ملك الهدهاد ابنه
وولى ابنه الهدهاد بن شرحبيل بن عمرو وهو الهدهاد أبو بلقيس الملكة باليمن، وكان الهدهاد بن شرحبيل رجلاً شجاعاً حازماً. قال أبو محمد، حدثنا ابن لهيعة عن مكحول عن أبي صالح عن ابن عباس قال: إنه لما ولي الهدهاد بن شرحبيل، زحف إليه عمرو ذو الاذعار وبرز إليه الهدهاد والتقوا بموضع معروف باليمن فتحاربوا أياماً فلما فصل العسكران، وبرز بعضهما إلى بعض، خرج الهدهاد على ناقة في زي أعرابي حتى وصل إلى عساكر عمرو ذي الاذعار، فطاف به وتدبر عساكره، ثم سمع لغطهم وما يتوعدون به عمراً ذا الاذعار من الخذلان واسترق ما يريدون له فزاده ذلك عزماً إلى لقاء عمرو، فانصرف الهدهاد يريد عساكره، فسار حتى بلغ إلى شرف العالية في يوم قائظ أجرهد فيه الصخور، والتهبت الهواجر وقال الضب: فنظر إلى شجاع أسود عظيم هارب وفي طلبه رقيق أبيض فأدركه فاقتتلا حتى لغبا، ثم افترقا، ثم أقبل الشجاع الأبيض إلى الهدهاد فتشبث مع ذراع ناقته حتى بلغ رأسه إلى كتفها ففتح فمه كالمستغيث، ثم عطف في طلب الأسود فأدركه فاقتتلا طويلاً فلغبا فافترقا، وأقبل الأبيض إلى الهدهاد كما فعل أولاً كالمستغيث فصب الهدهاد الماء في فيه حتى روي، ثم أقبل على الأسود وأخذه، فلم يزل الأبيض حتى قتل الأسود، ثم مضى على وجهه حتى غاب عنه، ومضى الهدهاد إلى شعب عظيم فاختفى فيه، فبينما هو مستتر بشجر أراك إذ سمع كلاماً فراغه سيفه فأقبل إليه نفر جان حسان الوجوه عليهم زي حسن فدنوا منه فقالوا: عم صباحاً يا هدهاد. لا بأس عليك وجلسوا وجلس فقالوا له: أتدري من نحن؟ قال: لا. قالوا: نحن من الجن ولك عندنا يد عظيمة. قال: وما هي؟ قالوا له: هذا الفتى أخونا من أبناء ملوكنا هرب له علام أسود فطلبه فأدركه بين يديك فكان ما رأيت وفعلت فنظر الهدهاد إلى شاب أبيض أكحل في وجهه آثار خداش. قال له: أنت هو! قال: نعم، قالوا له: ما جزاؤك عندنا يا هدهاد إلا أخته نزوجها منك وهي رواحة بنت سكن. فزوجوه إياها وقالوا له: لها عليك شرط لا تسألها عن شيء تفعله مما تستنكر منها فإن سألتها فهو فراقها قال: نعم، قالوا له ارجع إلى قصرك بينون فإنها تأتيك ليلة كذا ارجع فلا تقم لأن عمر ذا الاذعار ورجع إلى غمدان بعد انصرافك عنه، فرجع الهدهاد وفرق عساكره، ولحقه الخبر أن عمراً رجع فجلس في الليلة التي أمروه أن يجلس فيها مرتقباً حتى أحس ثقلاً في القصر وهرب جميع من معه في القصر من ثقل الذي أحسوه ووحشة داخلت قلوبهم حتى أتوا بها إليه فأدخلوها عليه وأولدها ولداً ذكراً، فلما شب وصار ابن سنة، فبينما هو يناعيه اذ أقبلت كلبة من باب المجلس فأخذت برجب الطفل وجرته حتى ذهبت به عنه فغاب فنظر إلى رواحة فسكتت وسكت، ثم ولدت أنثى، فلما صارت بذلك السن أتت الكلبة فجرت برجلها وهو ينظر فسكت وغابت عنه، ثم ولدت ذكراً، فلما بلغ سن أخيه وأخته أتت الكلبة وفعلت ما فعلت أولاً قال لها: يا رواحة، قالت له: كيف؟ قال لها: أكف ما نال هؤلاء الأطفال؟ قالت له: فارقتك يا هدهاد اعلم إنه لم يجر منهم أحد بل هو محمولون وتلك درة تحملهم وتربيهم حتى يبلغوا خمس سنين فيأتوك أنقياء. فأما ابنك الأول فقد مات أحسن الله عزاءك فيه وأما الآخر فإنه يأتيك وليس يعيش بعد أبي وهو يموت، وأنا ابنتك فإنها تأتيك وتعيش لك. ثم ذهبت عنه بعدها ووجد في الفراش ابنه وبنته بلقيس، فمات الصبي وعاشت بلقيس، وقد رد هذا الحديث عامة من العلماء ويقبله عامة من العلماء، والله أعلم أي ذلك كان.
فأقام الهدهاد في الملك عشرين سنة فلما حضرته الوفاة أحضر جميع وجوه حمير وأبناء ملوكهم وأهل المشورة من بني قحطان فقال: يا بني قحطان أما أنكم تعلمون فضل رأي بلقيس علي فإنها لا تخطئ ما تشير به عليكم كيف تجدون بركة رأيها؟ قالوا: نعم قال: وإنها أعقل النساء والرجال، قالوا: نعم قال: فاني استخلفها عليكم، فقال له رجل منهم: أيها الملك تدع أفاضل قومك وأهل ملتك وتستخلف علينا امرأة وإن كانت بالمكان الذي هي منك ومنا؟ قال: يا معاشر حمير إني رأيت الرجال وعجمت أهل الفضل وسبرتهم وشهدت من أدركت من ملوكها فلا والذي أحلف به ما رأيت مثل بلقيس رأياً وعلماً وحلماً مع أن أمها من الجن واني أرجو أن تظهر لكم عامة أمور الجن مما تنتفعون به وعقبكم ما كانت الدنيا فاقبلوا رأيي فإنها مع اختياري فيها مؤدبة لغيرها من أهل بيتها واني كنت سميت الملك لمالك بن عمرو بن يعفر بن حمير بن عمي وهو غلام له حزم وعقل فإذا بلغ فله الملك أما في حياتها وأما بعد موتها. قالوا: سمعنا وأطعنا أيها الملك انظر لنا. فمات الهدهاد بن شرحبيل وولي الملك بلقيس.