير نهاية لكانت أحكامها كذلك والثالثة كون العلم حاكما لا محكوما عليه بمعنى كونه مفيدا لعمل يترتب عليه مما يليق به فلذلك انحصرت علوم الشريعة فيما يفيد العمل أو يصوب نحوه لا زائد على ذلك ولا تجد في العمل أبدا ما هو حاكم على الشريعة وإلا انقلب كونها حاكمة إلى كونها محكوما عليها وهكذا سائر ما يعد من أنواع العلوم فإذا كل علم حصل له هذه الخواص الثلاث فهو من صلب العلم وقد تبين معناها والبرهان عليها في أثناء هذا الكتاب والحمد لله والقسم الثاني وهو المعدود في ملح العلم لا في صلبه ما لم يكن قطعيا ولا راجعا إلى أصل قطعي بل إلى ظني أو كان راجعا إلى قطعى إلا أنه تخلف عنه خاصة من تلك الخواص أو أكثر من خاصة واحدة فهو مخيل ومما يستفز العقل ببادئ الرأي والنظر الأول من غير أن يكون فيه إخلال بأصله ولا بمعنى غيره فإذا كان هكذا صح أن يعد في هذا القسم فأما تخلف الخاصية الأولى وهو الإطراد والعموم فقادح في جعله من صلب العلم لأن عدم الإطراد يقوي جانب الإطراح ويضعف جانب الإعتبار إذ النقض فيه يدل على ضعف الوثوق بالقصد الموضوع عليه ذلك العلم ويقربه من الأمور الإتفاقية الواقعة عن غير قصد فلا يوثق به ولا يبني عليه وأما تخلف الخاصية الثانية وهو الثبوت فيأباه صلب العلم وقواعده فإنه إذا حكم في قضية ثم خالف حكمه الواقع في القضية في بعض المواضع أو بعض 80 الأحوال كان حكمه خطأ وباطلا من حيث أطلق الحكم فيما ليس بمطلق أو عم فيما هو خاص فعدم الناظر الوثوق بحكمه وذلك معنى خروجه عن صلب العلم وأما تخلف الخاصية الثالثة وهو كونه حاكما ومبنيا عليه فقادح أيضا لأنه إن صح في العقول لم يستفد به فائدة حاضرة غير مجرد راحات النفوس فاستوي مع سائر ما يتفرج به وإن لم يصح فأحرى في الأطراح كمباحث السوفسطائيين ومن نحا نحوهم ولتخلف بعض هذه الخواص أمثلة يلحق بها ما سواها أحدها الحكم المستخرجة لما لا يعقل معناه عل الخصوص في التعبدات كإختصاص الوضوء بالأعضاء المخصوصة والصلاة بتلك الهيئة من رفع اليدين والقيام والركوع والسجود وكونها على بعض الهيئات دون بعض واختصاص الصيام بالنهار دون الليل وتعيين أوقات الصلوات في تلك الأحيان المعينة دون ما سواها من أحيان الليل والنهار واختصاص الحج بالأعمال المعلومه وفي الأماكن المعروفة وإلى مسجد مخصوص إلى أشباه ذلك مما لا تهتدي العقول إليه بوجه ولا تطور نحوه فيأتي بعض الناس فيطرق إليه حكما يزعم أنها مقصود الشارع من تلك الأوضاع وجميعها مبني على ظن وتخمين غير مطرد في بابه ولا مبني عليه عمل بل كالتعليل بعد السماع للأمور الشواذ وربما كان من هذا النوع ما يعد من القسم الثالث لجنايته على الشريعة في دعوى 81 ما ليس لنا به علم ولا دليل لنا عليه والثاني تحمل الأخبار والآثار على التزام كيفيات لا يلزم مثلها ولا يطلب التزامها كالأحاديث المسلسلة التي أتي بها على وجوه ملتزمة في الزمان المتقدم على غير قصد فالتزمها المتأخرون بالقصد فصار تحملها على ذلك القصد تحريا لها بحيث يتعنى في إستحراجها ويبحث عنها بخصوصها مع أن ذلك القصد لا ينبني عليه عمل وإن صحبها العمل لأن تخلفه في أثناء تلك الأسانيد لا يقدح في العمل بمقتضى تلك الأحاديث كما في حديث الراحمون يرحمهم الرحمن حسن صحيح فإنهم التزموا فيه أن يكون أول حديث يسمعه التلميذ من شيخه فإن سمعه منه بعد ما أخذ عنه غيره لم يمنع ذلك الإستفادة بمقتضاه وليس بمطرد في جميع الأحاديث النبوية أو أكثرها حتى يقال إنه مقصود فطلب مثل ذلك من ملح العلم لا من صلبه والثالث التأنق في استخراج الحديث من طرق كثيرة لا على قصد طلب تواتره بل على أن يعد آخذا له عن شيوخ كثيرة ومن جهات شتى وإن كان راجعا إلى الآحاد في الصحابة أو التابعين أو غيرهم فالإشتغال بهذا من الملح لا من صلب العلم خرج أبو عمر بن عبد البر عن حمزة بن محمد 82 الكناني قال خرجت حديثا واحدا عن النبي من مائتي طريق أو من نحو مائتي طريق شك الراوي قال فداخلني من ذلك من الفرح غير قليل وأعجبت بذلك فرأيت يحيى بن معين في المنام فقلت له يا أبا زكريا قد خرجت حديثا عن النبي من مائتي طريق قال فسكت عني ساعة ثم قال أخشى أن يدخل هذا تحت ألهاكم التكاثر هذا ما قال وهو صحيح في الإعتبار لأن تخريجه من طرق يسيرة كاف في المقصود منه فصار الزائد على ذلك فضلا والرابع العلوم المأخوذة من الرؤيا مما لا يرجع إلى بشارة ولا نذارة فإن كثيرا من الناس يستدلون على المسائل العلمية بالمنامات وما يتلقى منها تصريحا فإنها وإن كانت صحيحة فأصلها الذي هو الرؤيا غير معتبر في الشريعة في مثلها كما في رؤيا الكناني المذكورة آنفا فإن ما قال فيها يحيى بن معين صحيح ولكنه لم نحتج به حتى عرضناه على العلم في اليقظة فصار الإستشهاد به مأخوذا من اليقظة لا من المنام وإنما ذكرت الرؤيا تأنيساوعلى هذا يحمل ما جاء عن العلماء من الإستشهاد بالرؤيا والخامس المسائل التي يختلف فيها فلا ينبني على الإختلاف فيها فرع عملى إنما تعد من الملح كالمسائل المنبه عليها قبل في أصول الفقه ويقع كثير منها في سائر العلوم وفي العربية منها كثير كمسألة اشتقاق الفعل من المصدر ومسألة اللهم ومسألة أشياء ومسألة الأصل في لفظ الإسم وإن انبنى البحث فيها على أصول مطردة ولكنها لا فائدة تجنى ثمرة للإختلاف فيها فهي خارجةعن صلب العلم 83 والسادس الإستناد إلى الأشعار في تحقيق المعاني العلمية والعملية وكثيرا ما يجري مثل هذا لأهل التصوف في كتبهم وفي بيان مقاماتهم فينتزعون معاني الأشعار ويضعونها للتخلق بمقتضاها وهو في الحقيقة من الملح لما في الأشعار الرقيقة من إمالة الطباع وتحريك النفوس إلى الغرض المطلوب ولذلك اتخذه الوعاظ ديدنا وأدخلوه في أثناء وعظهم وأما إذا نظرنا إلى الأمر في نفسه فالإستشهاد بالمعنى فإن كان شرعيا فمقبول وإلا فلا والسابع الإستدلال على تثبيت المعاني بأعمال المشار إليهم بالصلاح بناء على مجرد تحسين الظن لا زائد عليه فإنه ربما تكون أعمالهم حجة حسبما هو مذكور في كتاب الإجتهاد فإذا أخذ ذلك بإطلاق فيمن يحسن الظن به فهو عند ما يسلم من القوادح من هذا القسم لأجل ميل الناس إلى من ظهر منه صلاح وفضل ولكنه ليس من صلب العلم لعدم اطراد الصواب في عمله ولجواز تغيره فإنما يؤخذ إن سلم هذا المأخذ والثامن كلام أرباب الأحوال من أهل الولاية فإن الإستدلال به من قبيل ما نحن فيه وذلك أنهم قد أوغلوا في خدمة مولاهم حتى أعرضوا عن غيره جملة فمال بهم هذا الطرف إلى أن تكلموا بلسان الأطراح لكل ما سوى الله وأعربوا عن مقتضاه وشأن من هذا شأنه لا يطيقه الجمهور وهم إنما يكلمون به الجمهور وهو وإن كان حقا ففي رتبته لا مطلقا لأنه يصير في حق الأكثر من الحرج أو تكليف مالا يطاق بل ربما ذموا بإطلاق ما ليس بمذموم إلا على وجه دون وجه وفي حال دون حال فصار أخذه بإطلاق موقعا 84 في مفسدة بخلاف أخذه على الجملة فليس على هذا من صلب العلم وإنما هو من ملحه ومستحسناته والتاسع حمل بعض العلوم على بعض في بعض قواعده حتى تحصل الفتيا في أحدها بقاعدة الآخر من غير أن تجتمع القاعدتان في أصل واحد حقيقي كما يحكى عن الفراء النحوي أنه قال من برع في علم واحد سهل عليه كل علم فقال له محمد بن الحسن القاضي وكان حاضرا في مجلسه ذلك وكان ابن خالة الفراء فأنت قد برعت في علمك فخذ مسألة أسألك عنها من غير علمك ما تقول فيمن سها في صلاته ثم سجد لسهوه فسها في سجوده أيضا قال الفراء لا شىء عليه قال وكيف قال لأن التصغير عندنا لا يصغر فكذلك السهو في سجود السهو لا يسجد له لأنه بمنزلة تصغير التصغير فالسجود للسهو هو جبر للصلاة والجبر لا يجبر كما أن التصغير لا يصغر فقال القاضي ما حسبت أن النساء يلدن مثلك فأنت ترى ما في الجمع بين التصغير والسهو في الصلاة من الضعف إذ لا يجمعهما في المعنى أصل حقيقي فيعتبر أحدهما بالآخر فلو جمعهما أصل واحد لم يكن من هذا الباب كمسألة الكسائي مع أبي يوسف القاضي بحضرة الرشيد روى أن أبا يوسف دخل على الرشيد والكسائي يداعبه ويمازحه فقال له أبو يوسف هذا الكوفي قد استفرغك وغلب عليك فقال يا أبا يوسف إنه ليأتيني بأشياء يشتمل عليها قلبي فأقبل الكسائي على أبي يوسف فقال يا أبا يوسف هل لك في مسألة فقال نحو أم فقه قال بل فقه فضحك الرشيد حتى فحص برجله ثم قال تلقي على أبي يوسف فقها قال نعم قال يا أبا يوسف ما تقول في رجل قال لامرأته أنت طالق أن دخلت الدار وفتح أن قال إذا دخلت طلقت قال أخطأت يا أبا يوسف فضحك الرشيد ثم قال كيف الصواب قال إذا قال أن فقد وجب الفعل ووقع الطلاق وإن قال إن فلم يجب ولم يقع الطلاق قال فكان أبو يوسف بعدها لا يدع أن يأتي الكسائي فهذه 85 المسألة جارية على أصل لغوي لا بد من البناء عليه في العلمين فهذه أمثلة ترشد الناظر إلى ما وراءها حتى يكون على بينة فيما يأتي من العلوم ويذر فإن كثيرا منها يستفز الناظر استسحانها ببادىء الرأى فيقطع فيها عمره وليس وراءها ما يتخذ معتمدا في عمل ولا اعتقاد فيخيب في طلب العلم سعيه والله الواقي ومن طريف الأمثلة في هذا الباب ما حدثناه بعض الشيوخ أن أبا العباس ابن البناء سئل فقيل له لم لم تعمل إن في هذان من قوله تعالى إن هذان لساحران الآية فقال في الجواب لما لم يؤثر القول في المقول لم يؤثر العامل في المعمول فقال السائل يا سيدي وما وجه الارتباط بين عمل إن وقول الكفار في النبيئين فقال له المجيب يا هذا إنما جئتك بنوارة يحسن رونقها فأنت تريد أن تحكها بين يديك ثم تطلب منها ذلك الرونق أو كلاما هذا معناه فهذا الجواب فيه ما ترى وبعرضه على العقل يتبين ما بينه وبين ما هو من صلب العلم والقسم الثالث وهو ما ليس من الصلب ولا من الملح ما لم يرجع إلى أصل قطعي ولا ظني وإنما شأنه أن يكر على أصله أو على غيره بالإبطال مما صح كونه من العلوم المعتبرة والقواعد المرجوع إليها في الأعمال والإعتقادات أو كان منهضا إلى إبطال الحق وإحقاق الباطل على الجملة فهذا ليس بعلم لأنه يرجع على أصله بالإبطال فهو غير ثابت ولا حاكم ولا مطرد أيضا ولا هو من ملحه لأن الملح هي التي تستحسنها العقول وتستملحها النفوس إذ ليس يصحبها منفر ولا هي مما تعادي العلوم لأنها ذات أصل مبني عليه في الجملة بخلاف هذا القسم فإنه ليس فيه شىء من ذلك هذا وإن مال بقوم فاستحسنوه وطلبوه فلشبه عارضة واشتباه بينه وبين ما قبله فربما عده الأغبياء مبنيا على أصل فمالوا إليه من ذلك الوجه وحقيقة 86 أصله وهم وتخييل لا حقيقة له مع ما ينضاف إلى ذلك من الأغراض والأهواء كالإغراب باستجلاب غير المعهود والجعجعة بإدراك ما لم يدركه الراسخون والتبجح بأن وراء هذه المشهورات مطالب لا يدركها إلا الخواص وأنهم من الخواص وأشباه ذلك مما لا يحصل منه مطلوب ولا يحور منه صاحبه إلا بالإفتضاح عند الإمتحان حسبما بينه الغزالي وابن العربي ومن تعرض لبيان ذلك من غيرهما ومثال هذا القسم ما انتحله الباطنية في كتاب الله من إخراجه عن ظاهره وأن المقصود وراء هذا الظاهر ولا سبيل إلى نيله بعقل ولا نظر وإنما ينال من الإمام المعصوم تقليدا لذلك الإمام واستنادهم في جملة من دعاويهم إلى علم الحروف وعلم النجوم ولقد اتسع الخرق في الأزمنة المتأخرة على الراقع فكثرت الدعاوى على الشريعة بأمثال ما ادعاه الباطنية حتى آل ذلك إلى مالا يعقل على حال فضلا عن غير ذلك ويشمل هذا القسم ما ينتحله أهل السفسطة والمتحكمون وكل ذلك ليس له أصل ينبنى عليه ولا ثمرة تجنى منه فلا تعلق به بوجه فصل وقد يعرض للقسم الأول أن يعد من الثانى ويتصور ذلك في خلط بعض العلوم ببعض كالفقيه يبنى فقهه على مسألة نحوية مثلا فيرجع إلى تقريرها مسألة كما يقررها النحوى لا مقدمة مسلمة ثم يرد مسألته الفقهية إليها والذى كان من شأنه أن يأتى بها على أنها مفروغ منها في علم النحو فيبنى عليها فلما لم يفعل ذلك وأخذ يتكلم فيها وفى تصحيحها وضبطها والاستدلال عليها كما يفعله النحوي صار الإتيان بذلك فضلا غير محتاج إليه وكذلك إذا افتقر إلى مسألة عددية فمن حقه أن يأتى بها مسلمة ليفرع عليها في علمه فإن أخذ يبسط القول فيها كما يفعله العددى في علم العدد كان فضلا معدودا من الملح إن عد منها وهكذا سائر العلوم التى يخدم بعضها بعضا 87 ويعرض أيضا للقسم الأول أن يصير من الثالث ويتصور ذلك فيمن يتبجح بذكر المسائل العلمية لمن ليس من أهلها أو ذكر كبار المسائل لمن لا يحتمل عقله إلا صغارها على ضد التربية المشروعة فمثل هذا يوقع في مصائب ومن أجلها قال علي رضى الله عنه حدثوا الناس بما يفهمون أتحبون أن يكذب الله ورسوله وقد يصير ذلك فتنة على بعض السامعين حسبما هو مذكور في موضعه من هذا الكتاب وإذا عرض للقسم الأول أن يعد من الثالث فأولى أن يعرض للثانى أن يعد من الثالث لأنه أقرب إليه من الأول فلا يصح للعالم في التربية العلمية إلا المحافظة على هذه المعاني وإلا لم يكن مربيا واحتاج هو إلى عالم يربيه ومن هنا لا يسمح للناظر في هذا الكتاب أن ينظر فيه نظر مفيد أو مستفيد حتى يكون ريان من علم الشريعة أصولها وفروعها منقولها ومعقولها غير مخلد إلى التقليد والتعصب للمذهب فإنه إن كان هكذا خيف عليه أن ينقلب عليه ما أودع فيه فتنة بالعرض وإن كان حكمة بالذات والله الموفق للصواب المقدمة العاشرة إذا تعاضد النقل والعقل على المسائل الشرعية فعلى شرط أن يتقدم النقل فيكون متبوعا ويتأخر العقل فيكون تابعا فلا يسرح العقل في مجال النظر إلا بقدر ما يسرحه النقل والدليل على ذلك أمور الأول أنه لو جاز للعقل تخطى مأخذ النقل لم يكن للحد الذى حده النقل فائدة لأن الفرض أنه حد له حدا فإذا جاز تعديه صار الحد غير مفيد وذلك في الشريعة باطل فما أدى إليه مثله والثاني ما تبين في علم الكلام والأصول من أن العقل لا يحسن ولا يقبح ولو فرضناه متعديا لما حده الشرع لكان محسنا ومقبحا هذا خلف 88 والثالث أنه لو كان كذلك لجاز إبطال الشريعة بالعقل وهذا محال باطل وبيان ذلك أن معنى الشريعة أنها تحد للمكلفين حدودا في أفعالهم وأقوالهم وإعتقاداتهم وهو جملة ما تضمنته فإن جاز للعقل تعدي حد وآحد جاز له تعدي جميع الحدود لأن ما ثبت للشيء ثبت لمثله وتعدي حد واحد هو معنى إبطاله أي ليس هذا الحد بصحيح وإن جاز إبطال واحد جاز إبطال السائر وهذا لا يقول به أحد لظهور محاله فإن قيل هذا مشكل من أوجه الأول أن هذا الرأي هو رأي الظاهرية لأنهم واقفون مع ظواهر النصوص من غير زيادة ولا نقصان وحاصلة عدم اعتبار المعقول جملة ويتضمن نفي القياس الذي اتفق الأولون عليه والثاني أنه قد ثبت للعقل التخصيص حسبما ذكره الأصوليون في نحو والله على كل شيء قدير و على كل شيء وكيل و خالق كل شيء وهو نقص من مقتضى العموم فلتجز الزيادة لأنها بمعناه ولأن الوقوف 89 دون حد النقل كالمجاوز له فكلاهما إبطال للحد على زعمك فإذا جاز إبطاله مع النقص جاز مع الزيادة ولما لم يعد هذا إبطالا للحد فلا يعد الآخر والثالث أن للأصوليين قاعدة قضت بخلاف هذا القضاء وهي أن المعنى المناسب إذا كان جليا سابقا للفهم عند ذكر النص صح تحكيم ذلك المعنى في النص بالتخصيص له والزيادة عليه ومثلوا ذلك بقوله عليه السلام لا يقضي القاضي وهو غضبان فمنعوا لأجل معنى التشويش القضاء مع جميع المشوشات وأجازوا مع ما لا يشوش من الغضب فأنت تراهم تصرفوا بمقتضى العقل في النقل من غير توقف وذلك خلاف ما أصلت وبالجملة فإنكار تصرفات العقول بأمثال هذا إنكار للمعلوم في أصول الفقه فالجواب أن ما ذكرت لا إشكال فيه على ما تقرر أما الأول فليس القياس من تصرفات العقول محضا وإنما تصرفت فيه من تحت نظر الأدلة وعلى حسب ما أعطته من إطلاق أو تقييد وهذا مبين في موضعه من كتاب القياس فإنا إذا دلنا الشرع على أن إلحاق المسكوت عنه بالمنصوص عليه معتبر وأنه من الأمور التي قصدها الشارع وأمر بها ونبه النبي على العمل بها فأين استقلال العقل بذلك بل هو مهتد فيه بالأدلة الشرعية يجرى بمقدار ما أجرته ويقف حيث وقفته وأما الثاني فسيأتي في باب العموم والخصوص إن شاء الله أن الأدلة المنفصلة لا تخصص وإن سلم أنها تخصص فليس معنى تخصيصها أنها تتصرف في اللفظ المقصود به ظاهره بل هي مبينة أن الظاهر غير مقصود في الخطاب 90 بأدلة شرعية دلت على ذلك فالعقل مثلها فقوله والله على كل شىء قدير خصصه العقل بمعنى أنه لم يرد في العموم دخول ذات البارى وصفاته لأن ذلك محال بل المراد جميع ما عدا ذلك فلم يخرج العقل عن مقتضى النقل بوجه وإذا كان كذلك لم يصح قياس المجاوزة عليه وأما الثالث فإن إلحاق كل مشوش بالغضب من باب القياس وإلحاق المسكوت عنه بالمنطوق به بالقياس سائغ وإذا نظرنا إلى التخصيص بالغضب اليسير فليس من تحكيم العقل بل من فهم معنى التشويش ومعلوم أن الغضب اليسير غير مشوش فجاز القضاء مع وجوده بناء على أنه غير مقصود في الخطاب هكذا يقول الأصوليون في تقرير هذا المعنى وأن مطلق الغضب يتناوله اللفظ لكن خصصه المعنى والأمر أسهل من غير احتياج إلى تخصيص فإن لفظ غضبان وزنه فعلان وفعلان في أسماء الفاعلين يقتضى الامتلاء مما اشتق منه فغضبان إنما يستعمل في الممتلىء عضبا كريان في الممتلىء ريا وعطشان في الممتلىء عطشا وأشباه ذلك لا أنه يستعمل في مطلق ما اشتق منه فكأن الشارع إنما نهى عن قضاء الممتلىء غضبا حتى كأنه قال لا يقضى القاضى وهو شديد الغضب أو ممتلىء من الغضب وهذا هو المشوش فخرج المعنى عن كونه مخصصا وصار خروج يسير الغضب عن النهى بمقتضى اللفظ لا بحكم المعنى وقيس على مشوش الغضب كل مشوش فلا تجاوز للعقل إذا 91 وعلى كل تقدير فالعقل لا يحكم على النقل في أمثال هذه الأشياء وبذلك ظهرت صحة ما تقدم المقدمة الحادية عشرة لما ثبت أن العلم المعتبر شرعا هو ما ينبنى عليه عمل صار ذلك منحصرا فيما دلت عليه الأدلة الشرعية فما اقتضته فهو العلم الذى طلب من المكلف أن يعلمه في الجملة وهذا ظاهر غير أن الشأن إنما هو في حصر الأدلة الشرعية فإذا انحصرت انحصرت مدارك العلم الشرعى وهذا مذكور في كتاب الأدلة الشرعية حسبما يأتى إن شاء الله المقدمة الثانية عشرة من أنفع طرق العلم الموصلة إلى غاية التحقق به أخذه عن أهله المتحققين به على الكمال والتمام وذلك أن الله خلق الإنسان لا يعلم شيئا ثم علمه وبصره وهداه طرق مصلحته في الحياة الدنيا غير أن ما علمه من ذلك على ضربين ضرب منها ضرورى داخل عليه من غير علم من أين ولا كيف بل هو مغروز فيه من أصل الخلقة كالتقامه الثدى ومصه له عند خروجه من البطن إلى الدنيا هذا من المحسوسات وكعلمه بوجوده وأن النقيضين لا يجتمعان من جملة المعقولات وضرب منها بوساطة التعليم شعر بذلك أولا كوجوه التصرفات الضرورية نحو محاكاة الأصوات والنطق بالكلمات ومعرفة أسماء الأشياء في المحسوسات وكالعلوم النظرية التى للعقل في تحصيلها مجال ونظر في المعقولات وكلامنا من ذلك فيما يفتقر إلى نظر وتبصر فلا بد من معلم فيها وان 92 كان الناس قد اختلفوا هل يمكن حصول العلم دون معلم أم لا فالإمكان مسلم ولكن الواقع في مجارى العادات أن لابد من المعلم وهو متفق عليه في الجملة وإن اختلفوا في بعض التفاصيل كاختلاف جمهور الأمة والإمامية وهم الذين يشترطون المعصوم والحق مع السواد الأعظم الذي لا يشترط العصمة من جهة أنها مختصة بالأنبياء عليهم السلام ومع ذلك فهم مقرون بافتقار الجاهل إلى المعلم علما كان المعلم أو عملا واتفاق الناس على ذلك في الوقوع وجريان العادة به كاف في أنه لا بد منه وقد قالوا إن العلم كان في صدور الرجال ثم انتقل إلى الكتب وصارت مفاتحه بأيدى الرجال وهذا الكلام يقضى بأن لا بد في تحصيله من الرجال إذ ليس وراء هاتين المرتبتين مرمى عندهم وأصل هذا في الصحيح إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ولكن يقبضه بقبض العلماء الحديث فإذا كان كذلك فالرجال هم مفاتحه بلا شك فإذا تقرر هذا فلا يؤخذ إلا ممن تحقق به وهذا أيضا واضح في نفسه وهو أيضا متفق عليه بين العقلاء إذ من شروطهم في العالم بأى علم اتفق أن يكون عارفا بأصوله وما ينبنى عليه ذلك العلم قادرا على التعبير عن مقصوده فيه عارفا بما يلزم عنه قائما على دفع الشبه الواردة عليه فيه فإذا نظرنا إلى ما اشترطوه وعرضنا أئمة السلف الصالح في العلوم الشرعية وجدناهم قد أتصفوا بها على الكمال غير أنه لا يشترط السلامة عن الخطأ ألبتة لأن فروع كل علم إذا انتشرت وانبنى بعضها على بعض اشتبهت وربما تصور تفريعها على أصول 93 مختلفة في العلم الواحد فأشكلت أو خفى فيها الرجوع إلى بعض الأصول فأهملها العالم من حيث خفيت عليه وهي في نفس الأمر على غير ذلك أو تعارضت وجوه الشبه فتشابه الأمر فيذهب على العالم الأرجح من وجوه الترجيح وأشباه ذلك فلا يقدح في كونه عالما ولا يضر في كونه إماما مقتدى به فإن قصر عن استيفاء الشروط نقص عن رتبة الكمال بمقدار ذلك النقصان فلا يستحق الرتبة الكمالية ما لم يكمل ما نقص فصل وللعالم المتحقق بالعلم أمارات وعلامات تتفق مع ما تقدم وإن خالفتها في النظر وهى ثلاث إحداها العمل بماعلم حتى يكون قوله مطابقا لفعله فإن كان مخالفا له فليس بأهل لأن يؤخذ عنه ولا أن يقتدى به في علم وهذا المعنى مبين على الكمال في كتاب الاجتهاد والحمد لله والثانية أن يكون ممن رباه الشيوخ في ذلك العلم لأخذه عنهم وملازمته لهم فهو الجدير بأن يتصف بما اتصفوا به من ذلك وهكذا كان شأن السلف الصالح فأول ذلك ملازمة الصحابة رضى الله عنهم لرسول الله وأخذهم بأقواله 94 وأفعله واعتمادهم على ما يرد منه كائنا ما كان وعلى أي وجه صدر فهم فهموا مغزى ما أراد به أو لا حتى علموا وتيقنوا أنه الحق الذى لا يعارض والحكمة التى لا ينكسر قانونها ولا يحوم النقص حول حمى كمالها وإنما ذلك بكثرة الملازمة وشدة المثابرة وتأمل قصة عمر بن الخطاب في صلح الحديبية حيث قال يا رسول الله ألسنا على حق وهم على باطل قال بلى قال أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار قال بلى قال ففيم نعطى الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم قال يا ابن الخطاب إنى رسول الله ولم يضيعنى الله أبدا فانطلق عمر ولم يصبر متغيظا فأتى أبا بكر فقال له مثل ذلك فقال أبو بكر إنه رسول الله ولم يضيعه الله أبدا قال فنزل القرآن على رسول الله بالفتح فأرسل إلى عمر فأقرأه إياه فقال يا رسول الله أو فتح هو قال نعم فطابت نفسه ورجع فهذا من فوائد الملازمة والانقياد للعلماء والصبر عليهم في مواطن الإشكال حتى لاح البرهان للعيان وفيه قال سهل بن حنيف يوم صفين أيها الناس اتهموا رأيكم والله لقد رأيتنى يوم أبى جندل ولو أنى أستطيع أن أرد أمر رسول الله لرددته اخرجه البخاري وإنما قال ذلك لما عرض لهم فيه من الإشكال 95 وإنما نزلت سورة الفتح بعد ما خالطهم الحزن والكآبة لشدة الإشكال عليهم والتباس الأمر ولكنهم سلموا وتركوا رأيهم حتى نزل القرآن فزال الإشكال والالتباس وصار مثل ذلك أصلا لمن بعدهم فالتزم التابعون في الصحابة سيرتهم مع النبى حتى فقهوا ونالوا ذروة الكمال في العلوم الشرعية وحسبك من صحة هذه القاعدة أنك لا تجد عالما اشتهر في الناس الأخذ عنه إلا وله قدوة اشتهر في قرنه بمثل ذلك وقلما وجدت فرقة زائغة ولا أحد مخالف للسنة إلا وهو مفارق لهذا الوصف وبهذا الوجه وقع التشنيع على ابن حزم الظاهرى وأنه لم يلازم الأخذ عن الشيوخ ولا تأدب بآدابهم وبضد ذلك كان العلماء الراسخون كالأئمة الأربعة وأشباههم والثالثة الاقتداء بمن أخذ عنه والتأدب بأدبه كما علمت من اقتداء الصحابة بالنبى واقتداء التابعين بالصحابة وهكذا في كل قرن وبهذا الوصف امتاز مالك عن أضرابه أعنى بشدة الإتصاف به وإلا فالجميع ممن يهتدى به في الدين كذلك كانوا ولكن مالكا اشتهر بالمبالغة في هذا المعنى فلما ترك هذا الوصف رفعت البدع رؤوسها لأن ترك الاقتداء دليل على أمر حدث عند التارك أصله اتباع الهوي ولهذا المعنى تقرير في كتاب الاجتهاد بحول الله تعالى 96 فصل وإذا ثبت أنه لا بد من أخذ العلم عن أهله فلذلك طريقان أحدهما المشافهة وهى أنفع الطريقين وأسلمهما لوجهين الأول خاصية جعلها الله تعالى بين المعلم والمتعلم يشهدها كل من زاول العلم والعلماء فكم من مسألة يقرؤها المتعلم في كتاب ويحفظها ويرددها على قلبه فلا يفهمها فإذا ألقاها إليه المعلم فهمها بغتة وحصل له العلم بها بالحضرة وهذا الفهم يحصل إما بأمر عادى من قرائن أحوال وإيضاح موضع إشكال لم يخطر للمتعلم ببال وقد يحصل بأمر غير معتاد ولكن بأمر يهبه الله لمتعلم عند مثوله بين يدى المعلم ظاهر الفقر بادى الحاجة إلى ما يلقى إليه وهذا ليس ينكر فقد نبه عليه الحديث الذى جاء أن الصحابة أنكروا أنفسهم عند ما مات رسول الله وحديث حنظلة الأسيدى حين شكا إلى رسول الله أنهم إذا كانوا عنده وفى مجلسه كانوا على حالة يرضونها فإذا فارقوا مجلسه زال ذلك عنهم فقال رسول الله لو أنكم تكونون كما تكونون عندى لأظلتكم الملائكة بأجنحتها اخرجه مسلم والترمذي صحيح وقد قال عمر بن الخطاب وافقت ربى في ثلاث وهى من فوائد مجالسة العلماء إذ يفتح للمتعلم بين أيديهم مالا يفتح له دونهم ويبقى ذلك النور لهم بمقدار ما بقوا في متابعة معلمهم وتأدبهم معه واقتدائهم به فهذا الطريق نافع على كل تقدير وقد كان المتقدمون لا يكتب منهم إلا القليل وكانوا يكرهون ذلك وقد كرهه مالك فقيل له فما نصنع قال تحفظون وتفهمون حتى تستنير قلوبكم ثم لا تحتاجون إلى الكتابة وحكى عن عمر بن الخطاب كراهية الكتابة وإنما ترخص الناس في ذلك عندما حدث النسيان وخيف على الشريعة الاندراس 97 الطريق الثانى مطالعة كتب المصنفين ومدوني الدواوين وهو أيضا نافع في بابه بشرطين الأول أن يحصل له من فهم مقاصد ذلك العلم المطلوب ومعرفة اصطلاحات أهله ما يتم له به النظر في الكتب وذلك يحصل بالطريق الأول من مشافهة العلماء أو مما هو راجع إليه وهو معنى قول من قال كان العلم في صدور الرجال ثم انتقل إلى الكتب ومفاتحه بأيدي الرجال والكتب وحدها لا تفيد الطالب منها شيئا دون فتح العلماء وهو مشاهد معتاد والشرط الثاني أن يتحرى كتب المتقدمين من أهل العلم المراد فإنهم أقعد به من غيرهم من المتأخرين وأصل ذلك التجربة والخبر أما التجربة فهو أمر مشاهد في أي علم كان فالمتأخر لا يبلغ من الرسوخ في علم ما ما بلغه المتقدم وحسبك من ذلك أهل كل علم عملي أو نظري فأعمال المتقدمين في إصلاح دنياهم ودينهم على خلاف أعمال المتأخرين وعلومهم في التحقيق أقعد فتحقق الصحابة بعلوم الشريعة ليس كتحقق التابعين والتابعون ليسوا كتابعيهم وهكذا إلى الآن ومن طالع سيرهم وأقوالهم وحكاياتهم أبصر العجب في هذا المعنى وأما الخبر ففي الحديث خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم رواه الخمسة وفي هذا إشارة إلى أن كل قرن مع ما بعده كذلك وروى عن النبي أول دينكم نبوة ورحمة ثم ملك ورحمة ثم ملك وجبرية ثم ملك عضوض رواه إبراهيم الحربي عن ابي ثعلبة ولم يذكر منزلته من الصحة ولا يكون هذا إلا مع قلة الخير وتكاثر الشر شيئا بعد شىء 98 ويندرج ما نحن فيه تحت الإطلاق وعن ابن مسعود أنه قال ليس عام إلا الذى بعده شر منه لا أقول عام أمطر من عام ولا عام أخصب من عام ولا أمير خير من أمير ولكن ذهاب خياركم وعلمائكم ثم يحدث قوم يقيسون الأمور برأيهم فيهدم الإسلام ويثلم ومعناه موجود في الصحيح في قوله ولكن ينتزعه مع قبض العلماء بعلمهم فيبقى ناس جهال يستفتون فيفتون برأيهم فيضلون ويضلون رواه البخاري وقال عليه السلام إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء قيل من الغرباء قال النزاع من القبائل رواه مسلم وفى رواية قيل ومن الغرباء يا رسول الله قال الذين يصلحون عند فساد الناس رواه الطبراني وعن أبى إدريس الخولانى إن للإسلام عرى يتعلق الناس وإنها تمتلخ عروة عروة وعن بعضهم تذهب السنة سنة سنة كما يذهب الحبل قوة قوة وتلا أبو هريرة قوله تعالى إذا جاء نصر الله والفتح الآية ثم قال والذى نفسى بيده ليخرجن من دين الله أفواجا كما دخلوا فيه أفواجا وعن عبد الله قال أتدرون كيف ينقص الإسلام قالوا نعم كما ينقص صبغ الثوب وكما ينقص سمن الدابة فقال عبد الله ذلك منه ولما نزل قوله تعالى اليوم أكملت لكم دينكم بكى عمر فقال عليه والسلام ما يبكيك قال يا رسول الله إنا كنا في زيادة من ديننا فأما إذا كمل فلم يكمل شىء قط إلا نقص فقال عليه السلام صدقت اخرجه ابن ابي شيبة والأخبار هنا كثيرة وهى تدل على نقص الدين والدنيا وأعظم ذلك العلم فهو إذا في نقص بلا شك 99 فلذلك صارت كتب المتقدمين وكلامهم وسيرهم أنفع لمن أراد الأخذ بالاحتياط في العلم على أي نوع كان وخصوصا علم الشريعة الذى هو العروة الوثقى والوزر الأحمى وبالله تعالى التوفيق المقدمة الثالثة عشرة كل أصل علمى يتخذ إماما في العمل فلا يخلوا إما أن يجرى به العمل على مجارى العادات في مثله بحيث لا ينخرم منه ركن ولا شرط أولا فإن جرى فذلك الأصل صحيح وإلا فلا وبيانه أن العلم المطلوب إنما يراد بالفرض لتقع الأعمال في الوجود على وفقه من غير تخلف كانت الأعمال قلبية أو لسانية أو من أعمال الجوارح فإذا جرت في المعتاد على وفقه من غير تخلف فهو حقيقة العلم بالنسبة إليه وإلا لم يكن بالنسبة إليه علما لتخلفه وذلك فاسد لأنه من باب انقلاب العلم جهلا ومثاله في علم الشريعة الذى نحن في تأصيل أصوله أنه قد تبين في أصول الدين امتناع التخلف في خبر الله تعالى وخبر رسوله وثبت في الأصول الفقهية امتناع التكليف بما لا يطاق وألحق به امتناع التكليف بما فيه حرج خارج عن المعتاد فإذا كل أصل شرعى تخلف عن جريانه على هذه المجارى فلم يطرد ولا استقام بحسبها في العادة فليس بأصل يعتمد عليه ولا قاعدة يستند إليها ويقع ذلك في فهم الأقوال ومجارى الأساليب والدخول في الأعمال فأما فهم الأقوال فمثل قوله تعالى ولن يجعل الله للكافرين على 100 المؤمنين سبيلا إن حمل على أنه إخبار لم يستمر مخبره لوقوع سبيل الكافر على المؤمن كثيرا بأسره وإذلاله فلا يمكن أن يكون المعنى إلا على ما يصدقه الواقع ويطرد عليه وهو تقرير الحكم الشرعى فعليه يجب أن يحمل ومثله قوله تعالى والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين إن حمل على أنه تقرير حكم شرعى استمر وحصلت الفائدة وإن حمل على أنه إخبار بشأن 101 الوالدات لم تتحكم فيه فائدة زائدة على ما علم قبل الآية وأما مجارى الأساليب فمثل قوله ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا الخ فهذه صيغة عموم تقتضى بظاهرها دخول كل مطعوم وأنه لا جناح في استعماله بذلك الشرط ومن جملته الخمر لكن هذا الظاهر يفسد جريان الفهم في الأسلوب مع إهمال السبب الذى لأجله نزلت الآية بعد تحريم الخمر لأن الله تعالى لما حرم الخمر قال ليس على الذين آمنوا فكان هذا نقضا للتحريم فاجتمع الإذن والنهى معا فلا يمكن للمكلف امتثال ومن هنا خطأ عمر بن الخطاب من تأول في الآية أنها عائدة إلى ما تقدم من التحريم في الخمر وقل له إذا اتقيت اجتنبت ما حرم الله إذ لا يصح أن يقال للمكلف اجتنب كذا ويؤكد النهى بما يقتضى التشديد فيه جدا ثم 102 يقال فإن فعلت فلا جناح عليك وأيضا فإن الله أخبر أنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة وتوقع العداوة والبغضاء بين المتحابين في الله وهو بعد استقرار التحريم كالمنافى لقوله إذا ما اتقوا وآمنوا وعلموا الصالحات فلا يمكن إيقاع كمال التقوى بعد تحريمها إذا شربت لأنه من الحرج أو تكليف ما لا يطاق وأما الدخول في الأعمال فهو العمدة في المسألة وهو الأصل في القول بالاستحسان والمصالح المرسلة لأن الأصل إذا أدى القول بحمله على عمومه إلى الحرج أو إلى ما لا يمكن شرعا أو عقلا فهو غير جار على استقامة ولا اطراد فلا يستمر الإطلاق وهو الأصل أيضا لكل من تكلم في مشكلات القرآن أو السنة لما يلزم في حمل مواردها على عمومها أو إطلاقها من المخالفة المذكورة حتى تقيد بالقيود المقتضية للإطراد والإستمرار فتصح وفى ضمنه تدخل أحكام الرخص إذ هو الحاكم فيها والفارق بين ما تدخله الرخصة وما لا ومن لم يلاحظه في تقرير القواعد الشرعية لم يأمن الغلط بل كثيرا ما تجد خرم هذا الأصل في أصول المتبعين للمتشابهات والطوائف المعدودين في الفرق الضالة عن الصراط المستقيم كما أنه قد يعتري ذلك في مسائل الإجتهاد المختلف فيها عند الأئمة المعتبرين والشيوخ المتقدمين وسأمثل لك بمسألتين وقعت المذاكرة بهما مع بعض شيوخ العصر إحداهما أنه كتب إلى بعض شيوخ المغرب في فصل يتضمن ما يجب على طالب الآخرة النظر فيه والشغل به فقال فيه وإذا شغله شاغل عن لحظة في صلاته فرغ سره منه بالخروج عنه ولو كان يساوي خمسين ألفا كما فعله المتقون فاستشكلت هذا الكلام وكتبت إليه بأن قلت أما أنه 103 مطلوب بتفريغ السر منه فصحيح وأما أن تفريغ السر بالخروج عنه واجب فلا أدري ما هذا الوجوب ولو كان واجبا بإطلاق لوجب على جميع الناس الخروج عن ضياعهم وديارهم وقراهم وأزواجهم وذرياتهم وغير ذلك مما يقع لهم به الشغل في الصلاة وإلى هذا فقد يكون الخروج عن المال سببا للشغل في الصلاة أكثر من شغله بالمال وأيضا فإذا كان الفقر هو الشاغل فماذا يفعل فإنا نجد كثيرا ممن يحصل له الشغل بسبب الإقلال ولا سيما إن كان له عيال لا يجد إلى إغاثتهم سبيلا ولا يخلو أكثر الناس عن الشغل بآحاد هذه الأشياء أفيجب على هؤلاء الخروج عما سبب لهم الشغل في الصلاة هذا ما لا يفهم وإنما الجاري على الفقه والإجتهاد في العبادة طلب مجاهدة الخواطر الشاغلة خاصة وقد يندب إلى الخروج عما شأنه أن يشغله من مال أو غيره إن أمكنه الخروج عنه شرعا وكان مما لا يؤثر فيه فقده تأثيرا يؤدي إلى مثل ما فر منه أو أعظم ثم ينظر بعد في حكم الصلاة الواقع فيها الشغل كيف حال صاحبها من وجوب الإعادة أو استحبابها أو سقوطها وله موضع غير هذا اه حاصل المسألة فلما وصل إليه ذلك كتب إلي بما يقتضي التسليم فيه وهو صحيح لأن القول بإطلاق الخروج عن ذلك كله غير جار في الواقع على استقامة لإختلاف أحوال الناس فلا يصح إعتماده أصلا فقهيا ألبتة والثانية مسألة الورع بالخروج عن الخلاف فإن كثيرا من المتأخرين يعدون الخروج عنه في الأعمال التكليفية مطلوبا وأدخلوا في المتشابهات المسائل المختلف فيها 104 ولا زلت منذ زمان استشكله حتى كتبت فيها إلى المغرب وإلى إفريقية فلم يأتني جواب بما يشفي الصدر بل كان من جملة الإشكالات الواردة أن جمهور مسائل الفقه مختلف فيها إختلافا يعتد به فيصير إذا أكثر مسائل الشريعة من المتشابهات وهو خلاف وضع الشريعة وأيضا فقد صار الورع من أشد الحرج إذ لا تخلو لأحد في الغالب عبادة ولا معاملة ولا أمر من أمور التكليف من خلاف يطلب الخروج عنه وفي هذا ما فيه فأجاب بعضهم بأن المراد بأن المختلف فيه من المتشابه المختلف فيه إختلافا دلائل أقواله متساوية أو متقاربه وليس أكثر مسائل الفقه هكذا بل الموصوف بذلك أقلها لمن تأمل من محصلي مواد التأمل وحينئذ لا يكون المتشابه منها إلا الأقل وأما الورع من حيث ذاته ولو في هذا النوع فقط فشديد مشق لا يحصله إلا من وفقه الله إلى كثرة استحضار لوازم فعل المنهي عنه وقد قال عليه السلام حفت الجنة بالمكاره رواه مسلم هذا ما أجاب به فكتبت إليه بأن ما قررتم من الجواب غير بين لأنه إنما يجري في المجتهد 105 وحده والمجتهد إنما يتورع عند تعارض الأدلة لا عند تعارض الأقوال فليس مما نحن فيه وأما المقلد فقد نص صاحب هذا الورع الخاص على طلب خروجه من الخلاف إلى الإجماع وإن كان من أفتاه أفضل العلماء المختلفين والعامي في عامة أحواله لا يدري من الذي دليله أقوى من المختلفين والذي دليله أضعف ولا يعلم هل تساوت أدلتهم أو تقاربت أم لا لأن هذا لا يعرفه إلا من كان أهلا للنظر وليس العامى كذلك وإنما بني الإشكال على اتقاء الخلاف المعتد به والخلاف المعتد به موجود في أكثر مسائل الشريعة والخلاف الذي لا يعتد به قليل كالخلاف في المتعة وربا النساء ومحاش النساء وما أشبه ذلك وأيضا فتساوى الأدلة أو تقاربها أمر إضافي بالنسبة إلى أنظار المجتهدين فرب دليلين يكونان عند بعض متساويين أو متقاربين ولا يكونان كذلك عند بعض فلا يتحصل للعامي ضابط يرجع إليه فيما يجتنبه من الخلاف مما لا يجتنبه ولا يمكنه الرجوع في ذلك إلى المجتهد لأن ما يأمره به من الإجتناب أو عدمه راجع إلى نظره واجتهاده واتباع نظره وحده في ذلك تقليد له وحده من غير أن يخرج عن الخلاف لا سيما إن كان هذا المجتهد يدعى أن قول خصمه ضعيف لا يعتبر مثله وهكذا الأمر فيما إذا راجع المجتهد الآخر فلا يزال العامي في حيرة إن اتبع هذه الأمور وهو شديد جدا ومن يشاد هذا الدين يغلبه وهذا هو الذي أشكل على السائل ولم 106 يتبين جوابه بعد ولا كلام في أن الورع شديد في نفسه كما أنه لا إشكال في أن التزام التقوى شديد إلا أن شدته ليست من جهة إيقاع ذلك بالفعل لأن الله لم يجعل علينا في الدين من حرج بل من جهة قطع مألوفات النفس وصدها عن هواها خاصة وإذا تأملنا مناط المسألة وجدنا الفرق بين هذا الورع الخاص وغيره من أنواع الورع بينا فإن سائر أنواع الورع سهل في الوقوع وإن كان شديدا في مخالفة النفس وورع الخروج من الخلاف صعب في الوقوع قبل النظر في مخالفة النفس فقد تبين مقصود السائل بالشدة والحرج وأنه ليس ما أشرتم إليه اه ما كتبت به وهنا وقف الكلام بيني وبينه ومن تأمل هذا التقرير عرف أن ما أجاب به هذا الرجل لا يطرد ولا يجري في الواقع مجرى الإستقامة للزوم الحرج في وقوعه فلا يصح أن يستند إليه ولا يجعل أصلا يبنى عليه والأمثلة كثيرة فاحتفظ بهذا الأصل فهو مفيد جدا وعليه ينبني كثير من مسائل الورع وتمييز المتشابهات وما يعتبر من وجه الإشتباه وما لا يعتبر وفي أثناء الكتاب مسائل تحققه إن شاء الله 107 القسم الثاني كتاب الأحكام 108 القسم الثاني كتاب الأحكام 109 بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم كتاب الأحكام والأحكام الشرعية قسمان أحدهما يرجع إلى خطاب التكليف والآخر يرجع إلى خطاب الوضع فالأول ينحصر في الخمسة فلنتكلم على ما يتعلق بها من المسائل وهى جملة المسألة الأولى المباح من حيث هو مباح لا يكون مطلوب الفعل ولا مطلوب الاجتناب أما كونه ليس بمطلوب الاجتناب فلأمور أحدها أن المباح عند الشارع هو المخير فيه بين الفعل والترك من غير مدح ولا ذم لا على الفعل ولا على الترك فإذا تحقق الاستواء شرعا والتخييرلم يتصور أن يكون التارك به مطيعا لعدم تعلق الطلب بالترك فإن الطاعة لا تكون إلا مع الطلب ولا طلب فلا طاعة والثانى أن المباح مساو للواجب والمندوب في أن كل واحد منهما غير مطلوب الترك فكما يستحيل أن يكون تارك الواجب والمندوب مطيعا بتركه شرعا لكون الشارع لم يطلب الترك فيهما كذلك يستحيل أن يكون تارك المباح مطيعا شرعا 110 لا يقال إن الواجب والمندوب يفارقان المباح بأنهما مطلوبا الفعل فقد قام المعارض لطلب الترك وليس المباح كذلك فإنه لا معارض لطلب الترك فيه لأنا نقول كذلك المباح فيه معارض لطلب الترك وهو التخيير في الترك فيستحيل الجمع بين طلب الترك عينا وبين التخيير فيه والثالث أنه إذا تقرر استواء الفعل والترك في المباح شرعا فلو جاز أن يكون تارك المباح مطيعا بتركه جاز أن يكون فاعله مطيعا بفعله من حيث كانا مستويين بالنسبة إليه وهذا غير صحيح باتفاق ولا معقول في نفسه والرابع إجماع المسلمين على أن ناذر ترك المباح لا يلزمه الوفاء بنذره بأن يترك ذلك المباح وأنه كنذر فعله وفى الحديث من نذر أن يطيع الله فليطعه رواه الستة الا مسلم فلو كان ترك المباح طاعة للزم بالندر لكنه غير لازم فدل على أنه ليس بطاعة وفى الحديث أن رجلا نذر أن يصوم قائما ولا يستظل فأمره رسول الله أن يجلس وأن يستظل ويتم صومه رواه البخاري قال مالك أمره عليه السلام أن يتم ما كان لله طاعة ويترك ما كان لله معصية فجعل نذر ترك المباح معصية كما ترى 111 والخامس أنه لو كان تارك المباح مطيعا بتركه وقد فرضنا أن تركه وفعله عند الشارع سواء لكان أرفع درجة في الآخرة ممن فعله وهذا باطل قطعا فإن القاعدة المتقف عليها أن الدرجات في الآخرة منزلة على أمور الدنيا فإذا تحقق الاستواء في الدرجات وفعل المباح وتركه في نظر الشارع متساويان فيلزم تساوى درجتى الفاعل والتارك وإذا فرضنا تساويهما في الطاعات والفرض أن التارك مطيع دون الفاعل فيلزم أن يكون أرفع درجة منه هذا خلف ومخالف لما جاءت به الشريعة اللهم إلا أن يظلم الإنسان فيؤجر على ذلك وإن لم يطع فلا كلام في هذا والسادس أنه لو كان ترك المباح طاعة للزم رفع المباح من أحكام الشرع من حيث النظر إليه في نفسه وهو باطل بالإجماع ولا يخالف في هذا الكعبى لأنه إنما نفاه بالنظر إلى ما يستلزم لا بالنظر إلى ذات الفعل وكلامنا إنما هو 112 بالنظر إلى ذات الفعل لا بالنظر إلى ما يستلزم وأيضا فإنما قال الكعبى ما قال بالنظر إلى فعل المباح لأنه مستلزم ترك حرام بخلافه بالنظر إلى تركه إذ لا يستلزم تركه فعل واجب فيكون واجبا ولا فعل مندوب فيكون مندوبا فثبت أن القول بذلك يؤدى إلى رفع المباح بإطلاق وذلك باطل باتفاق والسابع أن الترك عند المحققين فعل من الأفعال الداخلة تحت الاختيار فترك المباح إذا فعل مباح وأيضا القاعدة أن الأحكام إنما تتعلق بالأفعال أو بالتروك بالمقاصد حسبما يأتى إن شاء الله وذلك يستلزم رجوع الترك إلى الاختيار كالفعل فإن جاز أن يكون تارك المباح مطيعا بنفس الترك جاز أن يكون فاعله مطيعا وذلك تناقض محال فإن قيل هذا كله معارض بأمور أحدها أن فعل المباح سبب في مضار كثيرة منها أن فيه إشتغالا عما هو الأهم في الدنيا من العمل بنوافل الخيرات وصدا عن كثير من الطاعات ومنها أنه سبب في الإشتغال عن الواجبات ووسيلة إلى الممنوعات لأن التمتع بالدنيا له ضراوة كضراوة الخمر وبعضها يجر إلى بعض إلى أن تهوى بصاحبها في المهلكة والعياذ بالله ومنها أن الشرع قد جاء بذم الدنيا والتمتع بلذاتها كقوله تعالى أذهبتم طيباتكم في حياتكم 113 الدنيا وقوله من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها وفى الحديث إن أخوف ما أخاف عليكم أن تفتح عليكم الدنيا كما فتحت على من كان قبلكم الحديث وفيه إن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا أو يلم صحيح عن الشيخان وذلك كثير شهير في الكتاب والسنة وهو كاف في طلب ترك المباح لأنه أمر دنيوى لا يتعلق بالآخرة من حيث هو مباح ومنها ما فيه من التعرض لطول الحساب في الآخرة وقد جاء أن حلالها حساب وحرامها عذاب وعن بعضهم اعزلوا عني حسابها حين أتى بشىء يتناوله والعاقل يعلم أن طول الحساب نوع من العذاب وأن سرعة الإنصراف من الموقف إلى الجنة من أعظم المقاصد والمباح صاد عن ذلك فإذا تركه أفضل شرعا فهو طاعة فترك المباح طاعة فالجواب أن كونه سببا في مضار لا دليل فيه من أوجه أحدها أن الكلام في أصل المسألة إنما هو في المباح من حيث هو مباح متساوى الطرفين ولم يتكلم فيما إذا كان ذريعة إلى أمر آخر فإنه إذا كان ذريعة إلى ممنوع صار ممنوعا من باب سد الذرائع لا من جهة كونه مباحا وعلى هذا يتنزل قول من قال كنا ندع ما لا بأس به حذرا لما به 114 البأس وروى مرفوعا وكذلك كل ما جاء من هذا الباب فذم الدنيا إنما هو لأجل أنها تصير ذريعة إلى تعطيل التكاليف وأيضا فقد يتعلق بالمباح في سوابقه أو لواحقه أو قرائنه ما يصير به غير مباح كالمال إذا لم تؤد زكاته والخيل إذا ربطها تعففا ولكن نسى حق الله في رقابها وما أشبه ذلك والثانى أنا إذا نظرنا إلى كونه وسيلة فليس تركه أفضل بإطلاق بل هو ثلاثة أقسام قسم يكون ذريعة إلى منهى عنه فيكون من تلك الجهة مطلوب الترك وقسم يكون ذريعة إلى مأمور به كالمستعان به على أمر أخروى ففى الحديث نعم المال الصالح للرجل الصالح اخرجه احمد بسند جيد وفيه ذهب أهل الدثور بالأجور والدرجات العلا والنعيم المقيم إلى أن قال ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء رواه مسلم صحيح بل قد جاء أن في مجامعة الأهل أ اجرا وإن كان قاضيا لشهوته لأنه يكف به عن الحرام وذلك في الشريعة كثير لأنها لما كانت وسائل إلى مأمور به كان لها حكم ما توسل بها إليه وقسم لا يكون ذريعة إلى شىء فهو المباح المطلق وعلى الجملة فإذا فرض ذريعة إلى غيره فحكمه حكم ذلك الغير وليس الكلام فيه والثالث إنه إذا قيل إن ترك المباح طاعة على الإطلاق لكونه وسيلة إلى ما ينهى عنه فهو معارض بمثله فيقال بل فعله طاعة بإطلاق لأن 115 كل مباح ترك حرام ألا ترى أنه ترك المحرمات كلها عند فعل المباح فقد شغل النفس به عن جميعها وهذا الثانى أولى لأن الكلية هنا تصح ولا يصح أن يقال كل مباح وسيلة إلى محرم أو منهى عنه بإطلاق فظهر أن ما اعترض به لا ينهض دليلا على أن ترك المباح طاعة وأما قوله إنه سبب في طول الحساب فجوابه من أوجه أحدها أن فاعل المباح إن كان يحاسب عليه لزم أن يكون التارك محاسبا على تركه من حيث كان الترك فعلا ولاستواء نسبة الفعل والترك شرعا وإذ ذاك يتناقض الأمر على فرض المباح وذلك محال فما أدى إليه مثله وأيضا فإنه إذا تمسك بأن حلالها حساب ثم قضى بأن التارك لا يحاسب مع أنه آت بحلال وهو الترك فقد صار الحلال سببا لطول الحساب وغير سبب له لأن طول الحساب إنما نيط به من جهة كونه حلالا بالفرض وهذا تناقض من القول والثانى أن الحساب إن كان ينهض سببا لطلب الترك لزم أن يطلب ترك الطاعات من حيث كانت مسئولا عنها كلها فقد قال تعالى فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين فقد انحتم على الرسل عليهم الصلاة والسلام أن يسألوا عن الرسالة وتبليغ الشريعة ولم يكن هذا مانعا من الإتيان بذلك وكذلك سائر المكلفين لا يقال إن الطاعات يعارض طلب تركها طلبها لأنا نقول كذلك المباح يعارض طلب تركه التخيير فيه وأن فعله وتركه في قصد الشارع بمثابة واحدة والثالث أن ما ذكر من الحساب على تناول الحلال قد يقال إنه راجع 116 إلى أمر خارج عن نفس المباح فإن المباح هو أكل كذا مثلا وله مقدمات وشروط ولواحق لا بد من مراعاتها فإذا روعيت صار الأكل مباحا وإن لم تراع كان التسبب والتناول غير مباح وعلى الجملة فالمباح كغيره من الأفعال له أركان وشروط وموانع ولواحق تراعى والترك في هذا كله كالفعل فكما أنه إذا تسبب للفعل كان تسببه مسئولا عنه كذلك إذا تسبب إلى الترك كان مسئولا عنه ولا يقال إن الفعل كثير الشروط والموانع ومفتقر إلى أركان بخلاف الترك فإن ذلك فيه قليل وقد يكفي مجرد القصد إلى الترك لأنا نقول حقيقة المباح إنما تنشأ بمقدمات كان فعلا أو تركا ولو بمجرد القصد وأيضا فإن الحقوق تتعلق بالترك كما تتعلق بالفعل من حقوق الله أو حقوق الآدميين أو منهما جميعا يدل عليه قوله إن لنفسك عليك حقا ولأهلك عليك حقا فأعط كل ذي حق حقه اخرجه البخاري وتأمل ح حديث سلمان وأبي الدرداء رضي الله عنهما يبين لك هو وما في معناه أن الفعل والترك في المباح على الخصوص لا فرق بينهما من هذا الوجه فالحساب يتعلق بطريق الترك كما يتعلق بطريق الفعل وإذا كان الأمر كذلك ثبت أن الحساب إن كان راجعا إلى طريق المباح فالفعل والترك سواء وإن كان راجعا إلى نفس المباح أو إليهما معا فالفعل والترك أيضا سواء وأيضا إن كان في المباح ما يقتضي الترك ففيه ما يقتضي عدم الترك لأنه من جملة ما امتن الله به على عباده ألا ترى إلى قوله تعالى والأرض وضعها للأنام إلى قوله يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان وقوله وهو الذي سخر لكم البحر لتأكلوا منه إلى قوله ولعلكم تشكرون وقوله وسخر 117 لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه إلى غير ذلك من الآيات التي نص فيها على الإمتنان بالنعم وذلك يشعر بالقصد إلى التناول والإنتفاع ثم الشكر عليها وإذا كان هكذا فالترك له قصدا يسأل عنه لم تركته ولأي وجه أعرضت عنه وما منعك من تناول ما أحل لك فالسؤال حاصل في الطرفين وسيأتي لذلك تقرير في المباح الخادم لغيره إن شاء الله وهذه الأجوبة أكثرها جدلي والصواب في الجواب أن تناول المباح لا يصح أن يكون صاحبه محاسبا عليه بإطلاق وإنما يحاسب على التقصير في الشكر عليه إما في جهة تناوله واكتسابه وإما في جهة الإستعانة به على التكليفات فمن حاسب نفسه في ذلك وعمل على ما أمر به فقد شكر نعم الله وفي ذلك قال تعالى قل من حرم زينة الله إلى قوله خالصة يوم القيامة أي لا تبعة فيها وقال تعالى فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا وفسره النبي عليه السلام بأنه العرض لا الحساب الذي فيه مناقشة وعذاب وإلا لم تكن النعم المباحة خالصة للمؤمنين يوم القيامة وإليه يرجع قوله تعالى فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين أعنى سؤال المرسلين ويحققه أحوال السلف في تناول المباحات كما سيذكر على إثر هذا والثانى من الأمور المعارضة أن ما تقدم مخالف لما كان عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين والعلماء المتقين فإنهم تورعوا عن المباحات كثيرا وذلك منقول عنهم تواترا كترك الترفه في المطعم والمشرب والمركب والمسكن وأعرقهم في ذلك عمر بن الخطاب وأبو ذر وسلمان وأبو عبيدة بن الجراح وعلي بن أبى طالب وعمار وغيرهم رضى الله عنهم 118 وانظر إلى ما حكاه ابن حبيب في كتاب الجهاد وكذلك الداودى في كتاب الأموال ففيه الشفاء ومحصوله أنهم تركوا المباح من حيث هو مباح ولو كان ترك المباح غير طاعة لما فعلوه والجواب عن ذلك من أوجه أحدها أن هذه أولا حكايات أحوال فالاحتجاج بمجردها من غير نظر فيها لا يجدى إذ لا يلزم أن يكون تركهم لما تركوه من ذلك من جهة كونه مباحا لإمكان تركه لغير ذلك من المقاصد وسيأتي إن شاء الله أن حكايات الأحوال بمجردها غير مفيدة في الإحتجاج والثاني أنها معارضة بمثلها في النقيض فقد كان عليه السلام يحب الحلواء والعسل ويأكل اللحم ويختص بالذراع وكانت تعجبه وكان يستعذب له الماء وينقع له الزبيب والتمر ويتطيب بالمسك ويحب النساء وأيضا فقد جاء كثير من ذلك عن الصحابة والتابعين والعلماء المتقين بحيث يقتضي أن الترك عندهم كان غير مطلوب والقطع أنه لو كان مطلوب الترك عندهم شرعا لبادروا إليه مبادرتهم لكل نافلة وبر ونيل منزلة ودرجة إذ لم يبادر أحد من الخلق إلى نوافل الخيرات مبادرتهم ولا شارك أحد أخاه المؤمن ممن قرب عهده أو بعد في رفده وماله مشاركتهم يعلم ذلك من طالع سيرهم ومع ذلك فلم يكونوا تاركين للمباحات أصلا ولو كان مطلوبا لعلموه قطعا ولعملوا بمقتضاه مطلقا من غير استثناء لكنهم لم يفعلوا فدل ذلك على أنه عندهم غير مطلوب بل قد أراد بعضهم أن يترك شيئا من المباحات فنهوا عن ذلك وأدلة هذه الجملة كثيرة وانظر في باب المفاضلة بين الفقر 119 والغنى في مقدمات ابن رشد والثالث إذا ثبت أنهم تركوا منه شيئا طلبا للثواب على تركه فذلك لا من جهة أنه مباح فقط للأدلة المتقدمة بل لأمور خارجة وذلك غير قادح في كونه غير مطلوب الترك منها أنهم تركوه من حيث هو مانع من عبادات وحائل دون خيرات فيترك ليمكن الإتيان بما يثاب عليه من باب التوصل إلى ما هو مطلوب كما كانت عائشة رضي الله عنها يأتيها المال العظيم الذي يمكنها به التوسع في المباح فتتصدق به وتفطر على أقل ما يقوم به العيش ولم يكن تركها التوسع من حيث كان الترك مطلوبا وهذا هو محل النزاع ومنها أن بعض المباحات قد يكون مورثا لبعض الناس أمرا لا يختاره لنفسه بالنسبة إلى ما هو عليه من الخصال الحميدة فيترك المباح لما يؤديه إليه كما جاء أن عمر بن الخطاب لما عذلوه في ركوبه الحمار في مسيرة إلى الشام أتي بفرس فلما ركبه فهملج تحته أخبر أنه أحس من نفسه فنزل عنه ورجع إلى حماره وكما جاء في حديث الخميصة ذات العلم حين لبسها النبي فأخبرهم أنه نظر إلى علمها في الصلاة فكاد يفتنه وهو المعصوم 120 ولكنه علم أمته كيف يفعلون بالمباح إذا أداهم إلى ما يكره وكذلك قد يكون المباح وسيلة إلى ممنوع فيترك من حيث هو وسيلة كما قيل إني لأدع بيني وبين الحرام سترة من الحلال ولا أحرمها وفي الحديث لا يبلغ الرجل درجة المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا لما به البأس صحيح الاسناد وهذا بمثابة من يعلم أنه إذا مر لحاجته على الطريق الفلانية نظر إلى محرم أو تكلم فيما لا يعنيه أو نحوه ومنها أنه قد يترك بعض الناس ما يظهر لغيره أنه مباح إذا تخيل فيه إشكالا وشبهة ولم يتخلص له حلة وهذا موضع مطلوب الترك على الجملة بلا خلاف كقوله كنا ندع ما لا بأس به حذرا لما به البأس ولم يتركوا كل ما لا بأس به وإنما تركوا ما خشوا أن يفضي بهم إلى مكروه أو ممنوع ومنها أنه قد يترك المباح لأنه لم تحضره نية في تناوله إما للعون به على طاعة الله وإما لأنه يحب أن يكون عمله كله خالصا لله لا يلوي فيه على حظ نفسه من حيث هي طالبة له فإن من خاصة عباد الله من لا يحب أن يتناول مباحا لكونه مباحا بل يتركه حتى يجد لتناوله قصد عبادة أو عونا على عبادة أو يكون أخذه له من جهة الإذن لا من جهة الحظ لأن الأول نوع من الشكر بخلاف الثاني ومن ذلك أن يتركه حتى 121 يصير مطلوبا كالأكل والشرب ونحوهما فإنه إذا كان لغير حاجة مباح كأكل بعض الفواكه فيدع التناول إلى زمان الحاجة إلى الغذاء ثم يأكل قصدا لإقامة البنية والعون على الطاعة وهذه كلها أغراض صحيحة منقولة عن السلف وغير قادحة في مسألتنا ومنها أن يكون التارك مأخوذ الكلية في عبادة من علم أو تفكر أو عمل مما يتعلق بالآخرة فلا تجده يستلذ بمباح ولا ينحاش قلبه إليه ولا يلقي إليه بالا وهذا وإن كان قليلا فالترك على هذا الوجه يشبه الغفلة عن المتروك والغفلة عن تناول المباح ليس بطاعة بل هو في طاعة بما اشتغل به وقد نقل مثل هذا عن عائشة حين أتيت بمال عظيم فقسمته ولم تبق لنفسها شيئا فعوتبت على تركها نفسها دون شيء فقال لا تعنيني لو كنت ذكرتني لفعلت ويتفق مثل هذا للصوفية وكذلك إذا ترك المباح لعدم قيام النفس له هو في حكم المغفول عنه ومنها أنه قد يرى بعض ما يتناوله من المباح إسرافا والإسراف مذموم وليس في الإسراف حد يوقف دونه كما في الإقتار فيكون التوسط راجعا إلى الإجتهاد بين الطرفين فيرى الإنسان بعض المباحات بالنسبة إلى حاله داخلا تحت الإسراف فيتركه لذلك ويظن من يراه ممن ليس ذلك إسرافا في حقه أنه تارك للمباح ولا يكون كما ظن فكل أحد فيه فقيه نفسه والحاصل أن التفقه في المباح بالنسبة إلى الإسراف وعدمه والعمل على ذلك مطلوب وهو شرط من شروط تناول المباح ولا يصير بذلك المباح مطلوب الترك ولا مطلوب الفعل كدخول المسجد لأمر مباح هو مباح ومن 122 شرطه أن لا يكون جنبا والنوافل من شرطها الطهارة وذلك واجب ولا يصير دخول المسجد ولا النافلة بسبب ذلك واجبين فكذلك هنا تناول المباح مشروط بترك الإسراف ولا يصير ذم الإسراف في المباح ذما للمباح مطلقا وإذا تأملت الحكايات في ترك بعض المباحات عمن تقدم فلا تعدو هذه الوجوه وعند ذلك لا تكون فيها معارضة لما تقدم والله أعلم والثالث من الأمور المعارضة ما ثبت من فضيلة الزهد في الدنيا وترك لذاتها وشهواتها وهو مما اتفق على مدح صاحبه شرعا وذم تاركه على الجملة حتى قال الفضيل بن عياض جعل الشر كله في بيت وجعل مفتاحه حب الدنيا وجعل الخير كله في بيت وجعل مفتاحه الزهد وقال الكتاني الصوفي الشيء الذي لم يخالف فيه كوفي ولا مدني ولا عراقي ولا شامي الزهد في الدنيا وسخاوة النفس والنصيحة للخلق قال القشيري يعني أن هذه الأشياء لا يقول أحد إنها غير محمودة والأدلة من الكتاب والسنة على هذا لا تكاد تنحصر والزهد حقيقة إنما هو في الحلال أما الحرام فالزهد فيه لازم من أمر الإسلام عام في أهل الإيمان ليس مما يتجارى فيه خواص المؤمنين مقتصرين عليه فقط وإنما تجاروا فيما صاروا به من الخواص وهو الزهد في المباح فأما المكروه فذو طرفين وإذا ثبت هذا فمحال عادة أن يتجاروا فيه هذه المجاراة وهو لا فائدة فيه ومحال أن يمدح شرعا مع استواء فعله وتركه والجواب من أوجه أحدها أن الزهد في الشرع مخصوص بما طلب تركه حسبما يظهر 123 من الشريعة فالمباح في نفسه خارج عن ذلك لما تقدم من الأدلة فإذا أطلق بعض المعبرين لفظ الزهد على ترك الحلال فعلى جهة المجاز بالنظر إلى ما يفوت من الخيرات أو لغير ذلك مما تقدم والثاني أن أزهد البشر لم يترك الطيبات جملة إذا وجدها وكذلك من بعده من الصحابة والتابعين مع تحققهم في مقام الزهد والثالث أن ترك المباحات إما أن يكون بقصد أو بغير قصد فإن كان بغير قصد فلا اعتبار به بل هو غفلة لا يقال فيه مباح فضلا عن أن يقال فيه زهد وإن كان تركه بقصد فإما أن يكون القصد مقصورا على كونه مباحا فهو محل النزاع أو لأمر خارج فذلك الأمر إن كان دنيويا كالمتروك فهو انتقال من مباح إلى مثله لا زهد وإن كان أخرويا فالترك إذا وسيلة إلى ذلك المطلوب فهو فضيلة من جهة ذلك المطلوب لا من جهة مجرد الترك ولا نزاع في هذا وعلى هذا المعنى فسره الغزالي إذ قال الزهد عبارة عن انصراف الرغبة عن الشيء إلى ما هو خير منه فلم يجعله مجرد الإنصراف عن الشيء خاصة بل بقيد الإنصراف إلى ما هو خير منه وقال في تفسيره ولما كان الزهد رغبة عن محبوب بالجملة لم يتصور إلا بالعدول إلى شيء هو أحب منه وإلا فترك المحبوب لغير الأحب محال ثم ذكر أقسام الزهد فدل على أن الزهد لا يتعلق بالمباح من حيث هو مباح على حال ومن تأمل كلام المعتبرين فهو دائر على هذا المدار 124 فصل وأما كون المباح غير مطلوب الفعل فيدل عليه كثير مما تقدم لأن كلا الطرفين من جهته في نفسه على سواء وقد استدل من قال إنه مطلوب بأن كل مباح ترك حرام وترك الحرام واجب فكل مباح واجب إلى آخر ما قرر الأصوليون عنه لكن هذا القائل يظهر منه أنه يسلم أن المباح مع قطع النظر عما يستلزم مستوى الطرفين وعند ذلك يكون ما قاله الناس هو الصحيح لوجوه أحدها لزوم أن لا توجد الإباحة في فعل من الأفعال عينا ألبتة فلا يوصف فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بإباحة أصلا وهذا باطل باتفاق فإن الأمة قبل هذا المذهب لم تزل تحكم على الأفعال بالإباحة كما تحكم عليها بسائر الأحكام وإن استلزمت ترك الحرام فدل على عدم اعتبارها لما يستلزم لأنه أمر خارج عن ماهية المباح والثاني أنه لو كان كما قال لارتفعت الإباحة رأسا عن الشريعة وذلك باطل على مذهبه ومذهب غيره 125 بيانه أنه إذا كانت الإباحة غير موجودة في الخارج على التعيين كان وضعها في الأحكام الشرعية عبثا لأن موضوع الحكم هو فعل المكلف وقد فرضناه واجبا فليس بمباح فيبطل قسم المباح أصلا وفرعا إذ لا فائدة شرعا في إثبات حكم لا يقضي على فعل من أفعال المكلف والثالث أنه لو كان كما قال لوجب مثل ذلك في جميع الأحكام الباقية لإستلزامها ترك الحرام فتخرج عن كونها أحكاما مختلفة وتصير واجبة فإن التزم ذلك باعتبار الجهتين حسبما نقل عنه فهو باطل لأنه يعتبر جهة الاستلزام فلذلك نفى المباح فليعتبر جهة الاستلزام في الأربعة الباقية فينفيها وهو خلاف الإجماع والمعقول فإن اعتبر في الحرام والمكروه جهة النهي وفي المندوب جهة الأمر كالواجب لزمه اعتبار جهة التخيير في المباح إذ لا فرق بينهما من جهة معقولهما فإن قال يخرج المباح عن كونه مباحا بما يؤدي إليه أو بما يتوسل به إليه فذلك غير مسلم وإن سلم فذلك من باب ما لا يتم الواجب إلا به والخلاف فيه معلوم فلا نسلم أنه واجب وإن سلم فكذلك الأحكام الأخر فيصير الحرام والمكروه والمندوب واجبات والواجب من جهة واحدة واجبا من جهتين وهذا كله لا يتحصل له مقصود معتبر في الشرع فالحاصل أن الشارع لا قصد له في فعل المباح دون تركه ولا في تركه دون فعله بل قصده جعله لخيرة المكلف فما كان من المكلف من فعل أو ترك فذلك قصد الشارع بالنسبة إليه فصار الفعل والترك بالنسبة إلى المكلف كخصال الكفارة أيهما فعل فهو قصد الشارع لا أن للشارع قصدا 126 في الفعل بخصوصه ولا في الترك بخصوصه لكن يرد على مجموع الطرفين إشكال زائد على ما تقدم في الطرف الواحد وهو أنه قد جاء في بعض المباحات ما يقتضي قصد الشارع إلى فعله على الخصوص وإلى تركه على الخصوص فأما الأول فأشياء منها الأمر بالتمتع بالطيبات كقوله تعالى يأيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا وقوله يأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله وقوله يأيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إلى أشباه ذلك مما دل الامر به على قصد الإستعمال وأيضا فإن النعم المبسوطة في الأرض لتمتعات العباد التي ذكرت المنة بها وقررت عليهم فهم منها القصد إلى التنعم بها لكن بقيد الشكر عليها ومنها أنه تعالى أنكر على من حرم شيئا مما بث في الأرض من الطيبات وجعل ذلك من أنواع ضلالهم فقال تعالى قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا أي خلقت لأجلهم خالصة يوم القيامة لإتباعة فيها ولا إثم فهذا ظاهر في القصد إلى استعمالها دون تركها ومنها أن هذه النعم هدايا من الله للعبد وهل يليق بالعبد عدم قبول هدية السيد هذا غير لائق في محاسن العادات ولا في مجاري الشرع بل قصد المهدي أن تقبل هديته وهدية الله إلى العبد ما أنعم به عليه فليقبل ثم ليشكر له عليها وحديث ابن عمر وأبيه عمر في مسألة قصر الصلاة ظاهر في هذا المعنى حيث قال عليه 127 السلام إنها صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته رواه مسلم باسقاط لفظ انها زاد في حديث ابن عمر الموقوف عليه أرأيت لو تصدقت بصدقة فردت عليك ألم تغضب وفي الحديث إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه رواه احمد وغالب الرخص في نمط الإباحة نزولا عن الوجوب كالفطر في السفر أو التحريم كما قاله طائفة في قوله من لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات إلى آخرها وإذا تعلقت المحبة بالمباح كان راجح الفعل فهذه جملة تدل على أن المباح قد يكون فعله أرجح من تركه وأما ما يقتضي القصد إلى الترك على الخصوص فجميع ما تقدم من ذم التنعمات والميل إلى الشهوات على الجملة وعلى والخصوص قد جاء ما يقتضي تعلق الكراهة في بعض ما ثبتت له الإباحة كالطلاق السنى فإنه جاء في الحديث وإن لم يصح أبغض الحلال إلى الله الطلاق رواه أبو داود ولذلك لم يأت به صيغة أمر في القرآن ولا في السنة كما جاء في التمتع بالنعم وإنما جاء مثل قوله الطلاق مرتان فإن طلقها فلا تحل له من بعد يأيها النبى إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف ولا شك أن جهة البغض في المباح مرجوحة وجاء كل لهو 128 باطل إلا ثلاثة اخرجه ابن خزيمة وكثير من أنواع اللهو مباح واللعب أيضا مباح وقد ذم فهذا كله يدل على أن المباح لا ينافى قصد الشارع لأحد طرفيه على الخصوص دون الآخر وذلك مما يدل على أن المباح يتعلق به الطلب فعلا وتركا على غير الجهات المتقدمة والجواب من وجهين أحدهما إجمالي والآخر تفصيلي فالإجمالي أن يقال إذا ثبت أن المباح عند الشارع هو المتساوى الطرفين فكل ما ترجح أحد طرفيه فهو خارج عن كونه مباحا إما لأنه ليس بمباح حقيقة وإن أطلق عليه لفظ المباح وإما لأنه مباح في أصله ثم صار غير مباح لأمر خارج وقد يسلم أن المباح يصير غير مباح بالمقاصد والأمور الخارجة وأما التفصيلي فإن المباح ضربان أحدهما أن يكون خادما لأصل ضروري أو حاجي أو تكميلي والثاني أن لا يكون كذلك فالأول قد يراعى من جهة ما هو خادم له فيكون مطلوبا ومحبوبا فعله وذلك أن التمتع بما أحل الله من المأكل والمشرب ونحوها مباح في نفسه وإباحته بالجزء وهو خادم لأصل ضروري وهو إقامة الحياة فهو مأمور به من هذه الجهة ومعتبر ومحبوب من حيث هذا الكلي المطلوب فالأمر به 129 راجع إلى حقيقته الكلية لا إلى اعتباره الجزئي ومن هنا يصح كونه هدية يليق فيها القبول دون الرد لا من حيث هو جزئى معين والثاني إما أن يكون خادما لما ينقض أصلا من الأصول الثلاثة المعتبرة أولا يكون خادما لشىء كالطلاق فإنه ترك للحلال الذي هو خادم لكلى إقامة النسل في الوجود وهو ضروري ولإقامة مطلق الألفة والمعاشرة واشتباك العشائر بين الخلق وهو ضروري أو حاجي أو مكمل لأحدهما فإذا كان الطلاق بهذا النظر خرما لذلك المطلوب ونقضا عليه كان مبغضا ولم يكن فعله أولى من تركه إلا لمعارض أقوى كالشقاق وعدم إقامة حدود الله وهو من حيث كان جزئيا في هذا الشخص وفى هذا الزمان مباح وحلال وهكذا القول فيما جاء من ذم الدنيا وقد تقدم ولكن لما كان الحلال فيها قد يتناول فيخرم ما هو ضروري كالدين على الكافر والتقوى على العاصي كان من تلك الجهة مذموما وكذلك اللهو واللعب والفراغ من كل شغل إذا لم يكن في محظور ولا يلزم عنه محظور فهو مباح ولكنه مذموم ولم يرضه العلماء بل كانوا يكرهون أن لا يرى الرجل في إصلاح معاش ولا في إصلاح معاد لأنه قطع زمان فيما لا يترتب عليه فائدة دنيوية ولا أخروية وفى القرآن ولا تمش في الأرض مرحا إذ يشير إلى هذا المعنى وفي الحديث كل لهو باطل إلا ثلاثة ويعنى بكونه باطلا أنه عبث 130 أو كالعبث ليس له فيه فائدة ولا ثمرة تجنى بخلاف اللعب مع الزوجة فإنه مباح يخدم أمرا ضروريا وهو النسل وبخلاف تأديب الفرس وكذلك اللعب بالسهام فإنهما يخدمان أصلا تكميليا وهو الجهاد فلذلك استثنى هذه الثلاثة من اللهو الباطل وجميع هذا يبين أن المباح من حيث هو مباح غير مطلوب الفعل ولا الترك بخصوصه وهذا الجواب مبنى على أصل آخر ثابت في الأحكام التكليفية فلنضعه هنا وهي المسألة الثانية فيقال إن الإباحة بحسب الكلية والجزئية يتجاذبها الأحكام البواقى فالمباح يكون مباحا بالجزء مطلوبا بالكل على جهة الندب أوالوجوب ومباحا بالجزء منهيا عنه بالكل على جهة الكراهة أو المنع فهذه أربعة أقسام فالأول كالتمتع بالطيبات من المأكل والمشرب والمركب والملبس مما سوى الواجب من ذلك والمندوب المطلوب في محاسن العبادات أو المكروه 131 فى محاسن العادات كالإسراف فهومباح بالجزء فلو ترك بعض الأوقات مع القدرة عليه لكان جائزا كما لو فعل فلو ترك جملة لكان على خلاف ما ندب الشرع إليه ففى الحديث إذا أوسع الله عليكم فأوسعوا على أنفسكم وإن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده رواه البخاري وقوله في الآخر حين حسن من هيئته أليس هذا أحسن اخرجه مالك اليس هذا خيرا وقوله إن الله جميل يحب الجمال اخرجه مسلم وابو داود والترمذي بعد قول الرجل إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة وكثير من ذلك وهكذا لو ترك الناس كلهم ذلك لكان مكروها والثاني كالأكل والشرب ووطء الزوجات والبيع والشراء ووجوه الاكتسابات الجائزة كقوله تعالى وأحل الله البيع وحرم الربا أحل لكم صيد البحر وطعامه أحلت لكم بهيمة الأنعام وكثير من ذلك كل هذه الأشياء مباحة بالجزء أى إذا اختار أحد هذه الأشياء على ما سواها فذلك جائز أو تركها الرجل في بعض الأحوال أو الأزمان أو تركها بعض الناس لم يقدح ذلك فلو فرضنا ترك الناس كلهم ذلك لكان تركا 132 لما هو من الضروريات المأمور بها فكان الدخول فيها واجبا بالكل والثالث كالتنزه في البساتين وسماع تغريد الحمام والغناء المباح واللعب المباح بالحمام أو غيرها فمثل هذا مباح بالجزء فإذا فعل يوما ما أو في حالة ما فلا حرج فيه فإن فعل دائما كان مكروها ونسب فاعله إلى قلة العقل وإلى خلاف محاسن العادات وإلى الإسراف في فعل ذلك المباح والرابع كالمباحات التى تقدح في العدالة المداومة عليها وإن كانت مباحة فإنها لا تقدح إلا بعد أن يعد صاحبها خارجا عن هيئآت أهل العدالة وأجرى صاحبها مجرى الفساق وإن لم يكن كذلك وما ذلك إلا لذنب اقترفه شرعا وقد قال الغزالي إن المداومة على المباح قد تصيره صغيرة كما أن المداومة على الصغيرة تصيرها كبيرة ومن هنا قيل لا صغيرة مع الإصرار فصل إذا كان الفعل مندوبا بالجزء كان واجبا بالكل كالأذان في المساجد الجوامع أو غيرها وصلاة الجماعة وصلاة العيدين وصدقة التطوع والنكاح والوتر والفجر والعمرة وسائر النوافل الرواتب 133 فإنها مندوب إليها بالجزء ولو فرض تركها جملة لجرح التارك لها ألا ترى أن في الأذان إظهارا لشعائر الإسلام ولذلك يستحق أهل المصر القتال إذا تركوه وكذلك صلاة الجماعة من داوم على تركها يجرح فلا تقبل شهادته لأن في تركها مضادة لإظهار شعائر الدين وقد توعد الرسول عليه السلام من داوم على ترك الجماعة فهم أن يحرق عليهم بيوتهم كما كان عليه السلام لا يغير على قوم حتى يصبح فإن سمع أذانا أمسك وإلا أغار والنكاح لا يخفى ما فيه مما هو مقصود للشارع من تكثير النسل وإبقاء النوع الإنساني وما أشبه ذلك فالترك لها جملة مؤثر في أوضاع الدين إذا كان دائما أما إذا كان في بعض الأوقات فلا تأثير له فلا محظور في الترك فصل إذا كان الفعل مكروها بالجزء كان ممنوعا بالكل كاللعب بالشطرنج والنرد بغير مقامرة وسماع الغناء المكروه فإن مثل هذه الأشياء إذا وقعت على غير مداومة لم تقدح في العدالة فإن داوم عليها قدحت في عدالته وذلك دليل على المنع بناء على أصل الغزالي قال محمد بن عبد الحكم في اللعب بالنرد والشطرنج إن كان يكثر منه حتى يشغله عن الجماعة لم تقبل شهادته وكذلك اللعب الذى يخرج به عن هيئة أهل المروءة والحلول بمواطن التهم لغير عذر وما أشبه ذلك فصل أما الواجب إن قلنا إنه مرادف للفرض فإنه لا بد أن يكون 134 واجبا بالكل والجزء فإن العلماء إنما أطلقوا الواجب من حيث النظر الجزئي وإذا كان واجبا بالجزء فهو كذلك بالكل من باب أولى ولكن هل يختلف حكمه بحسب الكلية والجزئية أم لا أما بحسب الجواز فذلك ظاهر فإنه إذا كانت هذه الظهر المعينة فرضا على المكلف يأثم بتركها ويعد مرتكب كبيرة فينفذ عليه الوعيد بسببها إلا أن يعفو الله فالتارك لكل ظهر أو لكل صلاة أحرى بذلك وكذلك القاتل عمدا إذا فعل ذلك مرة مع من كثر ذلك منه وداوم عليه وما أشبه ذلك فإن المفسدة بالمداومة أعظم منها في غيرها وأما بحسب الوقوع فقد جاء ما يقتضى ذلك كقوله عليه السلام في تارك الجمعة من ترك الجمعة ثلاث مرات طبع الله على قلبه رواه ابن خزيمة في صحيحه وهو على شرط مسلم فقيد بالثلاث كما ترى وقال في الحديث الآخر من تركها استخفافا بحقها أو تهاونا على شرط مسلم كذلك مع أنه لو تركها مختار غيرمتهاون ولا مستخف لكان تاركا للفرض فإنما 135 قال ذلك لأن مرات أولى في التحريم وكذلك لو تركها قصدا للاستخفاف والتهاون وانبنى على ذلك في الفقه أن من تركها ثلاث مرات من غير عذر لم تجز شهادته قاله سحنون وقال ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون إذ تركها مرارا لغير عذر لم تجز شهادته قاله سحنون وكذلك يقول الفقهاء فيمن ارتكب إثما ولم يكثر منه ذلك إنه لا يقدح في شهادته إذا لم يكن كبيرة فإن تمادى وأكثر منه كان قادحا في شهادته وصار في عداد من فعل كبيرة بناء على أن الإصرار على الصغيرة يصيرها كبيرة وأما إن قلنا إن الواجب ليس بمرادف للفرض فقد يطرد فيه ما تقدم فيقال إن الواجب إذ كان واجبا بالجزء كان فرضا بالكل لا مانع يمنع من ذلك فانظر فيه وفى أمثلته منزلا على مذهب الحنفية وعلى هذه الطريقة يستتب التعميم فيقال في الفرض إنه يختلف بحسب الكل والجزء كما تقدم بيانه أول الفصل وهكذا القول في الممنوعات أنها تختلف مراتبها بحسب الكل والجزء وإن عدت في الحكم في مرتبة واحدة وقتا ما أو في حالة ما فلا تكون كذلك في أحوال أخر بل يختلف الحكم فيها كالكذب من غير عذر وسائر الصغائر مع المداومة عليها فإن المداومة لها تأثير في كبرها وقد ينضاف الذنب إلى الذنب فيعظم بسبب الإضافة فليست 136 سرقة نصف النصاب كسرقة ربعه ولا سرقة النصاب كسرقة نصفه ولذلك عدوا سرقة لقمة والتطفيف بحبة من باب الصغائر مع أن السرقة معدودة من الكبائر وقد قال الغزالي قلما يتصور الهجوم على الكبيرة بغتة من غير سوابق ولواحق من جهة الصغائر قال ولو تصورت كبيرة وحدها بغتة ولم يتفق عوده إليها ربما كان العفو إليها أرجى من صغيرة واظب عليها عمره فصل هذا وجه من النظر مبنى على أن الأفعال كلها تختلف أحكامها بالكلية والجزئية من غير اتفاق ولمدع أن يدعى اتفاق أحكامها وإن اختلفت بالكلية والجزئية أما في المباح فمثل قتل كل مؤذ والعمل بالقراض والمساقاة وشراء العرية والإستراحة بعد التعب حيث لا يكون ذلك متوجه الطلب والتداوي إن قيل إنه مباح فإن هذه الأشياء إذا فعلت دائما أو تركت دائما لا يلزم من فعلها ولا من تركها إثم ولا كراهة ولا ندب ولا وجوب وكذلك لو ترك الناس كلهم ذلك اختيارا فهو كما لو فعلوه كلهم وأما في المندوب فكالتداوي إن قيل بالندب فيه لقوله عليه السلام تداووا اخرجه أبو داود عن ابي الدرداء وكالإحسان في قتل الدواب المؤذية لقوله إذا قتلتم فأحسنوا القتلة رواه الخمسة الا البخاري فإن هذه 137 الأمور لو تركها الإنسان دائما لم يكن مكروها ولا ممنوعا وكذلك لو فعلها دائما وأما في المكروه فمثل قتل النمل إذا لم تؤذ والاستجمار بالحممة والعظم وغيرهما مما ينقى إلا أن فيه تلويثا أو حقا للجن فليس النهى عن ذلك نهى تحريم ولا ثبت أن فاعل ذلك دائما يحرج به ولا يؤثم وكذلك البول في الجحر واختناث الأسقية في الشرب وأمثال ذلك كثيرة وأما في الواجب والمحرم فظاهر أيضا التساوي فإن الحدود وضعت على التساوي فالشارب للخمر مائة مرة كشاربها مرة واحدة وقاذف الواحد كقاذف الجماعة وقاتل نفس واحدة كقاتل مائة نفس في إقامة الحدود عليهم وكذلك تارك صلاة واحدة مع المديم الترك وما أشبه ذلك وأيضا فقد نص الغزالى على أن الغيبة أو سماعها والتجسس وسوء الظن وترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وأكل الشبهات وسب الولد والغلام وضربهما بحكم الغضب زائدا على حد المصلحة وإكرام السلاطين الظلمة والتكاسل عن تعليم الأهل والولد ما يحتاجون إليه من أمر الدين جار دوامها مجرى الفلتات في غيرها لأنها غالبة في الناس على الخصوص كما كانت الفلتات في غيرها غالبة فلا يقدح في العدالة دوامها كما لا تقدح فيها الفلتات فإذا ثبت هذا استقامت الدعوى في أن الأحكام قد تستوي وإن اختلفت الأفعال بحسب الكلية والجزئية ولصاحب النظر الأول أن يجيب بأن ما استشهد به على الاستواء محتمل 138 أما الأول فإن الكلي والجزئي يختلف بحسب الأشخاص والأحوال والمكلفين ودليل ذلك أنا إذا نظرنا إلى جواز الترك في قتل كل مؤذ بالنسبة إلى آحاد الناس خف الخطب فلو فرضنا تمالؤ الناس كلهم على الترك داخلهم الحرج من وجوه عدة والشرع طالب لدفع الحرج قطعا فصال الترك منهيا عنه نهي كراهة إن لم يكن أشد فيكون الفعل إذا مندوبا بالكل إن لم نقل واجبا وهكذا العمل بالقراض وما ذكر معه فلا استواء إذا بين الكلي والجزئي فيه وبحسبك في المسألة أن الناس لو تمالئوا على الترك لكان ذريعة إلى هدم معلم شرعى وناهيك به نعم قد يسبق ذلك النظر إذا تقارب ما بين الكلي والجزئي وأما إذا تباعد ما بينهما فالواقع ما تقدم ومثل هذا النظر جار في المندوب والمكروه وأما ما ذكره في الواجب والمحرم فغير وارد فإن اختلاف الأحكام في الحدود ظاهر وان اتفقت في بعض وما ذكره الغزالي فلا يسلم بناء على هذه القاعدة وإن سلم ففى العدالة وحدها لمعارض راجح وهو أنه لو قدح دوام ذلك فيها لندرت العدالة فتعذرت الشهادة فصل إذا تقرر تصوير الكلية والجزئية في الأحكام الخمسة فقد يطلب الدليل على صحتها والأمر فيها واضح مع تأمل ما تقدم في أثناء التقرير بل 139 هي في اعتبار الشريعة بالغة مبلغ القطع لمن استقرأ الشريعة في مورادها ومصادرها ولكن إن طلب مزيدا في طمأنينة القلب وانشراح الصدر فيدل على ذلك جمل منها ما تقدمت الإشارة إليه في التجريح بما داوم عليه الإنسان مما لا يجرح به لولم يداوم عليه وهو أصل متفق عليه بين العلماء في الجملة ولولا أن للمداومة تأثيرا لم يصح لهم التفرقة بين المداوم عليه وما لم يداوم عليه من الأفعال لكنهم اعتبروا ذلك فدل على التفرقة وأن المداوم عليه أشد وأحرى منه إذا لم يداوم عليه وهو معنى ما تقدم تقريره في الكلية والجزئية وهذا المسلك لمن اعتبره كاف ومنها أن الشارع وضع الشريعة على اعتبار المصالح باتفاق وتقرر في هذه المسائل أن المصالح المعتبرة هي الكليات دون الجزئيات إذ مجارى العادات كذلك جرت الأحكام فيها ولولا أن الجزئيات أضعف شأنا في الاعتبار لما صح ذلك بل لولا ذلك لم تجر الكليات على حكم الاطراد كالحكم بالشهادة وقبول خبر الواحد مع وقوع الغلط والنسيان في الآحاد لكن الغالب الصدق فأجريت الأحكام الكلية على ما هو الغالب حفظا على الكليات ولو اعتبرت الجزئيات لم يكن بينهما فرق ولامتنع الحكم إلا بما هو معلوم ولا طرح الظن باطلاق وليس كذلك بل حكم بمقتضى ظن الصدق وإن برز بعد في بعض الوقائع الغلط في ذلك الظن وما ذاك إلا اطراح لحكم الجزئية في حكم الكلية وهو دليل على صحة اختلاف الفعل 140 الواحد بحسب الكلية والجزئية وأن شأن الجزئية أخف ومنها ما جاء في الحذر من زلة العالم في علمه أو عمله إذا لم تتعد لغيره في حكم زلة غير العالم فلم يزد فيها على غيره فإن تعدت إلى غيره اختلف حكمها وما ذلك إلا لكونها جزئية إذا اختصت به ولم تتعد إلى غيره فإن تعدت صارت كلية بسبب الاقتداء والإتباع على ذلك الفعل أو على مقتضى القول فصارت عند الإتباع عظيمة جدا ولم تكن كذلك على فرض اختصاصها به ويجري مجراه كل من علم عملا فاقتدى به فيه إن صالحا فصالح وإن طالحا فطالح وفيه جاء من سن سنة حسنة أو سئية اخرجه مسلم وأن نفسا لا تقتل ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها لأنه أول من سن القتل رواه الخمسة وقد عدت سيئة العالم كبيرة لهذا السبب وإن كانت في نفسها صغيرة والأدلة على هذا الأصل تبلغ القطع على كثرتها وهي توضح ما دللنا عليه من كون الأفعال تعتبر بحسب الجزئية والكلية وهو المطلوب المسألة الثالثة المباح يطلق بإطلاقين أحدهما من حيث هو مخير فيه بين الفعل والترك والآخر من حيث يقال لا حرج فيه وعلى الجملة فهو على أربعة أقسام 141 أحدها أن يكون خادما لأمر مطلوب الفعل والثاني أن يكون خادما لأمر مطلوب الترك والثالث أن يكون خادما لمخير فيه والرابع أن لا يكون فيه شىء من ذلك فأما الأول فهو المباح بالجزء المطلوب الفعل بالكل وأما الثاني فهو المباح بالجزء المطلوب الترك بالكل بمعنى أن المداومة عليه منهى عنها وأما الثالث والرابع فراجعان إلى هذا القسم الثاني ومعنى هذه الجملة أن المباح كما مر يعتبر بما يكون خادما له إن كان خادما والخدمة هنا قد تكون في طرف الترك كترك الدوام على التنزه في البساتين وسماع تغريد الحمام والغناء المباح فإن ذلك هو المطلوب وقد تكون في طرف الفعل كالاستمتاع بالحلال من الطيبات فإن الدوام فيه 142 بحسب الإمكان من غير سرف مطلوب من حيث هو خادم لمطلوب وهو أصل الضروريات بخلاف المطلوب الترك فإنه خادم لما يضادها وهو الفراغ من الأشتغال بها والخادم للمخير فيه على حكمه وأما الرابع فلما كان غير خادم لشىء يعتد به كان عبثا أو كالعبث عند العقلاء فصار مطلوب الترك أيضا لأنه صار خادما لقطع الزمان في غير مصلحة دين ولا دنيا فهو إذا خادم لمطلوب الترك فصار مطلوب الترك بالكل والقسم الثالث مثله أيضا لأنه خادم له فصار مطلوب الترك أيضا وتلخص أن كل مباح ليس بمباح بإطلاق وإنما هو مباح بالجزء خاصة وأما بالكل فهو إما مطلوب الفعل أو مطلوب الترك فإن قيل أفلا يكون هذا التقرير نقضا لما تقدم من أن المباح هو المتساوى الطرفين فالجواب أن لا 143 لأن ذلك الذى تقدم هو من حيث النظر إليه في نفسه من غير اعتبار أمر خارج وهذا النظر من حيث اعتباره بالأمور الخارجة عنه فإذا نظرت إليه في نفسه فهو الذى سمى هنا المباح بالجزء وإذا نظرت إليه بحسب الأمور الخارجة فهو المسمي بالمطلوب بالكل فأنت ترى أن هذا الثوب الحسن مثلا مباح اللبس قد استوى في نظر الشرع فعله وتركه فلا قصد له في أحد الأمرين وهذا معقول واقع بهذا الإعتبار المقتصر به على ذات المباح من حيث هو كذلك وهو من جهة ما هو وقاية للحر والبرد وموار للسوأة وجمال في النظر مطلوب الفعل وهذا النظر غير مختص بهذا الثوب المعين ولا بهذا الوقت المعين فهو نظر بالكل لا بالجزء المسألة الرابعة إذا قيل في المباح إنه لا حرج فيه وذلك في أحد الإطلاقين المذكورين فليس بداخل تحت التخيير بين الفعل والترك لوجوه أحدها أنا إنما فرقنا بينهما بعد فهمنا من الشريعة القصد إلى التفرقة فالقسم المطلوب الفعل بالكل هو الذي جاء فيه التخيير بين الفعل والترك كقوله تعالى نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم وقوله وكلا منها رغدا حيث شئتما وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا والآية الأخرى في معناها فهذا تخيير 144 حقيقة وأيضا فالأمر في المطلقات إذا كان الأمر للإباحة يقتضي التخيير حقيقة كقوله تعالى وإذا حللتم فاصطادوا فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله كلوا من طيبات ما رزقناكم وما أشبه ذلك فإن إطلاقة مع أنه يكون على وجوه واضح في التخيير في تلك الوجوه إلا ما قام الدليل على خروجه عن ذلك وأما القسم المطلوب الترك بالكل فلا نعلم في الشريعة ما يدل على حقيقة التخيير فيه نصا بل هو مسكوت عنه أو مشار إلى بعضه بعبارة تخرجه عن حكم التخيير الصريح كتسمية الدنيا لعبا ولهوا في معرض الذم لمن ركن إليها فإنها مشعرة بأن اللهو غير مخير فيه وجاء وإذا رأو تجارة أو لهوا انفضوا إليها وهو الطبل أو ما في معناه وقال تعالى ومن الناس من يشترى لهو الحديث وما تقدم من قول بعض الصحابة حدثنا يا رسول الله حين ملوا ملة فأنزل الله عز وجل الله نزل أحسن الحديث وفي الحديث كل لهو باطل تقدم في المسألة السابقة وما أشبه ذلك من العبارات التي لا تجمتع مع التخيير في الغالب فإذا ورد في الشرع بعض هذه الأمور مقدرة أو كان فيها بعض الفسحة في بعض الأوقات أو بعض الأحوال فمعنى نفي الحرج على معنى الحديث الآخر وما سكت عنه فهو عفو أي مما عفي عنه وهذا 145 إنما يعبر به في العادة إشعارا بأن فيه ما يعفى عنه أو ما هو مظنة عنه أو هو مظنة لذلك فيما تجري به العادات وحاصل الفرق أن الواحد صريح في رفع الإثم والجناح وإن كان قد يلزمه الإذن في الفعل والترك إن قيل به إلا أن قصد اللفظ فيه نفي الإثم خاصة وأما الإذن فمن باب مالا يتم الواجب إلا به أو من باب الأمر بالشىء هل هو نهي عن ضده أم لا والنهي عن الشىء هل هو أمر بأحد أضداده أم لا والآخر صريح في نفس التخيير وإن كان قد يلزمه نفي الحرج عن الفعل فقصد اللفظ فيه التخيير خاصة وأما رفع الحرج فمن تلك الأبواب والدليل عليه أن رفع الجناح قد يكون مع الواجب كقوله تعالى فلا جناح عليه أن يطوف بهما وقد يكون مع مخالفة المندوب كقوله إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان فلو كان رفع للجناح يستلزم التخيير في الفعل والترك لم يصح مع الواجب ولا مع مخالفة المندوب وليس كذلك التخيير المصرح به فإنه لا يصح مع كون الفعل واجبا دون الترك ولا مندوبا وبالعكس 146 والثاني أن لفظ التخيير مفهوم منه قصد الشارع إلى تقرير الإذن في طرفي الفعل والترك وأنهما على سواء في قصد ورفع الحرج مسكوت عنه وأما لفظ رفع الجناح فمفهومه قصد الشارع إلى رفع الحرج في الفعل إن وقع من المكلف وبقي الإذن في ذلك الفعل مسكوتا عنه فيمكن أن يكون مقصودا له لكن بالقصد الثاني كما في الرخص فإنها راجعة إلى رفع الحرج كما سيأتي بيانه إن شاء الله فالمصرح به في أحدهما مسكوت عنه في الآخر وبالعكس فلذلك إذا قال الشارع في أمر واقع لاحرج فيه فلا يؤخذ منه حكم الإباحة إذ قد يكون كذلك وقد يكون مكروها فإن المكروه بعد الوقوع لا حرج فيه فليتفقد هذا في الأدلة والوجه الثالث مما يدل على أن مالا حرج فيه غير مخير فيه على الإطلاق أن المخير فيه لما كان هو الخادم للمطلوب الفعل صار خارجا عن محض اتباع الهوى بل اتباع الهوى فيه مقيد وتابع بالقصد الثاني فصار الداخل فيه داخلا تحت الطلب بالكل فلم يقع التخيير فيه إلا من حيث الجزء ولما كان مطلوبا بالكل وقع تحت الخارج عن اتباع الهوى من هذا الوجه وقد عرفنا اعتناء الشارع بالكليات والقصد إليها في التكاليف فالجزئي الذي لا يخرمه ليس بقادح في مقتضاه ولا هو مضاد له بل هو مؤكد له فاتباع الهوى في المخير فيه تأكيد لاتباع مقصود الشارع من جهة الكلي فلا ضرر في اتباع الهوى هنا لأنه اتباع لقصد الشارع ابتداء وإنما اتباع الهوى فيه خادم له 147 وأما قسم ما لا حرج فيه فيكاد يكون شبيها باتباع الهوى المذموم ألا ترى أنه كالمضاد لقصد الشارع في طلب النهي الكلي على الجملة لكنه لقلته وعدم دوامه ومشاركته للخادم المطلوب الفعل بالعرض حسبما هو مذكور في موضعه لم يحفل به فدخل تحت المرفوع الحرج إذ الجزئي منه لا يخرم أصلا مطلوبا وإن كان فتحا لبابه في الجملة فهو غير مؤثر من حيث هو جزئي حتى يجتمع مع غيره من جنسه والإجتماع مقو ومن هنالك يلتئم الكلي المنهي عنه وهو المضاد للمطلوب فعله وإذا ثبت أنه كاتباع الهوى من غير دخول تحت كلي أمر اقتضت الضوابط الشرعية أن لا يكون مخيرا فيه فتصريح بما تقدم في قاعدة اتباع الهوى وأنه مضاد للشريعة المسألة الخامسة إن المباح إنما يوصف بكونه مباحا إذا اعتبر فيه حظ المكلف فقط فإن خرج عن ذلك القصد كان له حكم آخر والدليل على ذلك أن المباح كما تقدم هو ما خير فيه بين الفعل والترك بحيث لا يقصد فيه من جهة الشرع إقدام ولا إحجام فهو إذا من هذا الوجه لا يترتب عليه أمر ضروري في الفعل أو في الترك ولا حاجي ولا تكميلي من حيث هو جزئي فهو راجع إلى نيل حظ عاجل خاصة وكذلك المباح الذي يقال لا حرج فيه أولى أن يكون راجعا إلى الحظ وأيضا فالأمر والنهي راجعان إلى حفظ ما هو ضروري 148 أو حاجي أو تكميلي وكل واحد منها قد فهم من الشارع قصده إليه فما خرج عن ذلك فهو مجرد نيل حظ وقضاء وطر فإن قيل فما الدليل على انحصار الأمر في المباح في حظ المكلف لا في غير ذلك وأن الأمر والنهي راجعان إلى حق الله لا إلى حظ المكلف ولعل بعض المباحات يصح فيه أن لا يؤخذ من جهة الحظ كما صح في بعض المأمورات والمنهيات أن تؤخذ من جهة الحظ فالجواب أن القاعدة المقررة أن الشرائع إنما جىء بها لمصالح العباد فالأمر والنهي والتخيير جميعا راجعة إلى حظ المكلف ومصالحه لأن الله غني عن الحظوظ منزه عن الأغراض غير أن الحظ على ضربين أحدهما داخل تحت الطلب فللعبد أخذه من جهة الطلب فلا يكون ساعيا في حظه وهو مع ذلك لا يفوته حظه لكنه آخذ له من جهة الطلب لا من حيث باعث نفسه وهذا معنى كونه بريئا من الحظ وقد يأخذه من حيث الحظ إلا أنه لما كان داخلا تحت الطلب فطلبه من ذلك الوجه صار حظه تابعا للطلب فلحق بما قبله في التجرد عن الحظ وسمي باسمه وهذا مقرر في موضعه من هذا الكتاب وبالله التوفيق والثاني غير داخل تحت الطلب فلا يكون آخذا له إلا من جهة إرادته واختياره لأن الطلب مرفوع عنه بالفرض فهو قد أخذه إذا من جهة حظه فلهذا يقال في المباح إنه العمل المأذون فيه المقصود به مجرد الحظ الدنيوي خاصة 149 المسألة السادسة الأحكام الخمسة إنما تتعلق بالأفعال والتروك بالمقاصد فإدا عريت عن المقاصد لم تتعلق بها والدليل على ذلك أمور أحدها ما ثبت من أن الأعمال بالنيات وهو أصل متفق عليه في الجملة والأدلة عليه لا تقصر عن مبلغ القطع ومعناه أن مجرد الأعمال من حيث هي محسوسة فقط غير معتبرة شرعا على حال إلا ما قام الدليل على اعتباره في باب خطاب الوضع خاصة أما في غير ذلك فالقاعدة مستمرة وإذا لم تكن معتبرة حتى تقترن بها المقاصد كان مجردها في الشرع بمثابة حركات العجماوات والجمادات والأحكام الخمسة لا تتعلق بها عقلا ولا سمعا فكذلك ما كان مثلها والثاني ما ثبت من عدم اعتبار الأفعال الصادرة من المجنون والنائم والصبي والمغمى عليه وأنها لا حكم لها في الشرع بأن يقال فيها جائز أو ممنوع أو واجب أو غير ذلك كما لا اعتبار بها من البهائم وفي القرآن وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وقال ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا قال قد فعلت وفي معناه روى الحديث رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه حديث صحيح وإن لم 150 يصح سندا فمعناه متفق على صحته وفي الحديث أيضا رفع القلم عن ثلاث فذكر الصبي حتى يحتلم والمغمى عليه حتى يفيق رواه احمد وابن خزيمة فجميع هؤلاء لا قصد لهم وهي العلة في رفع أحكام التكليف عنهم والثالث الإجماع على أن تكليف ما لا يطاق غير واقع في الشريعة وتكليف من لا قصد له تكليف ما لا يطاق فإن قيل هذا في الطلب وأما المباح فلا تكليف فيه قيل متى صح تعلق التخيير صح تعلق الطلب وذلك يستلزم قصد المخير وقد فرضناه غير قاصد هذا خلف ولا يعترض هذا بتعلق الغرامات والزكاة بالأطفال والمجانين وغير ذلك لأن هذا من قبيل خطاب الوضع وكلامنا في خطاب التكليف ولا بالسكران لقوله تعالى لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى فإنه قد أجيب عنه في أصول الفقه ولأنه في عقوده وبيوعه محجور عليه لحق نفسه كما حجر على الصبي والمجنون وفي سواهما لما أدخل السكر على نفسه كان كالقاصد 151 لرفع الأحكام التكليفية فعومل بنقيض المقصود أو لأن الشرب سبب لمفاسد كثيرة فصار استعماله له تسببا في تلك المفاسد فيؤآخذه الشرع بها وإن لم يقصدها كما وقعت مؤآخذة أحد ابني آدم بكل نفس تقتل ظلما وكما يؤآخذ الزاني بمقتضى المفسدة في اختلاط الأنساب وإن لم يقع منه غير الإيلاج المحرم ونظائر ذلك كثيرة فالأصل صحيح والإعتراض عليه غير وارد المسألة السابعة المندوب إذا اعتبرته اعتبارا أعم من الإعتبار المتقدم وجدته خادما للواجب لأنه إما مقدمة له أو تذكار به كان من جنس الواجب أولا فالذي من جنسه كنوافل الصلوات مع فرائضها ونوافل الصيام والصدقة والحج وغير ذلك مع فرائضها والذي من غير جنسه كطهارة الخبث في الجسد والثوب والمصلى والسواك وأخذ الزينة وغير ذلك مع الصلاة وكتعجيل الإفطار وتأخير السحور وكف اللسان عما لا يعنى مع الصيام وما أشبه ذلك فإذا كان كذلك فهو لاحق بقسم الواجب بالكل وقلما يشذ عنه مندوب يكون مندوبا بالكل والجزء ويحتمل هذا المعنى تقريرا ولكن ما تقدم مغن عنه بحول الله 152 فصل المكروه إذا اعتبرته كذلك مع الممنوع كان كالمندوب مع الواجب وبعض الواجبات منه ما يكون مقصودا وهو أعظمها ومنه ما يكون وسيلة وخادما للمقصود كطهارة الحدث وستر العورة واستقبال القبلة والأذان للتعريف بالأوقات وإظهار شعائر الإسلام مع الصلاة فمن حيث كان وسيلة حكمه مع المقصود حكم المندوب مع الواجب يكون وجوبه بالجزء دون وجوبه بالكل وكذلك بعض الممنوعات منه ما يكون مقصودا ومنه ما يكون وسيلة له كالواجب حرفا بحرف فتأمل ذلك المسألة الثامنة ما حد له الشارع وقتا محدودا من الواجبات أو المندوبات فإيقاعه في وقته لا تقصير فيه شرعا ولا عتب ولا ذم وإنما العتب والذم في إخراجه عن وقته سواء علينا أكان وقته مضيقا أو موسعا لأمرين أحدهما أن حد الوقت إما أن يكون لمعنى قصده الشارع أو لغير معنى وباطل أن يكون لغير معنى فلم يبق إلا أن يكون لمعنى وذلك المعنى هو أن يوقع الفعل فيه فإذا وقع فيه فذلك مقصود الشارع من ذلك التوقيت وهو 153 يقتضى قطعا موافقه الأمر في ذلك الفعل الواقع فيه فلو كان فيه عتب أو ذم للزم أن يكون لمخالفة قصد الشارع في إيقاعه في ذلك الوقت الذى وقع فيه العتب بسببه وقد فرضناه موافقا هذا خلف والثاني أنه لو كان كذلك للزم أن يكون الجزء من الوقت الذى وقع فيه العتب ليس من الوقت المعين لأنا قد فرضنا الوقت المعين مخيرا في أجزائه إن كان موسعا والعتب مع التخيير متنافيان فلا بد أن يكون خارجا عنه وقد فرضناه جزءا من أجزائه هذا خلف محال وظهور هذا المعنى غير محتاج إلى دليل فإن قيل قد ثبت أصل طلب المسارعة إلى الخيرات والمسابقة إليها وهو أصل قطعى وذلك لا يختص ببعض الأوقات دون بعض ولا ببعض الأحوال دون بعض إذا كان السبق إلى الخيرات مطلوبا بلابد فالمقصر عنه معدود في المقصرين والمفرطين ولا شك أن من كان هكذا فالتعب لاحق به في تفريطه وتقصيره فكيف يقال لا عتب عليه ويدل على تحقيق هذا ما روى عن أبى بكر الصديق رضى الله عنه أنه لما سمع قول النبى أول الوقت رضوان الله وآخره عفوا الله رواه الترمذي قال رضوان الله أحب الينا من عفوه فإن رضوانه للمحسنين وعفوه عن المقصرين وفى مذهب مالك ما يدل على هذا أيضا فقد قال في المسافرين يقدمون الرجل لسنه يصلي بهم فيسفر بصلاة الصبح قال يصلي الرجل وحده في أول الوقت أحب إلي من أن يصلي بعد الإسفار في جماعة فقدم كما ترى 154 حكم المسابقة ولم يعتبر الجماعة التى هي سنة يعد من تركها مقصرا فأولى أن يعد من ترك المسابقة مقصرا وجاء عنه أيضا فيمن أفطر في رمضان لسفر أو مرض ثم قدم أو صح في غير شعبان من شهور القضاء فلم يصمه حتى مات فعليه الإطعام وجعله مفرطا كمن صح أو قدم في شعبان فلم يصمه حتى دخل رمضان الثانى مع أن القضاء ليس على الفور عنده قال اللخمى جعله مترقبا ليس على الفور ولا على التراخي فإن قضى في شعبان مع القدرة عليه قبل شعبان فلا إطعام لأنه غير مفرط وإن مات قبل شعبان فمفرط وعليه الإطعام نحو قول الشافعية في الحج إنه على التراخى فإن مات قبل الأداء كان آثما فهذا أيضا رأي الشافعية مضاد لمقتضى الأصل المذكور فأنت ترى أوقاتا معينة شرعا إما بالنص وإما بالإجتهاد ثم صار من قصر عن المسابقة فيها ملوما معاتبا بل آثما في بعضها وذلك مضاد لما تقدم فالجواب أن أصل المسابقة إلى الخيرات لا ينكر غير أن ما عين له وقت معين من الزمان هل يقال إن إيقاعه في وقته المعين له مسابقة فيكون الأصل المذكور شاملا له أم يقال ليس شاملا له والأول هو الجارى على مقتضى الدليل فيكون قوله عليه السلام حين سئل عن أفضل الأعمال فقال الصلاة لأول وقتها ذكره أبو داود والترمذي في الترغيب والترهيب يريد به وقت الاختيار مطلقا ويشير إليه أنه عليه السلام حين علم الأعرابي الأوقات صلى فى 155 أوائل الأوقات وأواخرها وحد ذلك حدا لا يتجاوز ولم ينبه فيه على تقصير وإنما نبه على التقصير والتفريط بالنسبة إلى ما بعد ذلك من أوقات الضرورات إذا صلى فيها من لا ضرورة له إذ قال تلك صلاة المنافقين عن الستة الا البخاري الحديث فبين أن وقت التفريط هو الوقت الذى تكون الشمس فيه بين قرني الشيطان فإنما ينبغى أن يخرج عن وصف المسابقة والمسارعة من خرج عن الإيقاع في ذلك الوقت المحدود وعند ذلك يسمى مفرطا ومقصرا وآثما أيضا عند بعض الناس وكذلك الواجبات الفورية وأما المقيدة بوقت العمر فإنها لما قيد آخرها بأمر مجهول كان ذلك علامة على طلب المبادرة والمسابقة في أول أزمنة الإمكان فإن العاقبة مغيبة فإذا عاش المكلف ما في مثله يؤدى ذلك المطلوب فلم يفعل مع سقوط الأعذار عد ولابد مفرطا وأثمه الشافعي لأن المبادرة هي المطلوب لا أنه على التحقيق مخير بين أول الوقت وآخره فإن آخره غير معلوم وإنما المعلوم منه ما في اليد الآن فليست هذه المسألة من أصلنا المذكور فلا تعود عليه بنقض وأيضا فلا ينكر استحباب المسابقة بالنسبة إلى الوقت المعين لكن بحيث لا يعد المؤخر عن أول الوقت الموسع مقصرا وإلا لم يكن الوقت على حكم التوسعة وهذا كما في الواجب المخير في خصال الكفارة فإن للمكلف الإختيار في الأشياء المخير فيها وإن كان الأجر فيها يتفاوت فيكون بعضها أكثر أجرا من بعض كما يقول بذلك في الإطعام في كفارة رمضان مع وجود التخيير في الحديث وقول مالك به وكذلك العتق في كفارة الظهار أو القتل أو غيرهما هو مخير في أي الرقاب شاء مع أن الأفضل أعلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها ولا يخرج بذلك التخيير عن بابه ولا يعد مختار غير الأعلى 156 مقصرا ولا مفرطا وكذلك مختار الكسوة أو الإطعام في كفارة اليمين وما أشبه ذلك من المطلقات التى ليس للشارع قصد في تعيين بعض أفرادها مع حصول الفضل في الأعلى منها وكما أن الحج ماشيا أفضل ولا يعد الحاج راكبا مفرطا ولامقصرا وكثرة الخطا إلى المساجد أفضل من قلتها ولا يعد من كان جار المسجد بقلة خطاه له مقصرا بل المقصر هو الذى قصر عما حد له وخرج عن مقتضى الأمر المتوجه إليه وليس في مسألتنا ذلك وأما حديث أبى بكر رضي الله عنه فلم يصح وإن فرضنا صحته فهو معارض بالأصل القطعي وإن سلم فمحمول على التأخير عن جميع الوقت المختار وإن سلم فأطلق لفظ التقصير على ترك الأولى من المسارعة إلى تضعيف الأجور لا أن المؤخر مخالف لمقتضى الأمر وأما المسائل مالك فلعل استحبابه لتقديم الصلاة وترك الجماعة مراعاة للقول بأن للصبح وقت ضرورة وكان الإمام قد أخر إليه وما ذكر في إطعام التفريط في قضاء رمضان بناء على القول بالفور في القضاء فلا يتعين فيها ما ذكر في السؤال فلا اعتراض بذلك وبالله التوفيق المسألة التاسعة الحقوق الواجبة على المكلف على ضربين كانت من حقوق الله كالصلاة والصيام والحج أو من حقوق الآدميين كالديون والنفقات والنصيحة وإصلاح ذات البين وما أشبه ذلك أحدهما حقوق محدودة شرعا والآخر حقوق غير محدودة فأما المحدودة المقدرة فلازمة لذمة المكلف مترتبهة عليه دينا حتى يخرج عنها كأثمان المشتريات وقيم المتلفات ومقادير الزكوات وفرائض الصلوات وما أشبه ذلك فلا إشكال في أن مثل هذا مترتب في ذمته دينا 157 عليه والدليل على ذلك التحديد والتقدير فإنه مشعر بالقصد إلى أداء ذلك المعين فإذا لم يؤده فالخطاب باق عليه ولا يسقط عنه إلا بدليل وأما غير المحدودة فلازمه له وهو مطلوب بها غير أنها لا تترتب في ذمته لأمور أحدها أنها لو ترتبت في ذمته لكانت محدودة معلومة إذ المجهول لا يترتب في الذمة ولا يعقل نسبته إليها فلا يصح أن يترتب دينا وبهذا استدللنا على عدم الترتب لأن هذه الحقوق مجهولة المقدار والتكليف بأداءنا لا يعرف له مقدار تكليف بمتعذر الوقوع وهو ممتنع سمعا ومثاله الصدقات المطلقة وسد الخلات ودفع حاجات المحتاجين وإغاثة الملهوفين وإنقاذ الغرقى والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويدخل تحته سائر فروض الكفايات فإذا قال الشارع أطعموا القانع والمعتر أو قال أكسوا العارى أو أنفقوا في سبيل الله فمعنى ذلك طلب رفع الحاجة في كل واقعة بحسبها من غير تعيين مقدار فإذا تعينت حاجة تبين مقدار ما يحتاج إليه فيها بالنظر لا بالنص فإذا تعين جائع فهو مأمور بإطعامه وسد خلته بمقتضى ذلك الإطلاق فإن أطعمه ما لا يرفع عنه الجوع فالطلب باق عليه ما لم يفعل من ذلك ما هو كاف ورافع للحاجة التى من أجلها أمر ابتداء والذى هو كاف يختلف بإختلاف الساعات والحالات في ذلك المعين فقد يكون في الوقت غير مفرط الجوع فيحتاج إلى مقدار من الطعام فإذا تركه حتى أفرط 158 عليه احتاج إلى أكثر منه وقد يطعمه آخر فيرتفع عنه الطلب رأسا وقد يطعمه آخر ما لا يكفيه فيطلب هذا بأقل مما كان مطلوبا به فإذا كان المكلف به يختلف بإختلاف الأحوال والأزمان لم يستقر للترتيب في الذمة أمر معلوم يطلب ألبتة وهذا معنى كونه مجهولا فلا يكون معلوما إلا في الوقت الحاضر بحسب النظر لا بمقتضى النص فإذا زال الوقت الحاضر صار في الثانى مكلفا بشىء آخر لا بالأول أو سقط عنه التكليف إذا فرض ارتفاع الحاجة العارضة والثانى أنه لو ترتب في ذمته أمر لخرج إلى ما لا يعقل لأنه في كل وقت من أوقات حاجة المحتاج مكلف بسدها فإذا مضى وقت يسع سدها بمقدار معلوم مثلا ثم لم يفعل فترتب في ذمته ثم جاء زمان ثان وهو على حاله أو أشد فأما أن يقال إنه مكلف أيضا بسدها أولا والثانى باطل إذ ليس هذا الثانى بأولى بالسقوط من الأول لأنه إنما كلف لأجل سد الخلة فيرتفع التكليف والخلة باقية هذا محال فلا بد أن يترتب في الذمة ثانيا مقدار ما تسد به الحاجة ذلك الوقت وحينئذ يترتب في ذمته في حق واحد قيم كثيرة بعدد الأزمان الماضية وهذا غير معقول في الشرع والثالث أن هذا يكون عينا أو كفاية وعلى كل تقدير يلزم إذا لم يقم به أحد أن يترتب إما في ذمة واحد غير معين وهو باطل لا يعقل وإما في ذمم جميع الخلق مقسطا فكذلك للجهل بمقدار ذلك القسط لكل واحد أوغير مقسط فيلزم فيما قيمته درهم أن يترتب في ذمم مائة ألف رجل مائة ألف درهم وهو باطل كما تقدم والرابع لو ترتب في ذمته لكان عبثا ولا عبث في التشريع فإنه 159 إذا كان المقصود دفع الحاجة فعمران الذمة ينافي هذا المقصد إذ المقصود إزالة هذا العارض لا غرم قيمة العارض فإذا كان الحكم بشغل الذمة منافيا لسبب الوجوب كان عبثا غير صحيح لا يقال إنه لازم في الزكاة المفروضة وأشباهها إذ المقصود بها سد الخلات وهى تترتب في الذمة لأنا نقول نسلم أن المقصود ما ذكرت ولكن الحاجة التى تسد بالزكاة غير متعينه على الجملة ألا ترى أنها تؤدي اتفاقا وأن لم تظهر عين الحاجة فصارت كالحقوق الثابتة بمعاوضة أو هبة فللشرع قصد في تضمين المثل أو القيمة فيها بخلاف ما نحن فيه فإن الحاجة فيه متعينة فلا بد من إزالتها ولذلك لا يتعين لها مال زكاة من غيره بل بأي مال ارتفعت حصل المطلوب فالمال غير مطلوب لنفسه فيها فلو ارتفع العارض بغير شىء لسقط الوجوب والزكاة ونحوها لا بد من بذلها وإن كان محلها غير مضطر إليها في الوقت ولذلك عينت وعلى هذا الترتيب في بذل المال للحاجة يجري حكم سائر أنواع هذا القسم فإن قيل لو كان الجهل مانعا من الترتب في الذمة لكان مانعا من أصل التكليف أيضا لأن العلم بالمكلف به شرط في التكليف إذ التكليف بالمجهول تكليف بما لا يطاق فلو قيل لأحد أنفق مقدارا لا تعرفه أو صل صلوات لا تدري كم هي أو انصح من لا تدريه ولا تميزه وما أشبه ذلك لكان تكليفا بما لا يطاق إذ لا يمكن العلم بالمكلف به أبدا إلا بوحي 160 وإذا علم بالوحي صار معلوما لا مجهولا والتكليف بالمعلوم صحيح هذا خلف فالجواب أن الجهل المانع من أصل التكليف هو المتعلق بمعين عند الشارع كما لو قال أعتق رقبة وهو يريد الرقبة الفلانية من غير بيان فهذا هو الممتنع أما ما لم يتعين عند الشارع بحسب التكليف فالتكليف به صحيح كما صح في التخيير بين الخصال في الكفارة إذ ليس للشارع قصد في إحدى الخصال دون ما بقى فكذلك هنا إنما مقصود الشارع سد الخلات على الجملة فما لم يتعين خلة فلا طلب فإذا تعينت وقع الطلب هذا هو المراد هنا وهو ممكن للمكلف مع نفي التعيين في مقدار ولا في غيره وهنا ضرب ثالث آخذ بشبه من الطرفين الأولين فلم يتمحض لأحدهما هو محل اجتهاد كالنفقة على الأقارب والزوجات ولأجل ما فيه من الشبه بالضر بين اختلف الناس فيه هل له ترتب في الذمة أم لا فإذا ترتب فلا يسقط بالإعسار فالضرب الأول لاحق بضروريات الدين ولذلك محض بالتقدير والتعيين والثانى لاحق بقاعدة التحسين والتزيين ولذلك وكل إلى اجتهاد المكلفين والثالث آخذ من الطرفين بسبب متين فلا بد فيه من النظر في كل وافعة على التعيين والله أعلم فصل وربما انضبط الضربان الأولان بطلب العين والكفاية فإن حاصل الأول أنه طلب مقدر على كل عين من أعيان المكلفين وحاصل 161 الثانى إقامة الأود العارض في الدين وأهله إلا أن هذا الثانى قد يدخل فيه ما يظن أنه طلب عين ولكنه لا يصير طلبا متحتما في الغالب إلا عند كونه كفاية كالعدل والإحسان وإيتاء ذى القربى وأما إذا لم يتحتم فهو مندوب وفروض الكفايات مندوبات على الأعيان فتأمل هذا الموضع وأما الضرب الثالث فآخذ شبها من الطرفين أيضا فلذلك اختلفوا في تفاصيله حسبما ذكره الفقهاء والله أعلم المسألة العاشرة يصح أن يقع بين الحلال والحرام مرتبة العفو فلا يحكم عليه بأنه واحد من الخمسة المذكورة هكذا على الجملة ومن الدليل على ذلك أوجه أحدها ما تقدم من أن الأحكام الخمسة إنما تتعلق بأفعال المكلفين 162 مع القصد إلى الفعل وأما دون ذلك فلا وإذا لم يتعلق بها حكم منها مع وجدانه ممن شأنه أن تتعلق به فهو معنى العفو المتكلم فيه أي لا مؤآخذة به والثانى ما جاء من النص على هذه المرتبة على الخصوص فقد روى عن النبى أنه قال إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها رواه الدارقطني ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها وحد حدودا فلا تعتدوها وعفا عن أشياء رحمة بكم لا عن نسيان فلا تبحثوا عنها رواه الدارقطني وقال ابن عباس ما رأيت قوما خيرا من أصحاب محمد ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض كلها في القرآن يسألونك عن المحيض و يسألونك عن اليتامى و يسألونك عن الشهر الحرام ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم يعنى أن هذا كان الغالب عليهم وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال مالم يذكر في القرآن فهو مما عفا الله عنه وكان يسأل عن الشىء لم يحرم فيقول عفو وقيل له ما تقول في أموال أهل الذمة فقال العفو يعنى لا تؤخذ منهم زكاة وقال عبيد ابن عمير أحل الله حلالا وحرم حراما فما أحل فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو والثالث ما يدل على هذا المعنى في الجملة كقوله تعالى عفا الله عنك 163 لم آذنت لهم الآية فإنه موضع اجتهاد في الإذن عند عدم النص وقد ثبت في الشريعة العفو عن الخطأ في الاجتهاد حسبما بسطه الأصوليون ومنه قوله تعالى لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم وقد كان النبي عليه السلام يكره كثرة السؤال فيما لم ينزل فيه حكم بناء على حكم البراءة الأصلية إذ هى راجعة إلى هذا المعنى ومعناها أن الأفعال معها معفو عنها وقد قال إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شىء لم يحرم عليهم فحرم عليهم من أجل مسألته وقال ذروني ما تركتكم فإنما هلك من قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على انبياءهم ما نهيتكم عنه فانتهوا وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم وقرأ عليه السلام قوله تعالى ولله على الناس حج البيت الآية فقال رجل يا رسول الله أكل عام فأعرض ثم قال يا رسول الله أكل عام فأعرض ثم قال يا رسول الله أكل عام فقال رسول الله والذى نفسى بيده لو قلتها لو جبت ولو جبت ما قمتم بها ولو لم تقوموا بها لكفرتم فذروني ما تركتكم ثم ذكر معنى ما تقدم وفى مثل هذا نزلت يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم الآية ثم قال عفا الله عنها أى عن تلك الأشياء فهى إذا عفو وقد كره عليه السلام المسائل وعابها ونهى عن كثرة السؤال وقام يوما وهو يعرف في وجهه الغضب فذكر الساعة وذكر قبلها أمورا عظاما ثم قال من أحب أن يسأل عن شىء فليسأل عنه فوالله لا تسألوني عن شىء إلا أخبرتكم به ما دامت في مقامى هذا قال أنس فأكثر الناس من البكاء حين سمعوا ذلك وأكثر رسول الله أن يقول سلوني فقام 164 عبدالله بن حذافة السهمي فقال من أبي قال أبوك حذافة فلما أكثر أن يقول سلوني برك عمر بن الخطاب على ركبتيه فقال يا رسول الله رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا قال فسكت رسول الله حين قال عمر ذلك فنزلت الآية وقال أولا والذي نفسي بيدي لقد عرضت على الجنة والنار آنفا في عرض هذا الحائط وأنا أصلي فلم أر كاليوم في الخير والشر وظاهر من هذا المساق أن قوله سلوني في معرض الغضب تنكيل بهم في السؤال حتى يروا عاقبة السؤال ولأجل ذلك جاء قوله تعالى إن تبد لكم تسؤكم وقد ظهر من هذه الجملة ما يعفى عنه وهو ما نهى عن السؤال عنه فكون الحج لله هو مقتضى الآية كما أن كونه للعام الحاضر تقتضيه أيضا فلما سكت عن التكرار كان الذي ينبغي الحمل على أخف محتملاته وإن فرض أن الإحتمال الآخر مراد فهو مما يعفى عنه ومثل هذا قصة أصحاب البقرة لما شددوا بالسؤال وكانوا متمكنين من ذبح أي بقرة شاؤا شدد عليهم حتى ذبحوها وما كادوا يفعلون فهذا كله واضح في أن من أفعال المكلفين ما لا يحسن السؤال عنه وعن حكمه ويلزم من ذلك أن يكون معفوا عنه فقد ثبت أن مرتبة العفو ثابتة وأنها ليست من الأحكام الخمسة فصل ويظهر هذا المعنى في مواضع من الشريعة منها ما يكون متفقا عليه ومنها ما يختلف فيه فمنها الخطأ والنسيان فإنه متفق على عدم المؤاخذة