مقدمة ابن خلدون - الجزء الثالث
الباب الثالث من الكتاب الأول في الدول العامة والملك والخلافة والمراتب السلطانية
وما يعرض في ذلك كله من الأحوال وفيه قواعد ومتممات
الفصل الأول في أن الملك والدولة العامة إنما يحصلان بالقبيل والعصبية
وذلكَ أنّا قرّرنا في الفصل الأوّل أنّ المغالبة والممانعة إنّما تكون بالعصبيّة لما فيها من النّعرة والتّذامر 1 وأستماتة كلّ واحد منهم دون صاحبه. ثمّ إنّ الملك منصب شريف ملذوذ يشتمل على الجميع الخيرات الدّنيويّة والشّهوات البدنيّة والملاذّ النّفسانيّة فيقع فيه التّنافس غالبا وقلّ أن يسلّمه أحد لصاحبه إلّا إذا غلب عليه فتقع المنازعة وتفضي إلى الحرب والقتال والمغالبة وشيء منها لا يقع إلّا بالعصبيّة كما ذكرناه آنفا وهذا الأمر بعيد عن أفهام الجمهور بالجملة ومتناسون له لأنّهم نسوا عهد تمهيد الدّولة منذ أوّلها وطال أمد مرباهم في الحضارة وتعاقبهم فيها جيلا بعد جيل فلا يعرفون ما فعل الله أوّل الدّولة إنّما يدركون أصحاب الدّولة وقد استحكمت صبغتهم ووقع التّسليم لهم والاستغناء عن العصبيّة في تمهيد أمرهم ولا يعرفون كيف كان الأمر من أوّله وما لقي أوّلهم من المتاعب دونه وخصوصا أهل الأندلس في نسيان هذه العصبيّة وأثرها لطول الأمد واستغنائهم في الغالب عن قوّة العصبيّة بما تلاشى وطنهم وخلا من العصائب والله قادر على ما يشاء وهو بكلّ شيء عليم وهو حسبنا ونعم الوكيل.
الفصل الثاني في أنه إذا استقرت الدولة وتمهدت فقد تستغني عن العصبية
والسّبب في ذلك أنّ الدّول العامّة في أوّلها يصعب على النّفوس الانقياد لها إلّا بقوّة قويّة من الغلب للغرابة وأنّ النّاس لم يألفوا ملكها ولا اعتادوه فإذا استقرّت الرّئاسة في أهل النّصاب المخصوص بالملك في الدّولة وتوارثوه واحدا بعد آخر في أعقاب كثيرين ودول متعاقبة نسيت النّفوس شأن الأوّليّة واستحكمت لأهل ذلك النّصاب صبغة الرّئاسة ورسخ في العقائد دين الانقياد لهم والتّسليم وقاتل النّاس معهم على أمرهم قتالهم على العقائد الإيمانيّة فلم يحتاجوا حينئذ في أمرهم إلى كبير عصابة بل كأنّ طاعتها كتاب من الله لا يبدّل ولا يعلم خلافه ولأمر ما يوضع الكلام في الإمامة آخر الكلام على العقائد الإيمانيّة كأنّه من جملة عقودها ويكون استظهارهم حينئذ على سلطانهم ودولتهم المخصوصة إمّا بالموالي والمصطنعين الّذين نشئوا في ظلّ العصبيّة وغيرها وإمّا بالعصائب الخارجين عن نسبها الدّاخلين في ولايتها ومثل هذا وقع لبني العبّاس فإنّ عصبيّة العرب كانت فسدت لعهد دولة المعتصم وابنه الواثق واستظهارهم بعد ذلك إنّما كان بالموالي من العجم والتّرك والدّيلم والسّلجوقيّة وغيرهم ثمّ تغلّب العجم الأولياء على النّواحي وتقلّص ظلّ الدّولة فلم تكن تعدو أعمال بغداد حتّى زحف إليها الدّيلم وملكوها وصار الخلائق في حكمهم ثمّ انقرض أمرهم وملك السّلجوقيّة من بعدهم فصاروا في حكمهم ثمّ انقرض أمرهم وزحف آخر التّتار فقتلوا الخليفة ومحوا رسم الدّولة وكذا صنهاجةبالمغرب فسدت عصبيّتهم منذ المائة الخامسة أو ما قبلها واستمرّت لهم الدّولة متقلّصة الظّلّ بالمهديّة وبجاية والقلعة وسائر ثغور إفريقية وربّما انتزى 2 بتلك الثّغور من نازعهم الملك واعتصم فيها والسّلطان والملك مع ذلك مسلم لهم حتّى تأذّن الله بانقراض الدّولة وجاء الموحّدون بقوّة قويّة من العصبيّة في المصامدة فمحوا آثارهم وكذا دولة بني أميّة بالأندلس لمّا فسدت عصبيّتها من العرب استولى ملوك الطّوائف على أمرها واقتسموا خطّتها وتنافسوا بينهم وتوزّعوا ممالك الدّولة وانتزى كلّ واحد منهم على ما كان في ولايته وشمخ بأنفه وبلغهم شأن العجم مع الدّولة العبّاسيّة فتلقّبوا بألقاب الملك ولبسوا شارته وأمنوا ممّن ينقض ذلك عليهم أو يغيّره لأنّ الأندلس ليس بدار عصائب ولا قبائل كما سنذكره واستمرّ لهم ذلك كما قال ابن شرف. ممّا يزهّدني في أرض أندلس ... أسماء معتصم فيها ومعتضد ألقاب مملكة في غير موضعها ... كالهرّ يحكي انتفاخا صورة الأسد فاستظهروا على أمرهم بالموالي والمصطنعين والطّراء 3 على الأندلس من أهل العدوة من قبائل البربر وزناتة وغيرهم اقتداء بالدّولة في آخر أمرها في الاستظهار بهم حين ضعفت عصبيّة العرب واستبدّ بن أبي عامر على الدّولة فكان لهم دول عظيمة استبدّت كلّ واحدة منها بجانب من الأندلس وحظّ كبير من الملك على نسبة الدّولة الّتي اقتسموها ولم يزالوا في سلطانهم ذلك حتّى جاز إليهم البجر المرابطون أهل العصبيّة القويّة من لمتونة فاستبدلوا بهم وأزالوهم عن مراكزهم ومحوا آثارهم ولم يقتدروا على مدافعتهم لفقدان العصبيّة لديهم فبهذه العصبيّة يكون تمهيد الدّولة وحمايتها من أوّلها وقد ظنّ الطّرطوشيّ أنّ حامية الدّول بإطلاق هم الجند أهل العطاء المفروض مع الآهلة ذكر ذلك في كتابه الّذي سمّاه سراج الملوك وكلامه لا يتناول تأسيس الدّول العامّة في أوّلها وإنّما هو مخصوص بالدّول الأخيرة بعد التّمهيد واستقرار الملك في النّصاب واستحكام الصّبغة لأهله فالرّجل إنّما أدرك الدّولة عند هرمها وخلق جدّتها ورجوعها إلى الاستظهار بالموالي والصّنائع ثمّ إلى المستخدمين من ورائهم بالأجر على المدافعة فإنّه إنّما أدرك دول الطّوائف وذلك عند اختلال بني أميّة وانقراض عصبيّتها من العرب واستبداد كلّ أمير بقطرة وكان في إيالة المستعين بن هود وابنه المظفّر أهل سرقسطة ولم يكن بقي لهم من أمر العصبيّة شيء لاستيلاء التّرف على العرب منذ ثلاثمائة من السّنين وهلاكهم ولم ير إلّا سلطانا مستبدّا بالملك عن عشائره قد استحكمت له صبغة الاستبداد منذ عهد الدّولة وبقيّة العصبيّة فهو لذلك لا ينازع فيه ويستعين على أمره بالأجراء من المرتزقة فأطلق الطّرطوشيّ القول في ذلك ولم يتفطّن لكيفيّة الأمر منذ أوّل الدّولة وإنّه لا يتمّ إلّا لأهل العصبيّة فتفطّن أنت له وافهم سرّ الله فيه وَالله يُؤْتِي مُلْكَهُ من يَشاءُ 2: 247.
الفصل الثالث في أنه قد يحدث لبعض أهل النصاب الملكي الدولة تستغني عن العصبية
وذلك أنّه إذا كان لعصبيّة غلب كثير على الأمم والأجيال وفي نفوس القائمين بأمره من أهل القاصية إذعان لهم وإنقياد فإذا نزع إليهم هذا الخارج وانتبذ عن مقرّ ملكه ومنبت عزّه اشتملوا عليه وقاموا بأمره وظاهروه على شأنه وعنوا بتمهيد دولته يرجون استقراره في نصابه وتناوله الأمر من يد أعياصه 4 وجزاءه لهم على مظاهرته باصطفائهم لرتب الملك وخططه من وزارة أو قيادة أو ولاية ثغر ولا يطمعون في مشاركته في شيء من سلطانه تسليما لعصبيّته وانقيادا لما استحكم له ولقومه من صبغة الغلب في العالم وعقيدة إيمانيّة استقرّت في الإذعان لهم فلو راموها معه أو دونه لزلزلت الأرض زلزالها وهذا كما وقع للأدارسة بالمغرب الأقصى والعبيديّين بإفريقيّة ومصر لمّا انتبذ الطّالبيّون من المشرق إلى القاصية وابتعدوا عن مقرّ الخلافة وسموا إلى طلبها من أيدي بني العبّاس بعد أن استحكمت الصّبغة لبني عبد مناف لبني أميّة أوّلا ثمّ لبني هاشم من بعدهم فخرجوا بالقاصية من المغرب ودعوا لأنفسهم وقام بأمرهم البرابرة مرّة بعد أخرى فأوربّة ومغيلة للأدارسة وكتامة وصنهاجة وهوّارة للعبيديّين فشيّدوا دولتهم ومهّدوا بعصائبهم أمرهم واقتطعوا من ممالك العبّاسيّين المغرب كلّه ثمّ إفريقية ولم يزل ظلّ الدّولة يتقلّص وظلّ العبيديّين يمتدّ إلى أن ملكوا مصر والشّام والحجاز وقاسموهم في الممالك الإسلاميّة شقّ الأبلمة وهؤلاء البرابرة القائمون بالدّولة مع ذلك كلّهم مسلّمون للعبيديّين أمرهم مذعنون لملكهم وإنّما كانوا يتنافسون في الرّتبة عندهم خاصّة تسليما لما حصل من صبغة الملك لبني هاشم ولما استحكم من الغلب لقريش ومضر على سائر الأمم فلم يزل الملك في أعقابهم إلى أن انقرضت دولة العرب بأسرها وَالله يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ 13: 41.
الفصل الرابع في أن الدول العامة الاستيلاء العظيمة الملك أصلها الدين اما من نبوة أو دعوة حق
وذلك لأنّ الملك إنّما يحصل بالتّغلّب والتّغلّب إنّما يكون بالعصبيّة واتّفاق الأهواء على المطالبة وجمع القلوب وتأليفها إنّما يكون بمعونة من الله في إقامة دينه قال تعالى «لَوْ أَنْفَقْتَ ما في الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ 8: 63» وسرّه أنّ القلوب إذا تداعت إلى أهواء الباطل والميل إلى الدّنيا حصل التّنافس وفشا الخلاف وإذا انصرفت إلى الحقّ ورفضت الدّنيا والباطل وأقبلت على الله اتّحدت وجهتها فذهب التّنافس وقلّ الخلاف وحسن التّعاون والتّعاضد واتّسع نطاق الكلمة لذلك فعظمت الدّولة كما نبيّن لك بعد إن شاء الله سبحانه وتعالى وبه التّوفيق لا ربّ سواه.
الفصل الخامس في أن الدعوة الدينية تزيد الدولة في أصلها قوة على قوة العصبية التي كانت لها من عددها
والسّبب في ذلك كما قدّمناه أنّ الصّبغة الدّينيّة تذهب بالتنافس والتّحاسد الّذي في أهل العصبيّة وتفرد الوجهة إلى الحقّ فإذا حصل لهم الاستبصار في أمرهم لم يقف لهم شيء لأنّ الوجهة واحدة والمطلوب متساو عندهم وهم مستميتون عليه وأهل الدّولة الّتي هم طالبوها وإن كانوا أضعافهم فأغراضهم متباينة بالباطل وتخاذلهم لتقيّة الموت حاصل فلا يقاومونهم وإن كانوا أكثر منهم بل يغلبون عليهم ويعاجلهم الفناء بما فيهم من التّرف والذّلّ كما قدّمناه وهذا كما وقع للعرب صدر الإسلام في الفتوحات فكانت جيوش المسلمين بالقادسيّة واليرموك بضعة وثلاثين ألفا في كلّ معسكر وجموع فارس مائة وعشرين ألفا بالقادسيّة وجموع هرقل على ما قاله الواقديّ أربعمائة ألف فلم يقف للعرب أحد من الجانبين وهزموهم وغلبوهم على ما بأيديهم واعتبر ذلك أيضا في دولة لمتونة ودولة الموحّدين فقد كان بالمغرب من القبائل كثير ممّن يقاومهم في العدد والعصبيّة أو يشفّ 5 عليهم إلّا أنّ الاجتماع الدّينيّ ضاعف قوّة عصبيّتهم بالاستبصار والاستماتة كما قلناه فلم يقف لهم شيء واعتبر ذلك إذا حالت صبغة الدّين وفسدت كيف ينتقض الأمر ويصير الغلب على نسبة العصبيّة وحدها دون زيادة الدّين فتغلب الدّولة من كان تحت يدها من العصائب المكافئة لها أو الزّائدة القوّة عليها الّذين غلبتهم بمضاعفة الدّين لقوّتها ولو كانوا أكثر عصبيّة منها وأشدّ بداوة واعتبر هذا في الموحّدين مع زناتة لمّا كانت زناتة أبدى 6 من المصامدة وأشدّ توحّشا وكان للمصامدة الدّعوة الدّينيّة باتّباع المهديّ فلبسوا صبغتها وتضاعفت قوّة عصبيّتهم بها فغلبوا على زناتة أوّلا واستتبعوهم وإن كانوا من حيث العصبيّة والبداوة أشدّ منهم فلمّا خلوا من تلك الصّبغة الدّينيّة انتقضت عليهم زناتة من كلّ جانب وغلبوهم على الأمر وانتزعوه منهم وَالله غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ 12: 21.
الفصل السادس في أن الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم
وهذا لما قدّمناه من أنّ كلّ أمر تحمل عليه الكافّة فلا بدّ له من العصبيّة وفي الحديث الصّحيح كما مرّ «ما بعث الله نبيّا إلّا في منعة من قومه» وإذا كان هذا في الأنبياء وهم أولى النّاس بخرق العوائد فما ظنّك بغيرهم أن لا تخرق له العادة في الغلب بغير عصبيّة وقد وقع هذا لابن قسيّ شيخ الصّوفية وصاحب كتاب خلع النّعلين في التّصوّف ثار بالأندلس داعيا إلى الحقّ وسمّي أصحابه بالمرابطين قبيل دعوة المهديّ فاستتبّ له الأمر قليلا لشغل لمتونة بما دهمهم من أمر الموحّدين ولم تكن هناك عصائب ولا قبائل يدفعونه عن شأنه فلم يلبث حين استولى الموحّدون على المغرب أن أذعن لهم ودخل في دعوتهم وتابعهم من معقلة بحصن أركش 7 وأمكنهم من ثغره وكان أوّل داعية لهم بالأندلس وكانت ثورته تسمّى ثورة المرابطين ومن هذا الباب أحوال الثّوّار القائمين بتغيير المنكر من العامّة والفقهاء فإنّ كثيرا من المنتحلين للعبادة وسلوك طرق الدّين يذهبون إلى القيام على أهل الجور من الأمراء داعين إلى تغيير المنكر والنّهي عنه والأمر بالمعروف رجاء في الثّواب عليه من الله فيكثر أتباعهم والمتلثلثون 8 بهم من الغوغاء والدّهماء ويعرّضون أنفسهم في ذلك للمهالك وأكثرهم يهلكون في هذا السّبيل مأزورين 9 غير مأجورين لأنّ الله سبحانه لم يكتب ذلك عليهم وإنّما أمر به حيث تكون القدرة عليه قال صلّى الله عليه وسلّم: «من رأى منكم منكرا فليغيّره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه» وأحوال الملوك والدّول راسخة قويّة لا يزحزحها ويهدم بناءها إلّا المطالبة القويّة الّتي من ورائها عصبيّة القبائل والعشائر كما قدّمناه وهكذا كان حال الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام في دعوتهم إلى الله بالعشائر والعصائب وهم المؤيّدون من الله بالكون كلّه لو شاء، لكنّه إنّما أجرى الأمور على مستقرّ العادة والله حكيم عليم فإذا ذهب أحد من النّاس هذا المذهب وكان فيه محقّا قصّر به الانفراد عن العصبيّة فطاح في هوّة الهلاك وأمّا إن كان من المتلبّسين بذلك في طلب الرّئاسة فأجدر أن تعوقه العوائق وتنقطع به المهالك لأنّه أمر الله لا يتمّ إلّا برضاه وإعانته والإخلاص له والنّصيحة للمسلمين ولا يشكّ في ذلك مسلم ولا يرتاب فيه ذو بصيرة وأوّل ابتداء هذه النّزعة في الملّة ببغداد حين وقعت فتنة طاهر 10 وقتل الأمين وأبطأ المأمون بخراسان عن مقدّم العراق ثمّ عهد لعليّ بن موسى الرّضى من آل الحسين فكشف بنو العبّاس عن وجه النّكير عليه وتداعوا للقيام وخلع طاعة المأمون والاستبدال منه وبويع إبراهيم بن المهديّ فوقع الهرج 11 ببغداد وانطلقت أيدي الزّعرة 12 بها من الشّطّار 13 والحربيّة 14 على أهل العافية والصّون وقطعوا السّبيل وامتلأت أيديهم من نهاب النّاس وباعوها علانية في الأسواق واستعدى 15 أهلها الحكّام فلم يعدوهم فتوافر أهل الدّين والصّلاح على منع الفسّاق وكفّ عاديتهم وقام ببغداد رجل يعرف بخالد الدّريوش ودعا النّاس إلى الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر فأجابه خلق وقاتل أهل الزّعارة فغلبهم وأطلق يده فيهم بالضّرب والتّنكيل ثمّ قام من بعده رجل آخر من سواد أهل بغداد يعرف بسهل بن سلامة الأنصاريّ ويكنى أبا حاتم وعلّق مصحفا في عنقه ودعا النّاس إلى الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر والعمل بكتاب الله وسنّة نبيّه صلّى الله عليه وسلّم فاتّبعه النّاس كافّة من بين شريف ووضيع من بني هاشم فمن دونهم ونزل قصر طاهر واتّخذ الدّيوان وطاف ببغداد ومنع كلّ من أخاف المارّة ومنع الخفارة 16 لأولئك الشّطّار وقال له خالد الدّريوش أنا لا أعيب على السّلطان فقال له سهل لكني أقاتل كلّ من خالف الكتاب والسّنّة كائنا من كان وذلك سنة إحدى ومائتين وجهّز له إبراهيم بن المهديّ العساكر فغلبه وأسره وانحلّ أمره سريعا وذهب ونجا بنفسه ثمّ اقتدى بهذا العمل بعد كثير من الموسوسين يأخذون أنفسهم بإقامة الحقّ ولا يعرفون ما يحتاجون إليه في إقامته من العصبيّة ولا يشعرون بمغبّة أمرهم ومآل أحوالهم والّذي يحتاج إليه في أمر هؤلاء إمّا المداواة إن كانوا من أهل الجنون وإمّا التّنكيل بالقتل أو الضّرب إن أحدثوا هرجا وإمّا إذاعة السّخريّة منهم وعدّهم من جملة الصّفّاعين 17 وقد ينتسب بعضهم إلى الفاطميّ المنتظر إمّا بأنّه هو أو بأنّه داع له وليس مع ذلك على علم من أمر الفاطميّ ولا ما هو وأكثر المنتحلين لمثل هذا تجدهم موسوسين أو مجانين أو ملبّسين يطلبون بمثل هذه الدّعوة رئاسة امتلأت بها جوانحهم وعجزوا عن التّوصّل إليها بشيء من أسبابها العاديّة فيحسبون أنّ هذا من الأسباب البالغة بهم إلى ما يؤمّلونه من ذلك ولا يحسبون ما ينالهم فيه من الهلكة فيسرع إليهم القتل بما يحدثونه من الفتنة وتسوء عاقبة مكرهم وقد كان لأوّل هذه المائة خرج بالسّوس رجل من المتصوّفة يدعى التّويذريّ عمد إلى مسجد ماسة بساحل البحر هناك وزعم أنّه الفاطميّ المنتظر تلبيسا على العامّة هنالك بما ملأ قلوبهم من الحدثان بانتظاره هنالك وأنّ من ذلك المسجد يكون أصل دعوته فتهافتت عليه طوائف من عامّة البربر تهافت الفراش ثمّ خشي رؤساؤهم اتّساع نطاق الفتنة فدسّ إليه كبير المصامدة يومئذ عمر السّكسيويّ من قتله في فراشه وكذلك خرج في غماره أيضا لأوّل هذه المائة رجل يعرف بالعبّاس وادّعى مثل هذه الدّعوة واتّبع نعيقه الأرذلون من سفهاء تلك القبائل وأعمارهم 18 وزحف إلى بادس من أمصارهم ودخلها عنوة. ثمّ قتل لأربعين يوما من ظهور دعوته ومضى في الهالكين الأوّلين وأمثال ذلك كثير والغلط فيه من الغفلة عن اعتبار العصبيّة في مثلها وأمّا إن كان التّلبيس فأحرى أن لا يتمّ له أمر وأن يبوء بإثمه وذلك جزاء الظّالمين والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التّوفيق لا ربّ غيره ولا معبود سواه.
الفصل السابع في أن كل دولة لها حصة من الممالك والأوطان لا تزيد عليها
والسّبب في ذلك أنّ عصابة الدّولة وقومها القائمين بها الممهّدين لها لا بدّ من توزيعهم حصصا على الممالك والثّغور الّتي تصير إليهم ويستولون عليها لحمايتها من العدوّ وإمضاء أحكام الدّولة فيها من جباية وردع وغير ذلك فإذا توزّعت العصائب كلّها على الثّغور والممالك فلا بدّ من نفاد عددها وقد بلغت الممالك حينئذ إلى حدّ يكون ثغرا للدّولة وتخما لوطنها ونطاقا لمركز ملكها فإن تكفّلت الدّولة بعد ذلك زيادة على ما بيدها بقي دون حامية وكان موضعا لانتهاز الفرصة من العدوّ والمجاور ويعود وبال ذلك على الدّولة بما يكون فيه من التّجاسر وخرق سياج الهيبة وما كانت العصابة موفورة ولم ينفد عددها في توزيع الحصص على الثّغور والنّواحي بقي في الدّولة قوّة على تناول ما وراء الغاية حتّى ينفسح نطاقها إلى غايته والعلّة الطّبيعيّة في ذلك هي قوّة العصبيّة من سائر القوى الطّبيعيّة وكلّ قوّة يصدر عنها فعل من الأفعال فشأنها ذلك في فعلها والدّولة في مركزها أشدّ ممّا يكون في الطّرف والنّطاق وإذا انتهت إلى النّطاق الّذي هو الغاية عجزت وأقصرت عمّا وراءه شأن الأشعّة والأنوار إذا انبعثت من المراكز والدّوائر المنفسحة على سطح الماء من النّقر عليه ثمّ إذا أدركها الهرم والضّعف فإنّما تأخذ في التّناقص من جهة الأطراف ولا يزال المركز محفوظا إلى أن يتأذّن الله بانقراض الأمر جملة فحينئذ يكون انقراض المركز وإذا غلب على الدّولة من مركزها فلا ينفعها بقاء الأطراف والنّطاق بل تضمحلّ لوقتها فإنّ المركز كالقلب الّذي تنبعث منه الرّوح فإذا غلب على القلب وملك انهزم جميع الأطراف وانظر هذا في الدّولة الفارسيّة كان مركزها المدائن فلمّا غلب المسلمون على المدائن انقرض أمر فارس أجمع ولم ينفع يزدجرد ما بقي بيده من أطراف ممالكه وبالعكس من ذلك الدّولة الرّوميّة بالشّام لمّا كان مركزها القسطنطينيّة وغلبهم المسلمون بالشّام تحيّزوا إلى مركزهم بالقسطنطينيّة ولم يضرّهم انتزاع الشّام من أيديهم فلم يزل ملكهم متّصلا بها إلى أن تأذّن الله بانقراضه وانظر أيضا شأن العرب أوّل الإسلام لمّا كانت عصائبهم موفورة كيف غلبوا على ما جاورهم من الشّام والعراق ومصر لأسرع وقت ثمّ تجاوزوا ذلك إلى ما وراءه من السّند والحبشة وإفريقية والمغرب ثمّ إلى الأندلس فلمّا تفرّقوا حصصا على الممالك والثّغور ونزلوها حامية ونفد عددهم في تلك التّوزيعات أقصروا عن الفتوحات بعد وانتهى أمر الإسلام ولم يتجاوز تلك الحدود ومنها تراجعت الدّولة حتّى تأذّن الله بانقراضها وكذا كان حال الدّول من بعد ذلك كلّ دولة على نسبة القائمين بها في القلّة والكثرة وعند نفاد عددهم بالتّوزيع ينقطع لهم الفتح والاستيلاء سنّة الله في خلقه.
الفصل الثامن في أن عظم الدولة واتساع نطاقها وطول أمدها على نسبة القائمين بها في القلة والكثرة
والسّبب في ذلك أنّ الملك إنّما يكون بالعصبيّة وأهل العصبيّة هم الحامية الّذين ينزلون بممالك الدّولة وأقطارها وينقسمون عليها فما كان من الدّولة العامّة قبيلها وأهل عصابتها أكثر كانت أقوى وأكثر ممالك وأوطانا وكان ملكها أوسع لذلك واعتبر ذلك بالدّولة الإسلاميّة لمّا ألّف الله كلمة العرب على الإسلام وكان عدد المسلمين في غزوة تبوك آخر غزوات النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم مائة ألف وعشرة آلاف من مضر وقحطان ما بين فارس وراجل إلى من أسلم منهم بعد ذلك إلى الوفاة فلمّا توجّهوا لطلب ما في أيدي الأمم من الملك لم يكن دونه حمى ولا وزر 19 فاستبيح حمى فارس والرّوم أهل الدّولتين العظيمتين في العالم لعهدهم والتّرك بالمشرق والإفرنجة والبربر بالمغرب والقوط بالأندلس وخطوا من الحجاز إلى السّوس الأقصى ومن اليمن إلى التّرك بأقصى الشّمال واستولوا على الأقاليم السّبعة ثمّ انظر بعد ذلك دولة صنهاجة والموحّدين مع العبيديّين قبلهم لمّا كان كتامة القائمين بدولة العبيديّين أكثر من صنهاجة ومن المصامدة كانت دولتهم أعظم فملكوا إفريقية والمغرب والشّام ومصر والحجاز ثمّ انظر بعد ذلك دولة زناتة لمّا كان عددهم أقلّ من المصامدة قصّر ملكهم عن ملك الموحّدين لقصور عددهم عن عدد المصامدة منذ أوّل أمرهم ثمّ اعتبر بعد ذلك حال الدّولتين لهذا العهد لزناتة بني مرين وبني عبد الواد، كانت دولتهم أقوى منها وأوسع نطاقا وكان لهم عليهم الغلب مرّة بعد أخرى. يقال إنّ عدد بني مرين لأوّل ملكهم كان ثلاثة آلاف وإنّ بني عبد الواد كانوا ألفا إلّا أنّ الدّولة بالرّفه وكثرة التّابع كثّرت من أعدادهم وعلى هذه النّسبة في أعداد المتغلّبين لأوّل الملك يكون اتّساع الدّولة وقوّتها وأمّا طول أمدها أيضا فعلى تلك النّسبة لأنّ عمر الحادث من قوّة مزاجه ومزاج الدّول إنّما هو بالعصبيّة فإذا كانت العصبيّة قويّة كان المزاج تابعا لها وكان أمد العمر طويلا والعصبيّة إنّما هي بكثرة العدد ووفوره كما قلناه والسّبب الصّحيح في ذلك أنّ النّقص إنّما يبدو في الدّولة من الأطراف فإذا كانت ممالكها كثيرة كانت أطرافها بعيدة عن مركزها وكثيرة وكلّ نقص يقع فلا بدّ له من زمن فتكثر أزمان النّقص لكثرة الممالك واختصاص كلّ واحد منها بنقص وزمان فيكون أمدها أطول الدّول لا بنو العبّاس أهل المركز ولا بنو أميّة المستبدون بالأندلس 20 . ولم ينقص أمر جميعهم إلّا بعد الأربعمائة من الهجرة ودولة العبيديّين كان أمدها قريبا من مائتين وثمانين سنة ودولة صنهاجة دونهم من لدن تقليد معزّ الدّولة أمر إفريقية لبلكين بن زيري في سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة إلى حين استيلاء الموحّدين على القلعة وبجاية سنة سبع وخمسين وخمسمائة ودولة الموحّدين لهذا العهد تناهز مائتين وسبعين سنة وهكذا نسب الدّول في أعمارها على نسبة القائمين بها سنّة الله الّتي قد خلت في عباده.
الفصل التاسع في ان الأوطان الكثيرة القبائل والعصائب قل ان تستحكم فيها دولة
والسّبب في ذلك اختلاف الآراء والأهواء وأنّ وراء كلّ رأي منها وهوى عصبيّة تمانع دونها فيكثر الانتقاض على الدّولة والخروج عليها في كلّ وقت وإن كانت ذات عصبيّة لأنّ كلّ عصبيّة ممّن تحت يدها تظنّ في نفسها منعة وقوّة وانظر ما وقع من ذلك بإفريقيّة والمغرب منذ أوّل الإسلام ولهذا العهد فإنّ ساكن هذه الأوطان من البربر أهل قبائل وعصبيّات فلم يغن فيهم الغلب الأوّل الّذي كان لابن أبي سرح عليهم وعلى الإفرنجة شيئا وعاودوا بعد ذلك الثّورة والرّدّة مرّة بعد أخرى وعظم الإثخان 21 من المسلمين فيهم ولمّا استقرّ الدّين عندهم عادوا إلى الثّورة والخروج والأخذ بدين الخوارج مرّات عديدة قال ابن أبي زيد ارتدّت البرابرة بالمغرب اثنتي عشرة مرّة ولم تستقرّ كلمة الإسلام فيهم إلّا لعهد ولاية موسى بن نصير فما بعده وهذا معنى ما ينقل عن عمر أنّ إفريقة مفرّقة لقلوب أهلها إشارة إلى ما فيها من كثرة العصائب والقبائل الحاملة لهم على عدم الإذعان والانقياد ولم يكن العراق لذلك العهد بتلك الصّفة ولا الشّام إنّما كانت حاميتها من فارس والرّوم والكافّة دهماء أهل مدن وأمصار فلمّا غلبهم المسلمون على الأمر وانتزعوه من أيديهم لم يبق فيها ممانع ولا مشاقّ 22 والبربر قبائلهم بالمغرب أكثر من أن تحصى وكلّهم بادية وأهل عصائب وعشائر وكلّما هلكت قبيلة عادت الأخرى مكانها وإلى دينها من الخلاف والرّدّة فطال أمر العرب في تمهيد الدّولة بوطن إفريقية والمغرب وكذلك كان الأمر بالشّام لعهد بني إسرائيل كان فيه من قبائل فلسطين وكنعان وبني عيصو وبني مدين وبني لوط والرّوم واليونان والعمالقة وأكريكش والنّبط من جانب الجزيرة والموصل ما لا يحصى كثرة وتنوّعا في العصبيّة فصعب على بني إسرائيل تمهيد دولتهم ورسوخ أمرهم واضطرب عليهم الملك مرّة بعد أخرى وسرى ذلك الخلاف إليهم فاختلفوا على سلطانهم وخرجوا عليه ولم يكن لهم ملك موطّد سائر أيّامهم إلى أن غلبهم الفرس ثمّ يونان ثمّ الرّوم آخر أمرهم عند الجلاء والله غالب على أمره وبعكس هذا أيضا الأوطان الخالية من العصبيّات يسهل تمهيد الدّولة فيها ويكون سلطانها وازعا لقلّة الهرج والانتقاض ولا تحتاج الدّولة فيها إلى كثير من العصبيّة كما هو الشّأن في مصر والشّام لهذا العهد إذ هي خلو من القبائل والعصبيّات كأن لم يكن الشّام معدنا لهم كما قلناه فملك مصر في غاية الدّعة والرّسوخ لقلّة الخوارج وأهل العصائب إنّما هو سلطان ورعيّة ودولتها قائمة بملوك التّرك وعصائبهم يغلبون على الأمر واحدا بعد واحد وينتقل الأمر فيهم من منبت إلى منبت والخلافة مسمّاة للعبّاسيّ من أعقاب الخلفاء ببغداد وكذا شأن الأندلس لهذا العهد فإنّ عصبيّة ابن الأحمر سلطانها لم تكن لأوّل دولتهم بقويّة ولا كانت كرّات 23 إنّما يكون أهل بيت من بيوت العرب أهل الدّولة الأمويّة بقوا من ذلك القلّة وذلك أنّ أهل الأندلس لمّا انقرضت الدّولة العربيّة منهم وملكهم البربر من لمتونة والموحّدين سئموا ملكتهم وثقلت وطأتهم عليهم فأشربت القلوب بغضائهم وأمكن الموحّدون والسّادة في آخر الدّولة كثيرا من الحصون للطّاغية 24 في سبيل الاستظهار به على شأنهم من تملّك الحضرة مراكش فاجتمع من كان بقي بها من أهل العصبيّة القديمة معادن من بيوت العرب تجافى بهم المنبت عن الحاضرة والأمصار بعض الشّيء ورسخوا في العصبيّة مثل ابن هود وابن الأحمر وابن مردنيش وأمثالهم فقام ابن هود بالأمر ودعا بدعوة الخلافة العبّاسيّة بالمشرق وحمل النّاس على الخروج على الموحّدين فنبذوا إليهم العهد وأخرجوهم واستقلّ ابن هود بالأمر في الأندلس ثمّ سما ابن الأحمر للأمر وخالف ابن هود في دعوته فدعا هؤلاء لابن أبي حفص صاحب إفريقية من الموحّدين وقام بالأمر وتناوله بعصابة قريبة من قرابته كانوا يسمّون الرّؤساء ولم يحتج لأكثر منهم لقلّة العصائب بالأندلس وإنّها سلطان ورعيّة ثمّ استظهر بعد ذلك على الطّاغية بمن يجيز إليه البحر من أعياص زناتة فصاروا معه عصبة على المثاغرة والرّبّاط ثمّ سما لصاحب من ملوك زناتة أمل في الاستيلاء على الأندلس فصار أولئك الأعياص عصابة ابن الأحمر على الامتناع منه إلى أن تأثّل 25 أمره ورسخ وألفته النّفوس وعجز النّاس عن مطالبته وورثه أعقابه لهذا العهد فلا تظنّ أنّه بغير عصابة فليس كذلك وقد كان مبدؤه بعصابة إلّا أنّها قليلة وعلى قدر الحاجة فإنّ قطر الأندلس لقلّة العصائب والقبائل فيه يغني عن كثرة العصبيّة في التّغلّب عليهم والله غنيّ عن العالمين.
الفصل العاشر في ان من طبيعة الملك الانفراد بالمجد
وذلك أنّ الملك كما قدّمناه إنّما هو بالعصبيّة والعصبيّة متألّفة من عصبات كثيرة تكون واحدة منها أقوى من الأخرى كلّها فتغلبها وتستولي عليها حتّى تصيّرها جميعا في ضمنها وبذلك يكون الاجتماع والغلب على النّاس والدّول وسرّه أنّ العصبيّة العامّة للقبيل هي مثل المزاج للمتكوّن والمزاج إنّما يكون عن العناصر وقد تبيّن في موضعه أنّ العناصر إذا اجتمعت متكافئة فلا يقع منها مزاج أصلا بل لا بدّ من أن تكون واحدة منها هي الغالبة على الكلّ حتّى تجمعها وتؤلّفها وتصيّرها عصبيّة واحدة شاملة لجميع العصائب وهي موجودة في ضمنها وتلك العصبيّة الكبرى إنّما تكون لقوم أهل بيت ورئاسة فيهم، ولا بدّ من أن يكون واحد منهم رئيسا لهم غالبا عليهم فيتعيّن رئيسا للعصبيّات كلّها لغلب منبته لجميعها وإذا تعيّن له ذلك فمن الطّبيعة الحيوانيّة خلق الكبر والأنفة فيأنف حينئذ من المساهمة والمشاركة في استتباعهم والتّحكّم فيهم ويجيء خلق التّألّه الّذي في طباع البشر مع ما تقتضيه السّياسة من انفراد الحاكم لفساد الكلّ باختلاف الحكّام «لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا الله لَفَسَدَتا 21: 22» 26 فتجدع حينئذ أنوف العصبيّات وتفلح شكائمهم عن أن يسموا إلى مشاركته في التّحكّم وتقرع عصبيّتهم عن ذلك وينفرد به ما استطاع حتّى لا يترك لأحد منهم في الأمر لا ناقة ولا جملا فينفرد بذلك المجد بكلّيّته ويدفعهم عن مساهمته وقد يتمّ ذلك للأوّل من ملوك الدّولة وقد لا يتمّ إلّا للثّاني والثّالث على قدر ممانعة العصبيّات وقوّتها إلّا أنّه أمر لا بدّ منه في الدّول سنّة الله الّتي قد خلت في عباده والله تعالى أعلم.
الفصل الحادي عشر في ان من طبيعة الملك الترف
وذلك أنّ الأمّة إذا تغلّبت وملكت ما بأيدي أهل الملك قبلها كثر رياشها ونعمتها فتكثر عوائدهم ويتجاوزون ضرورات العيش وخشونته إلى نوافله ورقّته وزينته ويذهبون إلى اتّباع من قبلهم في عوائدهم وأحوالهم وتصير لتلك النّوافل عوائد ضروريّة في تحصيلها وينزعون مع ذلك إلى رقّة الأحوال في المطاعم والملابس والفرش والآنية ويتفاخرون في ذلك ويفاخرون فيه غيرهم من الأمم في أكل الطّيّب ولبس الأنيق وركوب الفاره 27 ويناغي خلفهم في ذلك سلفهم إلى آخر الدّولة وعلى قدر ملكهم يكون حظّهم من ذلك وترفهم فيه إلى أن يبلغوا من ذلك الغاية الّتي للدّولة إلى أن تبلغها بحسب قوّتها وعوائد من قبلها سنّة الله في خلقه والله تعالى أعلم.
الفصل الثاني عشر في ان من طبيعة الملك الدعة والسكون
وذلك أنّ الأمّة لا يحصل لها الملك إلّا بالمطالبة والمطالبة غايتها الغلب والملك وإذا حصلت الغاية انقضى السّعي إليها (قال الشاعر) عجبت لسعي الدّهر بيني وبينها ... فلمّا انقضى ما بيننا سكن الدّهر فإذا حصل الملك أقصروا عن المتاعب الّتي كانوا يتكلفونها في طلبه وآثروا الرّاحة والسّكون والدّعة ورجعوا إلى تحصيل ثمرات الملك من المباني والمساكن والملابس فيبنون القصور ويجرون المياه ويغرسون الرّياض ويستمتعون بأحوال الدّنيا ويؤثرون الرّاحة على المتاعب ويتأنّقون في أحوال الملابس والمطاعم والآنية والفرش ما استطاعوا ويألفون ذلك ويورثونه من بعدهم من أجيالهم ولا يزال ذلك يتزايد فيهم إلى أن يتأذّن الله بأمره وهو خير الحاكمين والله تعالى أعلم.
الفصل الثالث عشر في أنه إذا تحكمت طبيعة الملك من الانفراد بالمجد وحصول الترف والدعة أقبلت الدولة على الهرم
وبيانه من وجوه. الأوّل أنّها تقتضي الانفراد بالمجد كما قلناه ومهما كان المجد مشتركا بين العصابة وكان سعيهم له واحدا كانت هممهم في التّغلّب علىالغير والذّبّ عن الحوزة 28 أسوة في طموحها وقوّة شكائمها ومرماهم إلى العزّ جميعا يستطيبون الموت في بناء مجدهم ويؤثرون الهلكة على فساده وإذا انفرد الواحد منهم بالمجد قرع عصبيّتهم وكبح من أعنّتهم واستأثر بالأموال دونهم فتكاسلوا عن الغزو وفشل ربحهم ورئموا 29 المذلّة والاستعباد ثمّ ربي الجيل الثّاني منهم على ذلك يحسبون ما ينالهم من العطاء أجرا من السّلطان لهم عن الحماية والمعونة لا يجري في عقولهم سواه وقل أن يستأجر أحد نفسه على الموت فيصير ذلك وهنا في الدّولة وخضدا من الشّوكة وتقبل به على مناحي الضعف والهرم لفساد العصبيّة بذهاب البأس من أهلها. والوجه الثّاني أنّ طبيعة الملك تقتضي التّرف كما قدّمناه فتكثر عوائدهم وتزيد نفقاتهم على أعطياتهم ولا يفي دخلهم بخرجهم فالفقير منهم يهلك والمترف يستغرق عطاءه بترفه ثمّ يزداد ذلك في أجيالهم المتأخّرة إلى أن يقصر العطاء كلّه عن التّرف وعوائده وتمسّهم الحاجة وتطالبهم ملوكهم بحصر نفقاتهم في الغزو والحروب فلا يجدون وليجة 30 عنها فيوقعون بهم العقوبات وينتزعون ما في أيدي الكثير منهم يستأثرون به عليهم أو يؤثرون به أبناءهم وصنائع دولتهم فيضعفونهم لذلك عن إقامة أحوالهم ويضعف صاحب الدّولة بضعفهم وأيضا إذا كثر التّرف في الدّولة وصار عطاؤهم مقصّرا عن حاجاتهم ونفقاتهم احتاج صاحب الدّولة الّذي هو السّلطان إلى الزّيادة في أعطياتهم حتّى يسدّ خللهم 31 ويزيح عللهم والجباية مقدارها معلوم ولا تزيد ولا تنقص وإن زادت بما يستحدث من المكوس فيصير مقدارها بعد الزّيادة محدودا فإذا وزّعت الجباية على الأعطيات وقد حدثت فيها الزّيادة لكلّ واحد بما حدث من ترفهم وكثرة نفقاتهم نقص عدد الحامية حينئذ عمّا كان قبل زيادة الأعطيات ثمّ يعظم التّرف وتكثر مقادير الأعطيات لذلك فينقص عدد الحامية وثالثا ورابعا إلى أن يعود العسكر إلى أقلّ الأعداد فتضعف الحماية لذلك وتسقط قوّة الدّولة ويتجاسر عليها من يجاوزها من الدّول أو من هو تحت يديها من القبائل والعصائب ويأذن الله فيها بالفناء الّذي كتبه على خليقته وأيضا فالتّرف مفسد للخلق بما يحصل في النّفس من ألوان الشّرّ والسّفسفة 32 وعوائدها كما يأتي في فصل الحضارة فتذهب منهم خلال الخير الّتي كانت علامة على الملك ودليلا عليه ويتّصفون بما يناقضها من خلال الشّرّ فيكون علامة على الإدبار والانقراض بما جعل الله من ذلك في خليقته وتأخذ الدّولة مبادئ العطب وتتضعضع أحوالها وتنزل بها أمراض مزمنة من الهرم إلى أن يقضى عليها. الوجه الثّالث أنّ طبيعة الملك تقتضي الدّعة كما ذكرناه وإذا اتّخذوا الدّعة والرّاحة مألفا وخلقا صار لهم ذلك طبيعة وجبلّة شأن العوائد كلّها وإيلافها فتربى أجيالهم الحادثة في غضارة العيش ومهاد التّرف والدّعة وينقلب خلق التّوحّش وينسون عوائد البداوة الّتي كان بها الملك من شدّة البأس وتعوّد الافتراس وركوب البيداء وهداية القفر فلا يفرق بينهم وبين السّوقة من الحضر إلّا في الثّقافة والشّارة فتضعف حمايتهم ويذهب بأسهم وتنخضد شوكتهم ويعود وبال ذلك على الدّولة بما تلبّس من ثياب الهرم ثمّ لا يزالون يتلوّنون بعوائد التّرف والحضارة والسّكون والدّعة ورقّة الحاشية في جميع أحوالهم وينغمسون فيها وهم في ذلك يبعدون عن البداوة والخشونة وينسلخون عنها شيئا فشيئا وينسون خلق البسالة الّتي كانت بها الحماية والمدافعة حتّى يعودوا عيالا على حامية أخرى إن كانت لهم واعتبر ذلك في الدّول الّتي أخبارها في الصّحف لديك تجد ما قلته لك من ذلك صحيحا من غير ريبة وربّما يحدث في الدّولة إذا طرقها هذا الهرم بالتّرف والرّاحة أن يتخيّر صاحب الدّولة أنصارا وشيعة من غير جلدتهم ممّن تعوّد الخشونة فيتّخذهم جندا يكون أصبر على الحرب وأقدر على معاناة الشّدائد من الجوع والشّظف ويكون ذلك دواء للدّولة من الهرم الّذي عساه أن يطرقها حتّى يأذن الله فيها بأمره وهذا كما وقع في دولة التّرك بالمشرق فإنّ غالب جندها الموالي من التّرك فتتخيّر ملوكهم من أولئك المماليك المجلوبين إليهم فرسانا وجندا فيكونون أجرأ على الحرب وأصبر على الشّظف من أبناء المماليك الّذين كانوا قبلهم وربوا في ماء النّعيم والسّلطان وظلّه وكذلك في دولة الموحّدين بإفريقيّة فإنّ صاحبها كثيرا ما يتّخذ أجناده من زناتة والعرب ويستكثر منهم ويترك أهل الدّولة المتعوّدين للتّرف فتستجدّ الدّولة بذلك عمرا آخر سالما من الهرم والله وارث الأرض ومن عليها.
الفصل الرابع عشر في أن الدولة لها أعمار طبيعية كما للأشخاص
اعلم أنّ العمر الطّبيعيّ للأشخاص على ما زعم الأطبّاء والمنجّمون مائة وعشرون سنة وهي سنو القمر الكبرى عند المنجّمين ويختلف العمر في كلّ جيل بحسب القرانات فيزيد عن هذا وينقص منه فتكون أعمار بعض أهل القرانات مائة تامّة وبعضهم خمسين أو ثمانين أو سبعين على ما تقتضيه أدلّة القرانات عند النّاظرين فيها وأعمار هذه الملّة ما بين السّتّين إلى السّبعين كما في الحديث ولا يزيد على العمر الطّبيعيّ الّذي هو مائة وعشرون إلّا في الصّور النّادرة وعلى الأوضاع الغريبة من الفلك كما وقع في شأن نوح عليه السّلام وقليل من قوم عاد وثمود. وأمّا أعمار الدّول أيضا وإن كانت تختلف بحسب القرانات إلّا أنّ الدّولة في الغالب لا تعدو أعمار ثلاثة أجيال والجيل هو عمر شخص واحد من العمر الوسط فيكون أربعين الّذي هو انتهاء النّموّ والنّشوء إلى غايته قال تعالى «حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً 46: 15» 33 ولهذا قلنا إنّ عمر الشّخص الواحد هو عمر الجيل ويؤيّده ما ذكرناه في حكمة التّيه الّذي وقع في بني إسرائيل وأنّ المقصود بالأربعين فيه فناء الجيل الأحياء ونشأة جيل آخر لم يعهدوا الذّلّ ولا عرفوه فدلّ على اعتبار الأربعين في عمر الجيل الّذي هو عمر الشّخص الواحد وإنّما قلنا إنّ عمر الدّولة لا يعدو في الغالب ثلاثة أجيال لأنّ الجيل الأوّل لم يزالوا على خلق البداوة وخشونتها وتوحّشها من شظف العيش والبسالة والافتراس والاشتراك في المجد فلا تزال بذلك سورة العصبيّة محفوظة فيهم فحدّهم مرهف وجانبهم مرهوب والنّاس لهم مغلوبون والجيل الثّاني تحوّل حالهم بالملك والتّرفّه من البداوة إلى الحضارة ومن الشّظف إلى التّرف والخصب ومن الاشتراك في المجد إلى انفراد الواحد به وكسل الباقين عن السّعي فيه ومن عزّ الاستطالة إلى ذلّ الاستكانة فتنكسر سورة العصبيّة بعض الشّيء وتؤنس منهم المهانة والخضوع ويبقى لهم الكثير من ذلك بما أدركوا الجيل الأوّل وباشروا أحوالهم وشاهدوا اعتزازهم وسعيهم إلى المجد ومراميهم في المدافعة والحماية فلا يسعهم ترك ذلك بالكليّة وإن ذهب منه ما ذهب ويكونون على رجاء من مراجعة الأحوال الّتي كانت للجيل الأوّل أو على ظنّ من وجودها فيهم وأمّا الجيل الثّالث فينسون عهد البداوة والخشونة كأن لم تكن ويفقدون حلاوة العزّ والعصبيّة بما هم فيه من ملكة القهر ويبلغ فيهم التّرف غايته بما تبنّقوه 34 من النّعيم وغضارة العيش فيصيرون عيالا على الدّولة ومن جملة النّساء والولدان المحتاجين للمدافعة عنهم وتسقط العصبيّة بالجملة وينسون الحماية والمدافعة والمطالبة ويلبّسون على النّاس في الشّارة والزّيّ وركوب الخيل وحسن الثّقافة يموّهون بها وهم في الأكثر أجبن من النّسوان على ظهورها فإذا جاء المطالب لهم لم يقاوموا مدافعته فيحتاج صاحب الدّولة حينئذ إلى الاستظهار بسواهم من أهل النّجدة ويستكثر بالموالي ويصطنع من يغني عن الدّولة بعض الغناء حتّى يتأذّن الله بانقراضها فتذهب الدّولة بما حملت فهذه كما تراه ثلاثة أجيال فيها يكون هرم الدّولة وتخلّفها ولهذا كان انقراض الحسب في الجيل الرّابع كما مرّ في أنّ المجد والحسب إنّما هو أربعة آباء وقد أتيناك فيه ببرهان طبيعيّ كاف ظاهر مبنيّ على ما مهّدناه قبل من المقدّمات فتأمّله فلن تعدو وجه الحقّ إن كنت من أهل الإنصاف وهذه الأجيال الثّلاثة عمرها مائة وعشرون سنة على ما مرّ ولا تعدو الدّول في الغالب هذا العمر بتقريب قبله أو بعده إلّا إن عرض لها عارض آخر من فقدان المطالب فيكون الهرم حاصلا مستوليا والطّالب لم يحضرها ولو قد جاء الطّالب لما وجد مدافعا «فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ 7: 34» فهذا العمر للدّولة بمثابة عمر الشّخص من التّزيّد إلى سنّ الوقوف ثمّ إلى سنّ الرّجوع ولهذا يجري على ألسنة النّاس في المشهور أنّ عمر الدّولة مائة سنة وهذا معناه فاعتبره واتّخذ منه قانونا يصحّح لك عدد الآباء في عمود النّسب الّذي تريده من قبل معرفة السّنين الماضية إذا كنت قد استربت في عددهم وكانت السّنون الماضية منذ أوّلهم محصّلة لديك فعدّ لكلّ مائة من السّنين ثلاثة من الآباء فإن نفدت على هذا القياس مع نفود 35 عددهم فهو صحيح وإن نقصت عنه بجيل فقد غلط عددهم بزيادة واحد في عمود النّسب وإن زادت بمثله فقد سقط واحد وكذلك تأخذ عدد السّنين من عددهم إذا كان محصّلا لديك فتأمّله تجده في الغالب صحيحا «وَالله يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ 73: 20» .
الفصل الخامس عشر في انتقال الدولة من البداوة إلى الحضارة
اعلم أنّ هذه الأطوار طبيعيّة للدّول فإنّ الغلب الّذي يكون به الملك إنّما هو بالعصبيّة وبما يتبعها من شدّة البأس وتعوّد الافتراس ولا يكون ذلك غالبا إلّا مع البداوة فطور الدّولة من أوّلها بداوة ثمّ إذا حصل الملك تبعه الرّفه واتّساع الأحوال والحضارة إنّما هي تفنّن في التّرف وإحكام الصّنائع المستعملة في وجوهه ومذاهبه من المطابخ والملابس والمباني والفرش والأبنية وسائر عوائد المنزل وأحواله فلكلّ واحد منها صنائع في استجادته والتّأنّق فيه تختصّ به ويتلو بعضها بعضا وتتكثّر باختلاف ما تنزع إليه النّفوس من الشّهوات والملاذّ والتّنعّم بأحوال التّرف وما تتلوّن به من العوائد فصار طور الحضارة في الملك يتبع طور البداوة ضرورة لضرورة تبعيّة الرّفه للملك وأهل الدّول أبدا يقلّدون في طور الحضارة وأحوالها للدّولة السّابقة قبلهم. فأحوالهم يشاهدون، ومنهم في الغالب يأخذون، ومثل هذا وقع للعرب لمّا كان الفتح وملكوا فارس والرّوم واستخدموا بناتهم وأبناءهم ولم يكونوا لذلك العهد في شيء من الحضارة فقد حكي أنّه قدّم لهم المرقّق 36 فكانوا يحسبونه رقاعا وعثروا على الكافور في خزائن كسرى فاستعملوه في عجينهم ملحا ومثال ذلك كثير فلمّا استعبدوا أهل الدّول قبلهم واستعملوهم في مهنهم وحاجات منازلهم واختاروا منهم المهرة في أمثال ذلك والقومة عليهم أفادوهم علاج ذلك والقيام على عمله والتّفنّن فيه مع ما حصل لهم من اتّساع العيش والتّفنّن في أحواله فبلغوا الغاية في ذلك وتطوّروا بطور الحضارة والتّرف في الأحوال واستجادة المطاعم والمشارب والملابس والمباني والأسلحة والفرش والآنية وسائر الماعون والخرثيّ 37 وكذلك أحوالهم في أيّام المباهاة والولائم وليالي الأعراس فأتوا من ذلك وراء الغاية وانظر ما نقله المسعوديّ والطّبريّ وغيرهما في إعراس المأمون ببوران بنت الحسن بن سهل وما بذل أبوها لحاشية المأمون حين وافاه في خطبتها إلى داره بفم الصّلح وركب إليها في السّفين وما أنفق في أملاكها 38 وما نحلها المأمون وأنفق في عرسها تقف من ذلك على العجب فمنه أنّ الحسن بن سهل نثر يوم الأملاك في الصّنيع الّذي حضره حاشية المأمون فنثر على الطّبقة الأولى منهم بنادق المسك ملثوثة على الرّقاع بالضّياع والعقار مسوّغة لمن حصلت في يده يقع لكلّ واحد منهم ما أدّاه إليه الاتّفاق والبخت وفرّق على الطّبقة الثّانية بدر 39 الدّنانير في كلّ بدرة عشرة آلاف وفرّق على الطّبقة الثّالثة بدر الدّراهم كذلك بعد أن أنفق على مقامة المأمون بداره أضعاف ذلك ومنه أنّ المأمون أعطاها في مهرها ليلة زفافها ألف حصاة من الياقوت وأوقد شموع العنبر في كلّ واحدة مائة من وهو رطل وثلثان 40 وبسط لها فرشا كان الحصير منها منسوجا بالذّهب مكلّلا بالدّرّ والياقوت وقال المأمون حين رآه قاتل الله أبا نواس كأنّه أبصر هذا حيث يقول في صفة الخمر: كأنّ صغرى وكبرى من فواقعها ... حصباء درّ على أرض من الذّهب وأعدّ بدار الطّبخ من الحطب لليلة الوليمة نقل مائة وأربعين بغلا مدّة عام كامل ثلاث مرّات في كلّ يوم وفني الحطب لليلتين وأوقدوا الجريد يصبّون عليه الزّيت وأوعز إلى النّواتية بإحضار السّفن لإجازة الخواصّ من النّاس بدجلة من بغداد إلى قصور الملك بمدينة المأمون لحضور الوليمة فكانت الحرّاقات 41 المعدّة لذلك ثلاثين ألفا أجازوا النّاس فيها أخريات نهارهم وكثير من هذا وأمثاله وكذلك عرس المأمون بن ذي النّون بطليطلة نقله ابن سام في كتاب الذّخيرة وابن حيّان بعد أن كانوا كلّهم في الطّور الأوّل من البداوة عاجزين عن ذلك جملة لفقدان أسبابه والقائمين على صنائعه في غضاضتهم 42 وسذاجتهم يذكر أنّ الحجّاج أولم في اختتان بعض ولده فاستحضر بعض الدّهاقين 43 يسأله عن ولائم الفرس وقال أخبرني بأعظم صنيع شهدته فقال له نعم أيّها الأمير شهدت بعض مرازبة كسرى وقد صنع لأهل فارس صنيعا أحضر فيه صحاف الذّهب على أخونة الفضّة أربعا على كلّ واحد وتحمله أربع وصائف ويجلس عليه أربعة من النّاس فإذا طعموا أتبعوا أربعتهم المائدة بصحافها ووصفائها فقال الحجّاج: «يا غلام انحر الجزر وأطعم النّاس» 44 وعلم أنّه لا يستقلّ بهذه الأبّهة وكذلك كانت. ومن هذا الباب أعطية بني أميّة وجوائزهم فإنّما كان أكثرها الإبل أخذا بمذاهب العرب وبداوتهم ثمّ كانت الجوائز في دولة بني العبّاس والعبيديّين من بعدهم ما علمت من أحمال المال وتخوت الثّياب وإعداد الخيل بمراكبها وهكذا كان شأن كتامة مع الأغالبة بإفريقيّة وكذا بني طفج بمصر وشأن لمتونة مع ملوك الطّوائف بالأندلس والموحّدين كذلك وشأن زناتة مع الموحّدين وهلمّ جرّا تنتقل الحضارة من الدّول السّالفة إلى الدّول الخالفة فانتقلت حضارة الفرس للعرب بني أميّة وبني العبّاس وانتقلت حضارة بني أميّة بالأندلس إلى ملوك المغرب من الموحّدين وزناتة لهذا العهد وانتقلت حضارة بني العبّاس إلى الدّيلم ثمّ إلى التّرك ثمّ إلى السّلجوقيّة ثمّ إلى التّرك المماليك بمصر والتّتر بالعراقين وعلى قدر عظم الدّولة يكون شأنها في الحضارة إذ أمور الحضارة من توابع التّرف والتّرف من توابع الثّروة والنّعمة والثّروة والنّعمة من توابع الملك ومقدار ما يستولي عليه أهل الدّولة فعلى نسبة الملك يكون ذلك كلّه فاعتبره وتفهّمه وتأمّله تجده صحيحا في العمران «وَالله وَارِثُ الأَرْضِ وَمن عَلَيْهَا وَهُوَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ» .
الفصل السادس عشر في أن الترف يزيد الدولة في أولها قوة إلى قوتها
والسّبب في ذلك أنّ القبيل إذا حصل لهم الملك والتّرف كثر التّناسل والولد والعموميّة فكثرت العصابة واستكثروا أيضا من الموالي والصّنائع وربيت أجيالهم في جوّ ذلك النّعيم والرّفه فازدادوا به عددا إلى عددهم وقوّة إلى قوّتهم بسبب كثرة العصائب حينئذ بكثرة العدد فإذا ذهب الجيل الأوّل والثّاني وأخذت الدّولة في الهرم لم تستقلّ أولئك الصّنائع والموالي بأنفسهم في تأسيس الدّولة وتمهيد ملكها لأنّهم ليس لهم من الأمر شيء إنّما كانوا عيالا على أهلها ومعونة لها فإذا ذهب الأصل لم يستقلّ الفرع بالرّسوخ فيذهب ويتلاشى ولا تبقى الدّولة على حالها من القوّة. واعتبر هذا بما وقع في الدّولة العربيّة في الإسلام. كان عدد العرب كما قلنا لعهد النّبوة والخلافة مائة وخمسين ألفا وما يقاربها من مضر وقحطان ولمّا بلغ التّرف مبالغه في الدّولة وتوفّر نموّهم بتوفّر النّعمة واستكثر الخلفاء من الموالي والصّنائع بلغ ذلك العدد إلى أضعافه يقال إنّ المعتصم نازل عمّوريّة لمّا افتتحها في تسعمائة ألف ولا يبعد مثل هذا العدد أن يكون صحيحا إذا اعتبرت حاميتهم في الثّغور الدّانية والقاصية شرقا وغربا إلى الجند الحاملين سرير الملك والموالي والمصطنعين وقال المسعوديّ أحصى بنو العبّاس ابن عبد المطّلب خاصّة أيّام المأمون للإنفاق عليهم فكانوا ثلاثين ألفا بين ذكران وإناث فانظر مبالغ هذا العدد لأقلّ من مائتي سنة واعلم أنّ سببه الرّفه والنّعيم الّذي حصل للدّولة وربي فيه أجيالهم وإلّا فعدد العرب لأوّل الفتح لم يبلغ هذا ولا قريبا منه والله الخلّاق العليم.
الفصل السابع عشر في أطوار الدولة واختلاف أحوالها وخلق أهلها باختلاف الأطوار
اعلم أنّ الدّولة تنتقل في أطوار مختلفة وحالات متجدّدة ويكتسب القائمون بها في كلّ طور خلقا من أحوال ذلك الطّور لا يكون مثله في الطّور الآخر لأنّ الخلق تابع بالطّبع لمزاج الحال الّذي هو فيه وحالات الدّولة وأطوارها لا تعدو في الغالب خمسة أطوار. الطّور الأوّل طور الظّفر بالبغية وغلب المدافع والمانعوالاستيلاء على الملك وانتزاعه من أيدي الدّولة في هذا الطّور أسوة قومه في اكتساب المجد وجباية المال والمدافعة عن الحوزة والحماية لا ينفرد دونهم بشيء لأنّ ذلك هو مقتضى العصبيّة الّتي وقع بها الغلب وهي لم تزل بعد بحالها. الطّور الثّاني طور الاستبداد على قومه والانفراد دونهم بالملك وكبحهم عن التّطاول للمساهمة والمشاركة ويكون صاحب الدّولة في هذا الطّور معنيا باصطناع الرّجال واتّخاذ الموالي والصّنائع والاستكثار من ذلك لجدع أنوف أهل عصبيّته وعشيرته المقاسمين له في نسبة الضّاربين في الملك بمثل سهمه فهو يدافعهم عن الأمر ويصدّهم عن موارده ويردّهم على أعقابهم، أن يخلصوا إليه حتّى يقرّ الأمر في نصابه ويفرد أهل بيته بما يبني من مجده فيعاني من مدافعتهم ومغالبتهم مثل ما عاناه الأوّلون في طلب الأمر أو أشدّ لأنّ الأوّلين دافعوا الأجانب فكان ظهراؤهم على مدافعتهم أهل العصبيّة بأجمعهم وهذا يدافع الأقارب لا يظاهره على مدافعتهم أهل العصبيّة بأجمعهم وهذا يدافع الأقارب لا يظاهره على مدافعتهم إلّا الأقلّ من الأباعد فيركب صعبا من الأمر. الطّور الثّالث طور الفراغ والدّعة لتحصيل ثمرات الملك ممّا تنزع طباع البشر إليه من تحصيل المال وتخليد الآثار وبعد الصّيت فيستفرغ وسعه في الجباية وضبط الدّخل والخرج وإحصاء النّفقات والقصد فيها وتشييد المباني الحافلة والمصانع العظيمة والأمصار المتّسعة والهياكل المرتفعة وإجازة الوفود من أشراف الأمم ووجوه القبائل وبثّ المعروف في أهله هذا مع التّوسعة على صنائعه وحاشيته في أحوالهم بالمال والجاه واعتراض 45 جنوده وإدرار أرزاقهم وإنصافهم في أعطياتهم لكلّ هلال حتّى يظهر أثر ذلك عليهم في ملابسهم وشكّتهم 46 وشاراتهم يوم الزّينة فيباهي بهم الدّول المسالمة ويرهب الدّول المحاربة وهذا الطّور آخر أطوار الاستبداد من أصحاب الدّولة لأنّهم في هذه الأطوار كلّها مستقلّون بآرائهم بانون لعزّهم موضحون الطّرق لمن بعدهم. الطّور الرّابع طور القنوع والمسالمة ويكون صاحب الدّولة في هذا قانعا بما بنى أوّلوه سلما لأنظاره من الملوك وأقتاله مقلّدا للماضين من سلفه فيتّبع آثارهم حذو النّعل بالنّعل ويقتفي طرقهم بأحسن مناهج الاقتداء ويرى أنّ في الخروج عن تقليدهم فساد أمره وأنّهم أبصر بما بنوا من مجده. الطّور الخامس طور الإسراف والتّبذير ويكون صاحب الدّولة في هذا الطّور متلفا لما جمع أوّلوه في سبيل الشّهوات والملاذّ والكرم على بطانته وفي مجالسه واصطناع أخدان السّوء وخضراء الدّمن 47 وتقليدهم عظيمات الأمور الّتي لا يستقلّون بحملها ولا يعرفون ما يأتون ويذرون منها مستفسدا لكبار الأولياء من قومه وصنائع سلفه حتّى يضطغنوا عليه ويتخاذلوا عن نصرته مضيّعا من جنده بما أنفق من أعطياتهم في شهواته وحجب عنهم وجه مباشرته وتفقّده فيكون مخرّبا لما كان سلفه يؤسّسون وهادما لما كانوا يبنون وفي هذا الطّور تحصل في الدّولة طبيعة الهرم ويستولي عليها المزمن الّذي لا تكاد تخلص منه ولا يكون لها معه برء إلى أن تنقرض كما نبيّنه في الأحوال الّتي نسردها والله خير الوارثين.
الفصل الثامن عشر في أن آثار الدولة كلها على نسبة قوتها في أصلها
والسّبب في ذلك أنّ الآثار إنّما تحدث عن القوّة الّتي بها كانت أوّلا وعلى قدرها يكون الأثر فمن ذلك مباني الدّولة وهياكلها العظيمة فإنّما تكون على نسبة قوّة الدّولة في أصلها لأنّها لا تتمّ إلّا بكثرة الفعلة واجتماع الأيدي على العمل بالتّعاون فيه فإذا كانت الدّولة عظيمة فسيحة الجوانب كثيرة الممالك والرّعايا كان الفعلة كثيرين جدّا وحشروا من آفاق الدّولة وأقطارها فتمّ العمل على أعظم هياكله ألا ترى إلى مصانع قوم عاد وثمود وما قصّه القرآن عنهما. وانظر بالمشاهدة إيوان كسرى وما اقتدر فيه الفرس حتّى إنّه عزم الرّشيد على هدمه وتخريبه فتكاءد 48 عنه وشرع فيه ثمّ أدركه العجز وقصّة استشارته ليحيى بن خالد في شأنه معروفة فانظر كيف تقتدر دولة على بناء لا تستطيع أخرى على هدمه مع بون ما بين الهدم والبناء في السّهولة. تعرف من ذلك بون ما بين الدّولتين وانظر إلى بلاط الوليد بدمشق وجامع بني أميّة بقرطبة والقنطرة الّتي على واديها وكذلك بناء الحنايا لجلب الماء إلى قرطاجنّة في القناة الرّاكبة عليها وآثار شرشال بالمغرب والأهرام بمصر وكثير من هذه الآثار الماثلة للعيان يعلم منه اختلاف الدّول في القوّة والضّعف. واعلم أنّ تلك الأفعال للأقدمين إنّما كانت بالهندام 49 واجتماع الفعلة وكثرة الأيدي عليها فبذلك شيّدت تلك الهياكل والمصانع ولا تتوهّم ما تتوهّمه العامّة أنّ ذلك لعظم أجسام الأقدمين عن أجسامنا في أطرافها وأقطارها فليس بين البشر في ذلك كبير بون كما نجد بين الهياكل والآثار ولقد ولع القصّاص بذلك وتغالوا فيه وسطّروا عن عاد وثمود والعمالقة في ذلك أخبارا عريقة في الكذب من أغربها ما يحكون عن عوج بن عناق 50 رجل من العمالقة الّذين قاتلهم بنو إسرائيل في الشّام زعموا أنّه كان لطوله يتناول السّمك من البحر ويشويه إلى الشّمس ويزيدون إلى جهلهم بأحوال البشر الجهل بأحوال الكواكب لما اعتقدوا أنّ للشّمس حرارة وأنّها شديدة فيما قرب منها ولا يعلمون أنّ الحرّ هو الضّوء وأنّ الضّوء فيما قرب من الأرض أكثر لانعكاس الأشعّة من سطح الأرض بمقابلة الأضواء فتتضاعف الحرارة هنا لأجل ذلك وإذا تجاوزت مطارح الأشعّة المنعكسة فلا حرّ هنالك بل يكون فيه البرد حيث مجاري السّحاب وأنّ الشّمس في نفسها لا حارّة ولا باردة وإنّما هي جسم بسيط مضيء لا مزاج له 51 . وكذلك عوج بن عناق هو فيما ذكروه من العمالقة أو من الكنعانيّين الّذين كانوا فريسة بني إسرائيل عند فتحهم الشّام وأطوال بني إسرائيل وجسمانهم لذلك العهد قريبة من هياكلنا يشهد لذلك أبواب بيت المقدس فإنّها وإن خرّبت وجدّدت لم تزل المحافظة على أشكالها ومقادير أبوابها وكيف يكون التّفاوت بين عوج وبين أهل عصره بهذا المقدار وإنّما مثار غلطهم في هذا أنّهم استعظموا آثار الأمم ولم يفهموا حال الدّول في الاجتماع والتّعاون وما يحصل بذلك وبالهندام من الآثار العظيمة فصرفوه إلى قوّة الأجسام وشدّتها بعظم هياكلها وليس الأمر كذلك. وقد زعم المسعوديّ ونقله عن الفلاسفة مزعما لا مستند له إلّا التّحكّم وهو أنّ الطّبيعة الّتي هي جبلة للأجسام لمّا برأ الله الخلق كانت في تمام الكرة 52 ونهاية القوّة والكمال وكانت الأعمار أطول والأجسام أقوى لكمال تلك الطّبيعة فإنّ طروء الموت إنّما هو بانحلال القوى الطّبيعيّة فإذا كانت قويّة كانت الأعمار أزيد فكان العالم في أوّليّة نشأته تامّ الأعمار كامل الأجسام ثمّ لم يزل يتناقص لنقصان المادّة إلى أن بلغ إلى هذه الحال الّتي هو عليها ثمّ لا يزال يتناقص إلى وقت الانحلال وانقراض العالم وهذا رأي لا وجه له إلّا التّحكّم كما تراه وليس له علّة طبيعيّة ولا سبب برهانيّ ونحن نشاهد مساكن الأوّلين وأبوابهم وطرقهم فيما أحدثوه من البنيان والهياكل والدّيار والمساكن كديار ثمود المنحوتة في الصّلد من الصّخر بيوتا صغارا وأبوابها ضيّقة وقد أشار صلّى الله عليه وسلّم إلى أنّها ديارهم ونهى عن استعمال مياههم وطرح ما عجن به وأهرق وقال «لا تدخلوا مساكن الّذين ظلموا أنفسهم إلّا أن تكونوا باكين أن يصيبكم ما أصابهم» . وكذلك أرض عاد ومصر والشّام وسائر بقاع الأرض شرقا وغربا والحقّ ما قرّرناه ومن آثار الدّول أيضا حالها في الأعراس والولائم كما ذكرناه في وليمة بوران وصنيع الحجّاج وابن ذي النّون وقد مرّ ذلك كلّه. ومن آثارها أيضا عطايا الدّول وأنّها تكون على نسبتها ويظهر ذلك فيها ولو أشرفت على الهرم فإنّ الهمم الّتي لأهل الدّولة تكون على نسبة قوّة ملكهم وغلبهم للنّاس والهمم لا تزال مصاحبة لهم إلى انقراض الدّولة واعتبر ذلك بجوائز ابن ذي يزن لوفد قريش كيف أعطاهم من أرطال الذّهب والفضّة والأعبد والوصائف عشرا عشرا ومن كرش 53 العنبر واحدة وأضعف ذلك بعشرة أمثاله لعبد المطّلب وإنّما ملكه يومئذ قرارة اليمن خاصّة تحت استبداد فارس وإنّما حمله على ذلك همّة نفسه بما كان لقومه التّبابعة من الملك في الأرض والغلب على الأمم في العراقين والهند والمغرب وكان الصّنهاجيّون بإفريقيّة أيضا إذا أجازوا الوفد من أمراء زناتة الوافدين عليهم فإنّما يعطونهم المال أحمالا والكساء تخوتا مملوءة والحملان 54 جنائب عديدة. وفي تاريخ ابن الرّقيق من ذلك أخبار كثيرة وكذلك كان عطاء البرامكة وجوائزهم ونفقاتهم وكانوا إذا كسبوا معدما فإنّما هو الولاية والنّعمة آخر الدّهر لا العطاء الّذي يستنفده يوم أو بعض يوم وأخبارهم في ذلك كثيرة مسطورة وهي كلّها على نسبة الدّول جارية هذا جوهر الصّقلبيّ الكاتب قائد جيش العبيديّين لمّا ارتحل إلى فتح مصر استعدّ من القيروان بألف حمل من المال ولا تنتهي اليوم دولة إلى مثل هذا. وكذلك وجد بخطّ أحمد بن محمّد بن عبد الحميد عمل بما يحمل إلى بيت المال ببغداد أيّام المأمون من جميع النّواحي نقلته من جراب الدّولة (غلات السواد) 55 سبع وعشرون ألف ألف درهم مرّتين وثمانمائة ألف درهم ومن الحلل 56 النّجرانيّة مائتا حلّة ومن طين الختم مائتان وأربعون رطلا (كنكر) 57 أحد عشر ألف ألف درهم مرّتين وستّمائة ألف درهم (كورد جلة) عشرون ألف ألف درهم وثمانيّة دراهم. (حلوان) 58 أربعة آلاف ألف درهم مرّتين وثمانمائة ألف درهم (الأهواز) خمسة وعشرون ألف درهم مرّة ومن السّكّر ثلاثون ألف رطل (فارس) سبعة وعشرون ألف ألف درهم ومن ماء الورد ثلاثون ألف قارورة ومن الزّيت الأسود عشرون ألف رطل (كرمان) أربعة آلاف ألف درهم مرّتين ومائتا ألف درهم ومن المتاع اليمانيّ خمسمائة ثوب ومن التّمر عشرون ألف رطل (مكران) أربعمائة ألف درهم مرّة (السند وما يليه) أحد عشر ألف ألف درهم مرّتين وخمسمائة ألف درهم ومن العود الهنديّ مائة وخمسون رطلا (سجستان) أربعة آلاف ألف درهم مرّتين ومن الثّياب المعيّنة ثلاثمائة ثوب ومن الفانيد 59 عشرون رطلا (خراسان) ثمانيّة وعشرون ألف ألف درهم مرّتين ومن نقر 60 الفضّة ألفا نقرة ومن البراذين أربعة آلاف ومن الرّقيق ألف رأس ومن المتاع عشرون ألف ثوب ومن الإهليلج 61 ثلاثون ألف رطل (جرجان) اثنا عشر ألف ألف درهم مرّتين ومن الإبريسم ألف شقّة. (قومس) ألف ألف مرّتين وثلاثمائة ألف ومن الفرش الطّبريّ ستّمائة قطعة ومن الأكسية مائتان ومن الثّياب خمسمائة ثوب ومن المناديل ثلاثمائة ومن الجامات ثلاثمائة (الري) اثنا عشر ألف ألف درهم مرّتين ومن العسل عشرون ألف رطل (همذان) أحد عشر ألف ألف درهم مرّتين وثلاثمائة ألف ومن ربّ الرّمّان ألف رطل ومن العسل اثنا عشر ألف رطل (ما بين البصرة والكوفة) عشرة آلاف ألف درهم مرّتين وسبعمائة ألف درهم (ماسبذان والدينار 62 ) أربعة آلاف ألف درهم مرّتين (شهرزور) ستّة آلاف ألف درهم مرّتين وسبعمائة ألف درهم (الموصل وما يليها) أربعة وعشرون ألف ألف درهم مرّتين ومن العسل الأبيض عشرون ألف ألف رطل (آذربيجان) أربعة آلاف ألف درهم مرّتين (الجزيرة وما يليها من أعمال الفرات) أربعة وثلاثون ألف ألف درهم مرّتين ومن الرّقيق ألف راس ومن العسل اثنا عشر ألف زقّ ومن البزاة 63 عشرة ومن الأكسية عشرون (ارمينية) ثلاثة عشر ألف ألف درهم مرّتين ومن البسط 64 المحفور عشرون ومن الزّقم خمسمائة وثلاثون رطلا ومن المسايج السّور ما هي عشرة آلاف رطل ومن الصّونج عشرة آلاف رطل ومن البغال مائتان ومن المهرة ثلاثون (قنسرين) أربعمائة ألف دينار ومن الزّيت ألف حمل (دمشق) أربعمائة ألف دينار وعشرون ألف دينار (الأردن) سبعة وتسعون ألف دينار (فلسطين) ثلاثمائة ألف دينار وعشرة آلاف دينار ومن الزّيت ثلاثمائة ألف رطل (مصر) ألف ألف دينار وتسعمائة ألف دينار وعشرون ألف دينار. (برقة) ألف ألف درهم مرّتين. (افريقية) ثلاثة عشر ألف ألف درهم مرّتين ومن البسط مائة وعشرون. (اليمن) ثلاثمائة ألف دينار وسبعون ألف دينار سوى المتاع. (الحجاز) ثلاثمائة ألف دينار انتهى. وأمّا الأندلس فالّذي ذكره الثّقات من مؤرّخيها أنّ عبد الرّحمن النّاصر خلّف في بيوت أمواله خمسة آلاف ألف ألف دينار مكرّرة ثلاث مرّات يكون جملتها بالقناطير خمسمائة ألف قنطار.
ورأيت في بعض تواريخ الرّشيد أنّ المحمول إلى بيت المال في أيّامه سبعة آلاف قنطار وخمسمائة قنطار في كلّ سنة فاعتبر ذلك في نسب الدّول بعضها من بعض ولا تنكرنّ ما ليس بمعهود عندك ولا في عصرك شيء من أمثاله فتضيق حوصلتك عند ملتقط الممكنات فكثير من الخواصّ إذا سمعوا أمثال هذه الأخبار عن الدّول السّالفة بادر بالإنكار وليس ذلك من الصّواب فإنّ أحوال الوجود والعمران متفاوتة ومن أدرك منها رتبة سفلى أو وسطى فلا يحصر المدارك كلّها فيها ونحن إذا اعتبرنا ما ينقل لنا عن دولة بني العبّاس وبني أميّة والعبيديّين وناسبنا الصّحيح من ذلك والّذي لا شكّ فيه بالّذي نشاهده من هذه الدّول الّتي هي أقلّ بالنّسبة إليها وجدنا بينها بونا وهو لما بينها من التّفاوت في أصل قوّتها وعمران ممالكها فالآثار كلها جارية على نسبة الأصل في القوّة كما قدّمناه ولا يسعنا إنكار ذلك عنها إذ كثير من هذه الأحوال في غاية الشّهرة والوضوح بل فيها ما يلحق بالمستفيض والمتواتر وفيها المعاين والمشاهد من آثار البناء وغيره فخذ من الأحوال المنقولة مراتب الدّول في قوّتها أو ضعفها وضخامتها أو صغرها واعتبر ذلك بما نقصّه عليك من هذه الحكاية المستظرفة. وذلك أنّه ورد بالمغرب لعهد السّلطان أبي عنان من ملوك بني مرين رجل من مشيخة طنجة يعرف بابن بطوطة 65 كان رحل منذ عشرين سنة قبلها إلى المشرق وتقلّب في بلاد العراق واليمن والهند ودخل مدينة دهلي 66 حاضرة ملك الهند وهو السّلطان محمّد شاه واتّصل بملكها لذلك العهد وهو فيروزجوه وكان له منه مكان واستعمله في خطّة القضاء بمذهب المالكيّة في عمله ثمّ انقلب إلى المغرب واتّصل بالسّلطان أبي عنان وكان يحدّث عن شأن رحلته وما رأى من العجائب بممالك الأرض وأكثر ما كان يحدّث عن دولة صاحب الهند ويأتي من
أحواله بما يستغربه السّامعون مثل أنّ ملك الهند إذا خرج إلى السّفر أحصى أهل مدينته من الرّجال والنّساء والولدان وفرض لهم رزق ستّة أشهر تدفع لهم من عطائه وأنّه عند رجوعه من سفره يدخل في يوم مشهود يبرز فيه النّاس كافّة إلى صحراء البلد ويطوفون به وينصب أمامه في ذلك الحقل منجنيقات على الظّهر ترمى بها شكائر 67 الدّراهم والدّنانير على النّاس إلى أن يدخل إيوانه وأمثال هذه الحكايات فتناحى النّاس بتكذيبه ولقيت أيّامئذ وزير السّلطان فارس بن وردار البعيد الصّيت ففاوضته في هذا الشّأن وأريته إنكار أخبار ذلك الرّجل لما استفاض في النّاس من تكذيبه. فقال لي الوزير فارس إيّاك أن تستنكر مثل هذا من أحوال الدّول بما أنّك لم تره فتكون كابن الوزير النّاشئ في السّجن وذلك أنّ وزيرا اعتقله سلطانه ومكث في السّجن سنين ربي فيها ابنه في ذلك المجلس فلمّا أدرك وعقل سأل عن اللّحمان الّتي كان يتغذّى بها فقال له أبوه هذا لحم الغنم فقال وما الغنم فيصفها له أبوه بشياتها ونعوتها فيقول يا أبت تراها مثل الفأر فينكر عليه ويقول أين الغنم من الفأر وكذا في لحم الإبل والبقر إذ لم يعاين في محبسه من الحيوانات إلّا الفار فيحسبها كلّها أبناء جنس الفأر ولهذا كثيرا ما يعتري النّاس في الأخبار كما يعتريهم الوسواس في الزّيادة عند قصد الإغراب كما قدّمناه أوّل الكتاب فليرجع الإنسان إلى أصوله وليكن مهيمنا على نفسه ومميّزا بين طبيعة الممكن والممتنع بصريح عقله ومستقيم فطرته فما دخل في نطاق الإمكان قبله وما خرج عنه رفضه وليس مرادنا الإمكان العقليّ المطلق فإنّ نطاقه أوسع شيء فلا يفرض حدّا بين الواقعات وإنّما مرادنا الإمكان بحسب المادّة الّتي للشّيء فإنّا إذا نظرنا أصل الشّيء وجنسه وصنفه ومقدار عظمه وقوّته أجرينا الحكم من نسبة ذلك على أحواله وحكمنا بالامتناع على ما خرج من نطاقه «وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً 20: 114 وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» والله سبحانه وتعالى أعلم.
الفصل التاسع عشر في استظهار صاحب الدولة على قومه وأهل عصبيته بالموالي والمصطنعين
اعلم أنّ صاحب الدّولة إنّما يتمّ أمره كما قلناه بقومه فهم عصابته وظهراؤه على شأنه وبهم يقارع الخوارج على دولته ومنهم يقلّد أعمال مملكته ووزارة دولته وجباية أمواله لأنّهم أعوانه على الغلب وشركاؤه في الأمر ومساهموه في سائر مهمّاته هذا ما دام الطّور الأوّل للدّولة كما قلناه فإذا جاء الطّور الثّاني وظهر الاستبداد عنهم والانفراد بالمجد ودافعهم عنه بالمراح صاروا في حقيقة الأمر من بعض أعدائه واحتاج في مدافعتهم عن الأمر وصدّهم عن المشاركة إلى أولياء آخرين من غير جلدتهم يستظهر بهم عليهم ويتولّاهم دونهم فيكونون أقرب إليه من سائرهم وأخصّ به قربا واصطناعا وأولى إيثارا وجاها لما أنّهم يستميتون دونه في مدافعة قومه عن الأمر الّذي كان لهم والرّتبة الّتي ألفوها في مشاركتهم فيستخلصهم صاحب الدّولة ويخصّهم بمزيد التّكرمة والإيثار ويقسم لهم ما للكثير من قومه ويقلّدهم جليل الأعمال والولايات من الوزارة والقيادة والجباية وما يختصّ به لنفسه وتكون خالصة له دون قومه من ألقاب المملكة لأنّهم حينئذ أولياؤه الأقربون ونصحاؤه المخلصون وذلك حينئذ مؤذن باهتضام 68 الدّولة وعلامة على المرض المزمن فيها لفساد العصبيّة الّتي كان بناء الغلب عليها. ومرض قلوب أهل الدّولة حينئذ من الامتهان وعداوة السّلطان فيضطغنون 69 عليه ويتربّصون به الدّوائر ويعود وبال ذلك على الدّولة ولا يطمع في برئها من هذا الدّاء لأنّه ما مضى يتأكد في الأعقاب إلى أن يذهب رسمها واعتبر ذلك في دولة بني أميّة كيف كانوا إنّما يستظهرون في حروبهم وولاية أعمالهم برجال العرب مثل عمرو بن سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن زياد بن أبي سفيان والحجّاج بن يوسف والمهلّب بن أبي صفرة وخالد بن عبد الله القسريّ وابن هبيرة وموسى بن نصير وبلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعريّ ونصر بن سيّار وأمثالهم من رجالات العرب وكذا صدر من دولة بني العبّاس كان الاستظهار فيها أيضا برجالات العرب فلمّا صارت الدّولة للانفراد بالمجد وكبح العرب عن التّطاول للولايات صارت الوزارة للعجم والصّنائع من البرامكة وبني سهل بن نوبخت وبني طاهر ثمّ بني بويه وموالي التّرك مثل بغا ووصيف وأثلمش وباكناك وابن طولون وأبنائهم وغير هؤلاء من موالي العجم فتكون الدّولة لغير من مهّدها والعزّ لغير من اجتلبه سنّة الله في عباده والله تعالى أعلم.
الفصل العشرون في أحوال الموالي والمصطنعين في الدول
اعلم أنّ المصطنعين في الدّول يتفاوتون في الالتحام بصاحب الدّولة بتفاوت قديمهم وحديثهم في الالتحام بصاحبها والسّبب في ذلك أنّ المقصود في العصبيّة من المدافعة والمغالبة إنّما يتمّ بالنّسب لأجل التّناصر في ذوي الأرحام والقربى والتّخاذل في الأجانب والبعداء كما قدّمناه والولاية والمخالطة بالرّقّ أو بالحلف تتنزّل منزلة ذلك لأنّ أمر النّسب وإن كان طبيعيّا فإنّما هو وهميّ والمعنى الّذي كان به الالتحام إنّما هو العشرة والمدافعة وطول الممارسة والصّحبة بالمربى والرّضاع وسائر أحوال الموت والحياة وإذا حصل الالتحام بذلك جاءت النّعرة والتّناصر وهذا مشاهد بين النّاس واعتبر مثله في الاصطناع فإنّه يحدث بين المصطنع ومن اصطنعه نسبة خاصّة من الوصلة تتنزّل هذه المنزلة وتؤكّد اللحمةوإن لم يكن نسب فثمرات النّسب موجودة فإذا كانت هذه الولاية بين القبيل وبين أوليائهم قبل حصول الملك لهم كانت عروقها أوشج وعقائدها أصحّ ونسبها أصرح لوجهين أحدهما أنّهم قبل الملك أسوة في حالهم فلا يتميّز النّسب عن الولاية إلّا عند الأقلّ منهم فيتنزّلون منهم منزلة ذوي قرابتهم وأهل أرحامهم وإذا اصطنعوهم بعد الملك كانت مرتبة الملك مميّزة للسّيد عن المولى. ولأهل القرابة عن أهل الولاية والاصطناع لما تقتضيه أحوال الرّئاسة والملك من تميّز الرّتب وتفاوتها فتتميّز حالتهم ويتنزّلون منزلة الأجانب ويكون الالتحام بينهم أضعف والتّناصر لذلك أبعد وذلك أنقص من الاصطناع قبل الملك. الوجه الثّاني أنّ الاصطناع قبل الملك يبعد عهده عن أهل الدّولة بطول الزّمان ويخفي شأن تلك اللّحمة ويظنّ بها في الأكثر النّسب فيقوى حال العصبيّة وأمّا بعد الملك فيقرب العهد ويستوي في معرفته الأكثر فتتبيّن اللّحمة وتتميّز عن النّسب فتضعف العصبيّة بالنّسبة إلى الولاية الّتي كانت قبل الدّولة واعتبر ذلك في الدّول والرّئاسات تجده فكلّ من كان اصطناعه قبل حصول الرّئاسة والملك لمصطنعه تجده أشدّ التحاما به وأقرب قرابة إليه ويتنزّل منه منزلة أبنائه وإخوانه وذوي رحمه ومن كان اصطناعه بعد حصول الملك والرّئاسة لمصطنعه لا يكون له من القرابة واللّحمة ما للأوّلين وهذا مشاهد بالعيان حتّى إنّ الدّولة في آخر عمرها ترجع إلى استعمال الأجانب واصطناعهم ولا يبنى لهم مجد كما بناه المصطنعون قبل الدّولة لقرب العهد حينئذ بأوّليّتهم ومشارفة الدّولة على الانقراض فيكونون منحطّين في مهاوي الضّعة. وإنّما يحمل صاحب الدّولة على اصطناعهم والعدول إليهم عن أوليائها الأقدمين وصنائعها الأوّلين ما يعتريهم في أنفسهم من العزّة على صاحب الدّولة وقلّة الخضوع له ونظره بما ينظره به قبيله وأهل نسبه لتأكّد اللّحمة منذ العصور المتطاولة بالمربى والاتّصال بآبائه وسلف قومه والانتظام مع كبراء أهل بيته فيحصل لهم بذلك دالّة عليه واعتزاز فينافرهم بسببها صاحب الدّولة ويعدل عنهم إلى استعمال سواهم ويكون عهد استخلاصهم واصطناعهم قريبا فلا يبلغون رتب المجد ويبقون على حالهم من الخارجيّة وهكذا شأن الدّول في أواخرها وأكثر ما يطلق اسم الصّنائع والأولياء على الأوّلين وأمّا هؤلاء المحدثون فخدم وأعوان والله وليّ المؤمنين وهو على كلّ شيء وكيل.
الفصل الحادي والعشرون فيما يعرض في الدول من حجر السلطان والاستبداد عليه
إذا استقرّ الملك في نصاب معيّن ومنبت واحد من القبيل القائمين بالدّولة وانفردوا به ودفعوا سائر القبيل عنه وتداوله بنوهم واحدا بعد واحد بحسب التّرشيح فربّما حدث التّغلّب على المنصب من وزرائهم وحاشيتهم وسببه في الأكثر ولاية صبيّ صغير أو مضعف من أهل المنبت يترشّح للولاية بعهد أبيه أو بترشيح ذويه وخوله ويؤنس منه العجز عن القيام بالملك فيقوم به كافله من وزراء أبيه وحاشيته ومواليه أو قبيله ويورّي بحفظ أمره عليه حتّى يؤنس منه الاستبداد ويجعل ذلك ذريعة للملك فيحجب الصّبيّ عن النّاس ويعوّده إليها ترف أحواله ويسيمه في مراعيها متى أمكنه وينسيه النّظر في الأمور السّلطانيّة حتّى يستبدّ عليه وهو بما عوّده يعتقد أنّ حظّ السّلطان من الملك إنّما هو جلوس السّرير وإعطاء الصّفقة وخطاب التّهويل والقعود مع النّساء خلف الحجاب وأنّ الحلّ والرّبط والأمر والنّهي ومباشرة الأحوال الملوكيّة وتفقّدها من النّظر في الجيش والمال والثّغور إنّما هو للوزير ويسلّم له في ذلك إلى أن تستحكم له صبغة الرّئاسة والاستبداد ويتحوّل الملك إليه ويؤثر به عشيرته وأبناءه من بعده كما وقع لبني بويه والتّرك وكافور الإخشيديّ وغيرهم بالمشرق وللمنصور بن أبي عامر بالأندلس.
وقد يتفطّن ذلك المحجور المغلّب لشأنه فيحاول على 70 الخروج من ربقة الحجر والاستبداد ويرجع الملك إلى نصابه ويضرب على أيدي المتغلّبين عليه إمّا بقتل أو برفع عن الرّتبة فقط إلّا أنّ ذلك في النّادر الأقلّ لأنّ الدّولة إذا أخذت في تغلّب الوزراء والأولياء استمرّ لها ذلك وقلّ أن تخرج عنه لأنّ ذلك إنّما يوجد في الأكثر عن أحوال التّرف ونشأة أبناء الملك منغمسين في نعيمه قد نسوا عهد الرّجولة وألفوا أخلاق الدّايات والأظآر 71 وربوا عليها فلا ينزعون إلى رئاسة ولا يعرفون استبدادا من تغلّب إنّما همّهم في القنوع بالأبّهة والتّنفّس في اللّذّات وأنواع التّرف وهذا التّغلّب يكون للموالي والمصطنعين عند استبداد عشير الملك على قومهم وانفرادهم به دونهم وهو عارض للدّولة ضروريّ كما قدّمناه وهذان مرضان لا برء للدّولة منهما إلّا في الأقلّ النّادر وَالله يُؤْتِي مُلْكَهُ من يَشاءُ 2: 247 وهو على كلّ شيء قدير.
الفصل الثاني والعشرون في ان المتغلبين على السلطان لا يشاركونه في اللقب الخاص بالملك
وذلك أنّ الملك والسّلطان حصل لأوّليه مذ أوّل الدّولة بعصبيّة قومه وعصبيّته الّتي استتبعتهم حتّى استحكمت له ولقومه صبغة الملك والغلب وهي لم تزل باقية وبها انحفظ رسم الدّولة وبقاؤها وهذا المتغلّب وإن كان صاحب عصبيّة من قبيل الملك أو الموالي والصّنائع فعصبيّته مندرجة في عصبيّة أهل الملك وتابعة لها وليس له صبغة في الملك وهو لا يحاول في استبداده انتزاع ثمراته من الأمر والنّهي والحلّ والعقد والإبرام والنّقص يوهم فيها أهل الدّولة أنّه متصرّف عن سلطانه منفذ في ذلك من وراء الحجاب لأحكامه. فهو يتجافى عن سمات الملك وشاراته وألقابه جهده ويبعد نفسه عن التّهمة بذلك. وإن حصل له الاستبداد لأنّه مستتر في استبداده ذلك بالحجاب الّذي ضربه السّلطان وأوّلوه على أنفسهم عن القبيل منذ أوّل الدّولة ومغالط عنه بالنّيابة ولو تعرّض لشيء من ذلك لنفسه 72 عليه أهل العصبيّة وقبيل الملك وحاولوا الاستئثار به دونه لأنّه لم تستحكم له في ذلك صبغة تحملهم على التّسليم له والانقياد فيهلك لأوّل وهلة وقد وقع مثل هذا لعبد الرّحمن بن النّاصر بن منصور بن أبي عامر حين سما إلى مشاركة هشام وأهل بيته في لقب الخلافة ولم يقنع بما قنع به أبوه وأخوه من الاستبداد بالحلّ والعقد والمراسم المتتابعة فطلب من هشام خليفته أن يعهد له بالخلافة فنفس ذلك عليه بنو مروان وسائر قريش وبايعوا لابن عمّ الخليفة هشام محمّد بن عبد الجبّار بن النّاصر وخرجوا عليهم وكان في ذلك خراب دولة العامريّين وهلاك المؤيّد خليفتهم واستبدل منه سواه من أعياص 73 الدّولة إلى آخرها واختلّت مراسم ملكهم والله خير الوارثين.
الفصل الثالث والعشرون في حقيقة الملك وأصنافه
لملك منصب طبيعيّ للإنسان لأنّا قد بيّنا أنّ البشر لا يمكن حياتهم ووجودهم إلّا باجتماعهم وتعاونهم على تحصيل قوتهم وضروريّاتهم وإذا اجتمعوا دعت الضّرورة إلى المعاملة واقتضاء الحاجات ومدّ كلّ واحد منهم يده إلى حاجته يأخذها من صاحبه لما في الطّبيعة الحيوانيّة من الظّلم والعدوان بعضهم على بعض ويمانعه الآخر عنها بمقتضى الغضب والأنفة ومقتضى القوّة البشريّة في ذلك فيقع التّنازع المفضي إلى المقاتلة وهي تؤدّي إلى الهرج وسفك الدّماء وإذهاب النّفوس المفضي ذلك إلى انقطاع النّوع وهو ممّا خصّه الباري سبحانه بالمحافظة فاستحال بقاؤهم فوضى دون حالم يزع بعضهم عن بعض واحتاجوا من أجل ذلك إلى الوازع وهو الحاكم عليهم وهو بمقتضى الطّبيعة البشريّة الملك القاهر المتحكّم ولا بدّ في ذلك من العصبيّة لما قدّمناه من أنّ المطالبات كلّها والمدافعات لا تتمّ إلّا بالعصبيّة وهذا الملك كما تراه منصب شريف تتوجّه نحوه المطالبات ويحتاج إلى المدافعات. ولا يتمّ شيء من ذلك إلّا بالعصبيّات كما مرّ والعصبيّات متفاوتة وكلّ عصبيّة فلها تحكّم وتغلّب على من يليها من قومها وعشيرها وليس الملك لكلّ عصبيّة وإنّما الملك على الحقيقة لمن يستعبد الرّعية ويجبي الأموال ويبعث البعوث ويحمي الثّغور ولا تكون فوق يده يد قاهرة وهذا معنى الملك وحقيقته في المشهور فمن قصّرت به عصبيّته عن بعضها مثل حماية الثّغور أو جباية الأموال أو بعث البعوث فهو ملك ناقص لم تتمّ حقيقته كما وقع لكثير من ملوك البربر في دولة الأغالبة بالقيروان ولملوك العجم صدر الدّولة العباسيّة. ومن قصّرت به عصبيّته أيضا عن الاستعلاء على جميع العصبيّات، والضّرب على سائر الأيدي وكان فوقه حكم غيره فهو أيضا ملك ناقص لم تتمّ حقيقته وهؤلاء مثل أمراء النّواحي ورؤساء الجهات الّذين تجمعهم دولة واحدة وكثيرا ما يوجد هذا في الدّولة المتّسعة النّطاق أعني توجد ملوك على قومهم في النّواحي القاصية يدينون بطاعة الدّولة الّتي جمعتهم مثل صنهاجة مع العبيديّين وزناتة مع الأمويّين تارة والعبيديّين تارة أخرى ومثل ملوك العجم في دولة بني العبّاس ومثل ملوك الطّوائف من الفرس مع الإسكندر وقومه اليونانيّين وكثير من هؤلاء فاعتبره تجده والله القاهر فوق عباده .
الفصل الرابع والعشرون في أن إرهاف الحد مضر بالملك ومفسد له في الأكثر
اعلم أنّ مصلحة الرّعيّة في السّلطان ليست في ذاته وجسمه من حسن شكله أو ملاحة وجهه أو عظم جثمانه أو اتّساع علمه أو جودة خطّه أو ثقوب ذهنه وإنّما مصلحتهم فيه من حيث إضافته إليهم فإنّ الملك والسّلطان من الأمور الإضافيّة وهي نسبة بين منتسبين فحقيقة السّلطان أنّه المالك للرّعيّة القائم في أمورهم عليهم فالسّلطان من له رعيّة والرّعيّة من لها سلطان والصّفة الّتي له من حيث إضافته إليهم هي الّتي تسمّى الملكة وهي كونه يملكهم فإذا كانت هذه الملكة وتوابعها من الجودة بمكان حصل المقصود من السّلطان على أتمّ الوجوه فإنّها إن كانت جميلة صالحة كان ذلك مصلحة لهم وإن كانت سيئة متعسّفة كان ذلك ضررا عليهم وإهلاكا لهم. ويعود حسن الملكة إلى الرّفق فإنّ الملك إذا كان قاهرا باطشا بالعقوبات منقّبا عن عورات النّاس وتعديد ذنوبهم شملهم الخوف والذّلّ ولاذوا منه بالكذب والمكر والخديعة فتخلّقوا بها وفسدت بصائرهم وأخلاقهم وربّما خذلوه في مواطن الحروب والمدافعات ففسدت الحماية بفساد النّيّات وربّما أجمعوا على قتله لذلك فتفسد الدّولة ويخرّب السّياج وإن دام أمره عليهم وقهره فسدت العصبيّة لما قلناه أوّلا وفسد السّياج من أصله بالعجز عن الحماية وإذا كان رفيقا بهم متجاوزا عن سيئاتهم استناموا إليه ولاذوا به وأشربوا محبّته واستماتوا دونه في محاربة أعدائه فاستقام الأمر من كلّ جانب وأمّا توابع حسن الملكة فهي النّعمة عليهم والمدافعة عنهم فالمدافعة بها تتمّ حقيقة الملك وأمّا النّعمة عليهم والإحسان لهم فمن جملة الرّفق بهم والنّظر لهم في معاشهم وهي أصل كبير من التّحبّب إلى الرّعيّة واعلم أنّه قلّما تكون ملكة الرّفق في من يكون يقظا شديد الذّكاء من النّاس وأكثر ما يوجد الرّفق في الغفّل والمتغفّل وأقلّ ما يكون في اليقظ لأنّه يكلّف الرّعيّة فوق طاقتهم لنفوذ نظره فيما وراء مداركهم واطّلاعه على عواقب الأمور في مبادئها بالمعيّة فيهلكون لذلك قال صلّى الله عليه وسلّم «سيروا على سير أضعفكم» ومن هذا الباب اشترط الشّارع في الحاكم قلّة الإفراط في الذّكاء، ومأخذه من قصّة زياد ابن أبي سفيان لمّا عزله عمر عن العراق وقال له: «لم عزلتني يا أمير المؤمنين ألعجز أم لخيانة» فقال عمر: «لم أعزلك لواحدة منهما ولكنّي كرهت أن أحمل فضل عقلك عن النّاس» فأخذ من هذا أنّ الحاكم لا يكون مفرط الذّكاء والكيس مثل زياد بن أبي سفيان وعمرو بن العاص لما يتبع ذلك من التّعسّف وسوء الملكة وحمل الوجود على ما ليس في طبعه كما يأتي في آخر هذا الكتاب والله خير المالكين وتقرّر من هذا أنّ الكيس والذّكاء عيب في صاحب السّياسة لأنّه إفراط في الفكر كما أنّ البلادة إفراط في الجمود والطّرفان مذمومان من كلّ صفة إنسانيّة والمحمود هو التّوسّط كما في الكرم مع التّبذير والبخل وكما في الشّجاعة مع الهوج والجبن وغير ذلك من الصّفات الإنسانيّة ولهذا يوصف الشّديد الكيس بصفات الشّيطان فيقال شيطان ومتشيطن وأمثال ذلك والله يخلق ما يشاء وهو العليم القدير.
الفصل الخامس والعشرون في معنى الخلافة والإمامة
لمّا كانت حقيقة الملك أنّه الاجتماع الضّروريّ للبشر ومقتضاه التّغلّب والقهر اللّذان هما من آثار الغضب والحيوانيّة كانت أحكام صاحبه في الغالب جائزة عن الحقّ مجحفة بمن تحت يده من الخلق في أحوال دنياهم لحملة إيّاهم في الغالب على ما ليس في طوقهم من أغراضه وشهواته ويختلف ذلك باختلافالمقاصد من الخلف والسّلف منهم فتعسر طاعته لذلك وتجيء العصبيّة المفضية إلى الهرج والقتل فوجب أن يرجع في ذلك إلى قوانين سياسيّة مفروضة يسلّمها الكافّة وينقادون إلى أحكامها كما كان ذلك للفرس وغيرهم من الأمم وإذا خلت الدّولة من مثل هذه السّياسة لم يستتبّ أمرها ولم يتمّ استيلاؤها «سنّة الله في الّذين خلوا من قبل» . فإذا كانت هذه القوانين مفروضة من العقلاء وأكابر الدّولة وبصرائها كانت سياسة عقليّة وإذا كانت مفروضة من الله بشارع يقرّرها ويشرّعها كانت سياسة دينيّة نافعة في الحياة الدّنيا وفي الآخرة وذلك أنّ الخلق ليس المقصود بهم دنياهم فقط فإنّها كلّها عبث وباطل إذ غايتها الموت والفناء، والله يقول «أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً 23: 115» فالمقصود بهم إنّما هو دينهم المفضي بهم إلى السّعادة في آخرتهم «صِراطِ الله الَّذِي لَهُ ما في السَّماواتِ وَما في الْأَرْضِ 42: 53» فجاءت الشّرائع بحملهم على ذلك في جميع أحوالهم من عبادة ومعاملة حتّى في الملك الّذي هو طبيعيّ للاجتماع الإنسانيّ فأجرته على منهاج الدّين ليكون الكلّ محوطا بنظر الشّارع. فما كان منه بمقتضى القهر والتّغلّب وإهمال القوّة العصبيّة في مرعاها فجور وعدوان ومذموم عنده كما هو مقتضى الحكمة السّياسيّة وما كان منه بمقتضى السّياسة وأحكامها فمذموم أيضا لأنّه نظر بغير نور الله «وَمن لَمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً فَما لَهُ من نُورٍ 24: 40» لأنّ الشّارع أعلم بمصالح الكافّة فيما هو مغيّب عنهم من أمور آخرتهم وأعمال البشر كلّها عائدة عليهم في معادهم من ملك أو غيره قال صلّى الله عليه وسلّم «إنّما هي أعمالكم تردّ عليكم» وأحكام السّياسة إنّما تطلع على مصالح الدّنيا فقط «يَعْلَمُونَ ظاهِراً من الْحَياةِ الدُّنْيا 30: 7» ، ومقصود الشّارع بالنّاس صلاح آخرتهم فوجب بمقتضى الشّرائع حمل الكافّة على الأحكام الشّرعيّة في أحوال دنياهم وآخرتهم وكان هذا الحكم لأهل الشّريعة وهم الأنبياء ومن قام فيه مقامهم وهم الخلفاء فقد تبيّن لك من ذلك معنى الخلافة وأنّ الملك الطّبيعيّ هو حمل الكافّة على مقتضى الغرض والشّهوة والسّياسيّ هو حمل الكافّة على مقتضى النّظر العقليّ في جلب المصالح الدّنيويّة ودفع المضارّ والخلافة هي حمل الكافّة على مقتضى النّظر الشّرعي في مصالحهم الأخرويّة والدّنيويّة الرّاجعة إليها إذ أحوال الدّنيا ترجع كلّها عند الشّارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشّرع في حراسة الدّين وسياسة الدّنيا به فافهم ذلك واعتبره فيما نورده عليك من بعد والله الحكيم العليم.
الفصل السادس والعشرون في اختلاف الأمة في حكم هذا المنصب وشروطه
وإذ قد بيّنّا حقيقة هذا المنصب وأنّه نيابة عن صاحب الشّريعة في حفظ الدّين وسياسة الدّنيا به تسمّى خلافة وإمامة والقائم به خليفة وإماما فأمّا تسميته إماما فتشبيها بإمام الصّلاة في اتّباعه والاقتداء به ولهذا يقال الإمامة الكبرى وأمّا تسميته خليفة فلكونه يخلف النّبيّ في أمّته فيقال خليفة بإطلاق وخليفة رسول الله واختلف في تسميته خليفة الله فأجازه بعضهم اقتباسا من الخلافة العامّة الّتي للآدميّين في قوله تعالى «إِنِّي جاعِلٌ في الْأَرْضِ خَلِيفَةً 2: 30» وقوله «جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ 6: 165» . ومنع الجمهور منه لأنّ معنى الآية ليس عليه وقد نهى أبو بكر عنه لمّا دعي به وقال: «لست خليفة الله ولكنّي خليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» ولأنّ الاستخلاف إنّما هو في حقّ الغائب وأمّا الحاضر فلا. ثمّ إنّ نصب الإمام واجب قد عرف وجوبه في الشّرع بإجماع الصّحابة والتّابعين لأنّ أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند وفاته بادروا إلى بيعة أبي بكر رضي الله عنه وتسليم النّظر إليه في أمورهم وكذا في كلّ عصر من بعد ذلك ولم تترك النّاس فوضى في عصر من الأعصار واستقرّ ذلكإجماعا دالا على وجوب نصب الإمام. وقد ذهب بعض النّاس إلى أنّ مدرك وجوبه العقل، وأنّ الإجماع الّذي وقع إنّما هو قضاء بحكم العقل فيه. قالوا وإنّما وجب بالعقل لضرورة الاجتماع للبشر واستحالة حياتهم ووجودهم منفردين ومن ضرورة الاجتماع التّنازع لازدحام الأغراض. فما لم يكن الحاكم الوازع أفضى ذلك إلى الهرج المؤذن بهلاك البشر وانقطاعهم مع أنّ حفظ النّوع من مقاصد الشّرع الضّروريّة وهذا المعنى بعينه هو الّذي لحظه الحكماء في وجوب النّبوءات في البشر وقد نبّهنا على فساده وأنّ إحدى مقدّماته أنّ الوازع إنّما يكون بشرع من الله تسلّم له الكافّة تسليم إيمان واعتقاد وهو غير مسلّم لأنّ الوازع قد يكون بسطوة الملك وقهر أهل الشّوكة ولو لم يكن شرع كما في أمم المجوس وغيرهم ممّن ليس له كتاب أو لم تبلغه الدّعوة أو نقول يكفي في رفع التّنازع معرفة كلّ واحد بتحريم الظّلم عليه بحكم العقل فادّعاؤهم أنّ ارتفاع التّنازع إنّما يكون بوجود الشّرع هناك ونصب الإمام هنا غير صحيح بل كما يكون بنصب الإمام يكون بوجود الرّؤساء أهل الشّوكة أو بامتناع النّاس عن التّنازع والتّظالم فلا ينهض دليلهم العقليّ المبنيّ على هذه المقدّمة فدلّ على أنّ مدرك وجوبه إنّما هو بالشّرع وهو الإجماع الّذي قدّمناه. وقد شذّ بعض النّاس فقال بعدم وجوب هذا النّصب رأسا لا بالعقل ولا بالشّرع منهم الأصمّ من المعتزلة وبعض الخوارج وغيرهم، والواجب عند هؤلاء إنّما هو إمضاء الحكم الشّرع فإذا تواطأت الأمّة على العدل وتنفيذ أحكام الله تعالى لم يحتج إلى إمام ولا يجب نصبه وهؤلاء محجوجون بالإجماع. والّذي حملهم على هذا المذهب إنّما هو الفرار عن الملك ومذاهبه من الاستطالة والتّغلّب والاستمتاع بالدّنيا لمّا رأوا الشّريعة ممتلئة بذمّ ذلك والنّعي على أهله ومرغّبة في رفضه. واعلم أنّ الشّرع لم يذمّ الملك لذاته ولا حظر القيام به وإنّما ذمّ المفاسد النّاشئة عنه من القهر والظّلم والتّمتّع باللّذات ولا شكّ أنّ في هذه مفاسد محظورة وهي من توابعه كما أثنى على العدل والنّصفة وإقامة مراسم الدّين والذّبّ عنه وأوجب بإزائها الثّواب وهي كلّها من توابع الملك. فإذا إنّما وقع الذّمّ للملك على صفة وحال دون حال أخرى ولم يذمّه لذاته ولا طلب تركه كما ذمّ الشّهوة والغضب من المكلّفين وليس مراده تركهما بالكلّيّة لدعاية الضّرورة إليها وأمّا المراد تصريفهما على مقتضى الحقّ وقد كان لداود وسليمان صلوات الله وسلامه عليهما الملك الّذي لم يكن لغيرهما وهما من أنبياء الله تعالى وأكرم الخلق عنده ثمّ نقول لهم إنّ هذا الفرار عن الملك بعدم وجوب هذا النّصب 74 لا يغنيكم شيئا لأنّكم موافقون على وجوب إقامة أحكام الشّريعة وذلك لا يحصل إلّا بالعصبيّة والشّوكة والعصبيّة مقتضية بطبعها للملك فيحصل الملك وإن لم ينصّب إمام وهو عين ما قرّرتم عنه. وإذا تقرّر أنّ هذا النّصب واجب بإجماع فهو من فروض الكفاية وراجع إلى اختيار أهل العقد والحلّ فيتعيّن عليهم نصبه ويجب على الخلق جميعا طاعته لقوله تعالى «أَطِيعُوا الله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ 4: 59» . وأمّا شروط هذا المنصب فهي أربعة: العلم والعدالة والكفاية وسلامة الحواسّ والأعضاء ممّا يؤثّر في الرّأي والعمل واختلف في شرط خامس وهو النّسب القرشيّ فأمّا اشتراط العلم فظاهر لأنّه إنّما يكون منفّذا لأحكام الله تعالى إذا كان عالما بها وما لم يعلمها لا يصحّ تقديمه لها ولا يكفي من العلم إلّا أن يكون مجتهدا لأنّ التّقليد نقص والإمامة تستدعي الكمال في الأوصاف والأحوال وأمّا العدالة فلأنّه منصب دينيّ ينظر في سائر المناصب الّتي هي شرط فيها فكان أولى باشتراطها فيه. ولا خلاف في انتفاء العدالة فيه بفسق الجوارح من ارتكاب المحظورات وأمثالها وفي انتفائها بالبدع الاعتقاديّة خلاف.
وأمّا الكفاية فهو أن يكون جريئا على إقامة الحدود واقتحام الحروب بصيرا بها كفيلا يحمل النّاس عليها عارفا بالعصبيّة وأحوال الدّهاء قويّا على معاناة السّياسة ليصحّ له بذلك ما جعل إليه من حماية الدّين وجهاد العدوّ وإقامة الأحكام وتدبير المصالح. وأمّا سلامة الحواسّ والأعضاء من النّقص والعطلة 75 كالجنون والعمى والصّمم والخرس وما يؤثّر فقده من الأعضاء في العمل كفقد اليدين والرّجلين والأنثيين فتشترط السّلامة منها كلّها لتأثير ذلك في تمام عمله وقيامه بما جعل إليه وإن كان إنّما يشين في المنظر فقط كفقد إحدى هذه الأعضاء فشرط السّلامة منه شرط كمال ويلحق بفقدان الأعضاء المنع من التّصرّف وهو ضربان ضرب يلحق بهذه في اشتراط السّلامة منه شرط وجوب وهو القهر والعجز عن التّصرّف جملة بالأسر وشبهه وضرب لا يلحق بهذه وهو الحجر باستيلاء بعض أعوانه عليه من غير عصيان ولا مشاقّة فينتقل النّظر في حال هذا المستولي فإن جرى على حكم الدّين والعدل وحميد السّياسة جاز قراره وإلّا استنصر المسلمون بمن يقبض يده عن ذلك ويدفع علّته حتّى ينفّذ فعل الخليفة. وأمّا النّسب القرشيّ فلإجماع الصّحابة يوم السّقيفة على ذلك واحتجّت قريش على الأنصار لمّا همّوا يومئذ ببيعة سعد بن عبّادة وقالوا «منّا أمير ومنكم أمير» بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «الأئمّة من قريش» وبأنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أوصانا بأن نحسن إلى محسنكم ونتجاوز عن مسيئكم ولو كانت الإمارة فيكم لم تكن الوصيّة بكم فحجّوا الأنصار ورجعوا عن قولهم «منّا أمير ومنكم أمير» وعدلوا عمّا كانوا همّوا به من بيعة سعد لذلك. وثبت أيضا في الصّحيح «لا يزال هذا الأمر في هذا الحيّ من قريش» وأمثال هذه الأدلّة كثيرة إلّا أنّه لمّا ضعف أمر قريش وتلاشت عصبيّتهم بما نالهم من التّرف والنّعيم وبما أنفقتهم الدّولة في سائر أقطار الأرض عجزوا بذلك عن حمل الخلافة وتغلّبت عليهم الأعاجم وصار الحلّ والعقد لهم فاشتبه ذلك على كثير من المحقّقين حتّى ذهبوا إلى نفي اشتراط القرشيّة وعوّلوا على ظواهر في ذلك، مثل قوله صلّى الله عليه وسلّم «اسمعوا وأطيعوا وإن ولّي عليكم عبد حبشيّ ذو زبيبة» وهذا لا تقوم به حجّة في ذلك فإنّه خرج مخرج التّمثيل والغرض للمبالغة في إيجاب السّمع والطّاعة ومثل قول عمر «لو كان سالم مولى حذيفة حيّا لولّيته أو لما دخلتني فيه الظّنّة» وهو أيضا لا يفيد ذلك لما علمت أنّ مذهب الصّحابيّ ليس بحجّة وأيضا فمولى القوم منهم وعصبيّة الولاء حاصلة لسالم في قريش وهي الفائدة في اشتراط النّسب ولمّا استعظم عمر أمر الخلافة ورأى شروطها كأنّها مفقودة في ظنّه عدل إلى سالم لتوفّر شروط الخلافة عنده فيه حتّى من النّسب المفيد للعصبيّة كما نذكر ولم يبق إلّا صراحة النّسب فرآه غير محتاج إليه إذ الفائدة في النّسب إنّما هي العصبيّة وهي حاصلة من الولاء فكان ذلك حرصا من عمر رضي الله عنه على النّظر للمسلمين وتقليد أمرهم لمن لا تلحقه فيه لائمة ولا عليه فيه عهدة. ومن القائلين بنفي اشتراط القرشيّة القاضي أبو بكر الباقلانيّ لمّا أدرك عليه عصبيّة قريش من التّلاشي والاضمحلال واستبداد ملوك العجم من الخلفاء فأسقط شرط القرشيّة وإن كان موافقا لرأي الخوارج لما رأى عليه حال الخلفاء لعهده وبقي الجمهور على القول باشتراطها وصحّة الإمامة للقرشيّ ولو كان عاجزا عن القيام بأمور المسلمين وردّ عليهم سقوط شرط الكفاية الّتي يقوى بها على أمره لأنّه إذا ذهبت الشّوكة بذهاب العصبيّة فقد ذهبت الكفاية وإذا وقع الإخلال بشرط الكفاية تطرّق ذلك أيضا إلى العلم والدّين وسقط اعتبار شروط هذا المنصب وهو خلاف الاجتماع. ولنتكلّم الآن في حكمة اشتراط النّسب ليتحقّق به الصّواب في هذه المذاهبفنقول: إنّ الأحكام الشّرعيّة كلّها لا بدّ لها من مقاصد وحكم تشتمل عليها وتشرع لأجلها ونحن إذا بحثنا عن الحكمة في اشتراط النّسب القرشيّ ومقصد الشّارع منه لم يقتصر فيه على التبرّك بوصلة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كما هو في المشهور وإن كانت تلك الوصلة موجودة والتّبرّك بها حاصلا لكنّ التّبرّك ليس من المقاصد الشّرعيّة كما علمت فلا بدّ إذن من المصلحة في اشتراط النّسب وهي المقصودة من مشروعيّتها وإذا سبرنا وقسمنا لم نجدها إلّا اعتبار العصبيّة الّتي تكون بها الحماية والمطالبة ويرتفع الخلاف والفرقة بوجودها لصاحب المنصب فتسكن إليه الملّة وأهلها وينتظم حبل الألفة فيها وذلك أنّ قريشا كانوا عصبة مضر وأصلهم وأهل الغلب منهم وكان لهم على سائر مضر العزّة بالكثرة والعصبيّة والشّرف فكان سائر العرب يعترف لهم بذلك ويستكينون لغلبهم فلو جعل الأمر في سواهم لتوقّع افتراق الكلمة بمخالفتهم وعدم انقيادهم ولا يقدر غيرهم من قبائل مضر أن يردّهم عن الخلاف ولا يحملهم على الكرّة فتتفرّق الجماعة وتختلف الكلمة. والشّارع محذّر من ذلك حريص على اتّفاقهم ورفع التّنازع والشّتات بينهم لتحصل اللّحمة والعصبيّة وتحسن الحماية بخلاف ما إذا كان الأمر في قريش لأنّهم قادرون على سوق النّاس بعصا الغلب إلى ما يراد منهم فلا يخشى من أحد من خلاف عليهم ولا فرقة لأنّهم كفيلون حينئذ بدفعها ومنع النّاس منها فاشترط نسبهم القرشيّ في هذا المنصب وهم أهل العصبيّة القويّة ليكون أبلغ في انتظام الملّة واتّفاق الكلمة وإذا انتظمت كلمتهم انتظمت بانتظامها كلمة مضر أجمع فأذعن لهم سائر العرب وانقادت الأمم سواهم إلى أحكام الملّة ووطئت جنودهم قاضية البلاد كما وقع في أيّام الفتوحات واستمرّ بعدها في الدّولتين إلى أن اضمحلّ أمر الخلافة وتلاشت عصبيّة العرب ويعلم ما كان لقريش من الكثرة والتّغلّب على بطون مضر من مارس أخبار العرب وسيرهم وتفطّن لذلك في أحوالهم. وقد ذكر ذلك ابن إسحاق في كتاب السّير وغيره فإذا ثبت أنّ اشتراط
القرشيّة إنّما هو لدفع التّنازع بما كان لهم من العصبيّة والغلب وعلمنا أنّ الشّارع لا يخصّ الأحكام بجيل ولا عصر ولا أمّة علمنا أنّ ذلك إنّما هو من الكفاية فرددناه إليها وطردنا العلّة المشتملة على المقصود من القرشيّة وهي وجود العصبيّة فاشترطنا في القائم بأمور المسلمين أن يكون من قوم أولي عصبيّة قويّة غالبة على من معها لعصرها ليستتبعوا من سواهم وتجتمع الكلمة على حسن الحماية ولا يعلم ذلك في الأقطار والآفاق كما كان في القرشيّة إذ الدّعوة الإسلاميّة الّتي كانت لهم كانت عامّة وعصبيّة العرب كانت وافية بها فغلبوا سائر الأمم وإنّما يخصّ لهذا العهد كلّ قطر بمن تكون له فيه العصبيّة الغالبة وإذا نظرت سرّ الله في الخلافة لم تعد هذا لأنّه سبحانه إنّما جعل الخليفة نائبا عنه في القيام بأمور عباده ليحملهم على مصالحهم ويردّهم عن مضارّهم وهو مخاطب بذلك ولا يخاطب بالأمر إلّا من له قدرة عليه ألا ترى ما ذكره الإمام ابن الخطيب 76 في شأن النّساء وأنّهنّ في كثير من الأحكام الشّرعية جعلن تبعا للرّجال ولم يدخلن في الخطاب بالوضع. وإنّما دخلن عنده بالقياس وذلك لمّا لم يكن لهن من الأمر شيء وكان الرّجال قوّامين عليهنّ اللَّهمّ إلّا في العبادات الّتي كلّ أحد فيها قائم على نفسه فخطابهنّ فيها بالوضع لا بالقياس ثمّ إنّ الوجود شاهد بذلك فإنّه لا يقوم بأمر أمّة أو جيل إلّا من غلب عليهم وقلّ أن يكون الآمر الشّرعيّ مخالفا للأمر الوجوديّ والله تعالى أعلم.
الفصل السابع والعشرون في مذاهب الشيعة في حكم الإمامة
اعلم أنّ الشّيعة لغة هم الصّحب والأتباع ويطلق في عرف الفقهاء والمتكلّمين 77 من الخلف والسّلف على اتّباع عليّ وبنيه رضي الله عنهم ومذهبهم جميعا متّفقين عليه أنّ الإمامة ليست من المصالح العامّة الّتي تفوّض إلى نظر الأمّة ويتعيّن القائم بها بتعيينهم بل هي ركن الدّين وقاعدة الإسلام ولا يجوز لنبيّ إغفاله ولا تفويضه إلى الأمّة بل يجب عليه تعيين الإمام لهم ويكون معصوما من الكبائر والصّغائر وإنّ عليّا رضي الله عنه هو الّذي عيّنه صلوات الله وسلامه عليه بنصوص ينقلونها ويؤوّلونها على مقتضى مذهبهم لا يعرفها جهابذة السّنّة ولا نقله الشّريعة بل أكثرها موضوع أو مطعون في طريقه أو بعيد عن تأويلاتهم الفاسدة. وتنقسم هذه النّصوص عندهم إلى جليّ وخفيّ فالجليّ مثل قوله «من كنت مولاه فعليّ مولاه» قالوا ولم تطّرد هذه الولاية إلّا في عليّ ولهذا قال له عمر «أصبحت مولى كلّ مؤمن ومؤمنة» ومنها قوله «أقضاكم عليّ» ولا معنى للإمامة إلّا القضاء بأحكام الله وهو المراد بأولي الأمر الواجبة طاعتهم بقوله «أَطِيعُوا الله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ 4: 59» والمراد الحكم والقضاء ولهذا كان حكما في قضيّة الإمام يوم السّقيفة دون غيره ومنها قوله «من يبايعني على روحه وهو وصيّ ووليّ هذا الأمر من بعدي» فلم يبايعه إلّا عليّ. ومن الخفيّ عندهم بعث النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم عليّا لقراءة سورة براءة في الموسم حين أنزلت فإنّه بعث بها أوّلا، أبا بكر ثمّ أوحي إليه ليبلّغه رجل منك أو من قومك فبعث عليّا ليكون القارئ المبلّغ قالوا: وهذا يدلّ على تقديم عليّ. وأيضا فلم يعرف أنّه قدّم أحدا على عليّ. وأمّا أبو بكر وعمر فقدّم عليهما في غزاتين 78 أسامة بن زيد مرّة وعمر بن العاص أخرى وهذه كلّها أدلّة شاهدة بتعيين عليّ للخلافة دون غيره فمنها ما هو غير معروف ومنها ما هو بعيد عن تأويلهم ثمّ منهم من يرى أنّ هذه النّصوص تدلّ على تعيين عليّ وتشخيصه. وكذلك تنتقل منه إلى من بعده وهؤلاء هم الإماميّة ويتبرّءون من الشّيخين حيث لم يقدّموا عليّا ويبايعوه بمقتضى هذه النّصوص ويغمصون 79 في إمامتهما. ولا يلتفت إلى نقل القدح فيهما من غلاتهم فهو مردود عندنا وعندهم ومنهم من يقول إنّ هذه الأدلّة إنّما اقتضت تعيين عليّ بالوصف لا بالشّخص والنّاس مقصّرون حيث لم يضعوا الوصف موضعه وهؤلاء هم الزّيديّة ولا يتبرّءون من الشّيخين ولا يغمصون في إمامتهما مع قولهم بأنّ عليّا أفضل منهما لكنّهم يجوّزون إمامة المفضول مع وجود الأفضل. ثمّ اختلفت نقول هؤلاء الشّيعة في مساق الخلافة بعد عليّ فمنهم من ساقها في ولد فاطمة بالنّصّ عليهم واحدا بعد واحد على ما يذكر بعد وهؤلاء يسمّون الإماميّة نسبة إلى مقالتهم باشتراط معرفة الإمام وتعيينه في الإيمان وهي أصل عندهم ومنهم من ساقها في ولد فاطمة لكن بالاختيار من الشّيوخ ويشترط أن يكون الإمام منهم عالما زاهدا جوادا شجاعا ويخرج داعيا إلى إمامته وهؤلاء هم الزّيديّة نسبة إلى صاحب المذهب وهو زيد بن عليّ بن الحسين السّبط 80 وقد كان يناظر أخاه محمّدا الباقر على اشتراط الخروج في الإمام فيلزمه الباقر أن لا يكون أبوهما زين العابدين إماما لأنّه لم يخرج ولا تعرّض للخروج وكان مع ذلك ينعى عليه مذاهب المعتزلة وأخذه إيّاها عن واصل بن عطاء ولمّا ناظر الإماميّة زيدا في إمامة الشّيخين ورأوه يقول بإمامتهما ولا يتبرّأ منهما رفضوه ولم يجعلوه من الأئمّة وبذلك سمّوا رافضة ومنهم من ساقها بعد عليّ وابنيه السّبطين على اختلافهم في ذلك إلى أخيهما محمّد بن الحنفيّة ثمّ إلى ولده وهم الكيسانيّة نسبة إلى كيسان مولاه وبين هذه الطّوائف اختلافات كثيرة تركناها اختصارا ومنهم طوائف يسمّون الغلاة تجاوزوا حدّ العقل والإيمان في القول بألوهيّة هؤلاء الأئمّة. إمّا على أنّهم بشر اتّصفوا بصفات الألوهيّة أو أنّ الإله حلّ في ذاته البشريّة وهو قول بالحلول يوافق مذهب النّصارى في عيسى صلوات الله عليه ولقد حرق عليّ رضي الله عنه بالنّار من ذهب فيه إلى ذلك منهم وسخّط 81 محمّد بن الحنفيّة المختار بن أبي عبيد لمّا بلغه مثل ذلك عنه فصرّح بلعنته والبراءة منه وكذلك فعل جعفر الصّادق رضي الله تعالى عنه بمن بلغه مثل هذا عنه ومنهم من يقول إنّ كمال الإمام لا يكون لغيره فإذا مات انتقلت روحه إلى إمام آخر ليكون فيه ذلك الكمال وهو قول بالتّناسخ ومن هؤلاء الغلاة من يقف عند واحد من الأئمّة لا يتجاوزه إلى غيره بحسب من يعيّن لذلك عندهم وهؤلاء هم الواقفيّة فبعضهم يقول هو حيّ لم يمت إلّا أنّه غائب عن أعين النّاس ويستشهدون لذلك بقصّة الخضر 82 قيل مثل ذلك في عليّ رضي الله عنه وإنّه في السّحاب والرّعد صوته والبرق في صوته وقالوا مثله في محمّد بن الحنفيّة وإنّه في جبل رضوى من أرض الحجاز. وقال شاعرهم. ألا إنّ الأئمّة من قريش ... ولاة الحقّ أربعة سواء عليّ والثّلاثة من بنيه ... هم الأسباط ليس بهم خفاء فسبط سبط إيمان وبرّ ... وسبط غيّبته كربلاء وسبط لا يذوق الموت حتّى ... يقود الجيش يقدمه اللّواء تغيّب لا يرى فيهم زمانا ... برضوى عنده عسل وماء وقال مثله غلاة الإماميّة وخصوصا الاثنا عشريّة منهم يزعمون أنّ الثّاني عشر من أئمّتهم وهو محمّد بن الحسن العسكريّ ويلقّبونه المهديّ دخل في سرداب بدارهم في الحلّة 83 وتغيّب حين اعتقل مع أمّه وغاب هنالك وهو يخرج آخر الزّمان فيملأ الأرض عدلا يشيرون بذلك إلى الحديث الواقع في كتاب التّرمذيّ في المهديّ وهم إلى الآن ينتظرونه ويسمّونه المنتظر لذلك، ويقفون في كلّ ليلة بعد صلاة المغرب بباب هذا السّرداب وقد قدّموا مركبا فيهتفون باسمه ويدعونه للخروج حتّى تشتبك النّجوم ثمّ ينفضّون ويرجئون الأمر إلى اللّيلة الآتية وهم على ذلك لهذا العهد وبعض هؤلاء الواقفيّة يقول إنّ الإمام الّذي مات يرجع إلى حياته الدّنيا ويستشهدون لذلك بما وقع في القرآن الكريم من قصّة أهل الكهف والّذي مرّ على قرية وقتيل بني إسرائيل حين ضرب بعظام البقرة الّتي أمروا بذبحها ومثل ذلك من الخوارق الّتي وقعت على طريق المعجزة ولا يصحّ الاستشهاد بها في غير مواضعها وكان من هؤلاء السّيّد الحميريّ ومن شعره في ذلك إذا ما المرء شاب له قذال ... وعلّله المواشط بالخضاب 84 فقد ذهبت بشاشته وأودى ... فقم يا صاح نبك على الشّباب إلى يوم تتوب النّاس فيه ... إلى دنياهم قبل الحساب فليس بعائد ما فات منه ... إلى أحد إلى يوم الإياب أدين بأنّ ذلك دين حقّ ... وما أنا في النّشور بذي ارتياب كذاك الله أخبر عن أناس ... حيوا من بعد درس في التّراب وقد كفانا مئونة هؤلاء الغلاة أئمّة الشّيعة فإنّهم لا يقولون بها ويبطلون احتجاجاتهم عليها وأمّا الكيسانيّة فساقوا الإمامة من بعد محمّد بن الحنفيّة إلى ابنه أبي هاشم وهؤلاء هم الهاشميّة ثمّ افترقوا فمنهم من ساقها بعده إلى أخيه عليّ ثمّ إلى ابنه الحسن بن عليّ وآخرون يزعمون أنّ أبا هاشم لمّا مات بأرض السّراة منصرفا من الشّام أوصى إلى محمّد بن عليّ بن عبد الله بن عبّاس وأوصى محمّد إلى ابنه إبراهيم المعروف بالإمام وأوصى إبراهيم إلى أخيه عبد الله بن الحارثيّة الملقّب بالسّفّاح وأوصى هو إلى أخيه عبد الله أبي جعفر الملقّب بالمنصور وانتقلت في ولده بالنّصّ والعهد واحدا بعد واحد إلى آخرهم وهذا مذهب الهاشميّة القائمين بدولة بني العبّاس وكان منهم أبو مسلم وسليمان بن كثيّر وأبو سلمة الخلّال وغيرهم من شيعة العبّاسيّة وربّما يعضدون ذلك بأنّ حقّهم في هذا الأمر يصل إليهم من العبّاس لأنّه كان حيّا وقت الوفاة وهو أولى بالوراثة بعصبيّة العمومة وأمّا الزّيديّة فساقوا الإمامة على مذهبهم فيها وإنّها باختيار أهل الحلّ والعقد لا بالنّصّ فقالوا بإمامة عليّ ثمّ ابنه الحسن ثمّ ابنه الحسن ثمّ أخيه الحسين ثمّ ابنه زيد بن عليّ وهو صاحب هذا المذهب وخرج بالكوفة داعيا إلى الإمامة فقتل وصلب بالكناسة وقال الزّيديّة بإمامة ابنه يحيى من بعده فمضى إلى خراسان وقتل بالجوزجان بعد أن أوصى إلى محمّد بن عبد الله بن حسن بن الحسن السّبط ويقال له النّفس الزّكيّة، فخرج بالحجاز وتلقّب بالمهديّ وجاءته عساكر المنصور فقتل وعهد إلى أخيه إبراهيم فقام بالبصرة ومعه عيسى بن زيد بن عليّ فوجّه إليهم المنصور عساكره فهزم وقتل إبراهيم وعيسى وكان جعفر الصّادقأخبرهم بذلك كلّه وهي معدودة في كراماته وذهب آخرون منهم إلى أنّ الإمام بعد محمّد ابن عبد الله النّفس الزّكيّة هو محمّد بن القاسم بن عليّ بن عمر، وعمر هو أخو زيد بن عليّ فخرج محمّد بن القاسم بالطّالقان فقبض عليه وسيق إلى المعتصم فحبسه ومات في حبسه وقال آخرون من الزّيديّة إنّ الإمام بعد يحيى بن زيد هو أخوه عيسى الّذي حضر مع إبراهيم بن عبد الله في قتاله مع منصور ونقلوا الإمامة في عقبه وإليه انتسب دعيّ الزّنج كما نذكره في أخبارهم وقال آخرون من الزّيديّة إنّ الإمام بعد محمّد بن عبد الله أخوه إدريس الّذي فرّ إلى المغرب ومات هنالك وقام بأمره ابنه إدريس واختطّ مدينة فاس وكان من بعده عقبه ملوكا بالمغرب إلى أن انقرضوا كما نذكره في أخبارهم. وبقي أمر الزّيديّة بعد ذلك غير منتظم وكان منهم الدّاعي الّذي ملك طبرستان وهو الحسن بن زيد بن محمّد بن إسماعيل بن الحسن بن زيد بن عليّ بن الحسين السّبط وأخوه محمّد بن زيد ثمّ قام بهذه الدّعوة في الدّيلم النّاصر الأطروش منهم، وأسلموا على يده وهو الحسن بن عليّ بن الحسن بن عليّ بن عمر وعمر أخو زيد بن علي فكانت لبنيه بطبرستان دولة وتوصّل الدّيلم من نسبهم إلى الملك والاستبداد على الخلفاء ببغداد كما نذكر في أخبارهم. وأمّا الإماميّة فساقوا الإمامة من عليّ الرّضى 85 إلى ابنه الحسن بالوصيّة ثمّ إلى أخيه الحسين ثمّ إلى ابنه عليّ زين العابدين ثمّ إلى ابنه محمّد الباقر ثمّ إلى ابنه جعفر الصّادق ومن هنا افترقوا فرقتين فرقة ساقوها إلى ولده إسماعيل ويعرفونه بينهم بالإمام وهم الإسماعيليّة وفرقة ساقوها إلى ابنه موسى الكاظم وهم الاثنا عشريّة لوقوفهم عند الثّاني عشر من الأئمّة وقولهم بغيبته إلى آخر الزّمان كما مرّ فأمّا الإسماعيليّة فقالوا بإمامة إسماعيل الإمام بالنّصّ من أبيه جعفر وفائدة النّصّ عليه عندهم وإن كان قد مات قبل أبيه إنّما هو بقاء الإمامة في عقبه كقصّة هارون مع موسى صلوات الله عليهما قالوا ثمّ انتقلت الإمامة من إسماعيل إلى ابنه محمّد المكتوم وهو أوّل الأئمّة المستورين لأنّ الإمام عندهم قد لا يكون له شوكة فيستتر وتكون دعاته ظاهرين إقامة للحجّة على الخلق وإذا كانت له شوكة ظهر وأظهر دعوته قالوا وبعد محمّد المكتوم ابنه جعفر الصّادق 86 وبعده ابنه محمّد الحبيب وهو آخر المستورين وبعده ابنه عبد الله المهديّ الّذي أظهر دعوته أبو عبد الله الشّيعيّ في كتامة وتتابع النّاس على دعوته ثمّ أخرجه من معتقله بسجلماسة وملك القيروان والمغرب وملك بنوه من بعده مصر كما هو معروف في أخبارهم ويسمّى هؤلاء نسبة إلى القول بإمامة إسماعيل ويسمّون أيضا بالباطنيّة نسبة إلى قولهم بالإمام الباطن أي المستور ويسمّون أيضا الملحدة لما في ضمن مقالتهم من الإلحاد ولهم مقالات قديمة ومقالات جديدة دعا إليها الحسن بن محمّد الصّبّاح في آخر المائة الخامسة وملك حصونا بالشّام والعراق ولم تزل دعوته فيها إلى أن توزّعها الهلاك بين ملوك التّرك بمصر وملوك التّتر بالعراق فانفرضت. ومقالة هذا الصّبّاح في دعوته مذكورة في كتاب «الملل والنّحل» للشّهرستانيّ، وأمّا الاثنا عشريّة فربّما خصّوا باسم الإماميّة عند المتأخرين منهم فقالوا بإمامة موسى الكاظم بن جعفر الصّادق لوفاة أخيه الأكبر إسماعيل الإمام في حياة أبيهما جعفر فنصّ على إمامة موسى هذا، ثمّ ابنه عليّ الرّضا الّذي عهد إليه المأمون ومات قبله فلم يتمّ له أمر ثمّ ابنه محمّد التّقيّ ثمّ ابنه عليّ الهادي ثمّ ابنه محمّد الحسن العسكري ثمّ ابنه محمّد المهديّ المنتظر الّذي قدّمناه قبل وفي كلّ واحدة من هذه المقالات للشّيعة اختلاف كثير إلّا أنّ هذه أشهر مذاهبهم ومن أراد استيعابها ومطالعتها فعليه بكتاب الملل والنّحل لابن حزم 87 والشهرستاني وغيرهما ففيها بيان ذلك والله يضلّ من يشاء ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم وهو العليّ الكبير.
الفصل الثامن والعشرون في انقلاب الخلافة إلى الملك
اعلم أنّ الملك غاية طبيعية للعصبيّة ليس وقوعه عنها باختيار إنّما هو بضرورة الوجود وترتيبه كما قلناه من قبل وأنّ الشّرائع والدّيانات وكلّ أمر يحلّ عليه الجمهور فلا بدّ فيه من العصبيّة إذ المطالبة لا تتمّ إلّا بها كما قدّمناه. فالعصبيّة ضروريّة للملّة وبوجودها يتمّ أمر الله منها وفي الصّحيح «ما بعث الله نبيّا إلّا في منعة من قومه» ثمّ وجدنا الشّارع قد ذمّ العصبيّة وندب إلى اطّراحها وتركها فقال «إنّ الله أذهب عنكم عبّيّة 88 الجاهليّة وفخرها بالآباء أنتم بنو آدم وآدم من تراب» وقال تعالى «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ الله أَتْقاكُمْ 49: 13» ووجدناه أيضا قد ذمّ الملك وأهله ونعى على أهله أحوالهم من الاستمتاع بالخلاق 89 والإسراف في غير القصد والتّنكّب عن صراط الله وإنّما حضّ على الألفة في الدّين وحذّر من الخلاف والفرقة، واعلم أنّ الدّنيا كلّها وأحوالها مطيّة للآخرة ومن فقد المطيّة فقد الوصول، وليس مراده فيما ينهى عنه أو يذمّه من أفعال البشر أو يندب إلى تركه إهماله بالكليّة أو اقتلاعه من أصله وتعطيل القوى الّتي ينشأ عليها بالكلّيّة إنّما قصده تصريفها في أغراض الحقّ جهد الاستطاعة حتّى تصير المقاصد كلّها حقّا وتتّحد الوجهة كما قال صلّى الله عليه وسلّم «من كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوّجها فهجرته إلى ما هاجر إليه» فلم يذمّ الغضب وهو يقصد نزعه من الإنسان فإنّه لو زالت منه قوّة الغضب لفقد منه الانتصار للحقّ وبطل الجهاد وإعلاء كلمة الله وإنّما يذمّ الغضب للشّيطان وللأغراض الذّميمة فإذا كان الغضب لذلك كان مذموما وإذا كان الغضب في الله وللَّه كان ممدوحا وهو من شمائله صلّى الله عليه وسلّم وكذا ذمّ الشّهوات أيضا ليس المراد إبطالها بالكلّيّة فإنّ من بطلت شهوته كان نقصا في حقّه وإنّما المراد تصريفها فيما أبيح له باشتماله على المصالح ليكون الإنسان عبدا متصرّفا طوع الأوامر الإلهيّة وكذا العصبيّة حيث ذمّها الشّارع وقال: «لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ 60: 3» فإنّما مراده حيث تكون العصبيّة على الباطل وأحواله كما كانت في الجاهليّة وأن يكون لأحد فخر بها أو حقّ على أحد لأنّ ذلك مجان من أفعال العقلاء وغير نافع في الآخرة الّتي هي دار القرار فأمّا إذا كانت العصبيّة في الحقّ وإقامة أمر الله فأمر مطلوب ولو بطل لبطلت الشّرائع إذ لا يتمّ قوامها إلّا بالعصبيّة كما قلناه من قبل وكذا الملك لمّا ذمّه الشّارع لم يذمّ منه الغلب بالحقّ وقهر الكافّة على الدّين ومراعاة المصالح وإنّما ذمّه لما فيه من التّغلّب بالباطل وتصريف الآدميّين طوع الأغراض والشّهوات كما قلناه، فلو كان الملك مخلصا في غلبه للنّاس أنّه للَّه ولحملهم على عبادة الله وجهاد عدوّه لم يكن ذلك مذموما وقد قال سليمان صلوات الله عليه «وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ من بَعْدِي 38: 35» لما علم من نفسه أنّه بمعزل عن الباطل في النّبوة والملك. ولمّا لقي معاوية عمر بن الخطّاب رضي الله عنهما عند قدومه إلى الشّام في أبّهة الملك وزيّه من العديد والعدّة استنكر ذلك وقال: «أكسرويّة يا معاوية؟» فقال: «يا أمير المؤمنين أنا في ثغر تجاه العدوّ وبنا إلى مباهاتهم بزينة الحرب والجهاد حاجة» فسكت ولم يخطّئه لما احتجّ عليه بمقصد من مقاصد الحقّ والدّين فلو كان القصد رفض الملك من أصله لم يقنعه الجواب في تلك الكسرويّة وانتحالها بل كان يحرّض على خروجه عنها بالجملة وإنّما أراد عمر بالكسرويّة ما كان عليه أهل فارس في ملكهم من ارتكاب الباطل والظّلم والبغي وسلوك سبله والغفلة عن الله وأجابه معاوية بأنّ القصد بذلك ليس كسرويّة فارس وباطلهم وإنّما قصده بها وجه اللهفسكت، وهكذا كان شأن الصّحابة في رفض الملك وأحواله ونسيان عوائده حذرا من التباسها بالباطل فلمّا استحضر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم استخلف أبا بكر على الصّلاة إذ هي أهمّ أمور الدّين وارتضاه النّاس للخلافة وهي حمل الكافّة على أحكام الشّريعة ولم يجر للملك ذكر لما أنّه مظنّة للباطل ونحلة يومئذ لأهل الكفر وأعداء الدّين فقام بذلك أبو بكر ما شاء الله متّبعا سنن صاحبه وقاتل أهل الرّدّة حتّى اجتمع العرب على الإسلام ثمّ عهد إلى عمر فاقتفى أثره وقاتل الأمم فغلبهم وأذن للعرب بانتزاع ما بأيديهم من الدّنيا والملك فغلبوهم عليه وانتزعوه منهم ثمّ صارت إلى عثمان بن عفّان ثمّ إلى عليّ رضي الله عنهما والكلّ متبرّءون من الملك منكّبون عن طرقه وأكّد ذلك لديهم ما كانوا عليه من غضاضة الإسلام وبداوة العرب فقد كانوا أبعد الأمم عن أحوال الدّنيا وترفها لا من حيث دينهم الّذي يدعوهم إلى الزّهد في النّعيم ولا من حيث بداوتهم ومواطنهم وما كانوا عليه من خشونة العيش وشظفه الّذي ألفوه، فلم تكن أمّة من الأمم أسغب عيشا من مضر لمّا كانوا بالحجاز في أرض غير ذات زرع ولا ضرع وكانوا ممنوعين من الأرياف وحبوبها لبعدها واختصاصها بمن وليها من ربيعة واليمن فلم يكونوا يتطاولون إلى خصبها ولقد كانوا كثيرا ما يأكلون العقارب والخنافس ويفخرون بأكل العلهز وهو وبر الإبل يمهونه 90 بالحجارة في الدّم ويطبخونه وقريبا من هذا كانت حال قريش في مطاعمهم ومساكنهم حتّى إذا اجتمعت عصبيّة العرب على الدّين بما أكرمهم الله من نبوة محمّد صلّى الله عليه وسلّم زحفوا إلى أمم فارس والرّوم وطلبوا ما كتب الله لهم من الأرض بوعد الصّدق فابتزّوا ملكهم واستباحوا دنياهم فزخرت بحار الرّفه لديهم حتّى كان الفارس الواحد يقسم له في بعض الغزوات ثلاثون ألفا من الذّهب أو نحوها فاستولوا من ذلك على ما لا يأخذه الحصر وهم مع ذلك على خشونة عيشهم فكان عمر يرقّع ثوبه بالجلد وكان عليّ يقول: «يا صفراء ويا بيضاء غرّي غيري» وكان أبو موسى يتجافى عن أكل الدّجاج لأنّه لم يعهدها للعرب لقلّتها يومئذ وكانت المناخل مفقودة عندهم بالجملة وإنّما يأكلون الحنطة بنخالها ومكاسبهم مع هذا أتمّ ما كانت لأحد من أهل العالم قال المسعوديّ في أيّام عثمان اقتنى الصّحابة الضّياع والمال فكان له يوم قتل عند خازنه خمسون ومائة ألف دينار وألف ألف درهم وقيمة ضياعه بوادي القرى وحنين وغيرهما مائتا ألف 91 دينار وخلّف إبلا وخيلا كثيرة وبلغ الثّمن الواحد من متروك الزّبير بعد وفاته خمسين ألف دينار وخلّف ألف فرس وألف أمة وكانت غلّة طلحة من العراق ألف دينار كلّ يوم ومن ناحية السّراة أكثر من ذلك وكان على مربط عبد الرّحمن بن عوف ألف فرس وله ألف بعير وعشرة آلاف من الغنم وبلغ الرّبع من متروكه بعد وفاته أربعة وثمانين ألفا وخلّف زيد بن ثابت من الفضّة والذّهب ما كان يكسر بالفئوس غير ما خلّف من الأموال والضّياع بمائة ألف دينار وبنى الزّبير داره بالبصرة وكذلك بنى بمصر والكوفة والإسكندريّة وكذلك بنى طلحة داره بالكوفة وشيّد داره بالمدينة وبناها بالجصّ والآجر والسّاج وبنى سعد بن أبي وقّاص داره بالعقيق ورفع سمكها وأوسع فضاءها وجعل على أعلاها شرفات وبنى المقداد داره بالمدينة وجعلها مجصّصة الظّاهر والباطن وخلّف يعلى بن منبّه 92 خمسين ألف دينار وعقارا وغير ذلك ما قيمته ثلاثمائة ألف درهم 1 هـ- كلام المسعوديّ. فكانت مكاسب القوم كما تراه ولم يكن ذلك منعيّا عليهم في دينهم إذ هي أموال حلال لأنّها غنائم وفيوء ولم يكن تصرّفهم فيها بإسراف إنّما كانوا على قصد في أحوالهم كما قلناه فلم يكن ذلك بقادح فيهم وإن كان الاستكثار من الدّنيا مذموما فإنّما يرجع إلى ما أشرنا إليه من الإسراف والخروج به عن القصد وإذا كان حالهم قصدا ونفقاتهم في سبل الحقّ ومذاهبه كان ذلك الاستكثار عونا لهم على طرق الحقّ واكتساب الدّار الآخرة فلمّا تدرّجت البداوة والغضاضة إلى نهايتها وجاءت طبيعة الملك الّتي هي مقتضى العصبيّة كما قلناه وحصل التّغلّب والقهر كان حكم ذلك الملك عندهم حكم ذلك الرّفه والاستكثار من الأموال فلم يصرفوا ذلك التّغلّب في باطل ولا خرجوا به عن مقاصد الدّيانة ومذاهب الحقّ، ولمّا وقعت الفتنة بين عليّ ومعاوية وهي مقتضى العصبيّة كان طريقهم فيها الحقّ والاجتهاد ولم يكونوا في محاربتهم لغرض دنيويّ أو لإيثار باطل أو لاستشعار حقد كما قد يتوهّمه متوهّم وينزع إليه ملحد وإنّما اختلف اجتهادهم في الحقّ وسفّه كلّ واحد نظر صاحبه باجتهاده في الحقّ فاقتتلوا عليه وإن كان المصيب عليّا فلم يكن معاويّة قائما فيها بقصد الباطل إنّما قصد الحقّ وأخطأ والكلّ كانوا في مقاصدهم على حق ثمّ اقتضت طبيعة الملك الانفراد بالمجد واستئثار الواحد به ولم يكن لمعاوية أن يدفع عن نفسه وقومه فهو أمر طبيعيّ ساقته العصبيّة بطبيعتها واستشعرته بنو أميّة ومن لم يكن على طريقة معاوية في اقتفاء الحقّ من أتباعهم فاعصوصبوا عليه واستماتوا دونه ولو حملهم معاويّة على غير تلك الطّريقة وخالفهم في الانفراد بالأمر لوقوع في افتراق الكلمة الّتي كان جمعها وتأليفها أهمّ عليه من أمر ليس وراءه كبير مخالفة وقد كان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يقول إذا رأى القاسم بن محمّد بن أبي بكر «لو كان لي من الأمر شيء لولّيته الخلافة» ولو أراد أن يعهد إليه لفعل ولكنّه كان يخشى من بني أميّة أهل الحلّ والعقد لما ذكرناه فلا يقدر أن يحوّل الأمر عنهم لئلّا تقع الفرقة. وهذا كلّه إنّما حمل عليه منازع الملك الّتي هي مقتضى العصبيّة فالملك إذا حصل وفرضنا أنّ الواحد انفرد به وصرفه في مذاهب الحقّ ووجوهه لم يكن في ذلك نكير عليه ولقد انفرد سليمان وأبوه داود صلوات الله عليهما بملك بني إسرائيل لما اقتضته طبيعة الملك من الانفراد به وكانوا ما علمت من النّبوة والحقّ وكذلك عهد معاوية إلى يزيد خوفا من افتراق الكلمة بما كانت بنو أميّة لم يرضوا تسليم الأمر إلى من سواهم. فلو قد عهد إلىغيره اختلفوا عليه مع أنّ ظنّهم كان به صالحا ولا يرتاب أحد في ذلك ولا يظنّ بمعاوية غيره فلم يكن ليعهد إليه وهو يعتقد ما كان عليه من الفسق حاشا الله لمعاوية من ذلك وكذلك كان مروان بن الحكم وابنه وإن كانوا ملوكا لم يكن مذهبهم في الملك مذهب أهل البطالة والبغي إنّما كانوا متحرّين لمقاصد الحقّ جهدهم إلّا في ضرورة تحملهم على بعضها مثل خشية افتراق الكلمة الّذي هو أهمّ لديهم من كلّ مقصد يشهد لذلك ما كانوا عليه من الاتّباع والاقتداء وما علم السّلف من أحوالهم ومقاصدهم فقد احتجّ مالك في الموطّإ 93 بعمل عبد الملك وأمّا مروان فكان من الطّبقة الأولى من التّابعين وعدالتهم معروفة ثمّ تدرّج الأمر في ولد عبد الملك وكانوا من الدّين بالمكان الّذي كانوا عليه وتوسّطهم عمر بن عبد العزيز فنزع إلى طريقة الخلفاء الأربعة والصّحابة جهده ولم يهمل. ثمّ جاء خلفهم واستعملوا طبيعة الملك في أغراضهم الدّنيويّة ومقاصدهم ونسوا ما كان عليه سلفهم من تحرّي القصد فيها واعتماد الحقّ في مذاهبها فكان ذلك ممّا دعا النّاس إلى أن نعوا عليهم أفعالهم وأدالوا بالدّعوة العبّاسيّة منهم وولّي رجالها الأمر فكانوا من العدالة بمكان وصرّفوا الملك في وجوه الحقّ ومذاهبه ما استطاعوا حتّى جاء بنو الرّشيد من بعده فكان منهم الصّالح والطّالح ثمّ أفضى الأمر إلى بنيهم فأعطوا الملك والتّرف حقّه وانغمسوا في الدّنيا وباطلها ونبذوا الدّين وراءهم ظهريّا فتأذّن الله بحربهم وانتزاع الأمر من أيدي العرب جملة وأمكن سواهم والله لا يظلم مثقال ذرّة. ومن تأمّل سير هؤلاء الخلفاء والملوك واختلافهم في تحرّي الحقّ من الباطل علم صحّة ما قلناه وقد حكاه المسعوديّ مثله في أحوال بني أميّة عن أبي جعفر المنصور وقد حضر عمومته وذكروا بني أميّة فقال: «أمّا عبد الملك فكان جبّارا لا يبالي بما صنع وأمّا سليمان فكان همّه بطنه وفرجه وأمّا عمر فكان أعور بين عميان وكان رجل القوم هشام» قال ولم يزل بنو أميّة ضابطين لما مهّد لهم من السّلطان يحوّطونه ويصونون ما وهب الله لهم منه مع تسنّمهم معالي الأمور ورفضهم دنيّاتها حتّى أفضى الأمر إلى أبنائهم المترفين فكانت همّتهم قصد الشّهوات وركوب اللّذّات من معاصي الله جهلا باستدراجه وأمنا لمكره مع اطّراحهم صيانة الخلافة واستخفافهم بحقّ الرّئاسة وضعفهم عن السّياسة فسلبهم الله العزّ وألبسهم الذّلّ ونفى عنهم النّعمة ثمّ استحضر عبد الله 94 ابن مروان فقصّ عليه خبره مع ملك النّوبة لمّا دخل أرضهم فارّا أيّام السّفّاح قال أقمت مليّا ثمّ أتاني ملكهم فقعد على الأرض وقد بسطت لي فرش ذات قيمة فقلت ما منعك عن القعود على ثيابنا 95 فقال إنّي ملك وحقّ لكلّ ملك أن يتواضع لعظمة الله إذ رفعه الله ثمّ قال لي: لم تشربون الخمر وهي محرّمة عليكم في كتابكم؟ فقلت: اجترأ على ذلك عبيدنا وأتباعنا قال: فلم تطئون الزّرع بدوابّكم والفساد محرّم عليكم؟ قلت: فعل ذلك عبيدنا وأتباعنا بجهلهم قال: فلم تلبسون الدّيباج والذّهب والحرير وهو محرّم عليكم في كتابكم؟ قلت: ذهب منّا الملك وانتصرنا بقوم من العجم دخلوا في ديننا فلبسوا ذلك على الكره منّا، فأطرق ينكث بيده في الأرض ويقول عبيدنا وأتباعنا وأعاجم دخلوا في ديننا ثمّ رفع رأسه إليّ وقال: «ليس كما ذكرت بل أنتم قوم استحللتم ما حرّم الله عليكم وأتيتم ما عنه نهيتم وظلمتم فيما ملكتم فسلبكم الله العزّ وألبسكم الذّلّ بذنوبكم وللَّه نقمة لم تبلغ غايتها فيكم وأنا خائف أن يحلّ بكم العذاب وأنتم ببلدي فينالني معكم وإنّما الضّيافة ثلاث فتزوّد ما احتجت إليه وارتحل عن أرضي» فتعجّب المنصور وأطرق فقد تبيّن لك كيف انقلبت الخلافة إلى الملك وأنّ الأمر كان في أوّله خلافة ووازع كلّ أحد فيها من نفسه وهو الدّين وكانوا يؤثرونه على أمور دنياهم وإن أفضت إلى هلاكهم وحدهم دون الكافّة فهذا عثمان لمّا حصر في الدّار جاءه الحسن والحسين وعبد الله بن عمر وابن جعفر وأمثالهم يريدون المدافعة عنه فأبى ومنع من سلّ السّيوف بين المسلمين مخافة الفرقة وحفظا للإلفة الّتي بها حفظ الكلمة ولو أدّى إلى هلاكه. وهذا عليّ أشار عليه المغيرة لأوّل ولايته باستبقاء الزّبير ومعاوية وطلحة على أعمالهم حتّى يجتمع النّاس على بيعته وتتّفق الكلمة وله بعد ذلك ما شاء من أمره وكان ذلك من سياسة الملك فأبى فرارا من الغشّ الّذي ينافيه الإسلام وغدا عليه المغيرة من الغداة فقال: «لقد أشرت عليك بالأمس بما أشرت ثمّ عدت إلى نظري فعلمت أنّه ليس من الحقّ والنّصيحة وأنّ الحقّ فيما رأيته أنت» فقال عليّ: «لا والله بل أعلم أنّك نصحتني بالأمس وغششتني اليوم ولكن منعني ممّا أشرت به زائد الحقّ وهكذا كانت أحوالهم في إصلاح دينهم بفساد دنياهم ونحن نرقّع دنيانا بتمزيق ديننا ... فلا ديننا يبقى ولا ما نرقّع فقد رأيت كيف صار الأمر إلى الملك وبقيت معاني الخلافة من تحرّي الدّين ومذاهبه والجري على منهاج الحقّ ولم يظهر التّغيّر إلّا في الوازع الّذي كان دينا ثمّ انقلب عصبيّة وسيفا وهكذا كان الأمر لعهد معاوية ومروان وابنه عبد الملك والصّدر الأوّل من خلفاء بني العبّاس إلى الرّشيد وبعض ولده ثمّ ذهبت معاني الخلافة ولم يبق إلّا اسمها وصار الأمر ملكا بحتا وجرت طبيعة التّغلّب إلى غايتها واستعملت في أغراضها من القهر والتّقلّب في الشّهوات والملاذّ وهكذا كان الأمر لولد عبد الملك ولمن جاء بعد الرّشيد من بني العبّاس واسم الخلافة باقيا فيهم لبقاء عصبيّة العرب والخلافة والملك في الطّورين ملتبس بعضهما ببعض ثمّ ذهب رسم الخلافة وأثرها بذهاب عصبيّة العرب وفناء جيلهم وتلاشي أحوالهم وبقي الأمر ملكا بحتا كما كان الشّأن في ملوك العجم بالمشرق يدينون بطاعة الخليفة تبرّكا والملك بجميع ألقابه ومناحيه لهم وليس للخليفة منه شيء وكذلك فعل ملوك زناتة بالمغرب مثل صنهاجة مع العبيديّين ومغراوة وبني يفرن أيضا مع خلفاء بني أميّة بالأندلس والعبيديّين بالقيروان فقد تبيّن أنّ الخلافة قد وجدت بدون الملك أوّلا ثمّ التبست معانيهما واختلطت ثمّ انفرد الملك حيث افترقت عصبيّته من عصبيّة الخلافة والله مقدّر اللّيل والنّهار وهو الواحد القهّار
الفصل التاسع والعشرون في معنى البيعة
96 اعلم أنّ البيعة هي العهد على الطّاعة كأنّ المبايع يعاهد أميره على أنّه يسلّم له النّظر في أمر نفسه وأمور المسلمين لا ينازعه في شيء من ذلك ويطيعه فيما يكلّفه به من الأمر على المنشّط والمكره وكانوا إذا بايعوا الأمير وعقدوا عهده جعلوا أيديهم في يده تأكيدا للعهد فأشبه ذلك فعل البائع والمشتري فسمّي بيعة مصدر باع وصارت البيعة مصافحة بالأيدي هذا مدلولها في عرف اللّغة ومعهود الشّرع وهو المراد في الحديث في بيعة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ليلة العقبة وعند الشّجرة وحيثما ورد هذا اللّفظ ومنه بيعة الخلفاء ومنه أيمان البيعة كان الخلفاء يستحلفون على العهد ويستوعبون الأيمان كلّها لذلك فسمّي هذا الاستيعاب أيمان البيعة وكان الإكراه فيها أكثر وأغلب ولهذا لمّا أفتى مالك رضي الله عنه بسقوط يمين الإكراه أنكرها الولاة عليه ورأوها قادحة في أيمان البيعة، ووقع ما وقع من محنة الإمام رضى الله عنه وأمّا البيعة المشهورة لهذا العهد فهي تحيّة الملوك الكسرويّة من تقبيل الأرض أو اليد أو الرّجل أو الذّيل أطلق عليها اسم البيعة الّتي هي العهد على الطّاعة مجازا لما كان هذا الخضوع في التّحيّة والتزام الآداب من لوازم الطّاعة وتوابعها وغلب فيه حتّى صارت حقيقيّة عرفيّة واستغنى بها عن مصافحة أيدي النّاس الّتي هي الحقيقة في الأصل لما في المصافحة لكلّ أحد من التّنزّل والابتذال المنافيين للرّئاسة وصون المنصب الملوكيّ إلّا في الأقلّ ممّن يقصد التّواضع من الملوك فيأخذ به نفسه مع خواصّه ومشاهير أهل الدّين من رعيّته فافهم معنى البيعة في العرف فإنّه أكيد على الإنسان معرفته لما يلزمه من حقّ سلطانه وإمامه ولا تكون أفعاله عبثا ومجّانا واعتبر ذلك من أفعالك مع الملوك والله القويّ العزيز.
الفصل الثلاثون في ولاية العهد
اعلم أنّا قدّمنا الكلام في الإمامة ومشروعيّتها لما فيها من المصلحة وأنّ حقيقتها للنّظر في مصالح الأمّة لدينهم ودنياهم فهو وليّهم والأمين عليهم ينظر لهم ذلك في حياته ويتبع ذلك أن ينظر لهم بعد مماته ويقيم لهم من يتولّى أمورهم كما كان هو يتولّاها ويثقون بنظره لهم في ذلك كما وثقوا به فيما قبل وقد عرف ذلك من الشّرع بإجماع الأمّة على جوازه وانعقاده إذ وقع بعهد أبي بكر رضي الله عنه لعمر بمحضر من الصّحابة وأجازوه وأوجبوا على أنفسهم به طاعة عمر رضي الله عنه وعنهم وكذلك عهد عمر في الشّورى إلى السّتّة بقيّة العشرة وجعل لهم أن يختاروا للمسلمين ففوّض بعضهم إلى بعض حتّى أفضى ذلك إلى عبد الرّحمن بن عوف فاجتهد وناظر المسلمين فوجدهم متّفقين على عثمان وعلى عليّ فآثر عثمان بالبيعة على ذلك لموافقته إيّاه على لزوم الاقتداء بالشّيخين في كلّ ما يعنّ دون اجتهاده فانعقد أمر عثمان لذلك وأوجبوا طاعته والملأ من الصّحابة حاضرون للأولى والثّانية ولم ينكره أحد منهم فدلّ على أنّهم متّفقون على صحّة هذا العهد عارفون بمشروعيّته. والإجماع حجّة كما عرف ولا يتّهم الإمام في هذا الأمر وإن عهد إلى أبيه أو ابنه لأنّه مأمون على النّظر لهم في حياته فأولى أن لا يحتمل فيها تبعة بعد مماتهخلافا لمن قال باتهامه في الولد والوالد أو لمن خصّص التّهمة بالولد دون الوالد فإنّه بعيد عن الظنّة في ذلك كلّه لا سيّما إذا كانت هناك داعية تدعو إليه من إيثار مصلحة أو توقّع مفسدة فتنتفي الظنّة في ذلك رأسا كما وقع في عهد معاوية لابنه يزيد وإن كان فعل معاوية مع وفاق النّاس له حجّة في الباب والّذي دعا معاوية لإيثار ابنه يزيد بالعهد دون من سواه إنّما هو مراعاة المصلحة في اجتماع النّاس واتّفاق أهوائهم باتّفاق أهل الحلّ والعقد عليه حينئذ من بني أميّة إذ بنو أميّة يومئذ لا يرضون سواهم وهم عصابة قريش وأهل الملّة أجمع وأهل الغلب منهم فآثره بذلك دون غيره ممّن يظنّ أنّه أولى بها وعدل عن الفاضل إلى المفضول حرصا على الاتّفاق واجتماع الأهواء الّذي شأنه أهمّ عند الشّارع. وإن كان لا يظنّ بمعاوية غير هذا فعدالته وصحبته مانعة من سوى ذلك وحضور أكابر الصّحابة لذلك وسكوتهم عنه دليل على انتفاء الرّيب فيه فليسوا ممّن يأخذهم في الحقّ هوادة وليس معاوية ممّن تأخذه العزّة في قبول الحقّ فإنّهم كلّهم أجلّ من ذلك وعدالتهم مانعة منه وفرار عبد الله بن عمر من ذلك إنّما هو محمول على تورّعه من الدّخول في شيء من الأمور مباحا كان أو محظورا كما هو معروف عنه ولم يبق في المخالفة لهذا العهد الّذي اتّفق عليه الجمهور إلّا ابن الزّبير وندور المخالف معروف ثمّ إنّه وقع مثل ذلك من بعد معاوية من الخلفاء الّذين كانوا يتحرّون الحقّ ويعملون به مثل عبد الملك وسليمان من بني أميّة والسّفّاح والمنصور والمهديّ والرّشيد من بني العبّاس وأمثالهم ممّن عرفت عدالتهم وحسن رأيهم للمسلمين والنّظر لهم ولا يعاب عليهم إيثار أبنائهم وإخوانهم وخروجهم عن سنن الخلفاء الأربعة في ذلك فشأنهم غير شأن أولئك الخلفاء فإنّهم كانوا على حين لم تحدث طبيعة الملك وكان الوازع دينيّا فعند كلّ أحد وازع من نفسه فعهدوا إلى من يرتضيه الدّين فقط وآثروه على غيره ووكلوا كلّ من يسمو إلى ذلك إلى وازعه. وأمّا من بعدهم من لدن معاوية فكانت العصبيّة قد أشرفت على غايتها من الملك والوازع الدّينيّ قد ضعف واحتيج إلى الوازع السّلطانيّ والعصبانيّ فلو عهد إلى غير من ترتضيه العصبيّة لردّت ذلك العهد وانتفض أمره سريعا وصارت الجماعة إلى الفرقة والاختلاف. سأل رجل عليّا رضي الله عنه: «ما بال المسلمين اختلفوا عليك ولم يختلفوا على أبي بكر وعمر؟» فقال: «لأنّ أبا بكر وعمر كانا واليين على مثلي وأنا اليوم وال على مثلك» يشير إلى وازع الدّين أفلا ترى إلى المأمون لمّا عهد إلى عليّ بن موسى بن جعفر الصّادق وسمّاه الرّضا كيف أنكرت العبّاسيّة ذلك ونقضوا بيعته وبايعوا لعمّه إبراهيم بن المهديّ وظهر من الهرج والخلاف وانقطاع السّبل وتعدّد الثّوّار والخوارج ما كاد أن يصطلم الأمر حتّى بادر المأمون من خراسان إلى بغداد وردّ أمرهم لمعاهده فلا بدّ من اعتبار ذلك في العهد فالعصور تختلف باختلاف ما يحدث فيها من الأمور والقبائل والعصبيّات وتختلف باختلاف المصالح ولكلّ واحد منها حكم يخصّه لطفا من الله بعباده وأمّا أن يكون القصد بالعهد حفظ التّراث على الأبناء فليس من المقاصد الدّينيّة إذ هو أمر من الله يخصّ به من يشاء من عباده ينبغي أن تحسّن فيه النيّة ما أمكن خوفا من العبث بالمناصب الدّينيّة والملك للَّه يؤتيه من يشاء، وعرض هنا أمور تدعو الضّرورة إلى بيان الحقّ فيها. فالأول منها ما حدث في يزيد من الفسق أيّام خلافته فإيّاك أن تظنّ بمعاوية رضي الله عنه أنّه علم ذلك من يزيد فإنّه أعدل من ذلك وأفضل بل كان يعذله أيّام حياته في سماع الغناء وينهاه عنه وهو أقلّ من ذلك وكانت مذاهبهم فيه مختلفة ولمّا حدث في يزيد ما حدث من الفسق اختلف الصّحابة حينئذ في شأنه فمنهم من رأى الخروج عليه ونقض بيعته من أجل ذلك كما فعل الحسين وعبد الله بن الزّبير رضي الله عنهما ومن اتّبعهما في ذلك ومنهم من أباه لما فيه من إثارة الفتنة وكثرة القتل مع العجز عن الوفاء به لأنّ شوكة يزيد يومئذ هي عصابة بني أميّة وجمهور أهل الحلّ والعقد من قريش وتستتبع عصبيّة مضر أجمع وهي أعظم من كلّ شوكة ولا تطاق مقاومتهم فأقصروا عن يزيد بسبب ذلك وأقاموا على الدّعاء بهدايته والرّاحة منه وهذا كان شأن جمهور المسلمين والكلّ مجتهدون ولا ينكر على أحد من الفريقين فمقاصدهم في البرّ وتحرّي الحقّ معروفة وفّقنا الله للاقتداء بهم. والأمر الثّاني هو شأن العهد مع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وما تدّعيه الشّيعة من وصيّته لعليّ رضي الله عنه وهو أمر لم يصحّ ولا نقله أحد من أئمّة النّقل والّذي وقع في الصّحيح من طلب الدّواة والقرطاس ليكتب الوصيّة وأنّ عمر منع من ذلك فدليل واضح على أنّه لم يقع وكذا قول عمر رضي الله عنه حين طعن وسئل في العهد فقال: «إن أعهد فقد عهد من هو خير منّي» يعني أبا بكر «وإن أترك فقد ترك من هو خير منّي» يعني النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لم يعهد وكذلك قول عليّ للعبّاس رضي الله عنهما حين دعاه للدّخول إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يسألانه عن شأنهما في العهد فأبى عليّ من ذلك وقال إنّه إن منعنا منها فلا نطمع فيها آخر الدّهر وهذا دليل على أنّ عليّا علم أنّه لم يوص ولا عهد إلى أحد وشبهة الإماميّة في ذلك إنّما هي كون الإمامة من أركان الدّين كما يزعمون وليس كذلك وإنّما هي من المصالح العامّة المفوّضة إلى نظر الخلق ولو كانت من أركان الدّين لكان شأنها شأن الصّلاة ولكان يستخلف فيها كما استخلف أبا بكر في الصّلاة ولكان يشتهر كما اشتهر أمر الصّلاة واحتجاج الصّحابة على خلافة أبي بكر بقياسها على الصّلاة في قولهم ارتضاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لديننا أفلا نرضاه لدنيانا دليل على أنّ الوصيّة لم تقع. ويدلّ ذلك أيضا على أنّ أمر الإمامة والعهد بها لم يكن مهمّا كما هو اليوم وشأن العصبيّة المراعاة في الاجتماع والافتراق في مجاري العادة لم يكن يومئذ بذلك الاعتبار لأنّ أمر الدّين والإسلام كان كلّه بخوارق العادة من تأليف القلوب عليه واستماتة النّاس دونه وذلك من أجلّ الأحوال الّتي كانوا يشاهدونها في حضور الملائكة لنصرهم وتردّد خبر السّماء بينهم وتجدّد خطاب الله في كلّ حادثة تتلى عليهم فلم يحتج إلى مراعاة العصبيّة لما شمل النّاس من صبغة الانقياد والإذعان وما يستفزّهم من تتابع المعجزات الخارقة والأحوال الإلهيّة الواقعة والملائكة المتردّدة الّتي وجموا منها ودهشوا من تتابعها فكان أمر الخلافة والملك والعهد والعصبيّة وسائر هذه الأنواع مندرجا في ذلك القبيل كما وقع فلمّا انحصر ذلك المدد بذهاب تلك المعجزات ثمّ بفناء القرون الّذين شاهدوها فاستحالت تلك الصّبغة قليلا قليلا وذهبت الخوارق وصار الحكم للعادة كما كان فاعتبر أمر العصبيّة ومجاري العوائد فيما ينشأ عنها من المصالح والمفاسد وأصبح الملك والخلافة والعهد بهما مهمّا من المهمّات الأكيدة كما زعموا ولم يكن ذلك من قبل فانظر كيف كانت الخلافة لعهد النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم غير مهمّة فلم يعهد فيها ثمّ تدرّجت الأهميّة زمان الخلافة بعض الشّيء بما دعت الضّرورة إليه في الحماية والجهاد وشأن الرّدّة والفتوحات فكانوا بالخيار في الفعل والتّرك كما ذكرناه عن عمر رضي الله عنه ثمّ صارت اليوم من أهمّ الأمور للإلفة على الحماية والقيام بالمصالح فاعتبرت فيها العصبيّة الّتي هي سرّ الوازع عن الفرقة والتّخاذل ومنشأ الاجتماع والتّوافق الكفيل بمقاصد الشّريعة وأحكامها. والأمر الثّالث شأن الحروب الواقعة في الإسلام بين الصّحابة والتّابعين فاعلم أنّ اختلافهم إنّما يقع في الأمور الدّينيّة وينشأ عن الاجتهاد في الأدلّة الصّحيحة والمدارك المعتبرة والمجتهدون إذا اختلفوا فإن قلنا إنّ الحقّ في المسائل الاجتهاديّة واحد من الطّرفين ومن لم يصادفه فهو مخطئ فإنّ جهته لا تتعيّن بإجماع فيبقى الكلّ على احتمال الإصابة ولا يتعيّن المخطئ منها والتأثيم مدفوع عن الكلّ إجماعا وإن قلنا إنّ الكلّ حقّ وإنّ كلّ مجتهد مصيب فأحرى بنفي الخطإ والتّأثيم وغاية الخلاف الّذي بين الصّحابة والتّابعين أنّه خلاف اجتهاديّ في مسائل دينيّة ظنّيّة وهذا حكمه والّذي وقع من ذلك في الإسلام إنّما هوواقعة عليّ مع معاوية ومع الزّبير وعائشة وطلحة وواقعة الحسين مع يزيد وواقعة ابن الزّبير مع عبد الملك فأمّا واقعة عليّ فإنّ النّاس كانوا عند مقتل عثمان مفترقين في الأمصار فلم يشهدوا بيعة عليّ والّذين شهدوا فمنهم من بايع ومنهم من توقّف حتّى يجتمع النّاس ويتّفقوا على إمام كسعد وسعيد وابن عمر وأسامة بن زيد والمغيرة بن شعبة وعبد الله بن سلام وقدامة بن مظعون وأبي سعيد الخدريّ وكعب بن مالك والنّعمان بن بشير وحسّان بن ثابت ومسلمة بن مخلد وفضالة بن عبيد وأمثالهم من أكابر الصّحابة والّذين كانوا في الأمصار عدلوا عن بيعته أيضا إلى الطّلب بدم عثمان وتركوا الأمر فوضى حتّى يكون شورى بين المسلمين لمن يولّونه وظنّوا بعليّ هوادة في السّكوت عن نصر عثمان من قاتله لا في الممالأة عليه فحاش للَّه من ذلك. ولقد كان معاوية إذا صرّح بملامته إنّما يوجّهها عليه في سكوته فقط ثمّ اختلفوا بعد ذلك فرأى عليّ أنّ بيعته قد انعقدت ولزمت من تأخّر عنها باجتماع من اجتمع عليها بالمدينة دار النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وموطن الصّحابة وأرجأ الأمر في المطالبة بدم عثمان إلى اجتماع النّاس واتّفاق الكلمة فيتمكّن حينئذ من ذلك ورأى الآخرون أنّ بيعته لم تنعقد لافتراق الصّحابة أهل الحلّ والعقد بالآفاق ولم يحضر إلّا قليل ولا تكون البيعة إلّا باتّفاق أهل الحلّ والعقد ولا تلزم بعقد من تولّاها من غيرهم أو من القليل منهم وإنّ المسلمين حينئذ فوضى فيطالبون أوّلا بدم عثمان ثمّ يجتمعون على إمام وذهب إلى هذا معاوية وعمرو بن العاص وأمّ المؤمنين عائشة والزّبير وابنه عبد الله وطلحة وابنه محمّد وسعد وسعيد والنّعمان بن بشير ومعاوية بن خديج ومن كان على رأيهم من الصّحابة الّذين تخلّفوا عن بيعة عليّ بالمدينة كما ذكرنا إلّا أنّ أهل العصر الثاني من بعدهم اتّفقوا على انعقاد بيعة عليّ ولزومها للمسلمين أجمعين وتصويب رأيه فيما ذهب إليه وتعيين الخطإ من جهة معاوية ومن كان على رأيه وخصوصا طلحة والزّبير لانتقاضهما على عليّ بعد البيعة له فيما نقل مع دفع التّأثيم عن كلّ من الفريقين كالشّأن في المجتهدين وصار ذلك إجماعا من أهل العصر الثّاني على أحد قولي أهل العصر الأوّل كما هو معروف. ولقد سئل عليّ رضي الله عنه عن قتلى الجمل وصفّين فقال: «والّذي نفسي بيده لا يموتنّ أحد من هؤلاء وقلبه نقيّ إلّا دخل الجنّة» يشير إلى الفريقين نقله الطّبريّ وغيره فلا يقعنّ عندك ريب في عدالة أحد منهم ولا قدح في شيء من ذلك فهم من علمت وأقوالهم وأفعالهم إنّما هي عن المستندات وعدالتهم مفروغ منها عند أهل السّنّة إلّا قولا للمعتزلة فيمن قاتل عليّا لم يلتفت إليه أحد من أهل الحقّ ولا عرّج عليه وإذا نظرت بعين الإنصاف عذرت النّاس أجمعين في شأن الاختلاف في عثمان واختلاف الصّحابة من بعد وعلمت أنّها كانت فتنة ابتلى الله بها الأمّة بينما المسلمون قد أذهب الله عدوّهم وملّكهم أرضهم وديارهم ونزلوا الأمصار على حدودهم بالبصرة والكوفة والشّام ومصر وكان أكثر العرب الّذين نزلوا هذه الأمصار جفاة لم يستكثروا من صحبة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ولا ارتاضوا بخلقه مع ما كان فيهم من الجاهليّة من الجفاء والعصبيّة والتّفاخر والبعد عن سكينة الإيمان وإذا بهم عند استفحال الدّولة قد أصبحوا في ملكة المهاجرين والأنصار من قريش وكنانة وثقيف وهذيل وأهل الحجاز ويثرب السّابقين الأوّلين إلى الإيمان فاستنكفوا من ذلك وغصّوا به لما يرون لأنفسهم من التّقدّم بأنسابهم وكثرتهم ومصادمة فارس والرّوم مثل قبائل بكر بن وائل وعبد القيس بن ربيعة وقبائل كندة والأزد من اليمن وتميم وقيس من مضر فصاروا إلى الغضّ من قريش والأنفة عليهم، والتّمريض في طاعتهم والتّعلّل في ذلك بالتّظلّم منهم والاستعداء عليهم والطّعن فيهم بالعجز عن السّويّة والعدل في القسم عن السّويّة وفشت المقالة بذلك وانتهت إلى المدينة وهم من علمت فأعظموه وأبلغوه عثمان فبعث إلى الأمصار من يكشف له الخبر.
بعث ابن عمر ومحمّد بن مسلمة وأسامة بن زيد وأمثالهم فلم ينكروا على الأمراء شيئا ولا رأوا عليهم طعنا وأدّوا ذلك كما علموه فلم ينقطع الطّعن من أهل الأمصار وما زالت الشّناعات تنمو ورمي الوليد بن عقبة وهو على الكوفة بشرب الخمر وشهد عليه جماعة منهم وحدّه عثمان وعزله ثمّ جاء إلى المدينة من أهل الأمصار يسألون عزل العمّال وشكوا إلى عائشة وعليّ والزبير وطلحة وعزل لهم عثمان بعض العمّال فلم تنقطع بذلك ألسنتهم بل وفد سعيد بن العاصي وهو على الكوفة فلمّا رجع اعترضوه بالطّريق وردّوه معزولا ثمّ انتقل الخلاف بين عثمان ومن معه من الصّحابة بالمدينة ونقموا عليه امتناعه من العزل فأبى إلّا أن يكون على جرحة 97 ثمّ نقلوا النّكير إلى غير ذلك من أفعاله وهو متمسّك بالاجتهاد وهم أيضا كذلك ثمّ تجمّع قوم من الغوغاء وجاءوا إلى المدينة يظهرون طلب النّصفة من عثمان وهم يضمرون خلاف ذلك من قتله وفيهم من البصرة والكوفة ومصر وقام معهم في ذلك عليّ وعائشة والزّبير وطلحة وغيرهم يحاولون تسكين الأمور ورجوع عثمان إلى رأيهم وعزل لهم عامل مصر فانصرفوا قليلا ثمّ رجعوا وقد لبّسوا بكتاب مدلّس يزعمون أنّهم لقوة في يد حامله إلى عامل مصر بأن يقتلهم وحلف عثمان على ذلك فقالوا مكّنّا من مروان فإنّه كاتبك فحلف مروان فقال ليس في الحكم أكثر من هذا فحاصروه بداره ثمّ بيّتوه على حين غفلة من النّاس وقتلوه وانفتح باب الفتنة فلكلّ من هؤلاء عذر فيما وقع وكلّهم كانوا مهتمّين بأمر الدّين ولا يضيعون شيئا من تعلّقاته. ثمّ نظروا بعد هذا الواقع واجتهدوا والله مطّلع على أحوالهم وعالم بهم ونحن لا نظنّ بهم إلّا خيرا لما شهدت به أحوالهم ومقالات الصّادق فيهم وأمّا الحسين فإنّه لمّا ظهر فسق يزيد عند الكافّة من أهل عصره بعثت شيعة أهل البيت بالكوفة للحسين أن يأتيهم فيقوموا بأمره فرأى الحسين أنّ الخروج على يزيد متعيّن من أجل فسقه لا سيّما من له القدرة على ذلك وظنّها من نفسه بأهليّته وشوكته فأمّا الأهليّة فكانت كما ظنّ وزيادة وأمّا الشّوكة فغلط يرحمه الله فيها لأنّ عصبيّة مضر كانت في قريش وعصبيّة عبد مناف إنّما كانت في بني أميّة تعرف ذلك لهم قريش وسائر النّاس ولا ينكرونه وإنّما نسي ذلك أوّل الإسلام لما شغل النّاس من الذّهول بالخوارق وأمر الوحي وتردّد الملائكة لنصرة المسلمين فأغفلوا أمور عوائدهم وذهبت عصبيّة الجاهليّة ومنازعها ونسيت ولم يبق إلّا العصبيّة الطّبيعيّة في الحماية والدّفاع ينتفع بها في إقامة الدّين وجهاد المشركين والدّين فيها محكم والعادة معزولة حتّى إذا انقطع أمر النّبوة والخوارق المهولة تراجع الحكم بعض الشّيء للعوائد فعادت العصبيّة كما كانت ولمن كانت وأصبحت مضر أطوع لبني أميّة من سواهم بما كان لهم من ذلك قبل فقد تبيّن لك غلط الحسين إلّا أنّه في أمر دنيويّ لا يضرّه الغلط فيه وأمّا الحكم الشّرعيّ فلم يغلط فيه لأنّه منوط بظنّه وكان ظنّه القدرة على ذلك ولقد عذله ابن العبّاس وابن الزّبير وابن عمر وابن الحنفيّة أخوه وغيره في مسيره إلى الكوفة وعلموا غلطه في ذلك ولم يرجع عمّا هو بسبيله لما أراده الله. وأمّا غير الحسين من الصّحابة الّذين كانوا بالحجاز ومع يزيد بالشّام والعراق ومن التّابعين لهم فرأوا أنّ الخروج على يزيد وإن كان فاسقا لا يجوز لما ينشأ عنه من الهرج والدّماء فأقصروا عن ذلك ولم يتابعوا الحسين ولا أنكروا عليه ولا أثّموه لأنّه مجتهد وهو أسوة المجتهدين ولا يذهب بك الغلط أن تقول بتأثيم هؤلاء بمخالفة الحسين وقعودهم عن نصره فإنّهم أكثر الصّحابة وكانوا مع يزيد ولم يروا الخروج عليه وكان الحسين يستشهد بهم وهو بكربلاء على فصله وحقّه ويقول سلوا جابر بن عبد الله وأبا سعيد الخدريّ وأنس بن مالك وسهل بن سعيد وزيد بن أرقم وأمثالهم ولم ينكر عليهم قعودهم عن نصره ولا تعرّض لذلك لعلمه أنّه عن اجتهاد وإن كان هو على اجتهاد ويكون ذلك كما يحدّ الشّافعيّ والمالكيّ والحنفيّ على شرب النّبيذ واعلم أنّ الأمر ليس كذلك وقتاله لم يكن عناجتهاد هؤلاء وإن كان خلافه عن اجتهادهم وإنّما انفرد بقتاله يزيد وأصحابه ولا تقولنّ إنّ يزيد وإن كان فاسقا ولم يجز هؤلاء الخروج عليه فأفعاله عندهم صحيحة واعلم أنّه إنّما ينفذ من أعمال الفاسق ما كان مشروعا وقتال البغاة عندهم من شرطه أن يكون مع الإمام العادل وهو مفقود في مسألتنا فلا يجوز قتال الحسين مع يزيد ولا ليزيد بل هي من فعلاته المؤكّدة لفسقه والحسين فيها شهيد مثاب وهو على حقّ واجتهاد والصّحابة الّذين كانوا مع يزيد على حقّ أيضا واجتهاد وقد غلط القاضي أبو بكر بن العربيّ المالكيّ في هذا فقال في كتابه الّذي سمّاه بالعواصم والقواصم ما معناه: إنّ الحسين قتل بشرع جدّه وهو غلط حملته عليه الغفلة عن اشتراط الإمام العادل ومن أعدل من الحسين في زمانه في إمامته وعدالته في قتال أهل الآراء وأمّا ابن الزّبير فإنّه رأى في منامه ما رآه الحسين وظنّ كما ظنّ وغلطه في أمر الشّوكة أعظم لأنّ بني أسد لا يقاومون بني أميّة في جاهليّة ولا إسلام. والقول بتعيّن الخطاء في جهة مخالفة كما كان في جهة معاوية مع عليّ لا سبيل إليه. لأنّ الإجماع هنالك قضى لنا به ولم نجده هاهنا. وأمّا يزيد فعيّن خطأه فسقه. وعبد الملك صاحب ابن الزّبير أعظم النّاس عدالة وناهيك بعدالته احتجاج مالك بفعله وعدول ابن عبّاس وابن عمر إلى بيعته عن ابن الزّبير وهم معه بالحجاز مع أنّ الكثير 98 من الصّحابة كانوا يرون أنّ بيعة ابن الزّبير لم تنعقد لأنّه لم يحضرها أهل العقد والحلّ كبيعة مروان وابن الزّبير على خلاف ذلك والكلّ مجتهدون محمولون على الحقّ في الظّاهر وإن لم يتعيّن في جهة منهما والقتل الّذي نزل به بعد تقرير ما قرّرناه يجيء على قواعد الفقه وقوانينه مع أنّه شهيد مثاب باعتبار قصده وتحرّيه الحقّ هذا هو الّذي ينبغي أن تحمل عليه أفعال السّلف من الصّحابة والتّابعين فهم خيار الأمّة وإذا جعلناهم عرضة للقدح فمن الّذي يختصّ بالعدالة والنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول «خير النّاس قرني» 99 ثمّ الّذين يلونهم مرّتين أو ثلاثا ثمّ يفشو الكذب فجعل الخيرة وهي العدالة مختصّة بالقرن الأوّل والّذي يليه فإيّاك أن تعوّد نفسك أو لسانك التّعرّض لأحد منهم ولا يشوّش قلبك بالرّيب في شيء ممّا وقع منهم والتمس لهم مذاهب الحقّ وطرقه ما استطعت فهم أولى النّاس بذلك وما اختلفوا إلّا عن بيّنة وما قاتلوا أو قتلوا إلّا في سبيل جهاد أو إظهار حقّ واعتقد مع ذلك أنّ اختلافهم رحمة لمن بعدهم من الأمّة ليقتدي كلّ واحد بمن يختاره منهم ويجعله إمامه وهاديه ودليله فافهم ذلك وتبيّن حكمة الله في خلقه وأكوانه واعلم أنّه على كلّ شيء قدير وإليه الملجأ والمصير والله تعالى أعلم.
الفصل الحادي والثلاثون في الخطط الدينية الخلافية
الخلافية لمّا تبيّن أنّ حقيقة الخلافة نيابة عن صاحب الشّرع في حفظ الدّين وسياسة الدّنيا فصاحب الشّرع متصرّف في الأمرين أمّا في الدّين فبمقتضى التّكاليف الشّرعيّة الّذي هو مأمور بتبليغها وحمل النّاس عليها وأمّا سياسة الدّنيا فبمقتضى رعايته لمصالحهم في العمران البشريّ وقد قدّمنا أنّ هذا العمران ضروريّ للبشر وأنّ رعاية مصالحه كذلك لئلّا يفسد إن أهملت وقدّمنا أنّ الملك وسطوته كاف في حصول هذه المصالح. نعم إنّما تكون أكمل إذا كانت بالأحكام الشّرعيّة لأنّه 100 أعلم بهذه المصالح فقد صار الملك يندرج تحت الخلافة إذا كان إسلاميّا ويكون من توابعها وقد ينفرد إذا كان في غير الملّة وله على كلّ حال مراتب خادمة ووظائف تابعة تتعيّن خططا وتتوزّع على رجال الدّولة وظائف فيقوم كلّ واحد بوظيفته حسبما يعيّنه الملك الّذي تكون يده عالية عليهم فيتمّ بذلك أمره ويحسن قيامه بسلطانه وأمّا المنصب الخلافيّ وإن كان الملك يندرج تحته بهذا الاعتبار الّذي ذكرناه فتصرّفه الدّيني يختصّ بخطط ومراتب لا تعرف إلّا للخلفاء الإسلاميّين فلنذكر الآن الخطط الدّينيّة المختصّة بالخلافة ونرجع إلى الخطط الملوكيّة السّلطانيّة. فاعلم أنّ الخطط الدّينيّة الشّرعيّة من الصّلاة والفتيا والقضاء والجهاد والحسبة كلّها مندرجة تحت الإمامة الكبرى الّتي هي الخلافة فكأنّها الإمام الكبير والأصل الجامع وهذه كلّها متفرّعة عنها وداخلة فيها لعموم نظر الخلافة وتصرّفها في سائر أحوال الملّة الدّينيّة والدّنيويّة وتنفيذ أحكام الشّرع فيها على العموم. فأمّا إمامة الصّلاة فهي أرفع هذه الخطط كلّها وأرفع من الملك بخصوصه المندرج معها تحت الخلافة. ولقد يشهد لذلك استدلال الصّحابة في شأن أبي بكر رضي الله عنه باستخلافه في الصّلاة على استخلافه في السّياسة في قولهم ارتضاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لديننا أفلا نرضاه لدنيانا؟ فلولا أنّ الصّلاة أرفع من السّياسة لما صحّ القياس وإذا ثبت ذلك فاعلم أنّ المساجد في المدينة صنفان: مساجد عظيمة كثيرة الغاشية 101 معدّة للصّلوات المشهودة. وأخرى دونها مختصّة بقوم أو محلّة وليست للصّلوات العامّة فأمّا المساجد العظيمة فأمرها راجع إلى الخليفة أو من يفوّض إليه من سلطان أو من وزير أو قاض فينصب لها الإمام في الصّلوات الخمس والجمعة والعيدين والخسوفين والاستسقاء وتعيّن ذلك إنّما هو من طريق الأولى والاستحسان ولئلّا يفتات 102 الرّعايا عليه في شيء من النّظر في المصالح العامّة وقد يقول بالوجوب في ذلك من يقول بوجوب إقامة الجمعة فيكون نصب الإمام لها عنده واجبا وأمّا المساجد المختصّة بقوم أو محلّة فأمرها راجع إلى الجيران ولا تحتاج إلى نظر خليفة ولا سلطان وأحكام هذه الولاية وشروطها والمولّى فيها معروفة في كتب الفقه ومبسوطة في كتب الأحكام السّلطانيّة للماورديّ وغيره فلا نطوّل بذكرها ولقد كان الخلفاء الأوّلون لا يقلّدونها لغيرهم من النّاس. وانظر من طعن من الخلفاء في المسجد عند الأذان بالصّلاة وترصّدهم لذلك في أوقاتها، يشهد لك ذلك بمباشرتهم لها وأنّهم لم يكونوا مستخلفين فيها. وكذا كان رجال الدّولة الأمويّة من بعدهم استئثارا بها واستعظاما لرتبتها. يحكى عن عبد الملك أنّه قال لحاجبه «قد جعلت لك حجابة يأبى إلّا عن ثلاثة: صاحب الطّعام فإنّه يفسد بالتّأخير والأذان بالصّلاة فإنّه داع إلى الله والبريد فإنّ في تأخيره فساد القاصية» فلمّا جاءت طبيعة الملك وعوارضه من الغلظة والتّرفّع عن مساواة النّاس في دينهم ودنياهم استنابوا في الصّلاة فكانوا يستأثرون بها في الأحيان وفي الصّلوات العامّة كالعيدين والجمعة إشارة وتنويها فعل ذلك كثير من خلفاء بني العبّاس والعبيديّين صدر دولتهم. وأمّا الفتيا فللخليفة تصفّح أهل العلم والتّدريس وردّ الفتيا إلى من هو أهل لها وإعانته على ذلك ومنع من ليس أهلا لها وزجره لأنّها من مصالح المسلمين في أديانهم فتجب عليه مراعاتها لئلّا يتعرّض لذلك من ليس له بأهل فيضلّ النّاس. وللمدرّس الانتصاب لتعليم العلم وبثّه والجلوس لذلك في المساجد فإن كانت من المساجد العظام الّتي للسّلطان الولاية عليها والنّظر في أئمّتها كما مرّ فلا بدّ من استئذانه في ذلك وإن كانت من مساجد العامّة فلا يتوقّف ذلك على إذن. على أنّه ينبغي أن يكون لكلّ أحد من المفتين والمدرّسين زاجر من نفسه يمنعه عن التّصدّي لما ليس له بأهل فيضلّ 103 به المستهدي ويضلّ به المسترشد وفي الأثر «أجرأكم على الفتيا أجرأكم على جراثيم جهنّم» فللسّلطان فيهم لذلك من النّظر ما توجبه المصلحة من إجازة أو ردّ. وأمّا القضاء فهو من الوظائف الدّاخلة تحت الخلافة لأنّه منصب الفصل بين النّاس في الخصومات حسما للتّداعي وقطعا للتّنازع إلّا أنّه بالأحكام الشّرعيّة المتلقّاة من الكتاب والسّنّة، فكان لذلك من وظائف الخلافة ومندرجا في عمومها وكان الخلفاء في صدر الإسلام يباشرونه بأنفسهم ولا يجعلون القضاء إلى من سواهم. وأوّل من دفعه إلى غيره وفوّضه فيه عمر رضي الله عنه فولّى أبا الدّرداء معه بالمدينة وولّى شريحا بالبصرة وولّى أبا موسى الأشعريّ بالكوفة وكتب له في ذلك الكتاب المشهور الّذي تدور عليه أحكام القضاة وهي مستوفاة فيه يقول أمّا بعد: «فإنّ القضاء فريضة محكمة وسنّة متّبعة فافهم إذا أدلي إليك فإنّه لا ينفع تكلّم بحقّ لا نفاذ له وآس بين النّاس في وجهك ومجلسك وعدلك حتّى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك البيّنة على من ادّعى واليمين على من أنكر. والصّلح جائز بين المسلمين إلّا صلحا أحلّ حراما أو حرّم حلالا ولا يمنعك قضاء قضيته أمس فراجعت اليوم فيه عقلك وهديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحقّ فإنّ الحقّ قديم ومراجعة الحقّ خير من التّمادي في الباطل الفهم الفهم فيما يتلجلج في صدرك ممّا ليس في كتاب ولا سنّة ثمّ اعرف الأمثال والأشباه وقس الأمور بنظائرها واجعل لمن ادّعى حقّا غائبا أو بيّنة أمدا ينتهي إليه فإن أحضر بيّنته أخذت له بحقّه وإلّا استحللت القضاء عليه فإنّ ذلك أنفى للشّكّ وأجلى للعمى. المسلمون عدول بعضهم على بعض إلّا مجلودا في حدّ أو مجرى 104 عليه شهادة زور أو ظنينا في نسب أو ولاء، فإنّ الله سبحانه عفا عن الإيمان ودرأ بالبيّنات. وإيّاك والقلق والضّجر والتّأفّف بالخصوم فإنّ استقرار الحقّ في مواطن الحقّ يعظّم الله به الأجر ويحسن به الذّكر والسّلام» . انتهى كتاب عمر وإنّما كانوا يقلّدون القضاء لغيرهم وإن كان ممّا يتعلّق بهم لقيامهم بالسّياسة العامّة وكثرة أشغالها من الجهاد والفتوحات وسدّ الثّغور وحماية البيضة، ولم يكن ذلك ممّا يقوم به غيرهم لعظم العناية فاستحقّوا القضاء في الواقعات بين النّاس واستخلفوا فيه من يقوم به تخفيفا على أنفسهم وكانوا مع ذلك إنّما يقلّدونه أهل عصبيّتهم بالنّسب أو الولاء ولا يقلّدونه لمن بعد عنهم في ذلك. وأمّا أحكام هذا المنصب وشروطه فمعروفة في كتب الفقه وخصوصا كتب الأحكام السّلطانيّة. إلّا أنّ القاضي إنّما كان له في عصر الخلفاء الفصل بين الخصوم فقط ثمّ دفع لهم بعد ذلك أمور أخرى على التّدريج بحسب اشتغال الخلفاء والملوك بالسّياسة الكبرى واستقرّ منصب القضاء آخر الأمر على أنّه يجمع مع الفصل بين الخصوم استيفاء بعض الحقوق العامّة للمسلمين بالنّظر في أموال 105 المحجور عليهم من المجانين واليتامى والمفلسين وأهل السّفه وفي وصايا المسلمين وأوقافهم وتزويج الأيامى عند فقد الأولياء على رأي من رآه والنّظر في مصالح الطّرقات والأبنية وتصفّح الشّهود والأمناء والنّوّاب واستيفاء العلم والخبرة فيهم بالعدالة والجرح ليحصل له الوثوق بهم وصارت هذه كلّها من تعلّقات وظيفته وتوابع ولايته. وقد كان الخلفاء من قبل يجعلون للقاضي النّظر في المظالم وهي وظيفة ممتزجة من سطوة السّلطنة ونصفة القضاء وتحتاج إلى علوّ يد وعظيم رهبة تقمع الظّالم من الخصمين وتزجر المتعدّي وكأنّه يمضي ما عجز القضاة أو غيرهم عن إمضائه ويكون نظره في البيّنات والتّقرير واعتماد الأمارات والقرائن وتأخير الحكم إلى استجلاء الحقّ وحمل الخصمين على الصّلح واستحلاف الشّهود وذلك أوسع من نظر القاضي. وكان الخلفاء الأوّلون يباشرونها بأنفسهم إلى أيّام المهتدي من بني العبّاس وربّما كانوا يجعلونها لقضاتهم كما فعل عمر رضي الله عنه مع قاضيه أبي إدريس الخولانيّ وكما فعله المأمون ليحيى بن أكثم والمعتصم لأحمد بن أبي داود وربّما كانوا يجعلون للقاضي قيادة الجهاد في عساكر الطّوائف 106 وكان يحيى بن أكثم يخرج أيّام المأمون بالطّائفة إلى أرض الرّوم وكذا منذر بن سعيد قاضي عبد الرّحمن النّاصر من بني أميّة بالأندلس فكانت تولية هذه الوظائف إنّما تكون للخلفاء أو من يجعلون ذلك له من وزير مفوّض أو سلطان متغلّب. وكان أيضا النّظر في الجرائم وإقامة الحدود في الدّولة العبّاسيّة والأمويّة بالأندلس والعبيديّين بمصر والمغرب راجعا إلى صاحب الشّرطة وهي وظيفة أخرى دينيّة كانت من الوظائف الشّرعيّة في تلك الدّول توسّع النّظر فيها عن أحكام القضاء قليلا فيجعل للتّهمة في الحكم مجالا ويفرض العقوبات الزّاجرة قبل ثبوت الجرائم ويقيم الحدود الثّابتة في محالّها ويحكم في القود 107 والقصاص ويقيم التّعزير والتّأديب في حقّ من لم ينته عن الجريمة. ثمّ تنوسي شأن هاتين الوظيفتين في الدّول الّتي تنوسي فيها أمر الخلافة فصار أمر المظالم راجعا إلى السّلطان كان له تفويض من الخليفة أو لم يكن وانقسمت وظيفة الشّرطة قسمين منها وظيفة التّهمة على الجرائم وإقامة حدودها ومباشرة القطع والقصاص حيث يتعيّن ونصب لذلك في هذه الدّول حاكم يحكم فيها بموجب السياسة دون مراجعة الأحكام الشّرعيّة ويسمّى تارة باسم الوالي وتارة باسم الشّرطة وبقي قسم التّعازير وإقامة الحدود في الجرائم الثّابتة شرعا فجمع ذلك للقاضي مع ما تقدّم وصار ذلك من توابع وظيفة ولايته واستقرّ الأمر لهذا العهد على ذلك وخرجت هذه الوظيفة عن أهل عصبيّة الدّولة لأنّ الأمر لمّا كان خلافة دينيّة وهذه الخطّة من مراسم الدّين فكانوا لا يولّون فيها إلّا من أهل عصبيّتهم من العرب ومواليهم بالحلف أو بالرّقّ أو بالاصطناع ممّن يوثق بكفايته أو غنائه فيما يدفع إليه، ولمّا انقرض شأن الخلافة وطورها وصار الأمر كلّه ملكا أو سلطانا صارت هذه الخطط الدّينيّة بعيدة عنه بعض الشّيء لأنّها ليست من ألقاب الملك ولا مراسمه ثمّ خرج الأمر جملة من العرب وصار الملك لسواهم من أمم التّرك والبربر فازدادت هذه الخطط الخلافيّة بعدا عنهم بمنحاها وعصبيّتها. وذلك أنّ العرب كانوا يرون أنّ الشّريعة دينهم وأنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم منهم وأحكامه وشرائعه نحلتهم بين الأمم وطريقهم، وغيرهم لا يرون ذلك إنّما يولّونها جانبا من التّعظيم لما دانوا بالملّة فقط. فصاروا يقلّدونها من غير عصابتهم ممّن كان تأهّل لها في دول الخلفاء السّالفة. وكان أولئك المتأهّلون بما أخذهم ترف الدّول منذ مئين من السّنين قد نسوا عهد البداوة وخشونتها والتبسوا بالحضارة في عوائد ترفهم ودعتهم، وقلّة الممانعة عن أنفسهم، وصارت هذه الخطط في الدّول الملوكيّة من بعد الخلفاء مختصّة بهذا الصّنف من المستضعفين في أهل الأمصار ونزل أهلها عن مراتب العزّ لفقد الأهليّة بأنسابهم وما هم عليه من الحضارة فلحقهم من الاحتقار ما لحق الحضر المنغمسين في التّرف والدّعة، البعداء عن عصبيّة الملك الّذين هم عيال على الحامية، وصار اعتبارهم في الدّولة من أجل قيامها بالملّة وأخذها بأحكام الشّريعة، لما أنّهم الحاملون للأحكام المقتدون بها. ولم يكن إيثارهم في الدّولة حينئذ إكراما لذواتهم، وإنّما هو لما يتلمّح من التّجمّل بمكانهم في مجالس الملك لتعظيم الرّتب الشّرعيّة، ولم يكن لهم فيها من الحلّ والعقد شيء، وإن حضروه فحضور رسميّ لا حقيقة وراءه، إذ حقيقة الحلّ والعقد إنّما هي لأهل القدرة عليهفمن لا قدرة له عليه فلا حلّ له ولا عقد لديه. اللَّهمّ إلّا أخذ الأحكام الشّرعيّة عنهم، وتلقّي الفتاوى منهم فنعم والله الموفّق. وربّما يظنّ بعض النّاس أنّ الحقّ فيما وراء ذلك وأنّ فعل الملوك فيما فعلوه من إخراج الفقهاء والقضاة من الشّورى مرجوح وقد قال صلّى الله عليه وسلّم «العلماء ورثة الأنبياء» فاعلم أنّ ذلك ليس كما ظنّه 108 وحكم الملك والسّلطان إنّما يجري على ما تقتضيه طبيعة العمران وإلّا كان بعيدا عن السّياسة. فطبيعة العمران في هؤلاء لا تقضي لهم شيئا من ذلك لأنّ الشّورى والحلّ والعقد لا تكون إلّا لصاحب عصبيّة يقتدر بها على حلّ أو عقد أو فعل أو ترك، وأمّا من لا عصبيّة له ولا يملك من أمر نفسه شيئا ولا من حمايتها وإنّما هو عيال على غيره فأيّ مدخل له في الشّورى أو أيّ معنى يدعو إلى اعتباره فيها؟ اللَّهمّ إلّا شوراه فيما يعلمه من الأحكام الشّرعيّة فموجودة في الاستفتاء خاصّة. وأمّا شوراه في السّياسة فهو بعيد عنها لفقدانه العصبيّة والقيام على معرفة أحوالها وأحكامها وإنّما إكرامهم من تبرّعات الملوك والأمراء الشّاهدة لهم بجميل الاعتقاد في الدّين وتعظيم من ينتسب إليه بأيّ جهة انتسب وأمّا قوله صلّى الله عليه وسلّم «العلماء ورثة الأنبياء» فاعلم أنّ الفقهاء في الأغلب لهذا العهد وما احتفّ به إنّما حمّلوا الشّريعة أقوالا في كيفيّة الأعمال في العبادات وكيفيّة القضاء في المعاملات ينصّونها على من يحتاج إلى العمل بها هذه غاية أكابرهم ولا يتّصفون إلّا بالأقلّ منها وفي بعض الأحوال والسّلف رضوان الله عليهم وأهل الدّين والورع من المسلمين حملوا الشّريعة اتّصافا بها وتحقّقا بمذاهبها. فمن حملها اتّصافا وتحقّقا دون نقل فهو من الوارثين مثل أهل رسالة القشيريّ ومن اجتمع له الأمران فهو العالم وهو الوارث على الحقيقة مثل فقهاء التّابعين والسّلف والأئمّة الأربعة ومن اقتفى طريقهم وجاء على أثرهم وإذا انفرد واحد من الأمّة بأحد الأمرين فالعابد أحقّ بالوراثة من الفقيه الّذي ليس بعابد لأنّ العابد ورث بصفة والفقيه الّذي ليس بعابد لم يرث شيئا إنّما هو صاحب أقوال ينصّها علينا في كيفيّات العمل وهؤلاء أكثر فقهاء عصرنا «إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ 38: 24» . العدالة: وهي وظيفة دينيّة تابعة للقضاء ومن موادّ تصريفه وحقيقة هذه الوظيفة القيام عن إذن القاضي بالشّهادة بين النّاس فيما لهم وعليهم تحمّلا عند الإشهاد وأداء عند التّنازع وكتبا في السّجلّات تحفظ به حقوق النّاس وأملاكهم وديونهم وسائر معاملاتهم وشرط هذه الوظيفة الاتّصاف بالعدالة الشّرعيّة والبراءة من الجرح ثمّ القيام بكتب السّجلّات والعقود من جهة عباراتها وانتظام فصولها ومن جهة إحكام شروطها الشّرعيّة وعقودها فيحتاج حينئذ إلى ما يتعلّق بذلك من الفقه ولأجل هذه الشّروط وما يحتاج إليه من المران 109 على ذلك والممارسة له اختصّ ذلك ببعض العدول وصار الصّنف القائمون به كأنّهم مختصّون بالعدالة وليس كذلك وإنّما العدالة من شروط اختصاصهم بالوظيفة ويجب على القاضي تصفّح أحوالهم والكشف عن سيرهم رعاية لشرط العدالة فيهم وأن لا يهمل ذلك لما يتعيّن عليه من حفظ حقوق النّاس فالعهدة عليه في ذلك كلّه وهو ضامن دركه وإذا تعيّن هؤلاء لهذه الوظيفة عمّت الفائدة في تعيين من تخفى عدالته على القضاة بسبب اتّساع الأمصار واشتباه الأحوال واضطرار القضاة إلى الفصل بين المتنازعين بالبيّنات الموثوقة فيعوّلون غالبا في الوثوق بها على هذا الصّنف ولهم في سائر الأمصار دكاكين ومصاطب يختصّون بالجلوس عليها فيتعاهدهم أصحاب المعاملات للإشهاد وتقييده بالكتاب وصار مدلول هذه اللّفظة مشتركا بين هذه الوظيفة الّتي تبيّن مدلولها وبين العدالة الشّرعيّة الّتي هي أخت الجرح وقد يتواردان ويفترقان والله تعالى أعلم. الحسبة والسكة إمّا الحسبة فهي وظيفة دينيّة من باب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر الّذي هو فرض على القائم بأمور المسلمين يعيّن لذلك من يراه أهلا له فيتعيّن فرضه عليه ويتّخذ الأعوان على ذلك ويبحث عن المنكرات ويعزّر ويؤدّب على قدرها ويحمل النّاس على المصالح العامّة في المدينة مثل المنع من المضايقة في الطّرقات ومنع الحمّالين وأهل السّفن من الإكثار في الحمل والحكم على أهل المباني المتداعية للسّقوط بهدمها وإزالة ما يتوقّع من ضررها على السّابلة والضّرب على أيدي المعلّمين في المكاتب وغيرها في الإبلاغ في ضربهم للصّبيان المتعلّمين ولا يتوقّف حكمه على تنازع أو استعداء بل له النّظر والحكم فيما يصل إلى علمه من ذلك ويرفع إليه وليس له إمضاء الحكم في الدّعاوي مطلقا بل فيما يتعلّق بالغشّ والتّدليس في المعايش وغيرها في المكاييل والموازين وله أيضا حمل المماطلين على الإنصاف وأمثال ذلك ممّا ليس فيه سماع بيّنة ولا إنفاذ حكم وكأنّها أحكام ينزّه القاضي عنها لعمومها وسهولة أغراضها فتدفع إلى صاحب هذه الوظيفة ليقوم بها فوضعها على ذلك أن تكون خادمة لمنصب القضاء وقد كانت في كثير من الدّول الإسلاميّة مثل العبيديّين بمصر والمغرب والأمويّين بالأندلس داخلة في عموم ولاية القاضي يولّي فيها باختياره ثمّ لمّا انفردت وظيفة السّلطان عن الخلافة وصار نظره عامّا في أمور السياسة اندرجت في وظائف الملك وأفردت بالولاية. وأمّا السّكّة فهي النّظر في النّقود المتعامل بها بين النّاس وحفظها ممّا يداخلها من الغشّ أو النّقص إن كان يتعامل بها عددا أو ما يتعلّق بذلك ويوصل إليه من جميع الاعتبارات ثمّ في وضع علامة السّلطان على تلك النّقود بالاستجادة والخلوص برسم تلك العلامة فيها من خاتم حديد اتّخذ لذلك ونقش فيه نقوش خاصّة به فيوضع على الدّينار بعد أن يقدّر ويضرب عليه بالمطرقة حتّى ترسم فيه تلك النّقوش وتكون علامة على جودته بحسب الغاية الّتي وقف عندها السّبك والتّخليص في متعارف أهل القطر ومذاهب الدّولة الحاكمة فإنّ السّبك والتّخليص في النّقود لا يقف عند غاية وإنّما ترجع غايته إلى الاجتهاد فإذا وقف أهل أفق أو قطر على غاية من التّخليص وقفوا عندها وسمّوها إماما وعيارا يعتبرون به نقودهم وينتقدونها بمماثلته فإن نقص عن ذلك كان زيفا والنّظر في ذلك كلّه لصاحب هذه الوظيفة وهي دينيّة بهذا الاعتبار فتندرج تحت الخلافة وقد كانت تندرج في عموم ولاية القاضي ثمّ أفردت لهذا العهد كما وقع في الحبشة. هذا آخر الكلام في الوظائف الخلافيّة وبقيت منها وظائف ذهبت بذهاب ما ينظر فيه وأخرى صارت سلطانيّة فوظيفة الإمارة والوزارة والحرب والخراج صارت سلطانيّة نتكلّم عليها في أماكنها بعد وظيفة الجهاد ووظيفة الجهاد بطلت ببطلانه إلّا في قليل من الدّول يمارسونه ويدرجون أحكامه غالبا في السّلطانيّات وكذا نقابة الأنساب الّتي يتوصّل بها إلى الخلافة أو الحقّ في بيت المال قد بطلت لدثور الخلافة ورسومها وبالجملة قد اندرجت رسوم الخلافة ووظائفها في رسوم الملك والسّياسة في سائر الدّول لهذا العهد والله مصرّف الأمور كيف يشاء.
الفصل الثاني والثلاثون في اللقب بأمير المؤمنين وانه من سمات الخلافة وهو محدث منذ عهد الخلفاء
وذلك أنّه لمّا بويع أبو بكر رضي الله عنه وكان الصّحابة رضي الله عنهم وسائر المسلمين يسمّونه خليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولم يزل الأمر على ذلك إلى أن هلك فلمّا بويع لعمر بعهده إليه كانوا يدعونه خليفة خليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكأنّهم استثقلوا هذا اللّقب بكثرته وطول إضافته وأنّه يتزايد فيما بعد دائما إلى أن ينتهي إلى الهجنة ويذهب منه التّمييز بتعدّد الإضافات وكثرتها فلا يعرف فكانوا يعدلون عن هذا اللّقب إلى ما سواه ممّا يناسبه ويدعى به مثلهوكانوا يسمّون قوّاد البعوث باسم الأمير وهو فعيل من الإمارة وقد كان الجاهليّة يدعون النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أمير مكّة وأمير الحجاز وكان الصّحابة أيضا يدعون سعد بن أبي وقّاص أمير المؤمنين لإمارته على جيش القادسيّة وهم معظم المسلمين يومئذ واتّفق أن دعا بعض الصّحابة عمر رضي الله عنه يا أمير المؤمنين فاستحسنه النّاس واستصوبوه ودعوه به. يقال إنّ أوّل من دعاه بذلك عبد الله بن جحش وقيل عمرو بن العاصي والمغيرة بن شعبة وقيل بريد جاء بالفتح من بعض البعوث ودخل المدينة وهو يسأل عن عمر ويقول أين أمير المؤمنين وسمعها أصحابه فاستحسنوه وقالوا أصبت والله اسمه إنّه والله أمير المؤمنين وسمعها أصحابه فاستحسنوه وقالوا أصبت والله اسمه إنّه والله أمير المؤمنين حقا فدعوه بذلك وذهب لقبا له في النّاس وتوارثه الخلفاء من بعده سمة لا يشاركهم فيها أحد سواهم إلّا سائر دولة بني أميّة ثمّ إنّ الشّيعة خصّوا عليّا باسم الإمام نعتا له بالإمامة الّتي هي أخت الخلافة وتعريضا بمذهبهم في أنّه أحقّ بإمامة الصّلاة من أبي بكر لما هو مذهبهم وبدعتهم فخصّوه بهذا اللّقب ولمن يسوقون إليه منصب الخلافة من بعده فكانوا كلّهم يسمّون بالإمام ما داموا يدعون لهم في الخلفاء حتّى إذا يستولون على الدّولة يحوّلون 110 اللّقب فيما بعده إلى أمير المؤمنين كما فعله شيعة بني العبّاس فإنّهم ما زالوا يدعون أئمّتهم بالإمام إلى إبراهيم الّذي جهروا بالدّعاء له وعقدوا الرّايات للحرب على أمره فلمّا هلك دعي أخوه السّفّاح بأمير المؤمنين. وكذا الرّافضة بإفريقيا فإنّهم ما زالوا يدعون أئمّتهم من ولد إسماعيل بالإمام حتّى انتهى الأمر إلى عبيد الله المهديّ وكانوا أيضا يدعونه بالإمام ولابنه أبي القاسم من بعده فلمّا استوثق لهم الأمر دعوا من بعدهما بأمير المؤمنين وكذا الأدارسة بالمغرب كانوا يلقبون إدريس بالإمام وابنه إدريس الأصغر كذلك وهكذا شأنهم وتوارث الخلفاء هذا اللّقب بأمير المؤمنين وجعلوه سمة لمن يملك الحجاز والشّام والعراق والمواطن الّتي هي ديار العرب ومراكز الدّولة وأهل الملّة والفتح وازداد لذلك في عنفوان الدّولة وبذخها لقب آخر للخلفاء يتميّز به بعضهم عن بعض لما في أمير المؤمنين من الاشتراك بينهم فاستحدث لذلك بنو العبّاس حجابا لأسمائهم الأعلام عن امتهانها في ألسنة السّوقة وصونا لها عن الابتذال فتلقّبوا بالسّفّاح والمنصور والمهديّ والهادي والرّشيد إلى آخر الدّولة واقتفى أثرهم في ذلك العبيديّون بإفريقيّة ومصر وتجافى بنو أميّة عن ذلك بالمشرق قبلهم مع الغضاضة والسّذاجة لأنّ العروبيّة ومنازعها لم تفارقهم حينئذ ولم يتحوّل عنهم شعار البداوة إلى شعار الحضارة وأمّا بالأندلس فتلقّبوا كسلفهم مع ما عملوه من أنفسهم من القصور عن ذلك بالقصور عن ملك الحجاز أصل العرب والملّة والبعد عن دار الخلافة الّتي هي مركز العصبيّة وأنّهم إنّما منعوا بإمارة القاصية أنفسهم من مهالك بني العبّاس حتّى إذا جاء عبد الرحمن الدّاخل الآخر منهم وهو النّاصر بن محمّد بن الأمير عبد الله بن محمّد بن عبد الرّحمن الأوسط لأوّل المائة الرّابعة واشتهر ما نال الخلافة بالمشرق من الحجر واستبداد الموالي وعيثهم في الخلفاء بالعزل والاستبدال والقتل والسّمل ذهب عبد الرّحمن هذا إلى مثل مذاهب الخلفاء بالمشرق وإفريقية وتسمّى بأمير المؤمنين وتلقّب بالنّاصر لدين الله، وأخذت من بعده عادة ومذهب لقّن عنه ولم يكن لآبائه وسلف قومه. واستمرّ الحال على ذلك إلى أن انقرضت عصبيّة العرب أجمع وذهب رسم الخلافة وتغلّب الموالي من العجم على بني العبّاس والصّنائع على العبيديّين بالقاهرة وصنهاجة على أمراء إفريقية وزناتة على المغرب وملوك الطّوائف بالأندلس على أمر بني أميّة واقتسموه وافترق أمر الإسلام فاختلفت مذاهب الملوك بالمغرب والمشرق في الاختصاص بالألقاب بعد أن تسمّوا جميعا باسم السّلطان. فأمّا ملوك المشرق من العجم فكان الخلفاء يخصّونهم بألقاب تشريفيّة حتّى يستشعر منها انقيادهم وطاعتهم وحسن ولايتهم مثل شرف الدّولة وعضد الدّولةوركن الدّولة ومعزّ الدّولة ونصير الدّولة ونظام الملك وبهاء الدّولة وذخيرة الملك وأمثال هذه وكان العبيديّون أيضا يخصّون بها أمراء صنهاجة فلمّا استبدّوا على الخلافة قنعوا بهذه الألقاب وتجافوا عن ألقاب الخلافة أدبا معها وعدولا عن سماتها المختصّة بها شأن المتغلّبين المستبدّين كما قلناه ونزع المتأخرون أعاجم المشرق حين قوي استبدادهم على الملك وعلا كعبهم في الدّولة والسّلطان وتلاشت عصبيّة الخلافة واضمحلّت بالجملة إلى انتحال الألقاب الخاصّة بالملك مثل النّاصر والمنصور وزيادة على ألقاب يختصّون بها قبل هذا الانتحال مشعرة بالخروج عن ربقة الولاء والاصطناع بما أضافوها إلى الدّين فقط فيقولون صلاح الدّين أسد الدّين نور الدّين. وأمّا ملوك الطّوائف بالأندلس فاقتسموا ألقاب الخلافة وتوزّعوها لقوّة استبدادهم عليها بما كانوا من قبيلها وعصبيّتها فتلقّبوا بالنّاصر والمنصور والمعتمد والمظفّر وأمثالها كما قال ابن أبي شرف 111 ينعى عليهم: ممّا يزهّدني في أرض أندلس ... أسماء معتمد فيها ومعتضد ألقاب مملكة في غير موضعها ... كالهرّ يحكي انتفاخا صورة الأسد وأمّا صنهاجة فاقتصروا عن الألقاب الّتي كان الخلفاء العبيديّون يلقّبون بها للتّنويه مثل نصير الدّولة ومعزّ الدّولة واتّصل لهم ذلك لمّا أدالوا من دعوة العبيديّين بدعوة العبّاسيّين ثمّ بعدت الشّقّة بينهم وبين الخلافة ونسوا عهدها فنسوا هذه الألقاب واقتصروا على اسم السّلطان وكذا شأن ملوك مغراوة بالمغرب لم ينتحلوا شيئا من هذه الألقاب إلّا اسم السّلطان جريا على مذاهب البداوة والغضاضة. ولمّا محي رسم الخلافة وتعطّل دستها 112 وقام بالمغرب من قبائل البربر يوسف بن تاشفين ملك لمتونة فملك العدوتين وكان من أهل الخير والاقتداء نزعت به همّته إلى الدّخول في طاعة الخليفة تكميلا لمراسم دينه فخاطب المستظهر العبّاسيّ وأوفد عليه بيعته عبد الله بن العربيّ وابنه القاضي أبا بكر من مشيخة إشبيليّة يطلبان توليته إيّاها على المغرب وتقليده ذلك فانقلبوا إليه 113 بعهد الخلافة له على المغرب واستشعار زيّهم في لبوسه 114 ورتبته وخاطبه فيه يا أمير المؤمنين تشريفا واختصاصا فاتّخذها لقبا ويقال إنّه كان دعي له بأمير المؤمنين من قبل أدبا مع رتبة الخلافة لما كان عليه هو وقومه المرابطون من انتحال الدّين واتّباع السّنّة وجاء المهديّ على أثرهم داعيا إلى الحقّ آخذا بمذاهب الأشعريّة ناعيا على أهل المغرب عدولهم عنها إلى تقليد السّلف في ترك التّأويل لظواهر الشّريعة وما يؤول إليه ذلك من التّجسيم كما هو معروف في مذهب الأشعريّة وسمّى أتباعه الموحّدين تعريضا بذلك النّكير وكان يرى رأي أهل البيت في الإمام المعصوم وأنّه لا بدّ منه في كلّ زمان يحفظ بوجوده نظام هذا العالم فسمّي بالإمام لما قلناه أوّلا من مذهب الشّيعة في ألقاب خلفائهم وأردف بالمعصوم إشارة إلى مذهبه في عصمة الإمام وتنزّه عند اتّباعه عن أمير المؤمنين أخذا بمذاهب المتقدّمين من الشّيعة ولما فيها من مشاركة الأغمار والولدان من أعقاب أهل الخلافة يومئذ بالمشرق. ثمّ انتحل عبد المؤمن وليّ عهده اللّقب بأمير المؤمنين وجرى عليه من بعده خلفاء بني عبد المؤمن وآل أبي حفص من بعدهم استئثارا به عمّن سواهم لما دعا إليه شيخهم المهديّ من ذلك وأنّه صاحب الأمر وأولياؤه من بعده كذلك دون كلّ أحد لانتفاء عصبيّة قريش وتلاشيها فكان ذلك دأبهم. ولمّا انتقض الأمر بالمغرب وانتزعه زناتة ذهب أوّلهم مذاهب البداوة والسّذاجة وأتباع لمتونة في انتحال اللّقب بأمير المؤمنين 115 أدبا مع رتبة الخلافة الّتي كانوا على طاعتها لبني عبد المؤمن أوّلا ولبني أبي حفص من بعدهم ثمّ نزع المتأخّرون منهم إلى اللّقب بأمير المؤمنين وانتحلوه لهذا العهد استبلاغا في منازع الملك وتتميما لمذاهبه وسماته وَالله غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ 12: 21.
الفصل الثالث والثلاثون في شرح اسم البابا والبطرك في الملة النصرانية واسم الكوهن عند اليهود
اعلم أنّ الملّة لا بدّ لها من قائم عند غيبة النّبيّ يحملهم على أحكامها وشرائعها ويكون كالخليفة فيهم للنّبيّ فيما جاء به من التّكاليف والنّوع الإنسانيّ أيضا بما تقدّم من ضرورة السّياسة فيهم للاجتماع البشريّ لا بدّ لهم من شخص يحملهم على مصالحهم ويزعهم عن مفاسدهم بالقهر وهو المسمّى بالملك والملّة الإسلاميّة لمّا كان الجهاد فيها مشروعا لعموم الدّعوة وحمل الكافّة على دين الإسلام طوعا أو كرها اتّخذت فيها الخلافة والملك لتوجّه الشّوكة من القائمين بها إليهما معا. وأمّا ما سوى الملّة الإسلاميّة فلم تكن دعوتهم عامّة ولا الجهاد عندهم مشروعا إلّا في المدافعة فقط فصار القائم بأمر الدّين فيها لا يعنيه شيء من سياسة الملك وإنّما وقع الملك لمن وقع منهم بالعرض ولأمر غير دينيّ وهو ما اقتضته لهم العصبيّة لما فيها من الطّلب للملك بالطّبع لما قدّمناه لأنّهم غير مكلّفين بالتّغلّب على الأمم كما في الملّة الإسلاميّة وإنّما هم مطلوبون بإقامة دينهم في خاصّتهم. ولذلك بقي بنو إسرائيل من بعد موسى ويوشع صلوات الله عليهما نحو أربعمائة سنة لا يعتنون بشيء من أمر الملك إنّما همّهم إقامة دينهم فقط وكان القائم به بينهم يسمّى الكوهن كأنّه خليفة موسى صلوات الله عليه يقيم لهم أمرالصّلاة والقربان ويشترطون فيه أن يكون من ذرّية هارون صلوات الله عليه لأنّ موسى لم يعقب ثمّ اختاروا لإقامة السّياسة الّتي هي للبشر بالطّبع سبعين شيخا كانوا يتلون أحكامهم العامّة والكوهن أعظم منهم رتبة في الدّين وأبعد عن شغب الأحكام واتّصل ذلك فيهم إلى أن استحكمت طبيعة العصبيّة وتمحّضت الشّوكة للملك فغلبوا الكنعانيّين على الأرض الّتي أورثهم الله بيت المقدس وما جاورها كما بيّن لهم على لسان موسى صلوات الله عليه فحاربتهم أمم الفلسطين والكنعانيّين والأرمن وأردنّ وعمّان ومأرب ورئاستهم في ذلك راجعة إلى شيوخهم وأقاموا على ذلك نحوا من أربعمائة سنة ولم تكن لهم صولة الملك وضجر بنو إسرائيل من مطالبة الأمم، فطلبوا على لسان شمويل 116 من أنبيائهم أن يأذن الله لهم في تمليك رجل عليهم فولّي عليهم طالوت وغلب الأمم وقتل جالوت ملك الفلسطين. ثمّ ملك بعده داود ثمّ سليمان صلوات الله عليهما واستفحل ملكه وامتدّ إلى الحجاز ثمّ أطراف اليمن ثمّ إلى أطراف بلاد الرّوم ثمّ افترق الأسباط من بعد سليمان صلوات الله عليه بمقتضى العصبيّة في الدّول كما قدّمناه إلى دولتين كانت إحداهما بالجزيرة والموصل للأسباط العشرة والأخرى بالقدس والشّام لبني يهوذا وبنيامين. ثمّ غلبهم بخت نصّر ملك بابل على ما كان بأيديهم من الملك أوّلا الأسباط العشرة ثمّ ثانيا بني يهوذا وبيت المقدس بعد اتّصال ملكهم نحو ألف سنة وخرّب مسجدهم وأحرق توراتهم وأمات دينهم ونقلهم إلى أصبهان وبلاد العراق إلى أن ردّهم بعض ملوك الكيانيّة من الفرس إلى بيت المقدس من بعد سبعين سنة من خروجهم فبنوا المسجد وأقاموا أمر دينهم على الرّسم الأوّل للكهنة فقط والملك للفرس ثمّ غلب الإسكندر وبنو يونان على الفرس وصار اليهود في ملكتهم ثمّ فشل أمر اليونانيّين فاعتزّ اليهود عليهم بالعصبيّة الطّبيعيّة ودفعوهم عن الاستيلاء عليهم وقام بملكهم الكهنة الّذين كانوا فيهم من بني حشمناي وقاتلوا يونان حتّى انقرض أمرهم وغلبهم الرّوم فصاروا تحت أمرهم ثمّ رجعوا إلى بيت المقدس وفيها بنو هيرودس أصهار بني حشمناي وبقيت دولتهم فحاصروهم مدّة ثمّ افتتحوها عنوة وأفحشوا في القتل والهدم والتّحريق وخربوا بيت المقدس وأجلوهم عنها إلى رومة وما وراءها وهو الخراب الثّاني للمسجد ويسمّيه اليهود بالجلوة 117 الكبرى فلم يقم لهم بعدها ملك لفقدان العصبيّة منهم وبقوا بعد ذلك في ملكة الرّوم من بعدهم يقيم لهم أمر دينهم الرّئيس عليهم المسمّى بالكوهن ثمّ جاء المسيح صلوات الله وسلامه عليه بما جاءهم به من الدّين والنّسخ لبعض أحكام التّوراة وظهرت على يديه الخوارق العجيبة من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى واجتمع عليه كثير من النّاس وآمنوا به وأكثرهم الحواريّون من أصحابه وكانوا اثني عشر وبعث منهم رسلا إلى الآفاق داعين إلى ملّته وذلك أيّام أوغسطس أوّل ملوك القياصرة وفي مدّة هيرودس ملك اليهود الّذي انتزع الملك من بني حشمناي أصهاره فحسده اليهود وكذّبوه 118 وكاتب هيرودس ملكهم ملك القياصرة أوغسطس يغريه به فأذن لهم في قتله ووقع ما تلاه القرآن من أمره وافترق الحواريّون شيعا ودخل أكثرهم بلاد الرّوم داعين إلى دين النّصرانيّة وكان بطرس كبيرهم فنزل برومة دار ملك القياصرة ثمّ كتبوا الإنجيل الّذي أنزل على عيسى صلوات الله عليه في نسخ أربع على اختلاف رواياتهم فكتب متّى إنجيله في بيت المقدس بالعبرانيّة ونقله يوحنّا بن زبدي منهم إلى اللّسان اللّاتينيّ وكتب لوقا منهم إنجيله باللّاتينيّ إلى بعض أكابر الرّوم وكتب يوحنّا بن زبدي منهم إنجيله برومة وكتب بطرس إنجيله باللّاتينيّ ونسبه إلى مرقاص 119 تلميذه واختلفت هذه النّسخ الأربع من الإنجيل مع أنّها ليست كلّها وحيا صرفا بل مشوبة بكلام عيسى عليه السّلام وبكلام الحواريّين وكلّها مواعظ وقصص والأحكام فيها قليلة جدا واجتمع الحواريّون الرّسل لذلك العهد برومة ووضعوا قوانين الملّة النّصرانيّة وصيّروها بيد أقليمنطس تلميذ بطرس وكتبوا فيها عدد الكتب الّتي يجب قبولها والعمل بها. فمن شريعة اليهود القديمة التّوراة وهي خمسة أسفار وكتاب يوشع وكتاب القضاة وكتاب راعوث وكتاب يهوذا وأسفار الملوك أربعة وسفر بنيامين وكتب المقابيّين لابن كريون ثلاثة 120 وكتاب عزرا الإمام وكتاب أوشير 121 وقصّة هامان وكتاب أيّوب الصّدّيق ومزامير داود عليه السّلام وكتب ابنه سليمان عليه السّلام خمسة ونبؤات الأنبياء الكبار والصّغار ستّة عشر وكتاب يشوع بن شارخ 122 وزير سليمان. ومن شريعة عيسى صلوات الله عليه المتلقّاة من الحواريّين نسخ الإنجيل الأربع وكتب القتاليقون سبع رسائل وثامنها الإبريكسيس في قصص الرّسل وكتاب بولس أربع عشرة رسالة وكتاب أقليمنطس وفيه الأحكام وكتاب أبو غالمسيس وفيه رؤيا يوحنّا بن زبدي. واختلف شأن القياصرة في الأخذ بهذه الشّريعة تارة وتعظيم أهلها ثمّ تركها أخرى والتّسلّط عليهم بالقتل والبغي إلى أن جاء قسطنطين وأخذ بها واستمرّوا عليها. وكان صاحب هذا الدّين والمقيم لمراسيمه يسمّونه البطرك وهو رئيس الملّة عندهم وخليفة المسيح فيهم يبعث نوّابه وخلفاءه إلى ما بعد عنه من أمم النّصرانيّة ويسمّونه الأسقف أي نائب البطرك ويسمّون الإمام الّذي يقيم الصّلوات ويفتيهم في الدّين بالقسّيس ويسمّون المنقطع الّذي حبس نفسه في الخلوة للعبادة بالرّاهب. وأكثر خلواتهم في الصّوامع وكان بطرس الرّسول رأس الحواريّين وكبير التّلاميذ برومة يقيم بها دين النّصرانيّة إلى أن قتله نيرون خامس القياصرة فيمن قتل من البطارق والأساقفة ثمّ قام بخلافته في كرسيّ رومة آريوس 123 وكان مرقاس الإنجيليّ بالإسكندريّة ومصر والمغرب داعيا سبع سنين فقام بعده حنانيّا وتسمّى بالبطرك وهو أوّل البطاركة فيها وجعل معه اثني عشر قسّا على أنّه إذا مات البطرك يكون واحد من الاثني عشر مكانه ويختار من المؤمنين واحدا مكان ذلك الثّاني عشر فكان أمر البطاركة إلى القسوس ثمّ لمّا وقع الاختلاف بينهم في قواعد دينهم وعقائده واجتمعوا بنيقية أيّام قسطنطين لتحرير الحقّ في الدّين واتّفق ثلاثمائة وثمانية عشر من أساقفتهم على رأي واحد في الدّين فكتبوه وسمّوه الإمام وصيّروه أصلا يرجعون إليه وكان فيما كتبوه أنّ البطرك القائم بالدّين لا يرجع في تعيينه إلى اجتهاد الأقسّة كما قرّره حنانيّا تلميذ مرقاس وأبطلوا ذلك الرّأي وإنّما يقدّم عن بلاء واختبار 124 من أئمّة المؤمنين ورؤسائهم فبقي الأمر كذلك. ثمّ اختلفوا بعد ذلك في تقرير قواعد الدّين وكانت لهم مجتمعات في تقريره ولم يختلفوا في هذه القاعدة فبقي الأمر فيها على ذلك واتّصل فيهم نيابة الأساقفة عن البطاركة وكان الأساقفة يدعون البطرك بالأب أيضا تعظيما له فاشتبه الاسم في أعصار متطاولة يقال آخرها بطركيّة هرقل بإسكندريّة فأرادوا أن يميّزوا البطرك عن الأسقف في التّعظيم فدعوه البابا ومعناه أبو الآباء وظهر هذا الاسم أوّل ظهوره بمصر على ما زعم جرجيس بن العميد في تأريخه ثمّ نقلوه إلى صاحب الكرسيّ الأعظم عندهم وهو كرسيّ بطرس الرّسول كما قدّمناه فلم يزل سمة عليه حتّى الآن ثمّ اختلفت النّصارى في دينهم بعد ذلك وفيما يعتقدونه في المسيح وصاروا طوائف وفرقا واستظهروا بملوك النّصرانيّة كلّ على صاحبه فاختلف الحال في العصور في ظهور فرقة دون فرقة إلى أن استقرّت لهم ثلاث طوائف هي فرقهم ولا يلتفتون إلى غيرها وهم الملكيّة واليعقوبيّة والنّسطوريّة ثمّ اختصّت كلّ فرقة منهم ببطرك فبطرك رومة اليوم المسمّى بالبابا على رأي الملكيّة ورومة للإفرنجة وملكهم قائم بتلك النّاحية وبطرك المعاهدين بمصر على رأي اليعقوبيّة وهو ساكن بين ظهرانيهم والحبشة يدينون بدينهم ولبطرك مصر فيهم أساقفة ينوبون عنه في إقامة دينهم هنالك. واختصّ اسم البابا ببطرك رومة لهذا العهد ولا تسمّي اليعاقبة بطركهم بهذا الاسم وضبط هذه اللّفظة بباءين موحّدتين من أسفل والنّطق بها مفخّمة والثّانية مشدّدة ومن مذاهب البابا عند الإفرنجة أنّه يحضّهم على الانقياد لملك واحد يرجعون إليه في اختلافهم واجتماعهم تحرّجا من افتراق الكلمة ويتحرّى به العصبيّة الّتي لا فوقها منهم لتكون يده عالية على جميعهم ويسمّونه الإنبرذور 125 وحرفه الوسط بين الذّال والظاء المعجمتين ومباشره يضع التّاج على رأسه للتّبرّك فيسمّى المتوّج 126 ، ولعلّه معنى لفظة الإنبرذور وهذا ملخّص ما أوردناه من شرح هذين الاسمين اللّذين هما البابا والكوهن والله يضلّ من يشاء ويهدي من يشاء.
الفصل الرابع والثلاثون في مراتب الملك والسلطان والقابها
اعلم أنّ السّلطان في نفسه ضعيف يحمّل أمرا ثقيلا فلا بدّ له من الاستعانة بأبناء جنسه وإذا كان يستعين بهم في ضرورة معاشه وسائر مهنه 127 فما ظنّك بسياسة نوعه ومن استرعاه الله من خلقه وعباده وهو محتاج إلى حماية الكافّة من عدوّهم بالمدافعة عنهم وإلى كفّ عدوان بعضهم على بعض في أنفسهم بإمضاء الأحكام الوازعة فيهم وكفّ العدوان عليهم في أموالهم بإصلاح سابلتهم 128 وإلى حملهم على مصالحهم وما تعمّهم به البلوى في معاشهم ومعاملاتهم من تفقّد المعايش والمكاييل والموازين حذرا من التّطفيف وإلى النّظر في السّكّة بحفظ النّقود الّتي يتعاملون بها من الغشّ وإلى سياستهم بما يريده منهم من الانقياد له والرّضى بمقاصده منهم وانفراده بالمجد دونهم فيتحمّل من ذلك فوق الغاية من معاناة القلوب قال بعض الأشراف من الحكماء: «لمعاناة نقل الجبال من أماكنها أهون عليّ من معاناة قلوب الرّجال» ثمّ إنّ الاستعانة إذا كانت بأولي القربى من أهل النّسب أو التّربية أو الاصطناع القديم للدّولة كانت أكمل لما يقع في ذلك من مجانسة خلقهم لخلقه فتتمّ المشاكلة في الاستعانة قال تعالى «وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً من أَهْلِي هارُونَ أَخِي اشْدُدْ به أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ في أَمْرِي 20: 29- 32» 129 وهو إمّا أن يستعين في ذلك بسيفه أو قلمه أو رأيه أو معارفه أو بحجّابه عن النّاس أن يزدحموا عليه فيشغلوه عن النّظر في مهمّاتهم 130 أو يدفع النّظر في الملك كلّه 131 ويعوّل على كفايته في ذلك واضطلاعه فلذلك قد توجد في رجل واحد وقد تفترق في أشخاص وقد يتفرّع كلّ واحد منها إلى فروع كثيرة كالقلم يتفرّع إلى قلم الرّسائل والمخاطبات وقلم الصّكوك والإقطاعات وإلى قلم المحاسبات وهو صاحب الجباية والعطاء وديوان الجيش وكالسّيف يتفرّع إلى صاحب الحرب وصاحب الشّرطة وصاحب البريد وولاية الثّغور ثمّ اعلم أنّ الوظائف السّلطانيّة في هذه الملّة الإسلاميّة مندرجة تحت الخلافة لاحتمال منصب الخلافة على الدّين والدّنيا كما قدّمناه فالأحكام الشّرعيّة متعلّقة بجميعها وموجودة لكلّ واحدة منها في سائر وجوهها لعموم تعلّق الحكم الشّرعيّ بجميع أفعال العباد والفقيه ينظر في مرتبة الملك والسّلطان وشروط تقليدها استبدادا على الخلافة وهو معنى السّلطان أو تعويضا منها وهو معنى الوزارة عندهم كما يأتي وفي نظره في الأحكام والأموال وسائر السّياسات مطلقا أو مقيّدا وفي موجبات العزل إن عرضت وغير ذلك من معاني الملك والسّلطان وكذا في سائر الوظائف الّتي تحت الملك والسّلطان من وزارة أو جباية أو ولاية لا بدّ للفقيه من النّظر في جميع ذلك كما قدّمناه من انسحاب حكم الخلافة الشّرعيّة في الملّة الإسلاميّة على رتبة الملك والسّلطان إلّا أنّ كلامنا في وظائف الملك والسّلطان ورتبته إنّما هو بمقتضى طبيعة العمران ووجود البشر لا بما يخصّها من أحكام الشّرع فليس من غرض كتابنا كما علمت فلا نحتاج إلى تفصيل أحكامها الشّرعيّة مع أنّها مستوفاة في كتب الأحكام السّلطانيّة مثل كتاب القاضي أبي الحسن الماورديّ وغيره من أعلام الفقهاء فإن أردت استيفاءها فعليك بمطالعتها هنالك وإنّما تكلّمنا في الوظائف الخلافيّة وأفردناها لنميّز بينها وبين الوظائف السّلطانيّة فقط لا لتحقيق أحكامها الشّرعيّة فليس من غرض كتابنا وإنّما نتكلّم في ذلك بما تقتضيه طبيعة العمران في الوجود الإنسانيّ والله الموفّق.
الوزارة
وهي أمّ الخطط السّلطانيّة والرّتب الملوكيّة لأنّ اسمها يدلّ على مطلق الإعانة فإنّ الوزارة مأخوذة إمّا من المؤازرة وهي المعاونة أو من الوزر وهو الثّقل كأنّه يحمل مع مفاعله أوزاره وأثقاله وهو راجع إلى المعاونة المطلقة وقد كنّا قدّمنا في أوّل الفصل أنّ أحوال السّلطان وتصرّفاته لا تعدو أربعة لأنّها إمّا أن تكون في أمور حماية الكافّة وأسبابها من النّظر في الجدّ والسّلاح والحروب وسائر أمورالحماية والمطالبة وصاحب هذا هو الوزير المتعارف في الدّول القديمة بالمشرق ولهذا العهد بالمغرب وإمّا أن تكون في أمور مخاطباته لمن بعد عنه في أمور جباية المال وإنفاقه وضبط ذلك من جميع وجوهه أن يكون بمضبطة وصاحب هذا هو صاحب المال والجباية وهو المسمّى بالوزير لهذا العهد بالمشرق وإمّا أن يكون في مدافعة النّاس ذوي الحاجات عنه أن يزدحموا عليه فيشغلوه عن فهمه وهذا راجع لصاحب الباب الّذي يحجبه. فلا تعدو أحواله هذه الأربعة بوجه. وكلّ خطّة أو رتبة من رتب الملك والسّلطان فإليها ترجع. إلّا أنّ الأرفع منها ما كانت الإعانة فيه عامّة فيما تحت يد السّلطان من ذلك الصّنف إذ هو يقتضي مباشرة السّلطان دائما ومشاركته في كلّ صنف من أحوال ملكه وأمّا ما كان خاصّا ببعض النّاس أو ببعض الجهات فيكون دون الرّتبة الأخرى كقيادة ثغر أو ولاية جباية خاصّة أو النّظر في أمر خاصّ كحسبة الطّعام أو النّظر في السّكّة فإنّ هذه كلّها نظر في أحوال خاصّة فيكون صاحبها تبعا لأهل النّظر العامّ وتكون رتبته مرءوسة لأولئك. وما زال الأمر في الدّول قبل الإسلام هكذا حتّى جاء الإسلام وصار الأمر خلافة فذهبت تلك الخطط كلّها بذهاب رسم الملك إلى ما هو طبيعيّ من المعاونة بالرّأي والمفاوضة فيه فلم يمكن زواله إذ هو أمر لا بدّ منه فكان صلّى الله عليه وسلّم يشاور أصحابه ويفاوضهم في مهمّاته العامّة والخاصّة ويخصّ مع ذلك أبا بكر بخصوصيّات أخرى حتّى كان العرب الّذين عرفوا الدّول وأحوالها في كسرى وقيصر والنّجاشيّ يسمّون أبا بكر وزيره ولم يكن لفظ الوزير يعرف بين المسلمين لذهاب رتبة الملك بسذاجة الإسلام وكذا عمر مع أبي بكر وعليّ وعثمان مع عمر وأمّا حال الجباية والإنفاق والحسبان فلم يكن عندهم برتبة لأنّ القوم كانوا عربا أميّين لا يحسنون الكتاب 132 والحساب فكانوا يستعملون في الحساب أهل الكتاب 133 أو أفرادا من موالي العجم ممّن يجيده وكان قليلا فيهم وأمّا أشرافهم فلم يكونوا يجيدونه لأنّ الأميّة كانت صفتهم الّتي امتازوا بها وكذا حال المخاطبات وتنفيذ الأمور لم تكن عندهم رتبة خاصّة للأمّيّة الّتي كانت فيهم والأمانة العامّة في كتمان القول وتأديته ولم تخرج السّياسة إلى اختياره لأنّ الخلافة إنّما هي دين ليست من السّياسة الملكيّة في شيء وأيضا فلم تكن الكتابة صناعة فيستجاد لخليفة أحسنها لأنّ الكلّ كانوا يعبّرون عن مقاصدهم بأبلغ العبارات ولم يبق إلّا الخطّ فكان الخليفة يستنيب في كتابته متى عنّ له من يحسنه وأمّا مدافعة ذوي الحاجات عن أبوابهم فكان محظورا بالشّريعة فلم يفعلوه فلمّا انقلبت الخلافة إلى الملك وجاءت رسوم السّلطان وألقابه كان أوّل شيء بدئ به في الدّولة شأن الباب وسدّه دون الجهور بما كانوا يخشون عن أنفسهم من اغتيال الخوارج وغيرهم كما وقع بعمر وعليّ ومعاوية وعمر بن العاصي وغيرهم مع ما في فتحه من ازدحام النّاس عليهم وشغلهم بهم عن المهمّات فاتّخذوا من يقوم لهم بذلك وسمّوه الحاجب وقد جاء أنّ عبد الملك لمّا ولّى حاجبه قال له «قد ولّيتك حجابة بابي إلّا عن ثلاثة المؤذّن للصّلاة فإنّه داعي الله وصاحب البريد فأمر ما جاء به وصاحب الطّعام لئلّا يفسد» ثمّ استفحل الملك بعد ذلك فظهر المشاور والمعين في أمور القبائل والعصائب واستئلافهم وأطلق عليه اسم الوزير وبقي أمر الحسبان في الموالي والذّمّيّين واتّخذ للسّجلّات كاتب مخصوص حوطة على أسرار السّلطان أن تشتهر فتفسد سياسته مع قومه ولم يكن بمثابة الوزير لأنّه إنّما احتيج له من حيث الخطّ والكتاب لا من حيث اللّسان الّذي هو الكلام إذ اللّسان لذلك العهد على حاله لم يفسد فكانت الوزارة لذلك أرفع رتبهم يومئذ في سائر دولة بني أميّة فكان النّظر للوزير عامّا في أحوال التّدبير والمفاوضات وسائر أمور الحمايات والمطالبات وما يتبعها من النّظر في ديوان الجند وفرض العطاء بالأهليّة وغير ذلك فلمّا جاءت دولة بني العبّاس واستفحل الملك وعظمت مراتبه وارتفعت وعظم شأن الوزير وصارت إليه النّيابة في إنفاذ الحلّ والعقدتعيّنت مرتبته في الدّولة وعنت لها الوجوه وخضعت لها الرّقاب وجعل لها النّظر في ديوان الحسبان لما تحتاج إليه خطّته من قسم الأعطيات في الجند فاحتاج إلى النّظر في جمعه وتفريقه وأضيف إليه النّظر فيه ثمّ جعل له النّظر في القلم والتّرسيل لصون أسرار السّلطان ولحفظ البلاغة لما كان اللّسان قد فسد عند الجمهور وجعل الخاتم لسجلّات السّلطان ليحفظها من الذّياع والشّياع 134 ودفع إليه فصار اسم الوزير جامعا لخطّتي السّيف والقلم وسائر معاني الوزارة والمعاونة حتّى لقد دعي جعفر بن يحيى بالسّلطان أيّام الرّشيد إشارة إلى عموم نظره وقيامه بالدّولة ولم يخرج عنه من الرّتب السّلطانيّة كلّها إلّا الحجابة الّتي هي القيام على الباب فلم تكن له لاستنكافه عن مثل ذلك ثمّ جاء في الدّولة العبّاسيّة شأن الاستبداد على السّلطان 135 وتعاور فيها استبداد الوزارة مرّة والسّلطان أخرى وصار الوزير إذا استبدّ محتاجا إلى استنابة الخليفة إيّاه لذلك لتصحّ الأحكام الشّرعيّة وتجيء على حالها كما تقدّمت فانقسمت الوزارة حينئذ إلى وزارة تنفيذ وهي حال ما يكون السّلطان قائما على نفسه وإلى وزارة تفويض وهي حال ما يكون الوزير مستبدّا عليه ثمّ استمرّ الاستبداد وصار الأمر لملوك العجم وتعطّل رسم الخلافة ولم يكن لأولئك المتغلّبين أن ينتحلوا ألقاب الخلافة واستنكفوا من مشاركة الوزراء في اللّقب لأنّهم خول لهم فتسمّوا بالإمارة والسّلطان وكان المستبدّ على الدّولة يسمّى أمير الأمراء أو بالسّلطان إلى ما يحلّيه به الخليفة من ألقابه كما تراه في ألقابهم وتركوا اسم الوزارة إلى من يتولّاها للخليفة في خاصّته ولم يزل هذا الشّأن عندهم إلى آخر دولتهم وفسد اللّسان خلال ذلك كلّه وصارت صناعة ينتحلها بعض النّاس فامتهنت وترفّع الوزراء عنها لذلك ولأنّهم عجم وليست تلك البلاغة هي المقصودة من لسانهم فتخيّر لها من سائر الطّبقات واختصّت به وصارت خادمة للوزير واختصّ اسم الأمير بصاحب الحروب والجند وما يرجع إليها ويده مع ذلك عالية على أهل الرّتب وأمره نافذ في الكلّ إمّا نيابة أو استبدادا واستمرّ الأمر على هذا ثمّ جاءت دولة التّرك آخرا بمصر فرأوا أنّ الوزارة قد ابتذلت بترفّع أولئك عنها ودفعها لمن يقوم بها للخليفة المحجور ونظره مع ذلك متعقّب بنظر الأمير فصارت مرءوسة ناقصة فاستنكف أهل هذه الرّتبة العالية في الدّولة عن اسم الوزارة وصار صاحب الأحكام والنّظر في الجند يسمّى عندهم بالنّائب لهذا العهد وبقي اسم الحاجب في مدلوله واختصّ اسم الوزير عندهم بالنّظر في الجباية. وأمّا دولة بني أميّة بالأندلس فأنفوا اسم الوزير في مدلوله أوّل الدّولة ثمّ قسموا خطّته أصنافا وأفردوا لكلّ صنف وزيرا فجعلوا لحسبان المال وزيرا وللتّرسيل وزيرا وللنّظر في حوائج المتظلّمين وزيرا وللنّظر في أحوال أهل الثّغور وزيرا وجعل لهم بيت يجلسون فيه على فرش منضدة لهم وينفّذون أمر السّلطان هناك كلّ فيما جعل له وأفرد للتّردّد بينهم وبين الخليفة واحد منهم ارتفع عنهم بمباشرة السّلطان في كلّ وقت فارتفع مجلسه عن مجالسهم وخصوه باسم الحاجب ولم يزل الشّأن هذا إلى آخر دولتهم فارتفعت خطّة الحاجب ومرتبته على سائر الرّتب حتّى صار ملوك الطّوائف ينتحلون لقبها فأكثرهم يومئذ يسمّى الحاجب كما نذكره ثمّ جاءت دولة الشّيعة بإفريقيّة والقيروان وكان للقائمين بها رسوخ في البداوة فأغفلوا أمر هذه الخطط أوّلا وتنقيح أسمائها كما تراه في أخبار دولتهم، ولمّا جاءت دولة الموحّدين من بعد ذاك أغفلت الأمر أوّلا للبداوة ثمّ صارت إلى انتحال الأسماء والألقاب وكان اسم الوزير لمن يحجب السّلطان في مجلسه ويقف بالوفود والدّاخلين على السّلطان عند الحدود في تحيّتهم وخطابهم والآداب الّتي تلزم في الكون بين يديه ورفعوا خطّة الحجابة عنه ما شاءوا ولم يزل الشّأن ذلك إلى هذا العهد وأمّا في دولة التّرك بالمشرق فيسمّون هذا الّذي يقف بالنّاس على حدود الآداب في اللّقاء والتّحيّة في مجالس السّلطان والتّقدّم بالوفود بين يديه الدّويدار ويضيفون إليه استتباع كاتب السّرّ وأصحاب البريد المتصرّفين في حاجات السّلطان بالقاصية وبالحاضرة وحالهم على ذلك لهذا العهد والله مولّي الأمور لمن يشاء.
الحجابة
قد قدّمنا أنّ هذا اللّقب كان مخصوصا في الدّولة الأمويّة والعبّاسيّة بمن يحجب السّلطان عن العامّة ويغلق بابه دونهم أو يفتحه لهم على قدره في مواقيته وكانت هذه منزّلة يوما عن الخطط مرءوسة لها إذ الوزير متصرّف فيها بما يراه وهكذا كانت سائر أيّام بني العبّاس وإلى هذا العهد فهي بمصر مرءوسة لصاحب الخطّة العليا المسمّى بالنّائب. وأمّا في الدّولة الأمويّة بالأندلس فكانت الحجابة لمن يحجب السّلطان عن الخاصّة والعامّة ويكون واسطة بينه وبين الوزراء فمن دونهم فكانت في دولتهم رفيعة غاية كما تراه في أخبارهم كابن حديد وغيره من حجّابهم ثمّ لمّا جاء الاستبداد على الدّولة اختصّ المستبدّ باسم الحجابة لشرفها فكان المنصور بن أبي عامر وأبناؤه كذلك ولمّا بدوا في مظاهر الملك وأطواره جاء من بعدهم من ملوك الطّوائف فلم يتركوا لقبها وكانوا يعدّونه شرفا لهم وكان أعظمهم ملكا بعد انتحال ألقاب الملك وأسمائه لا بدّ له من ذكر الحاجب وذي الوزارتين يعنون به السّيف والقلم ويدلّون بالحجابة على حجابة السّلطان عن العامّة والخاصّة وبذي الوزارتين عن جمعه لخطّتي السّيف والقلم. ثمّ لم يكن في دول المغرب وإفريقية ذكر لهذا الاسم للبداوة الّتي كانت فيهم وربّما يوجد في دولة العبيديّين بمصر عند استعظامها وحضارتها إلّا أنّه قليل. ولمّا جاءت دولة الموحّدين لم تستمكن فيها الحضارة الدّاعية إلى انتحال الألقاب وتمييز الخطط وتعيينها بالأسماء إلّا آخرا فلم يكن عندهم من الرّتب إلّا الوزير فكانوا أوّلا يخصّون بهذا الاسم الكاتب المتصرّف المشارك للسّلطان في خاصّ أمره كابن عطيّة وعبد السّلام الكوميّ وكان له مع ذلك النّظر في الحساب والأشغال الماليّة ثمّ صار بعد ذلك اسم الوزير لأهل نسبالدّولة من الموحّدين كابن جامع وغيره ولم يكن اسم الحاجب معروفا في دولتهم يومئذ. وأمّا بنو أبي حفص بإفريقيّة فكانت الرّئاسة في دولتهم أوّلا والتّقدّم لوزير والرّأي والمشورة وكان يخصّ باسم شيخ الموحّدين وكان له النّظر في الولايات والعزل وقود العساكر والحروب واختصّ الحسبان والدّيوان برتبة أخرى ويسمّى متولّيها بصاحب الأشغال ينظر فيها النّظر المطلق في الدّخل والخرج ويحاسب ويستخلص الأموال ويعاقب على التّفريط وكان من شرطه أن يكون من الموحّدين واختصّ عندهم القلم أيضا بمن يجيد التّرسيل ويؤتمن على الأسرار لأنّ الكتابة لم تكن من منتحل القوم ولا التّرسيل بلسانهم فلم يشترط فيه النّسب واحتاج السّلطان لاتّساع ملكه وكثرة المرتزقين بداره إلى قهرمان خاصّ بداره في أحواله يجريها على قدرها وترتيبها من رزق وعطاء وكسوة ونفقة في المطابخ والإصطبلات وغيرهما وحصر الذّخيرة وتنفيذ ما يحتاج إليه في ذلك على أهل الجباية فخصّوه باسم الحاجب وربّما أضافوا إليه كتابة العلامة على السّجلّات إذا اتّفق أنّه يحسن صناعة الكتابة وربما جعلوه لغيره واستمرّ الأمر على ذلك وحجب السّلطان نفسه عن النّاس فصار هذا الحاجب واسطة بين النّاس وبين أهل الرّتب كلّهم ثمّ جمع له آخر الدّولة السّيف والحرب ثمّ الرأي والمشورة فصارت الخطّة أرفع الرّتب وأوعبها 136 للخطط ثمّ جاء الاستبداد والحجر مدّة من بعد السّلطان الثّاني عشر منهم ثمّ استبدّ بعد ذلك حفيده السّلطان أبو العبّاس على نفسه وأذهب آثار الحجر والاستبداد بإذهاب خطّة الحجابة الّتي كانت سلّما إليه وباشر أموره كلّها بنفسه من غير استعانة بأحد والأمر على ذلك لهذا العهد. وأمّا دولة زناتة بالمغرب وأعظمها دولة بني مرين فلا أثر لاسم الحاجب عندهم وأمّا رئاسة الحرب والعساكر فهي للوزير ورتبة القلم في الحسبان والرّسائل راجعة إلى من يحسنها من أهلها وإن اختصّت ببعض البيوت المصطنعين في دولتهم وقد تجمع عندهم وقد تفرّق وأمّا باب السّلطان وحجبه عن العامّة فهي رتبة عندهم فيسمّى صاحبها عندهم بالمزوار ومعناه المقدّم على الجنادرة المتصرّفين بباب السّلطان في تنفيذ أوامره وتصريف عقوباته وإنزال سطواته وحفظ المعتقلين في سجونه والعريف عليهم في ذلك فالباب له وأخذ النّاس بالوقوف عند الحدود في دار العامّة راجع إليه فكأنّها وزارة صغرى. وأمّا دولة بني عبد الوادّ فلا أثر عندهم لشيء من هذه الألقاب ولا تمييز الخطط لبداوة دولتهم وقصورها وإنّما يخصّون باسم الحاجب في بعض الأحوال منفّذ الخاصّ بالسّلطان في داره كما كان في دولة بني أبي حفص وقد يجمعون له الحسبان والسّجلّ كما كان فيها حملهم على ذلك تقليد الدّولة بما كانوا في تبعتها وقائمين بدعوتها منذ أوّل أمرهم. وأمّا أهل الأندلس لهذا العهد فالمخصوص عندهم بالحسبان وتنفيذ حال السّلطان وسائر الأمور الماليّة يسمّونه بالوكيل وأمّا الوزير فكالوزير إلّا أنّه يجمع له التّرسيل والسّلطان عندهم يضع خطّه على السّجلّات كلّها فليس هناك خطّة العلامة كما لغيرهم من الدّول. وأمّا دولة التّرك بمصر فاسم الحاجب عندهم موضوع لحاكم من أهل الشّوكة وهم التّرك ينفّذ الأحكام بين النّاس في المدينة وهم متعدّدون وهذه الوظيفة عندهم تحت وظيفة النّيابة الّتي لها الحكم في أهل الدّولة وفي العامّة على الإطلاق وللنّائب التّولية والعزل في بعض الوظائف على الأحيان ويقطع القليل من الأرزاق ويبتها وتنفّذ أوامره كما تنفّذ المراسم السّلطانيّة وكان له النّيابة المطلقة عن السّلطان وللحجّاب الحكم فقط في طبقات العامّة والجند عند التّرافع إليهم وإجبار من أبى الانقياد للحكم وطورهم تحت طور النّيابة والوزير في دولة التّرك هو صاحب جباية الأموال في الدّولة على اختلاف أصنافها من خراج أو مكس أو جزية ثمّ في تصريفها في الإنفاقات السّلطانيّة أو الجرايات المقدّرة وله مع ذلك التّولية والعزل في سائر العمّال المباشرين لهذه الجباية والتّنفيذ على اختلاف مراتبهم وتباين أصنافهم ومن عوائدهم أن يكون هذا الوزير من صنف القبط القائمين على ديوان الحسبان والجباية لاختصاصهم بذلك في مصر منذ عصور قديمة وقد يولّيها السّلطان بعض الأحيان لأهل الشّوكة من رجالات التّرك أو أبنائهم على حسب الدّاعية لذلك والله مدبّر الأمور ومصرّفها بحكمته لا إله إلّا هو ربّ الأوّلين والآخرين.
ديوان الأعمال والجبايات
اعلم أنّ هذه الوظيفة من الوظائف الضّروريّة للملك وهي القيام على أعمال الجبايات وحفظ حقوق الدّولة في الدّخل والخرج وإحصاء العساكر بأسمائهم وتقدير أرزاقهم وصرف أعطياتهم في إبّاناتها والرّجوع في ذلك إلى القوانين الّتي يرتّبها قومة تلك الأعمال وقهارمة الدّولة وهي كلّها مسطورة في كتاب شاهد بتفاصيل ذلك في الدّخل والخرج مبنيّ على جزء كبير من الحساب لا يقوم به إلّا المهرة من أهل تلك الأعمال ويسمّى ذلك الكتاب بالدّيوان وكذلك مكان جلوس العمّال المباشرين لها. ويقال إنّ أصل هذه التّسمية أنّ كسرى نظر يوما إلى كتّاب ديوانه وهم يحسبون على أنفسهم كأنّهم يحادثون فقال ديوانه أي مجانين بلغة الفرس فسمّي موضعهم بذلك وحذفت الهاء لكثرة الاستعمال تخفيفا فقيل ديوان ثمّ نقل هذا الاسم إلى كتاب هذه الأعمال المتضمّن للقوانين والحسبانات وقيل إنّه اسم للشّياطين بالفارسيّة سمّي الكتّاب بذلك لسرعة نفوذهم في فهم الأمور ووقوفهم على الجليّ منها والخفيّ وجمعهم لما شذّ وتفرّق ثمّ نقل إلى مكان جلوسهم لتلك الأعمال وعلى هذا فيتناول اسم الدّيوان كتاب الرّسائل ومكان جلوسه بباب السّلطان على ما يأتي بعد وقد تفرد هذه الوظيفة بناظر واحد ينظر في سائر هذه الأعمال وقد يفرد كلّ صنف منها بناظر كما يفرد في بعض الدّول النّظر في العساكر وإقطاعاتهم وحسبان أعطياتهم أو غير ذلك على حسب مصطلح الدّولة وماقرّره أوّلوها. واعلم أنّ هذه الوظيفة إنّما تحدث في الدّول عند تمكّن الغلب والاستيلاء والنّظر في أعطاف الملك وفنون التّمهيد. وأوّل من وضع الدّيوان في الدّولة الإسلاميّة عمر رضي الله عنه يقال لسبب مال أتى به أبو هريرة رضي الله عنه من البحرين فاستكثروه وتعبوا في قسمه فسموا إلى إحصاء الأموال وضبط العطاء والحقوق فأشار خالد بن الوليد بالدّيوان وقال: «رأيت ملوك الشّام يدوّنون» فقبل منه عمر وقيل بل أشار عليه به الهرمزان لمّا رآه يبعث البعوث بغير ديوان فقيل له ومن يعلم بغيبة من يغيب منهم فإنّ من تخلّف أخلّ بمكانه وإنّما يضبط ذلك الكتاب فأثبت لهم ديوانا وسأل عمر عن اسم الدّيوان فعبّر له ولمّا اجتمع ذلك أمر عقيل بن أبي طالب ومخرمة بن نوفل وجبير بن مطعم وكانوا من كتّاب قريش فكتبوا ديوان العساكر الإسلاميّة على ترتيب الأنساب مبتدأ من قرابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وما بعدها الأقرب فالأقرب هكذا كان ابتداء ديوان الجيش وروى الزّهريّ بن سعيد بن المسيّب أنّ ذلك كان في المحرّم سنة عشرين وأمّا ديوان الخراج والجبايات فبقي بعد الإسلام على ما كان عليه من قبل ديوان العراق بالفارسيّة وديوان الشّام بالرّوميّة وكتّاب الدّواوين من أهل العهد من الفريقين ولمّا جاء عبد الملك بن مروان واستحال الأمر ملكا وانتقل القوم من غضاضة البداوة إلى رونق الحضارة ومن سذاجة الأميّة إلى حذق الكتابة وظهر في العرب ومواليهم مهرة في الكتّاب والحسبان فأمر عبد الملك سليمان بن سعد والي الأردنّ لعهده أن ينقل ديوان الشّام إلى العربيّة فأكمله لسنة من يوم ابتدائه ووقف عليه سرحون كاتب عبد الملك فقال لكتّاب الرّوم: «اطلبوا العيش في غير هذه الصّناعة فقد قطعها الله عنكم» . وأمّا ديوان العراق فأمر الحجّاج كاتبه صالح بن عبد الرّحمن وكان يكتب بالعربيّة والفارسيّة ولقّن ذلك عن زادان فروخ كاتب الحجّاج قبله ولمّا قتل زادان في حرب عبد الرّحمن بن الأشعث استخلف الحجّاج صالحا هذا مكانه وأمره أن ينقل الدّيوان من الفارسيّةإلى العربيّة ففعل ورغم لذلك كتّاب الفرس وكان عبد الحميد بن يحيى يقول للَّه درّ صالح ما أعظم منّته على الكتّاب ثمّ جعلت هذه الوظيفة في دولة بني العبّاس مضافة إلى من كان له النّظر فيه كما كان شأن بني برمك وبني سهل بن نوبخت وغيرهم من وزراء الدّولة. وأمّا ما يتعلّق بهذه الوظيفة من الأحكام الشّرعيّة ممّا يختصّ بالجيش أو بيت المال في الدّخل والخرج وتمييز النّواحي بالصلح والعنوة وفي تقليد هذه الوظيفة لمن يكون وشروط النّاظر فيها والكاتب وقوانين الحسبانات فأمر راجع إلى كتب الأحكام السّلطانيّة وهي مسطورة هنالك وليست من غرض كتابنا وإنّما نتكلّم فيها من حيث طبيعة الملك الّذي نحن بصدد الكلام فيه وهذه الوظيفة جزء عظيم من الملك بل هي ثالثة أركانه لأنّ الملك لا بدّ له من الجند والمال والمخاطبة لمن غاب عنه فاحتاج صاحب الملك إلى الأعوان في أمر السّيف وأمر القلم وأمر المال فينفرد صاحبها لذلك بجزء من رئاسة الملك وكذلك كان الأمر في دولة بني أميّة بالأندلس والطّوائف بعدهم وأمّا في دولة الموحّدين فكان صاحبها إنّما يكون من الموحّدين يستقلّ بالنّظر في استخراج الأموال وجمعها وضبطها وتعقّب نظر الولاة والعمّال فيها ثمّ تنفيذها على قدرها وفي مواقيتها وكان يعرف بصاحب الأشغال وكان ربّما يليها في الجهات غير الموحّدين ممّن يحسنها. ولمّا استبدّ بنو أبي حفص بإفريقيّة وكان شان الجالية من الأندلس فقدم عليهم أهل البيوتات وفيهم من كان يستعمل ذلك في الأندلس مثل بني سعيد أصحاب القلعة جوار غرناطة المعروفين ببني أبي الحسن فاستكفوا بهم في ذلك وجعلوا لهم النّظر في الأشغال كما كان لهم بالأندلس ودالوا فيها بينهم وبين الموحّدين ثمّ استقلّ بها أهل الحسبان والكتّاب وخرجت عن الموحّدين ثمّ لمّا استغلظ أمر الحاجب ونفذ أمره في كلّ شأن من شئون الدّولة تعطّل هذا الرّسم وصار صاحبه مرءوسا للحاجب وأصبح من جملة الجباة وذهبت تلك الرّئاسة الّتي كانت له في الدّولة. وأمّا دولة بني مرين لهذا العهد فحسبان العطاء والخراج مجموع لواحد وصاحب هذه الرّتبة هو الّذي يصحّح الحسبانات كلّها ويرجع إلى ديوانه ونظره معقّب بنظر السّلطان أو الوزير وخطّه معتبر في صحّة الحسبان في الخارج والعطاء هذه أصول الرّتب والخطط السّلطانيّة وهي الرّتب العالية الّتي هي عامّة النّظر ومباشرة للسّلطان. وأمّا هذه الرّتبة في دولة التّرك فمتنوّعة وصاحب ديوان العطاء يعرف بناظر الجيش وصاحب المال مخصوص باسم الوزير وهو النّاظر في ديوان الجباية العامّة للدّولة وهو أعلى رتب النّاظرين في الأموال لأنّ النّظر في الأموال عندهم يتنوّع إلى رتب كثيرة لانفساح دولتهم وعظمة سلطانهم واتّساع الأموال والجبايات عن أن يستقلّ بضبطها الواحد من الرّجال ولو بلغ في الكفاية مبالغه فتعيّن للنّظر العامّ منها هذا المخصوص باسم الوزير وهو مع ذلك رديف لمولى من موالي السّلطان وأهل عصبيّته وأرباب السّيوف في الدّولة يرجع نظر الوزير إلى نظره ويجتهد جهده في متابعته ويسمّى عندهم أستاذ الدّولة وهو أحد الأمراء الأكابر في الدّولة من الجند وأرباب السّيوف ويتبع هذه الخطّة خطط عندهم أخرى كلّها راجعة إلى الأموال والحسبان مقصورة النّظر إلى أمور خاصّة مثل ناظر الخاصّ وهو المباشر لأموال السّلطان الخاصّة به من إقطاعاته أو سهمانه من أموال الخراج وبلاد الجباية ممّا ليس من أموال المسلمين العامّة وهو تحت يد الأمير أستاذ الدّار وإن كان الوزير من الجند فلا يكون لأستاذ الدّار نظر عليه ونظر الخاصّ تحت يد الخازن لأموال السّلطان من مماليكه المسمّى خازن الدّار لاختصاص وظيفتهما بمال السّلطان الخاصّ. هذا بيان هذه الخطّة بدولة التّرك بالمشرق بعد ما قدّمناه من أمرها بالمغرب والله مصرّف الأمور لا ربّ غيره.
ديوان الرسائل والكتابة
هذه الوظيفة غير ضروريّة في الملك لاستغناء كثير من الدّول عنها رأسا كمافي الدّول العريقة في البداوة الّتي لم يأخذها تهذيب الحضارة ولا استحكام الصّنائع وإنّما أكّد الحاجة إليها في الدّولة الإسلاميّة شأن اللّسان العربيّ والبلاغة في العبارة عن المقاصد فصار الكتّاب يؤدّي كنه الحاجة بأبلغ من العبارة اللّسانيّة في الأكثر وكان الكاتب للأمير يكون من أهل نسبه ومن عظماء قبيله كما كان للخلفاء وأمراء الصّحابة بالشّام والعراق لعظم أمانتهم وخلوص أسرارهم فلمّا فسد اللّسان وصار صناعة اختصّ بمن يحسنه وكانت عند بني العبّاس رفيعة وكان الكاتب يصدر السّجلّات مطلقة ويكتب في آخرها اسمه ويختم عليها بخاتم السّلطان وهو طابع منقوش فيه اسم السّلطان أو شارته يغمس في طين أحمر مذاب بالماء ويسمّى طين الختم ويطبع به على طرفي السّجلّ عند طيّه وإلصاقه ثمّ صارت السّجلّات من بعدهم تصدّر باسم السّلطان ويضع الكاتب فيها علامته أوّلا أو آخرا على حسب الاختيار في محلّها وفي لفظها ثمّ قد تنزل هذه الخطّة بارتفاع المكان عند السّلطان لغير صاحبها من أهل المراتب في الدّولة أو استبداد وزير عليه فتصير علامة هذا الكتاب ملغاة الحكم بعلامة الرّئيس عليه يستدل بها فيكتب صورة علامته المعهودة والحكم لعلامة ذلك الرّئيس كما وقع آخر الدّولة الحفصيّة لمّا ارتفع شأن الحجابة وصار أمرها إلى التّفويض ثمّ الاستبداد صار حكم العلامة الّتي للكاتب ملغى وصورتها ثابتة إتباعا لما سلف من أمرها فصار الحاجب يرسم للكاتب إمضاء كتابه ذلك بخطّ يصنعه ويتخيّر له من صيغ الإنفاذ ما شاء فيأتمر الكاتب له ويضع العلامة المعتادة وقد يختصّ السّلطان لنفسه بوضع ذلك إذا كان مستبدّا بأمره قائما على نفسه فيرسم الأمر للكاتب ليضع علامته، ومن خطط الكتابة التّوقيع وهو أن يجلس الكاتب بين يدي السّلطان في مجالس حكمه وفصله ويوقّع على القصص المرفوعة إليه أحكامها والفصل فيها متلقّاة من السّلطان بأوجز لفظ وأبلغه فإمّا أن تصدر كذلك وإمّا أن يحذو الكاتب على مثالها في سجلّ يكون بيد صاحب القصّة ويحتاج الموقّع إلى عارضة من البلاغة يستقيم بهاتوقيعه وقد كان جعفر بن يحيى يوقّع في القصص بين يدي الرّشيد ويرمي بالقصّة إلى صاحبها فكانت توقيعاته يتنافس البلغاء في تحصيلها للوقوف فيها على أساليب البلاغة وفنونها حتّى قيل إنّها كانت تباع كلّ قصّة منها بدينار وهكذا كان شأن الدّول، واعلم أنّ صاحب هذه الخطّة لا بدّ من أن يتخيّر أرفع طبقات النّاس وأهل المروءة والحشمة منهم وزيادة العلم وعارضة البلاغة فإنّه معرّض للنّظر في أصول العلم لما يعرض في مجالس الملوك ومقاصد أحكامهم من أمثال ذلك ما تدعو إليه عشرة الملوك من القيام على الآداب والتّخلّق بالفضائل مع ما يضطرّ إليه في التّرسيل وتطبيق مقاصد الكلام من البلاغة وأسرارها وقد تكون الرّتبة في بعض الدّول مستندة إلى أرباب السّيوف لما يقتضيه طبع الدّولة من البعد عن معاناة العلوم لأجل سذاجة العصبيّة فيختصّ السّلطان أهل عصبيّته بخطط دولته وسائر رتبه فيقلّد المال والسّيف والكتابة منهم فأمّا رتبة السّيف فتستغني عن معاناة العلم وأمّا المال والكتابة فيضطرّ إلى ذلك البلاغة في هذه والحسبان في الأخرى فيختارون لها من هذه الطّبقة ما دعت إليه الضّرورة ويقلّدونه إلّا أنّه لا تكون يد آخر من أهل العصبيّة غالبة على يده ويكون نظره منصرفا عن نظره كما هو في دولة التّرك لهذا العهد بالمشرق فإنّ الكتابة عندهم وإن كانت لصاحب الإنشاء إلّا أنّه تحت يد أمير من أهل عصبيّة السّلطان يعرف بالدّويدار وتعويل السّلطان ووثوقه به واستنامته في غالب أحواله إليه وتعويله على الآخر في أحوال البلاغة وتطبيق المقاصد وكتمان الأسرار وغير ذلك من توابعها. وأمّا الشّروط المعتبرة في صاحب هذه الرّتبة الّتي يلاحظها السّلطان في اختياره وانتقائه من أصناف النّاس فهي كثيرة وأحسن من استوعبها عبد الحميد الكاتب في رسالته إلى الكتّاب وهي: «أمّا بعد حفظكم الله يا أهل صناعة الكتابة وحاطكم ووفّقكم وأرشدكم فإنّ الله عزّ وجلّ جعل النّاس بعد الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ومن بعد الملوك المكرّمين أصنافا وإن كانوا في الحقيقةسواء وصرّفهم في صنوف الصّناعات وضروب المحاولات إلى أسباب معاشهم وأبواب أرزاقهم فجعلكم معشر الكتّاب في أشرف الجهات أهل الأدب والمروءات والعلم والرّزانة بكم ينتظم للخلافة محاسنها وتستقيم أمورها وبنصحائكم يصلح الله للخلق سلطانهم وتعمر بلدانهم لا يستغني الملك عنكم ولا يوجد كاف إلّا منكم فموقعكم من الملوك موقع أسماعهم الّتي بها يسمعون وأبصارهم الّتي بها يبصرون وألسنتهم الّتي بها ينطقون وأيديهم الّتي بها يبطشون فأمتعكم الله بما خصّكم من فضل صناعتكم ولا نزع عنكم ما أضفاه من النّعمة عليكم وليس أحد من أهل الصّناعات كلّها أحوج إلى اجتماع خلال الخير المحمودة وخصال الفضل المذكورة المعدودة منكم أيّها الكتّاب إذا كنتم على ما يأتي في هذا الكتاب من صفتكم فإنّ الكاتب يحتاج في نفسه ويحتاج منه صاحبه الّذي يثق به في مهمّات أموره أن يكون حليما في موضع الحلم فهيما في موضع الحكم مقداما في موضع الإقدام محجما في موضع الإحجام مؤثرا للعفاف والعدل والإنصاف كتوما للأسرار وفيّا عند الشّدائد عالما بما يأتي من النّوازل يضع الأمور مواضعها والطّوارق في أماكنها قد نظر في كلّ فنّ من فنون العلم فأحكمه وإن لم يحكمه أخذ منه بمقدار ما يكتفي به يعرف بغريزة عقله وحسن أدبه وفضل تجربته ما يرد عليه قبل وروده وعاقبة ما يصدر عنه قبل صدوره فيعدّ لكلّ أمر عدّته وعتاده ويهيّئ لكلّ وجه هيئته وعادته فتنافسوا يا معشر الكتّاب في صنوف الآداب وتفقّهوا في الدّين وابدءوا بعلم كتاب الله عزّ وجلّ والفرائض ثمّ العربيّة فإنّها ثقاف ألسنتكم ثمّ أجيدوا الخطّ فإنّه حلية كتبكم وارووا الأشعار واعرفوا غريبها ومعانيها وأيّام العرب والعجم وأحاديثها وسيرها فإنّ ذلك معين لكم على ما تسمو إليه هممكم ولا تضيعوا النّظر في الحساب فإنّه قوام كتّاب الخراج وارغبوا بأنفسكم عن المطامع سنيّها ودنيّها وسفساف الأمور ومحاقرها فإنّها مذلّة للرّقاب مفسدة للكتّاب ونزّهوا صناعتكم عن الدّناءة واربأوا بأنفسكم عن السّعاية والنّميمة ومافيه أهل الجهالات وإيّاكم والكبر والسّخف والعظمة فإنّها عداوة مجتلبة من غير إحنة وتحابّوا في الله عزّ وجلّ في صناعتكم وتواصوا عليها بالّذي هو أليق لأهل الفضل والعدل والنّبل من سلفكم وإن نبا الزّمان برجل منكم فاعطفوا عليه وآسوه حتّى يرجع إليه حاله ويثوب إليه أمره وإن أقعد أحدا منكم الكبر عن مكسبه ولقاء إخوانه فزوروه وعظّموه وشاوروه واستظهروا بفضل تجربته وقديم معرفته وليكن الرّجل منكم على من اصطنعه واستظهر به ليوم حاجته إليه أحوط منه على ولده وأخيه فإن عرضت في الشّغل محمدة فلا يصفها إلّا إلى صاحبه وإن عرضت مذمّة فليحملها هو من دونه وليحذر السّقطة والزّلّة والملل عند تغيّر الحال فإنّ العيب إليكم معشر الكتّاب أسرع منه إلى القرّاء وهو لكم أفسد منه لهم فقد علمتم أنّ الرّجل منكم إذا صحبه من يبذل له من نفسه ما يجب له عليه من حقّه فواجب عليه أن يعتقد له من وفائه وشكره واحتماله وخيره ونصيحته وكتمان سرّه وتدبير أمره ما هو جزاء لحقّه ويصدّق ذلك بفعاله عند الحاجة إليه والاضطرار إلى ما لديه فاستشعروا ذلك وفّقكم الله من أنفسكم في حالة الرّخاء والشّدّة والحرمان والمؤاساة والإحسان والسّرّاء والضّرّاء فنعمت السّيمة هذه من وسم بها من أهل هذه الصّناعة الشّريفة وإذا ولّي الرّجل منكم أو صير إليه من أمر خلق الله وعياله أمر فليراقب الله عزّ وجلّ وليؤثر طاعته وليكن على الضّعيف رفيقا وللمظلوم منصفا «فإنّ الخلق عيال الله وأحبّهم إليه أرفقهم بعياله» ثمّ ليكن بالعدل حاكما وللأشراف مكرما وللفيء موفّرا وللبلاد عامرا وللرّعيّة متألّفا وعن أذاهم متخلّفا وليكن في مجلسه متواضعا حليما وفي سجلّات خراجه واستقضاء حقوقه رفيقا وإذا صحب أحدكم رجلا فليختبر خلائقه فإذا عرف حسنها وقبحها أعانه على ما يوافقه من الحسن واحتال على صرفه عمّا يهواه من القبح بألطف حيلة وأجمل وسيلة وقد علمتم أنّ سائس البهيمة إذا كان بصيرا بسياستها التمس معرفة أخلاقها فإن كانت رموحا 137 لم يهجها إذا ركبها وإن كانت شبوبا 138 اتّقاها من بين يديها وإن خاف منها شرودا توقّاها من ناحية رأسها وإن كانت حرونا قمع برفق هواها في طرقها 139 فإن استمرّت عطفها يسيرا فيسلس له قيادها وفي هذا الوصف من السّياسة دلائل لمن ساس النّاس وعاملهم وجرّبهم وداخلهم والكاتب بفضل أدبه وشريف صنعته ولطيف حيلته ومعاملته لمن يحاوره من النّاس ويناظره ويفهم عنه أو يخاف سطوته أولى بالرّفق لصاحبه ومداراته وتقويم أوده من سائس البهيمة الّتي لا تحير جوابا ولا تعرف صوابا ولا تفهم خطابا إلّا بقدر ما يصيّرها إليه صاحبها الرّاكب عليها ألا فارفقوا رحمكم الله في النّظر واعملوا ما أمكنكم فيه من الرّويّة والفكر تأمنوا بإذن الله ممّن صحبتموه النّبوة والاستثقال والجفوة ويصير منكم إلى الموافقة وتصيروا منه إلى المؤاخاة والشّفقة إن شاء الله. ولا يجاوزنّ الرّجل منكم في هيئة مجلسه وملبسه ومركبه ومطعمه ومشربه وبنائه وخدمه وغير ذلك من فنون أمره قدر حقّه فإنّكم مع ما فضّلكم الله به من شرف صنعتكم خدمة لا تحملون في خدمتكم على التّقصير وحفظة لا تحتمل منكم أفعال التّضييع والتّبذير واستعينوا على عفافكم بالقصد في كلّ ما ذكرته لكم وقصصته عليكم واحذروا متالف السّرف وسوء عاقبة التّرف فإنّهما يعقبان الفقر ويذلّان الرّقاب ويفضحان أهلهما وسيّما الكتّاب وأرباب الآداب وللأمور أشباه وبعضها دليل على بعض فاستدلّوا على مؤتنف 140 أعمالكم بما سبقت إليه تجربتكم ثمّ اسلكوا من مسالك التّدبير أوضحها محجّة وأصدقها حجّة وأحمدها عاقبة واعلموا أنّ للتّدبير آفة متلفة وهو الوصف الشّاغل لصاحبه عن إنقاذ علمه ورويّته فليقصد الرّجل منكم في مجلسه قصد الكافي من منطقه وليوجز في ابتدائه وجوابه وليأخذ بمجامع حججه فإنّ ذلك مصلحة لفعله ومدفعة للتّشاغل عن إكثاره وليضرع إلى الله في صلة توفيقه وإمداده بتسديده مخافة وقوعه في الغلط المضرّ ببدنه وعقله وأدبه فإنّه إن ظنّ منكم ظانّ أو قال قائل إنّ الّذي برز من جميل صنعته وقوّة حركته إنّما هو بفضل حيلته وحسن تدبيره فقد تعرّض بظنّه أو مقالته إلى أن يكله الله عزّ وجلّ إلى نفسه فيصير منها إلى غير كاف وذلك على من تأمّله غير خاف ولا يقل أحد منكم إنّه أبصر بالأمور وأحمل لعبء التّدبير من مرافقه في صناعته ومصاحبه في خدمته فإنّ أعقل الرّجلين عند ذوي الألباب من رمى بالعجب وراء ظهره ورأى أنّ أصحابه أعقل منه وأحمد في طريقته وعلى كلّ واحد من الفريقين أن يعرف فضل نعم الله جلّ ثناؤه من غير اغترار برأيه ولا تزكية لنفسه ولا يكاثر 141 على أخيه أو نظيره وصاحبه وعشيرة وحمد الله واجب على الجميع وذلك بالتّواضع لعظمته والتّذلّل لعزّته والتّحدّث بنعمته وأنا أقول في كتابي هذا ما سبق به المثل من تلزمه النّصيحة يلزمه العمل وهو جوهر هذا الكتاب وغرّة كلامه بعد الّذي فيه من ذكر الله عزّ وجلّ فلذلك جعلته آخره وتمّمته به تولّانا الله وإيّاكم يا معشر الطّلبة والكتبة بما يتولّى به من سبق علمه بإسعاده وإرشاده فإنّ ذلك إليه وبيده والسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته»
الشرطة
ويسمّى صاحبها لهذا العهد بإفريقيّة الحاكم وفي دولة أهل الأندلس صاحب المدينة وفي دولة التّرك الوالي. وهي وظيفة مرءوسة لصاحب السّيف في الدّولة وحكمه نافذ في صاحبها في بعض الأحيان وكان أصل وضعها في الدّولة العبّاسيّة لمن يقيم أحكام الجرائم في حال استبدادها أوّلا ثمّ الحدود بعد استيفائها فإنّ التّهم الّتي تعرض في الجرائم لا نظر للشّرع إلّا في استيفاء حدودها وللسّياسة النّظر في استيفاء موجباتها بإقرار يكرهه عليه الحاكم إذا احتفّت به القرائن لما توجبه المصلحة العامّة في ذلك فكان الّذي يقوم بهذا الاستبداد وباستيفاء الحدود بعده إذا تنزّه عنه القاضي يسمّى صاحب الشّرطة وربّما جعلوا إليه النّظر في الحدود والدّماء بإطلاق، وأفردوها من نظر القاضي ونزّهوا هذه المرتبة وقلّدوها كبار القوّاد وعظماء الخاصّة من مواليهم ولم تكن عامّة التّنفيذ في طبقات النّاس إنّما كان حكمهم على الدّهماء وأهل الرّيب والضّرب على أيدي الرّعاع والفجرة. ثمّ عظمت نباهتها في دولة بني أميّة بالأندلس ونوّعت إلى شرطة كبرى وشرطة صغرى وجعل حكم الكبرى على الخاصّة والدّهماء وجعل له الحكم على أهل المراتب السّلطانيّة والضّرب على أيديهم في الظّلامات وعلى أيدي أقاربهم ومن إليهم من أهل الجاه وجعل صاحب الصّغرى مخصوصا بالعامّة ونصب لصاحب الكبرى كرسيّ بباب دار السّلطان ورجال يتبوّءون المقاعد بين يديه فلا يبرحون عنها إلّا في تصريفه وكانت ولايتها للأكابر من رجالات الدّولة حتّى كانت ترشيحا للوزارة والحجابة. وأمّا في دولة الموحّدين بالمغرب فكان لها حظّ من التّنويه وإن لم يجعلوها عامّة وكان لا يليها إلّا رجالات الموحّدين وكبراؤهم ولم يكن له التّحكّم على أهل المراتب السّلطانيّة ثمّ فسد اليوم منصبها وخرجت عن رجال الموحّدين وصارت ولايتها لمن قام بها من المصطنعين. وأمّا في دولة بني مرين لهذا العهد بالمشرق فولايتها في بيوت مواليهم وأهل اصطناعهم وفي دولة التّرك بالمشرق في رجالات التّرك أو أعقاب أهل الدّولة قبلهم من التّرك يتخيّرونهم لها في النّظر بما يظهر منهم من الصّلابة والمضاء في الأحكام لقطع موادّ الفساد وحسم أبواب الدّعارة وتخريب مواطن الفسوق وتفريق مجامعه مع إقامة الحدود الشّرعيّة والسّياسيّة كما تقتضيه رعاية المصالح العامّة في المدينة والله مقلّب اللّيل والنّهار وهو العزيز الجبّار والله تعالى أعلم.
قيادة الأساطيل
وهي من مراتب الدّولة وخططها في ملك المغرب وإفريقية ومرءوسة لصاحب السّيف وتحت حكمه في كثير من الأحوال ويسمّى صاحبها في عرفهم البلمند بتفخيم اللّام منقولا من لغة الإفرنجة فإنّه اسمها في اصطلاح لغتهم وإنّما اختصّت هذه المرتبة بملك إفريقية والمغرب لأنّهما جميعا على ضفّة البحر الرّوميّ من جهة الجنوب وعلى عدوته الجنوبيّة بلاد البربر كلّهممن سبتة إلى الشّام وعلى عدوته الشّماليّة بلاد الأندلس والإفرنجة والصّقالبة والرّوم إلى بلاد الشّام أيضا ويسمّى البحر الرّوميّ والبحر الشّاميّ نسبة إلى أهل عدوته والسّاكنون بسيف هذا البحر وسواحله من عدوتيه يعانون من أحواله ما لا تعانيه أمّة من أمم البحار فقد كانت الرّوم والإفرنجة والقوط بالعدوة الشّماليّة من هذا البحر الرّوميّ وكانت أكثر حروبهم ومتاجرهم في السّفن فكانوا مهرة في ركوبه والحرب في أساطيله ولمّا أسفّ 142 من أسفّ منهم إلى ملك العدوة الجنوبيّة مثل الرّوم إلى إفريقية والقوط إلى المغرب أجازوا 143 في الأساطيل وملكوها وتغلّبوا على البربر بها وانتزعوا من أيديهم أمرها وكان لها بها المدن الحافلة مثل قرطاجنّة وسبيطلة وجلولاء ومرناق وشرشال وطنجة وكان صاحب قرطاجنّة من قبلهم يحارب صاحب رومة ويبعث الأساطيل لحربه مشحونة بالعساكر والعدد فكانت هذه عادة لأهل هذا البحر السّاكنين حفافيه معروفة في القديم والحديث ولمّا ملك المسلمون مصر كتب عمر بن الخطّاب إلى عمرو بن العاص رضي الله عنهما «أن صف لي البحر» فكتب إليه: «إنّ البحر خلق عظيم يركبه خلق ضعيف دود على عود» فأوعز حينئذ بمنع المسلمين من ركوبه ولم يركبه أحد من العرب إلّا من افتات على عمر في ركوبه ونال من عقابه كما فعل بعرفجة بن هرثمة الأزديّ سيّد بجيلة لمّا أغزاه عمّان فبلغه غزوة في البحر فأنكر عليه وعنّفه أنّه ركب البحر للغزو ولم يزل الشّأن ذلك حتّى إذا كان لعهد معاوية أذن للمسلمين في ركوبه والجهاد على أعواده والسّبب في ذلك أنّ العرب لبداوتهم لم يكونوا مهرة في ثقافته وركوبه والرّوم والإفرنجة لممارستهم أحواله ومرباهم في التّقلّب على أعواده مرنوا عليه وأحكموا الدّارية بثقافته فلمّا استقرّ الملك للعرب وشمخ سلطانهم وصارت أمم العجم خولا لهم وتحت أيديهم وتقرّب كلّ ذي صنعة إليهم بمبلغ صناعته واستخدموا من النّواتية في حاجاتهم البحريّة أمما وتكرّرت ممارستهم للبحر وثقافته واستحدثوا بصراء بها فشرهوا إلى الجهاد فيه وأنشئوا السّفن فيه والشّواني وشحنوا الأساطيل بالرّجال والسّلاح وأمطوها العساكر والمقاتلة لمن وراء البحر من أمم الكفر واختصّوا بذلك من ممالكهم وثغورهم ما كان أقرب لهذا البحر وعلى حافته مثل الشّام وإفريقية والمغرب والأندلس وأوعز الخليفة عبد الملك إلى حسّان بن النّعمان عامل إفريقية والمغرب والأندلس وأوعز الخليفة عبد الملك إلى حسّان بن النّعمان عامل إفريقية باتّخاذ دار صناعة بتونس لإنشاء الآلات البحريّة حرصا على مراسم الجهاد ومنها كان فتح صقلّيّة أيّام زيادة الله الأوّل ابن إبراهيم بن الأغلب على يد أسد بن الفرات شيخ الفتيا وفتح قوصرّة أيضا في أيّامه بعد أن كان معاوية بن حديج أغزى صقلّيّة أيّام معاوية بن أبي سفيان فلم يفتح الله على يديه وفتحت على يد ابن الأغلب وقائده أسد بن الفرات وكانت من بعد ذلك أساطيل إفريقية والأندلس في دولة العبيديّين والأمويّين تتعاقب إلى بلادهما في سبيل الفتنة فتجوس خلال السّواحل بالإفساد والتّخريب. وانتهى أسطول الأندلس أيّام عبد الرّحمن النّاصر إلى مائتي مركب أو نحوها وأسطول إفريقية كذلك مثله أو قريبا منه وكان قائد الأساطيل بالأندلس ابن دماحس ومرفأها للحطّ والإقلاع بجاية والمرية وكانت أساطيلها مجتمعة من سائر الممالك من كلّ بلد تتّخذ فيه السّفن أسطول يرجع نظره إلى قائد من النّواتية يدبّر أمر حربه وسلاحه ومقاتلته ورئيس يدبّر أمر جريته بالرّيح أو بالمجاذيف وأمر إرسائه في مرفئه فإذا اجتمعت الأساطيل لغزو محتفل أو غرض سلطانيّ مهمّ عسكرت بمرفئها المعلوم وشحنها السّلطان برجاله وأنجاد عساكره ومواليه وجعلهم لنظر أمير واحد من أعلى طبقات أهل مملكته يرجعون كلّهم إليه ثمّ يسرّحهم لوجههم وينتظر إيابهم بالفتح والغنيمة وكان المسلمون لعهدة الدّولة الإسلاميّة قد غلبوا على هذا البحر من جميع جوانبه وعظمت صولتهم وسلطانهم فيه فلم يكن للأمم النّصرانيّة قبل بأساطيلهم بشيء من جوانبه وامتطوا ظهره للفتح سائر أيّامهم فكانت لهم المقامات المعلومة من الفتح والغنائم وملكوا سائرالجزائر المنقطعة عن السّواحل فيه مثل ميورقة ومنورقة ويابسة وسردانية وصقلّيّة وقوصرّة ومالطة وأقريطش وقبرس وسائر ممالك الرّوم والإفرنج وكان أبو القاسم الشّيعيّ وأبناؤه يغزون أساطيلهم من المهديّة جزيرة جنوة فتنقلب بالظّفر والغنيمة وافتتح مجاهد العامريّ صاحب دانية من ملوك الطّوائف جزيرة سردانية في أساطيله سنة خمس وأربعمائة وارتجعها النّصارى لوقتها والمسلمون خلال ذلك كلّه قد تغلّبوا على كثير من لجّة هذا البحر وصارت أساطيلهم فيهم جائية وذاهبة والعساكر الإسلاميّة تجيز البحر في الأساطيل من صقلّيّة إلى البرّ الكبير المقابل لها من العدوة الشّماليّة فتوقع بملوك الأفرنج وتثخن في ممالكهم كما وقع في أيّام بني الحسين ملوك صقلّيّة القائمين فيها بدعوة العبيديّين وانحازت أمم النّصرانيّة بأساطيلهم إلى الجانب الشّماليّ الشّرقيّ منه من سواحل الإفرنجة والصّقالبة وجزائر الرّومانيّة لا يعدونها وأساطيل المسلمين قد ضربت عليهم ضراء الأسد على فريسته وقد ملأت الأكثر من بسيط هذا البحر عدّة وعددا واختلفت في طرقه سلما وحربا فلم تظهر للنّصرانيّة فيه ألواح حتّى إذا أدرك الدّولة العبيديّة والأمويّة الفشل والوهن وطرقها الاعتلال مدّ النّصارى أيديهم إلى جزائر البحر الشّرقيّة مثل صقلّيّة وإقريطش ومالطة فملكوها ثمّ ألحّوا على سواحل الشّام في تلك الفترة وملكوا طرابلس وعسقلان وصور وعكّا واستولوا على جميع الثّغور بسواحل الشّام وغلبوا على بيت المقدس وبنوا عليه كنيسة لمظهر دينهم وعبادتهم وغلبوا بني خزرون على طرابلس ثمّ على قابس وصفاقس ووضعوا عليهم الجزية ثمّ ملكوا المهدية مقرّ ملوك العبيديّين من يد أعقاب بلكّين بن زيري وكانت لهم في المائة الخامسة الكرّة بهذا البحر وضعف شأن الأساطيل في دولة مصر والشّام إلى أن انقطع ولم يعتنوا بشيء من أمره لهذا العهد بعد أن كان لهم به في الدّولة العبيديّة عناية تجاوزت الحدّ كما هو معروف في أخبارهم فبطل رسم هذه الوظيفة هنالك وبقيت بإفريقيّة والمغرب فصارت مختصّة بها وكان الجانب الغربيّ من هذاالبحر لهذا العهد موفور الأساطيل ثابت القوّة لم يتحيّفه عدو ولا كانت لهم به كرّة فكان قائد الأسطول به لعهد لمتونة بني ميمون رؤساء جزيرة قادس ومن أيديهم أخذها عبد المؤمن بتسليمهم وطاعتهم وانتهى عدد أساطيلهم إلى المائة من بلاد العدوتين جميعا. ولمّا استفحلت دولة الموحّدين في المائة السّادسة وملكوا العدوتين أقاموا خطّة هذا الأسطول على أتمّ ما عرف وأعظم ما عهد وكان قائد أسطولهم أحمد الصّقلّيّ أصله من صدّ غيار الموطّنين بجزيرة جربة من سرويكش أسرة النّصارى من سواحلها وربي عندهم واستخلصه صاحب صقلّيّة واستكفاه ثمّ هلك، وولي ابنه فأسخطه ببعض النّزعات وخشي على نفسه ولحق بتونس ونزل على السّيّد بها من بني عبد المؤمن وأجاز مراكش فتلقّاه الخليفة يوسف بن عبد المؤمن بالمبرّة والكرامة وأجزل الصّلة وقلّده أمر أساطيله فجلّى في جهاد أمم النّصرانيّة وكانت له آثار وأخبار ومقامات مذكورة في دولة الموحّدين. وانتهت أساطيل المسلمين على عهده في الكثرة والاستجادة إلى ما لم تبلغه من قبل ولا بعد فيما عهدناه ولمّا قام صلاح الدّين يوسف بن أيّوب ملك مصر والشّام لعهده باسترجاع ثغور الشّام من يد أمم النّصرانيّة وتطهير بيت المقدس تتابعت أساطيلهم بالمدد لتلك الثّغور من كلّ ناحية قريبة لبيت المقدس الّذي كانوا قد استولوا عليه فأمدّوهم بالعدد والأقوات ولم تقاومهم أساطيل الإسكندريّة لاستمرار الغلب لهم في ذلك الجانب الشّرقيّ من البحريّة وتعدّد أساطيلهم فيه وضعف المسلمين منذ زمان طويل عن ممانعتهم هناك كما أشرنا إليه قبل فأوفد صلاح الدّين على أبي يعقوب المنصور سلطان المغرب لعهده من الموحّدين رسوله عبد الكريم بن منقذ من بيت بني منقذ ملوك شيزر، وكان ملكها من أيديهم وأبقى عليهم في دولته فبعث عبد الكريم منهم هذا إلى ملك المغرب طالبا مدد الأساطيل لتحول في البحر بين أساطيل الأجانب وبين مرامهم من أمداد النّصرانيّة بثغور الشّام وأصحبه كتابه إليه في ذلك من إنشاء الفاضل البيسانيّ يقول في افتتاحه «فتح الله لسيّدنا أبواب المناهج والميامن» حسبما نقله العماد الأصفهانيّ في كتاب الفتح القيسيّ فنقم عليهم المنصور تجافيهم عن خطابه بأمير المؤمنين وأسرّها في نفسه وحملهم على مناهج البرّ والكرامة وردّهم إلى مرسلهم ولم يجبه إلى حاجته من ذلك وفي هذا دليل على اختصاص ملك المغرب بالأساطيل وما حصل للنّصرانيّة في الجانب الشّرقيّ من هذا البحر من الاستطالة وعدم عناية الدّول بمصر والشّام لذلك العهد وما بعده لشأن الأساطيل البحريّة والاستعداد منها للدّولة ولمّا هلك أبو يعقوب المنصور واعتلّت دولة الموحّدين واستولت أمم الجلالقة على الأكثر من بلاد الأندلس وألجئوا المسلمين إلى سيف البحر وملكوا الجزائر الّتي بالجانب الغربيّ من البحر الرّوميّ قويت ريحهم في بسيط هذا البحر واشتدّت شوكتهم وكثرت فيه أساطيلهم وتراجعت قوّة المسلمين فيه إلى المساواة معهم كما وقع لعهد السّلطان أبي الحسن ملك زناتة بالمغرب فإنّ أساطيله كانت عند مرامه الجهاد مثل عدّة النّصرانيّة وعديدهم ثمّ تراجعت عن ذلك قوّة المسلمين في الأساطيل لضعف الدّولة ونسيان عوائد البحر بكثرة العوائد البدويّة بالمغرب وانقطاع العوائد الأندلسيّة ورجع النّصارى فيه إلى دينهم المعروف من الدّربة فيه والمران عليه والبصر بأحواله وغلب الأمم في لجّته على أعواده وصار المسلمون فيه كالأجانب إلّا قليلا من أهل البلاد السّاحليّة لهم المران عليه لو وجدوا كثرة من الأنصار والأعوان أو قلّة من الدّولة تستجيش لهم أعوانا وتوضح لهم في هذا الغرض مسلكا وبقيت الرّتبة لهذا العهد في الدّولة الغربيّة محفوظة والرّسم في معاناة الأساطيل بالإنشاء والرّكوب معهودا لما عساه أن تدعو إليه الحاجة من الأغراض السّلطانيّة في البلاد البحريّة والمسلمون يستهبّون الرّيح على الكفر وأهله فمن المشتهر بين أهل المغرب عن كتب الحدثان أنّه لا بدّ للمسلمين من الكرّة على النّصرانيّة وافتتاح ما وراء البحر من بلاد الإفرنجة وأنّ ذلك يكون في الأساطيل والله وليّ المؤمنين وهو حسبنا ونعم الوكيل.
الفصل الخامس والثلاثون في التفاوت بين مراتب السيف والقلم في الدول
اعلم أنّ السّيف والقلم كلاهما آلة لصاحب الدّولة يستعين بها على أمره إلّا أنّ الحاجة في أوّل الدّولة إلى السّيف ما دام أهلها في تمهيد أمرهم أشدّ من الحاجة إلى القلم لأنّ القلم في تلك الحال خادم فقط منفّذ للحكم السّلطانيّ والسّيف شريك في المعونة وكذلك في آخر الدّولة حيث تضعف عصبيّتهما كما ذكرناه ويقلّ أهلها بما ينالهم من الهرم الّذي قدّمناه فتحتاج الدّولة إلى الاستظهار بأرباب السّيوف وتقوى الحاجة إليهم في حماية الدّولة والمدافعة عنها كما كان الشّأن أوّل الأمر في تمهيدها فيكون للسيف مزيّة على القلم في الحالتين ويكون أرباب السّيف حينئذ أوسع جاها وأكثر نعمة وأسنى إقطاعا وأمّا في وسط الدّولة فيستغني صاحبها بعض الشّيء عن السّيف لأنّه قد تمهّد أمره ولم يبق همّه إلّا في تحصيل ثمرات الملك من الجباية والضّبط ومباهاة الدّول وتنفيذ الأحكام والقلم هو المعين له في ذلك فتعظم الحاجة إلى تصريفه وتكون السّيوف مهملة في مضاجع أغمادها إلّا إذا أنابت نائبة أو دعيت إلى سدّ فرجة 144 وممّا سوى ذلك فلا حاجة إليها فتكون أرباب الأقلام في هذه الحاجة أوسع جاها وأعلى رتبة وأعظم نعمة وثروة وأقرب من السّلطان مجلسا وأكثر إليه تردّدا وفي خلواته نجيّا لأنّه حينئذ آلته الّتي بها يستظهر على تحصيل ثمرات ملكه والنّظر إلى أعطافه وتثقيف أطرافه والمباهاة بأحواله ويكون الوزراء حينئذ وأهل السّيوف مستغنى عنهم مبعدين عن باطن السّلطان حذرين على أنفسهم من بوادره. وفي معنى ذلك ما كتب به أبو مسلم للمنصور حين أمره بالقدوم أمّا بعد فإنّه ممّا حفظناه من وصايا الفرس أخوف ما يكون الوزراء إذا سكنت الدّهماء سنّة الله في عباده والله سبحانه وتعالى أعلم.
الفصل السادس والثلاثون في شارات الملك والسلطان الخاصة به
اعلم أنّ للسّلطان شارات وأحوالا تقتضيها الأبّهة والبذخ فيختصّ بها ويتميّز بانتحالها عن الرّعيّة والبطانة وسائر الرّؤساء في دولته فلنذكر ما هو مشتهر منها بمبلغ المعرفة «وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ 12: 76» .
الآلة
فمن شارات الملك اتّخاذ الآلة من نشر الألوية والرّايات وقرع الطّبول والنّفخ في الأبواق والقرون وقد ذكر أرسطو في الكتاب المنسوب إليه في السّياسة أنّ السّرّ في ذلك إرهاب العدوّ في الحرب فإنّ الأصوات الهائلة لها تأثير في النّفوس بالرّوعة ولعمري إنّه أمر وجدانيّ في مواطن الحرب يجده كلّ أحد من نفسه وهذا السّبب الّذي ذكره أرسطو إن كان ذكره فهو صحيح ببعض الاعتبارات. وأمّا الحقّ في ذلك فهو أنّ النّفس عند سماع النّغم والأصوات يدركها الفرح والطّرب بلا شكّ فيصيب مزاج الرّوح نشوة يستسهل بها الصّعب ويستميت في ذلك الوجه الّذي هو فيه وهذا موجود حتّى في الحيوانات العجم بانفعال الإبل بالحداء والخيل بالصّفير والصّريح كما علمت ويزيد ذلك تأثيرا إذا كانت الأصوات متناسبة كما في الغناء وأنت تعلم ما يحدث لسامعه من مثل هذا المعنى لأجل ذلك تتّخذ العجم في مواطن حروبهم الآلات الموسيقيّة 145 لا طبلا ولا بوقا فيحدق المغنّون بالسّلطان في موكبه بآلاتهم ويغنون فيحرّكون نفوس الشّجعان بضربهم إلى الاستماتة ولقد رأينا في حروب العرب من يتغنّى أمام الموكب بالشعر ويطرب فتجيش همم الأبطال بما فيها ويسارعون إلى مجال الحرب وينبعث كلّ قرن إلى قرنه وكذلك زناتة من أمم المغرب يتقدّم الشّاعر عندهم أمام الصّفوف ويتغنّى فيحرّك بغنائه الجبال الرّواسي ويبعث على الاستماتة من لا يظنّ بها ويسمّون ذلك الغناء تاصوكايت وأصله كلّه فرح يحدث في النّفس فتنبعث عنه الشّجاعة كما تنبعث عن نشوة الخمر بما حدث عنها من الفرح والله أعلم وأمّا تكثير الرّايات وتلوينها وإطالتها فالقصد به التّهويل لا أكثر وربّما تحدث في النّفوس من التّهويل زيادة في الاقدام وأحوال النّفوس وتلويناتها غريبة والله الخلّاق العليم. ثمّ إنّ الملوك والدّول يختلفون في اتّخاذ هذه الشّارات فمنهم مكثر ومنهم مقلّل بحسب اتّساع الدّولة وعظمها فأمّا الرّايات فإنّها شعار الحروب من عهد الخليقة ولم تزل الأمم تعقدها في مواطن الحروب والغزوات لعهد النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ومن بعده من الخلفاء. وأمّا قرع الطّبول والنّفخ في الأبواق فكان المسلمون لأوّل الملّة متجافين عنه تنزّها عن غلظة الملك ورفضا لأحواله واحتقارا لأبّهته الّتي ليست من الحقّ في شيء حتّى إذا انقلبت الخلافة ملكا وتبجّحوا بزهرة الدّنيا ونعيمها ولا بسهم الموالي من الفرس والرّوم أهل الدّول السّالفة وأروهم ما كان أولئك ينتحلونه من مذاهب البذخ والتّرف فكان ممّا استحسنوه اتّخاذ الآلة فأخذوها وأذنوا لعمّالهم في اتّخاذها تنويها بالملك وأهله فكثيرا ما كان العامل صاحب الثّغر أو قائد الجيش يعقد له الخليفة من العبّاسيين أو العبيديين لواءه ويخرج إلى بعثه أو عمله من دار الخليفة أو داره في موكب من أصحاب الرّايات والآلات فلا يميّز بين موكب العامل والخليفة إلّا بكثرة الألوية وقلّتها أو بما اختصّ به الخليفة من الألوان لرأيته كالسّواد في رايات بني العبّاس فإنّ راياتهم كانت سودا حزنا على شهدائهم من بني هاشم ونعيا على بني أميّة في قتلهم ولذلك سمّوا المسوّدة، ولمّا افترق أمر الهاشميّين وخرج الطّالبيّون على العبّاسيين من كلّ جهة وعصر ذهبوا إلى مخالفتهم في ذلك فاتّخذوا الرّايات بيضا وسمّوا المبيضة لذلك سائر أيّام العبيديّين ومن خرج من الطّالبيّين في ذلك العهد بالمشرق كالدّاعي بطبرستان وداعي صعدة أو من دعا إلى بدعة الرّافضة من غيرهم كالقرامطة. ولمّا نزع المأمون عن لبس السّواد وشعاره في دولته عدل إلى لون الخضرة فجعل رايته خضراء. وأمّا الاستكثار منها فلا ينتهي إلى حدّ وقد كانت آلة العبيديين لمّا خرج العزيز إلى فتح الشّام خمسمائة من البنود وخمسمائة من الأبواق. وأمّا ملوك البربر بالمغرب من صنهاجة وغيرها فلم يختصّوا بلون واحد بل وشّوها بالذّهب واتّخذوها من الحرير الخالص ملوّنة واستمرّوا على الإذن فيها لعمّالهم حتّى إذا جاءت دولة الموحّدين ومن بعدهم من زناتة قصروا الآلة من الطّبول والبنود على السّلطان وحظروها على من سواه من عمّاله وجعلوا لها موكبا خاصّا يتبع أثر السّلطان في مسيره يسمّى السّاقة وهم فيه بين مكثر ومقلّ باختلاف مذاهب الدّول في ذلك فمنهم من يقتصر على سبعة من العدد تبرّكا بالسّبعة كما هو في دولة الموحّدين وبني الأحمر بالأندلس ومنهم من يبلغ العشرة والعشرين كما هو عند زناتة وقد بلغت في أيّام السّلطان أبي الحسن فيما أدركناه مائة من الطّبول ومائة من البنود ملوّنة بالحرير منسوجة بالذّهب ما بين كبير وصغير ويأذنون للولاة والعمّال والقوّاد في اتّخاذ راية واحدة صغيرة من الكتّان بيضاء وطبل صغير أيّام الحرب لا يتجاوزون ذلك وأمّا دولة التّرك لهذا العهد بالمشرق فيتّخذون راية واحدة عظيمة وفي رأسها خصلة كبيرة من الشّعر يسمّونها الشّالش والجتر وهي شعار السّلطان عندهم ثمّ تتعدّد الرّايات ويسمّونها السّناجق واحدها سنجق وهي الرّاية بلسانهم. وأمّا الطّبول فيبالغون في الاستكثار منها ويسمّونها الكوسات ويبيحون لكلّ أمير أو قائد عسكر أن يتّخذ من ذلك ما يشاء إلّا الجتر فإنّه خاصّ بالسلطان. وأمّا الجلالقة لهذا العهد من أمم الإفرنجة بالأندلس فأكثر شأنهم اتّخاذ الألوية القليلة ذاهبة في الجوّ صعدا ومعها قرع الأوتار من الطّنابير ونفخ الغيطات يذهبون فيها مذهب الغناء وطريقه في مواطن حروبهم هكذا يبلغنا عنهم وعمّن وراءهم من ملوك العجم ومن آياته خلق السّماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم «إِنَّ في ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ 30: 22» .
السرير
وأمّا السّرير والمنبر والتّخت والكرسيّ فهي أعواد منصوبة أو أرائك منضّدة لجلوس السّلطان عليها مرتفعا عن أهل مجلسه أن يساويهم في الصّعيد ولم يزل ذلك من سنن الملوك قبل الإسلام وفي دول العجم وقد كانوا يجلسون على أسرّة الذّهب وكان لسليمان بن داود صلوات الله عليهما وسلامه كرسيّ وسرير من عاج مغشّى بالذّهب إلّا أنّه لا تأخذ به الدّول إلّا بعد الاستفحال والتّرف شأن الأبّهة كلّها كما قلناه وأمّا في أوّل الدّولة عند البداوة فلا يتشوّقون إليه. وأوّل من اتّخذه في الإسلام معاوية واستأذن النّاس فيه وقال لهم إني قد بدنت 146 فأذنوا له فاتّخذه واتّبعه الملوك الإسلاميّون فيه وصار من منازع الأبّهة ولقد كان عمرو بن العاصي بمصر يجلس في قصره على الأرض مع العرب ويأتيه المقوقس إلى قصره ومعه سرير من الذّهب محمولا على الأيدي لجلوسه شأن الملوك فيجلس عليه وهو أمامه ولا يغيرون عليه 147 وفاء له بما عقد معهم من الذّمّة واطّراحا لأبّهة الملك. ثمّ كان بعد ذلك لبني العبّاس والعبيديّين وسائر ملوك الإسلام شرقا وغربا من الأسرّة والمنابر والتّخوت ما عفا عن الأكاسرة والقياصرة والله مقلّب اللّيل والنّهار. السكة: وهي الختم على الدّنانير والدّراهم المتعامل بها بين النّاس بطابع حديد ينقش فيه صور أو كلمات مقلوبة ويضرب بها على الدّينار أو الدّرهم فتخرج رسوم تلك النّقوش عليها ظاهرة مستقيمة بعد أن يعتبر عيار النّقد من ذلك الجنس في خلوصه بالسّبك مرّة بعد أخرى وبعد تقدير أشخاص الدّراهم والدّنانير بوزن معيّن صحيح يصطلح عليه فيكون التّعامل بها عددا وإن لم تقدّر أشخاصها يكون التّعامل بها وزنا ولفظ السّكّة كان اسما للطّابع وهي الحديدة المتّخذة لذلك ثمّ نقل إلى أثرها وهي النّقوش الماثلة على الدّنانير والدّراهم ثمّ نقل إلى القيام على ذلك والنّظر في استيفاء حاجاته وشروطه وهي الوظيفة فصار علما عليها في عرف الدّول وهي وظيفة ضروريّة للملك إذ بها يتميّز الخالص من المغشوش بين النّاس في النّقود عند المعاملات ويتّقون في سلامتها الغشّ بختم السّلطان عليها بتلك النّقوش المعروفة وكان ملوك العجم يتّخذونها وينقشون فيها تماثيل تكون مخصوصة بها مثل تمثال السّلطان لعهدها أو تمثيل حصن أو حيوان أو مصنوع أو غير ذلك ولم يزل هذا الشّأن عند العجم إلى آخر أمرهم. ولمّا جاء الإسلام أغفل ذلك لسذاجة الدّين وبداوة العرب وكانوا يتعاملون بالذّهب والفضّة وزنا وكانت دنانير الفرس ودراهمهم بين أيديهم ويردّونها في معاملتهم إلى الوزن ويتصارفون بها بينهم إلى أن تفاحش الغشّ في الدّنانير والدّراهم لغفلة الدّولة عن ذلك وأمر عبد الملك الحجّاج على ما نقل سعيد بن المسيّب وأبو الزّناد بضرب الدّراهم وتمييز المغشوش من الخالص وذلك سنة أربع وسبعين وقال المدائنيّ سنة خمس وسبعين ثمّ أمر بصرفها في سائر النّواحي سنة ستّ وسبعين وكتب عليها «الله أحد الله الصّمد» ثمّ ولّي ابن هبيرة العراق أيّام يزيد بن عبد الملك فجوّد السّكّة 148 ثمّ بالغ خالد القسريّ في تجويدها ثمّ يوسف بن عمر بعده وقيل أوّل من ضرب الدّنانير والدّراهم مصعب بن الزّبير بالعراق سنة سبعين بأمر أخيه عبد الله لمّا ولي الحجاز وكتب عليها في أحد الوجهين «بركة الله» وفي الآخر «اسم الله» ثمّ غيّرها الحجّاج بعد ذلك بسنة وكتب عليها اسم الحجّاج وقدّر وزنها على ما كانت استقرّت أيّام عمر وذلك أنّ الدّرهم كان وزنه أوّل الإسلام ستّة دوانق والمثقال وزنه درهم وثلاثة أسباع درهم فتكون عشرة دراهم بسبعة مثاقيل وكان السّبب في ذلك أنّ أوزان الدّرهم أيّام الفرس كانت مختلفة وكان منها على وزن المثقال عشرون قيراطا ومنها اثنا عشر ومنها عشرة فلمّا احتيج إلى تقديره في الزّكاة أخذ الوسط وذلك اثنا عشر قيراطا فكان المثقال درهما وثلاثة أسباع درهم وقيل كان منها البغليّ بثمانية دوانق والطّبريّ أربعة دوانق والمغربيّ ثمانية دوانق واليمنيّ ستّة دوانق فأمر عمر أن ينظر الأغلب في التّعامل فكان البغليّ والطّبريّ اثني عشر دانقا وكان الدّرهم ستّة دوانق وإن زدت ثلاثة أسباعه كان مثقالا وإذا أنقصت ثلاثة أعشار المثقال كان درهما فلمّا رأى عبد الملك اتّخاذ السّكّة لصيانة النّقدين الجاريين في معاملة المسلمين من الغشّ عيّن مقدارها على هذا الّذي استقرّ لعهد عمر رضي الله عنه. واتّخذ فيه كلمات لا صورا، لأنّ العرب كان الكلام والبلاغة أقرب مناحيهم وأظهرها مع أنّ الشّرع ينهى عن الصّور فلمّا فعل ذلك استمرّ بين النّاس في أيّام الملّة كلّها وكان الدّينار والدّرهم على شكلين مدوّرين والكتابة عليهما في دوائر متوازية يكتب فيها من أحد الوجهين أسماء الله تهليلا وتحميدا وصلاة على النّبيّ وآله. وفي الوجه الثّاني التّاريخ واسم الخليفة وهكذا أيّام العبّاسيّين والعبيديّين والأمويّين وأمّا صنهاجة فلم يتّخذوا سكّة إلّا آخر الأمر اتّخذها منصور صاحب بجاية ذكر ذلك ابن حماد في تاريخه ولمّا جاءت دولة الموحّدين كان ممّا سنّ لهم المهديّ اتّخاذ سكّة الدّرهم مربّع الشّكل وأن يرسم في دائرة الدّينار شكل مربّع في وسطه ويملأ من أحد الجانبين تهليلا وتحميدا ومن الجانب الآخر كتبا في السّطور باسمه واسم الخلفاء من بعده ففعل ذلك الموحّدون وكانت سكّتهم على هذا الشّكل لهذا العهد ولقد كان المهديّ فيما ينقل ينعت قبل ظهوره بصاحب الدّرهم المربّع نعته بذلك المتكلّمون بالحدثان من قبله المخبرون في ملاحمهم عن دولته وأمّا أهل المشرق لهذا العهد فسكّتهم غير مقدّرة وإنّما يتعاملون بالدّنانير والدّراهم وزنا بالصّنجات المقدّرة بعدّة منها ولا يطبعون عليها بالسّكّة نقوش الكلمات بالتّهليل والصّلاة واسم السّلطان كما يفعله أهل المغرب «ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ 6: 96» . ولنختم الكلام في السّكّة بذكر حقيقة الدّرهم والدّينار الشّرعيّين وبيان حقيقة مقدارهما.
مقدار الدرهم والدينار الشرعيين
وذلك أنّ الدّينار والدّرهم مختلفا السّكّة في المقدار والموازين بالآفاقوالأمصار وسائر الأعمال والشّرع قد تعرّض لذكرهما وعلّق كثيرا من الأحكام بهما في الزّكاة والأنكحة والحدود وغيرها فلا بدّ لهما عنده من حقيقة ومقدار معيّن في تقدير تجري عليهما أحكامه دون غير الشّرعيّ منهما فاعلم أنّ الإجماع منعقد منذ صدر الإسلام وعهد الصّحابة والتّابعين أنّ الدّرهم الشّرعيّ هو الّذي تزن العشرة منه سبعة مثاقيل من الذّهب والأوقيّة منه أربعين درهما وهو على هذا سبعة أعشار الدّينار ووزن المثقال من الذّهب اثنتان وسبعون حبّة من الشّعير فالدّرهم الّذي هو سبعة أعشاره خمسون حبّة وخمسا حبّة وهذه المقادير كلّها ثابتة بالإجماع فإنّ الدّرهم الجاهليّ كان بينهم على أنواع أجودها الطّبريّ وهو أربعة دوانق والبغليّ وهو ثمانية دوانق فجعلوا الشّرعيّ بينهما وهو ستّة دوانق فكانوا يوجبون الزّكاة في مائة درهم بغليّة ومائة طبريّة خمسة دراهم وسطا وقد اختلف النّاس هل كان ذلك من وضع عبد الملك أو إجماع النّاس بعد عليه كما ذكرناه. ذكر ذلك الخطام في كتاب معالم السّنن والماورديّ في الأحكام السّلطانيّة وأنكره المحقّقون من المتأخّرين لما يلزم عليه أن يكون الدّينار والدّرهم الشّرعيّان مجهولين في عهد الصّحابة ومن بعدهم مع تعلّق الحقوق الشّرعيّة بهما في الزّكاة والأنكحة والحدود وغيرها كما ذكرناه والحقّ أنّهما كانا معلومي المقدار في ذلك العصر لجريان الأحكام يومئذ بما يتعلّق بهما من الحقوق وكان مقدارهما غير مستخصّ في الخارج وإنّما كان متعارفا بينهم بالحكم الشّرعيّ على المقدار في مقدارهما وزنتهما حتّى استفحل الإسلام وعظمت الدّولة ودعت الحال إلى تشخيصهما في المقدار والوزن كما هو عند الشّرع ليستريحوا من كلفة التّقدير وقارن ذلك أيّام عبد الملك 149 فشخّص مقدارهما وعيّنهما في الخارج كما هو في الذّهن ونقش عليهما السّكّة باسمه وتأريخه أثر الشّهادتين الإيمانيّتين وطرح النّقود الجاهليّة رأسا حتّى خلصت ونقش عليها سكّة وتلاشى وجودها فهذا هو الحقّ الّذي لا محيد عنه ومن بعد ذلك وقع اختيار أهل السّكّة في الدّول على مخالفة المقدار الشّرعيّ في الدّينار والدّرهم واختلفت في كلّ الأقطار والآفاق ورجع النّاس إلى تصوّر مقاديرهما الشّرعيّة ذهنا كما كان في الصّدر الأوّل وصار أهل كلّ أفق يستخرجون الحقوق الشّرعيّة من سكّتهم بمعرفة النّسبة الّتي بينها وبين مقاديرها الشّرعيّة وأمّا وزن الدّينار باثنتين وسبعين حبّة من الشّعير الوسط فهو الّذي نقله المحقّقون وعليه الإجماع إلّا ابن حزم خالف ذلك وزعم أنّ وزنه أربع وثمانون حبّة. نقل ذلك عنه القاضي عبد الحقّ وردّه المحقّقون وعدّوه وهما وغلطا وهو الصّحيح والله يحقّ الحقّ بكلماته وكذلك تعلم أنّ الأوقيّة الشّرعيّة ليست هي المتعارفة بين النّاس لأنّ المتعارفة مختلفة باختلاف الأقطار والشّرعيّة متّحدة ذهنا لا اختلاف فيها والله خلق كلّ شيء فقدّره تقديرا.
الخاتم
وأمّا الخاتم فهو من الخطط السّلطانيّة والوظائف الملوكيّة والختم على الرّسائل والصّكوك معروف للملوك قبل الإسلام وبعده وقد ثبت في الصّحيحين أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أراد أن يكتب إلى قيصر فقيل له إنّ العجم لا يقبلون كتابا إلّا أن يكون مختوما فاتّخذ خاتما من فضّة ونقش فيه «محمّد رسول الله» قال البخاريّ جعل الثّلاث الكلمات ثلاثة أسطر وختم به وقال لا ينقش أحد مثله قال وتختّم به أبو بكر وعمر وعثمان ثمّ سقط من يد عثمان في بئر أريس وكانت قليلة الماء فلم يدرك قعرها بعد واغتمّ عثمان وتطيّر منه وصنع آخر على مثله وفي كيفيّة نقش الخاتم والختم به وجوه وذلك أنّ الخاتم يطلق على الآلة الّتي تجعل في الإصبع ومنه تختّم إذا لبسه ويطلق على النّهاية والتّمام ومنه ختمت الأمر إذا بلغت آخره وختمت القرآن كذلك ومنه خاتم النّبيّين وخاتم الأمر ويطلق على السّداد الّذي يسدّ به الأواني والدّنان ويقال فيه ختام ومنه قوله تعالى «خِتامُهُ مِسْكٌ 83: 26» وقد غلط من فسّر ذلك بالنّهاية والتّمام قال لأنّ آخر ما يجدونه في شرابهم ريح المسك وليس المعنى عليه وإنّما هو من الختام هو السّداد لأنّ الخمريجعل لها في الدّنّ سداد الطّين أو القار يحفظها ويطيّب عرفها وذوقها فبولغ في وصف خمر الجنّة بأنّ سدادها من المسك وهو أطيب عرفا وذوقا من القار والطّين المعهودين في الدّنيا فإذا صحّ إطلاق الخاتم على هذه كلّها صحّ إطلاقه على أثرها النّاشئ عنها وذلك أنّ الخاتم إذا نقشت به كلمات أو أشكال ثمّ غمس في مداف من الطّين أو مداد ووضع على صفح القرطاس بقي أكثر الكلمات في ذلك الصّفح وكذلك إذا طبع به على جسم ليّن كالشّمع فإنّه يبقى نقش ذلك المكتوب مرتسما فيه وإذا كانت كلمات وارتسمت فقد يقرأ من الجهة اليسرى إذا كان النّقش على الاستقامة من اليمنى وقد يقرأ من الجهة اليمنى إذا كان النّقش من الجهة اليسرى لأنّ الختم يقلب جهة الخطّ في الصّفح عمّا كان في النّقش من يمين أو يسار فيحتمل أن يكون الختم بهذا الخاتم بغمسه في المداد أو الطّين ووضعه في الصّفح فتنتقش الكلمات فيه ويكون هذا من معنى النهاية والتّمام بمعنى صحّة ذلك المكتوب ونفوذه كأنّ الكتاب إنّما يتمّ العمل به بهذه العلامات وهو من دونها ملغى ليس بتمام وقد يكون هذا الختم بالخطّ آخر الكتاب أو أوّله بكلمات منتظمة من تحميد أو تسبيح أو باسم السّلطان أو الأمير أو صاحب الكتاب من كان أو شيء من نعوته يكون ذلك الخطّ علامة على صحّة الكتاب ونفوذه ويسمّى ذلك في المتعارف علامة، ويسمّى ختما تشبيها له بأثر الخاتم الآصفيّ 150 في النّقش ومن هذا خاتم القاضي الّذي يبعث به للخصوم أي علامته وخطّه الّذي ينفّذ بهما أحكامه ومنه خاتم السّلطان أو الخليفة أي علامته. قال الرّشيد ليحيى بن خالد لمّا أراد أن يستوزر جعفرا ويستبدل به من الفضل أخيه فقال لأبيهما يحيى: «يا أبت إني أردت أن أحوّل الخاتم من يميني إلى شمالي» فكنى له بالخاتم عن الوزارة لما كانت العلامة على الرّسائل والصّكوك من وظائف الوزارة لعهدهم ويشهد لصحة هذا الإطلاق ما نقله الطّبريّ أنّ معاوية أرسل إلى الحسن عند مراودته إياه في الصّلح صحيفة بيضاء ختم على أسفلها وكتب إليه أن اشترط في هذه الصّحيفة الّتي ختمت أسفلها ما شئت فهو لك ومعنى الختم هنا علامة في آخر الصّحيفة بخطّه أو غيره ويحتمل أن يختم به في جسم ليّن فتنتقش فيه حروفه ويجعل على موضع الحزم من الكتاب إذا حزم وعلى المودوعات وهو من السّداد كما مرّ وهو في الوجهين آثار الخاتم فيطلق عليه خاتم وأوّل من أطلق الختم على الكتاب أي العلامة معاوية لأنّه أمر لعمر بن الزّبير عند زياد بالكوفة بمائة ألف ففتح الكتاب وصيّر المائة مائتين ورفع زياد حسابه فأنكرها معاوية وطلب بها عمر وحبسه حتّى قضاها عنه أخوه عبد الله واتّخذ معاوية عند ذلك ديوان الخاتم. ذكره الطّبريّ وقال آخرون وحزم الكتب ولم تكن تحزم أي جعل لها السّداد وديوان الختم عبارة عن الكتّاب القائمين على إنفاذ كتب السّلطان والختم عليها إمّا بالعلامة أو بالحزم وقد يطلق الدّيوان على مكان جلوس هؤلاء الكتّاب كما ذكرناه في ديوان الأعمال والحزم للكتب يكون إمّا بدسّ الورق كما في عرف كتّاب المغرب وإمّا بإلصاق رأس الصّحيفة على ما تنطوي عليه من الكتاب كما في عرف أهل المشرق وقد يجعل على مكان الدّسّ أو الإلصاق علامة يؤمن معها من فتحه والاطّلاع على ما فيه فأهل المغرب يجعلون على مكان الدّسّ قطعة من الشّمع ويختمون عليها بخاتم نقشت فيه علامة لذلك فيرتسم النّقش في الشّمع وكان في المشرق في الدّول القديمة يختم على مكان اللّصق بخاتم منقوش أيضا قد غمس في مداف من الطّين معدّ لذلك صبغه أحمر فيرتسم ذلك النّقش عليه وكان هذا الطّين في الدّولة العبّاسيّة يعرف بطين الختم وكان يجلب من سيراف فيظهر أنّه مخصوص بها فهذا الخاتم الّذي هو العلامة المكتوبة أو النّقش للسّداد والحزم للكتب خاصّ بديوان الرّسائل وكان ذلك للوزير في الدّولة العبّاسيّة ثمّ اختلف العرف وصار لمن إليه التّرسيل وديوان الكتّاب في الدّولة ثمّ صاروا في دول المغرب يعدّون من علامات الملك وشاراته الخاتم للإصبع فيستجيدون صوغه من الذّهب ويرصّعونه بالفصوص من الياقوت والفيروزج والزّمرّد ويلبسه السّلطان شارة في عرفهم كما كانت البردة والقضيب في الدّولة العبّاسيّة والمظلّة في الدّولة العبيديّة والله مصرّف الأمور بحكمه.
الطراز
من أبّهة الملك والسّلطان ومذاهب الدّول أن ترسم أسماؤهم أو علامات تختصّ بهم في طراز أثوابهم المعدّة للباسهم من الحرير أو الدّيباج أو الإبريسم تعتبر كتابة خطّها في نسج الثّوب إلحاما وإسداء بخيط الذّهب أو ما يخالف لون الثّوب من الخيوط الملوّنة من غير الذّهب على ما يحكمه الصّنّاع في تقدير ذلك ووضعه في صناعة نسجهم فتصير الثّياب الملوكيّة معلمة بذلك الطّراز قصد التّنويه بلابسها من السّلطان فمن دونه أو التّنويه بمن يختصّه السّلطان بملبوسه إذا قصد تشريفه بذلك أو ولايته لوظيفة من وظائف دولته وكان ملوك العجم من قبل الإسلام يجعلون ذلك الطّراز بصور الملوك وأشكالهم أو أشكال وصور معيّنة لذلك ثمّ اعتاض ملوك الإسلام عن ذلك بكتب أسمائهم مع كلمات أخرى تجري مجرى الفأل أو السّجلّات وكان ذلك في الدّولتين من أبّهة الأمور وأفخم الأحوال وكانت الدّور المعدّة لنسج أثوابهم في قصورهم تسمّى دور الطّراز لذلك وكان القائم على النّظر فيها يسمّى صاحب الطّراز، ينظر في أمور الصّباغ والآلة والحاكة فيها وإجراء أرزاقهم وتسهيل آلاتهم ومشارفة أعمالهم وكانوا يقلّدون ذلك لخواصّ دولتهم وثقات مواليهم وكذلك كان الحال في دولة بني أميّة بالأندلس والطّوائف من بعدهم وفي دولة العبيديّين بمصر ومن كان على عهدهم من ملوك العجم بالمشرق ثمّ لمّا ضاق نطاق الدّول عن التّرف والتّفنّن فيه لضيق نطاقها في الاستيلاء وتعدّدت الدّول تعطّلت هذه الوظيفة والولاية عليها من أكثر الدّول بالجملة ولمّا جاءت دولة الموحّدين بالمغرب بعد بني أميّة أوّل المائة السّادسة لم يأخذوا بذلك أوّل دولتهم لما كانوا عليه من منازع الدّيانة والسّذاجة الّتي لقّنوها عن إمامهم محمّد بن تومرت المهديّ وكانوا يتورّعون عن لباس الحرير والذّهب فسقطت هذه الوظيفة من دولتهم واستدرك منها أعقابهم آخر الدّولة طرفا لم يكن بتلك النّباهة وأمّا لهذا العهد، فأدركنا بالمغرب في الدّولة المرينيّة لعنفوانها وشموخها رسما جليلا لقّنوه من دولة ابن الأحمر معاصرهم بالأندلس واتّبع هو في ذلك ملوك الطّوائف فأتى منه بلمحة شاهدة بالأثر. وأمّا دولة التّرك بمصر والشّام لهذا العهد ففيها من الطّراز تحرير آخر على مقدار ملكهم وعمران بلادهم إلّا أنّ ذلك لا يصنع في دورهم وقصورهم وليست من وظائف دولتهم وإنّما ينسج ما تطلبه الدّولة من ذلك عند صنّاعه من الحرير ومن الذّهب الخالص ويسمّونه المزركش لفظة أعجميّة ويرسم اسم السّلطان أو الأمير عليه ويعدّه الصّنّاع لهم فيما يعدّونه للدّولة من طرف الصّناعة اللّائقة بها «وَالله مُقَدِّرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالله خَيْرُ الْوَارِثِينَ» .
الفساطيط والسياج
اعلم أنّ من شارات الملك وترفه اتّخاذ الأخبية والفساطيط والفازات 151 من ثياب الكتّان والصّوف والقطن فيباهي بها في الأسفار وتنوّع منها الألوان ما بين كبير وصغير على نسبة الدّولة في الثّروة واليسار وإنّما يكون الأمر في أوّل الدّولة في بيوتهم الّتي جرت عادتهم باتّخاذها قبل الملك وكان العرب لعهد الخلفاء الأوّلين من بني أميّة إنّما يسكنون بيوتهم الّتي كانت لهم خياما من الوبر والصّوف ولم تزل العرب لذلك العهد بادين 152 إلّا الأقلّ منهم فكانت أسفارهم لغزواتهم وحروبهم بظعونهم وسائر حللهم وأحيائهم من الأهل والولد كما هو شأن العرب لهذا العهد وكانت عساكرهم لذلك كثيرة الحلل بعيدة ما بين المنازل متفرّقة الأحياء يغيب كلّ واحد منها عن نظر صاحبه من الأخرى كشأن العرب ولذلك ما كان عبد الملك يحتاج إلى ساقة تحشد النّاس على أثره وأن يقيموا إذا ظعن.
ونقل أنّه استعمل في ذلك الحجّاج حين أشار به روح بن زنباع وقصّتهما في إحراق فساطيط روح وخيامه لأوّل ولايته حين وجدهم مقيمين في يوم رحيل عبد الملك قصّة مشهورة. ومن هذه الولاية تعرف رتبة الحجّاج بين العرب فإنّه لا يتولّى إرادتهم على الظّعن إلّا من يأمن بوادر السّفهاء من أحيائهم بما له من العصبيّة الحائلة دون ذلك ولذلك اختصّه عبد الملك بهذه الرّتبة ثقة بغنائه فيها بعصبيّته وصرامته فلمّا تفنّنت الدّولة العربيّة في مذاهب الحضارة والبذخ ونزلوا المدن والأمصار وانتقلوا من سكنى الخيام إلى سكنى القصور ومن ظهر الخفّ إلى ظهر الحافر اتّخذوا للسّكنى في أسفارهم ثياب الكتّان يستعملون منها بيوتا مختلفة الأشكال مقدّرة الأمثال من القوراء 153 والمستطيلة والمربّعة ويحتفلون فيها بأبلغ مذاهب الاحتفال والزّينة ويدير الأمير والقائد للعساكر على فساطيطه وفازاته من بينهم سياجا من الكتّان يسمّى في المغرب بلسان البربر الّذي هو لسان أهله أفراك بالكاف والقاف ويختصّ به السّلطان بذلك القطر لا يكون لغيره. وأمّا في المشرق فيتّخذه كلّ أمير وإن كان دون السّلطان ثمّ جنحت الدّعة بالنّساء والولدان إلى المقام بقصورهم ومنازلهم فخفّ لذلك ظهرهم وتقاربت السّياج بين منازل العسكر واجتمع الجيش والسّلطان في معسكر واحد يحصره البصر في بسيطة زهوا أنيقا لاختلاف ألوانه واستمرّ الحال على ذلك في مذاهب الدّول في بذخها وترفها. وكذا كانت دولة الموحّدين وزناتة الّتي أظلّتنا كان سفرهم أوّل أمرهم في بيوت سكناهم قبل الملك من الخيام والقياطين 154 حتّى إذا أخذت الدّولة في مذاهب التّرف وسكنى القصور وعادوا إلى سكنى الأخبية والفساطيط بلغوا من ذلك فوق ما أرادوه وهو من التّرف بمكان إلّا أنّ العساكر به تصير عرضة للبيات لاجتماعهم في مكان واحد تشملهم فيه الصّيحة ولخفّتهم من الأهل والولد الّذين تكون الاستماتة دونهم فيحتاج في ذلك إلى تحفّظ آخر والله القويّ العزيز.
المقصورة للصلاة والدعاء في الخطبة
وهما من الأمور الخلافيّة ومن شارات الملك الإسلاميّ ولم يعرف في غير دول الإسلام. فأمّا البيت المقصورة من المسجد لصلاة السّلطان فيتّخذ سياجا على المحراب فيحوزه وما يليه فأوّل من اتّخذها معاويّة بن أبي سفيان حين طعنه الخارجيّ والقصّة معروفة وقيل أوّل من اتّخذها مروان بن الحكم حين طعنه اليمانيّ ثمّ اتّخذها الخلفاء من بعدهما وصارت سنّة في تمييز السّلطان عن النّاس في الصّلاة وهي إنّما تحدث عند حصول التّرف في الدّول والاستفحال شأن أحوال الأبّهة كلّها وما زال الشّأن ذلك في الدّول الإسلاميّة كلّها وعند افتراق الدّولة العبّاسيّة وتعدّد الدّول بالمشرق وكذا بالأندلس عند انقراض الدّولة الأمويّة وتعدّد ملوك الطّوائف وأمّا المغرب فكان بنو الأغلب يتّخذونها بالقيروان ثمّ الخلفاء العبيديّون ثمّ ولاتهم على المغرب من صنهاجة بنو باديس بفاس وبنو حماد بالقلعة ثمّ ملك الموحّدين سائر المغرب والأندلس ومحوا ذلك الرّسم على طريقة البداوة الّتي كانت شعارهم ولمّا استفحلت الدّولة وأخذت بحظّها من التّرف وجاء أبو يعقوب المنصور ثالث ملوكهم فاتّخذ هذه المقصورة وبقيت من بعده سنّة لملوك المغرب والأندلس وهكذا كان الشّأن في سائر الدّول سنّة الله في عباده. وأمّا الدّعاء على المنابر في الخطبة فكان الشّأن أوّلا عند الخلفاء ولاية الصّلاة بأنفسهم فكانوا يدعون لذلك بعد الصّلاة على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم والرّضى عن أصحابه وأوّل من اتّخذ المنبر عمرو بن العاص لمّا بنى جامعه بمصر وأوّل من دعا للخليفة على المنبر ابن عبّاس دعا لعليّ رضي الله عنهما في خطبته وهو بالبصرة عامل له عليها فقال اللَّهمّ انصر عليّا على الحقّ واتّصل العمل على ذلك فيما بعد وبعد أخذعمرو بن العاص المنبر بلغ عمر بن الخطّاب ذلك فكتب إليه عمر بن الخطّاب أمّا بعد فقد بلغني أنّك اتّخذت منبرا ترقى به على رقاب المسلمين أو ما يكفيك أن تكون قائما والمسلمون تحت عقبيك فعزمت عليك إلّا ما كسرته فلمّا حدثت الأبّهة وحدث في الخلفاء المانع من الخطبة والصّلاة استنابوا فيهما فكان الخطيب يشيد بذكر الخليفة على المنبر تنويها باسمه ودعاء له بما جعل الله مصلحة العالم فيه ولأنّ تلك السّاعة مظنّة للإجابة ولما ثبت عن السّلف في قولهم من كانت له دعوة صالحة فليضعها في السّلطان وكان الخليفة يفرد بذلك فلمّا جاء الحجر والاستبداد صار المتغلّبون على الدّول كثيرا ما يشاركون الخليفة في ذلك ويشاد باسمهم عقب اسمه وذهب ذلك بذهاب تلك الدّول وصار الأمر إلى اختصاص السّلطان بالدّعاء له على المنبر دون من سواه وحظر أن يشاركه فيه أحد أو يسمو إليه وكثيرا ما يغفل المعاهدون من أهل الدّول هذا الرّسم عند ما تكون الدّولة في أسلوب الغضاضة ومناحي البداوة في التّغافل والخشونة ويقنعون بالدّعاء على الإبهام والإجمال لمن ولي أمور المسلمين ويسمّون مثل هذه الخطبة إذا كانت على هذا المنحى عبّاسيّة يعنون بذلك أنّ الدّعاء على الإجمال إنّما يتناول العبّاسيّ تقليدا في ذلك لما سلف من الأمر ولا يحفلون بما وراء ذلك من تعيينه والتّصريح باسمه يحكى أنّ يغمراسن بن زيّان عاهد دولة بني عبد الوادّ لمّا غلبه الأمير أبو زكريّا يحيى بن أبي حفص على تلمسان ثمّ بدا له في إعادة الأمر إليه على شروط شرطها كان فيها ذكر اسمه على منابر عمله فقال يغمراسن تلك أعوادهم يذكرون عليها من شاءوا وكذلك يعقوب بن عبد الحقّ عاهد دولة بني مرين حضره رسول المنتصر الخليفة بتونس من بني أبي حفص وثالث ملوكهم وتخلّف بعض أيّامه عن شهود الجمعة فقيل له لم يحضر هذا الرّسول كراهية لخلوّ الخطبة من ذكر سلطانه فأذن في الدّعاء له وكان ذلك سببا لأخذهم بدعوته وهكذا شأن الدّول في بدايتها وتمكّنها في الغضاضة والبداوة فإذا انتبهت عيون سياستهم ونظروا في أعطاف ملكهم واستتمّوا شيات 155 الحضارة ومفاني البذخ والأبّهة انتحلوا جميع هذه السّمات وتفنّنوا فيها وتجاروا إلى غايتها وأنفوا من المشاركة فيها وجزعوا من افتقادها وخلوّ دولتهم من آثارها والعالم بستان والله على كلّ شيء رقيب.
الفصل السابع والثلاثون في الحروب ومذاهب الأمم وترتيبها
اعلم أنّ الحروب وأنواع المقاتلة لم تزل واقعة في الخليفة منذ براها الله وأصلها إرادة انتقام بعض البشر من بعض ويتعصّب لكلّ منها أهل عصبيّته فإذا تذامروا لذلك وتوافقت الطّائفتان إحداهما تطلب الانتقام والأخرى تدافع كانت الحرب وهو أمر طبيعيّ في البشر لا تخلو عنه أمّة ولا جيل وسبب هذا الانتقام في الأكثر إمّا غيرة ومنافسة. وإمّا عدوان وإمّا غضب للَّه ولدينه وإمّا غضب للملك وسعي في تمهيده فالأوّل أكثر ما يجري بين القبائل المتجاورة والعشائر المتناظرة والثّاني وهو العدوان أكثر ما يكون من الأمم الوحشيّة السّاكنين بالقفر كالعرب والتّرك والتّركمان والأكراد وأشباههم لأنّهم جعلوا أرزاقهم في رماحهم ومعاشهم فيما بأيدي غيرهم ومن دافعهم عن متاعه آذنوه بالحرب ولا بغية لهم فيما وراء ذلك من رتبة ولا ملك وإنّما همّهم ونصب أعينهم غلب النّاس على ما في أيديهم والثّالث هو المسمّى في الشّريعة بالجهاد والرّابع هو حروب الدّول مع الخارجين عليها والمانعين لطاعتها فهذه أربعة أصناف من الحروب الصّنفان الأوّلان منها حروب بغي وفتنة والصّنفان الأخيران حروب جهاد وعدل وصفة الحروب الواقعة بين أهل الخليقة منذ أوّل وجودهم على نوعين نوع بالزّحف صفوفا ونوع بالكرّ والفرّ أمّا الّذي بالزّحف فهو قتال العجم كلّهم على تعاقب أجيالهم وأمّا الّذي بالكرّ والفرّ فهو قتال العرب والبربر من أهل المغرب وقتال الزّحف أوثق وأشدّ من قتال الكرّ والفرّ وذلك لأنّ قتال الزّحف ترتّب فيه الصّفوف وتسوّى كما تسوّى القداح أو صفوف الصّلاة ويمشون بصفوفهم إلى العدوّ قدما، فلذلك تكون أثبت عند المصارع وأصدق في القتال وأرهب للعدوّ. لأنّه كالحائط الممتدّ والقصر المشيد لا يطمع في إزالته وفي التّنزيل «إِنَّ الله يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ في سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ 61: 4» أي يشدّ بعضهم بعضا بالثّبات وفي الحديث الكريم «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضا» ومن هنا يظهر لك حكمة إيجاب الثّبات وتحريم التّولّي في الزّحف فإنّ المقصود من الصّفّ في القتال حفظ النّظام كما قلناه فمن ولّى العدوّ ظهره فقد أخلّ بالمصافّ وباء بإثم الهزيمة إن وقعت وصار كأنّه جرّها على المسلمين وأمكن منهم عدوّهم فعظم الذّنب لعموم المفسدة وتعدّيها إلى الدّين بخرق سياجه فعدّ من الكبائر ويظهر من هذه الأدلّة أنّ قتال الزّحف أشدّ عند الشّارع وأمّا قتال الكرّ والفرّ فليس فيه من الشّدّة والأمن من الهزيمة ما في قتال الزّحف إلّا أنّهم قد يتّخذون وراءهم في القتال مصافّا ثابتا يلجئون إليه في الكرّ والفرّ ويقوم لهم مقام قتال الزّحف كما نذكره بعد. ثمّ إنّ الدّول القديمة الكثيرة الجنود المتّسعة الممالك كانوا يقسمون الجيوش والعساكر أقساما يسمّونها كراديس ويسوّون في كلّ كردوس صفوفه وسبب ذلك أنّه لمّا كثرت جنودهم الكثرة البالغة وحشدوا من قاصية النّواحي استدعى ذلك أن يجهل بعضهم بعضا إذا اختلطوا في مجال الحرب واعتوروا مع عدوّهم الطّعن والضّرب فيخشى من تدافعهم فيما بينهم لأجل النّكراء 156 وجهل بعضهم ببعض فلذلك كانوا يقسمون العساكر جموعا ويضمّون المتعارفين بعضهم لبعض ويرتّبونها قريبا من التّرتيب الطّبيعيّ في الجهات الأربع ورئيس العساكر كلّها من سلطان أو قائد في القلب ويسمّون هذا التّرتيب التّعبئة وهو مذكور في أخبار فارس والرّوم والدّولتين وصدر الإسلام فيجعلون بين يدي الملك عسكرا منفردا بصفوفه متميزا بقائده ورايته وشعاره ويسمّونه المقدّمة ثمّ عسكرا آخر ناحية اليمين عن موقف الملك وعلى سمته يسمّونه الميمنة ثمّ عسكرا آخر من ناحية الشّمال كذلك يسمّونه الميسرة ثمّ عسكرا آخر من وراء العسكر يسمّونه السّاقة ويقف الملك وأصحابه في الوسط بين هذه الأربع ويسمّون موقفه القلب فإذا تمّ لهم هذا التّرتيب المحكم إمّا في مدى واحد للبصر أو على مسافة بعيدة أكثرها اليوم واليومان بين كلّ عسكرين منها أو كيفما أعطاه حال العساكر في القلّة والكثرة فحينئذ يكون الزّحف من بعد هذه التّعبئة وانظر ذلك في أخبار الفتوحات وأخبار الدّولتين بالمشرق وكيف كانت العساكر لعهد عبد الملك تتخلّف عن رحيله لبعد المدى في التّعبئة فاحتيج لمن يسوقها من خلفه وعيّن لذلك الحجّاج بن يوسف كما أشرنا إليه وكما هو معروف في أخباره وكان في الدّولة الأمويّة بالأندلس أيضا كثير منه وهو مجهول فيما لدينا لأنّا إنّما أدركنا دولا قليلة العساكر لا تنتهي في مجال الحرب إلى التناكر بل أكثر الجيوش من الطّائفتين معا يجمعهم لدينا حلّة 157 أو مدينة ويعرف كلّ واحد منهم قرنه ويناديه في حومة الحرب باسمه ولقبه فاستغنى عن تلك التّعبئة. ومن مذاهب أهل الكرّ والفرّ في الحروب ضرب المصافّ وراء عسكرهم من الجمادات والحيوانات العجم فيتّخذونها ملجأ للخيّالة في كرّهم وفرّهم يطلبون به ثبات المقاتلة ليكون أدوم للحرب وأقرب إلى الغلب وقد يفعله أهل الزّحف أيضا ليزيدهم ثباتا وشدّة فقد كان الفرس وهم أهل الزّحف يتّخذون الفيلة في الحروب ويحمّلون عليها أبراجا من الخشب أمثال الصّروح مشحونة بالمقاتلة والسّلاح والرّايات ويصفّونها وراءهم في حومة الحرب كأنّها حصون فتقوى بذلك نفوسهم ويزداد وثوقهم وانظر ما وقع من ذلك في القادسيّة وإنّ فارس في اليوم الثّالث اشتدّوا بهم على المسلمين حتّى اشتدّت رجالات من العرب فخالطوهم وبعجوها بالسّيوف على خراطيمها فنفرت ونكصت 158 على أعقابها إلى مرابطها بالمدائن فجفا معسكر فارس لذلك وانهزموا في اليوم الرّابع. وأمّا الرّوم وملوك القوط بالأندلس وأكثر العجم فكانوا يتّخذون لذلك الأسرّة ينصبون للملك سريره في حومة الحرب ويحفّ به من خدمه وحاشيته وجنوده من هو زعيم بالاستماتة دونه وترفع الرّايات في أركان السّرير ويحدق به سياج آخر من الرّماة والرّجّالة فيعظم هيكل السّرير ويصير فئة للمقاتلة وملجأ للكرّ والفرّ وجعل ذلك الفرس أيّام القادسيّة وكان رستم 159 جالسا على سرير نصبه لجلوسه حتّى اختلفت صفوف فارس وخالطه العرب في سريره ذلك فتحوّل عنه إلى الفرات وقتل. وأمّا أهل الكرّ والفرّ من العرب وأكثر الأمم البدويّة الرّحّالة فيصفّون لذلك إبلهم والظهر الّذي يحمل ظعائنهم فيكون فئة لهم ويسمّونها المجبوذة وليس أمّة من الأمم إلّا وهي تفعل في حروبها وتراه أوثق في الجولة وآمن من الغرّة والهزيمة وهو أمر مشاهد وقد أغفلته الدّول لعهدنا بالجملة واعتاضوا عنه بالظّهر الحامل للأثقال والفساطيط يجعلونها ساقة من خلفهم ولا تغني غناء الفيلة والإبل فصارت العساكر بذلك عرضة للهزائم ومستشعرة للفرار في المواقف. وكان الحرب أوّل الإسلام كلّه زحفا وكان العرب إنّما يعرفون الكرّ والفرّ لكن حملهم على ذلك أوّل الإسلام أمران أحدهما أنّ أعداءهم كانوا يقاتلون زحفا فيضطرّون إلى مقاتلتهم بمثل قتالهم. والثّاني أنّهم كانوا مستميتين في جهادهم لما رغبوا فيه من الصّبر، ولما رسخ فيهم من الإيمان والزّحف إلى الاستماتة أقرب. وأوّل من أبطل الصّفّ في الحروب وصار إلى التّعبئة كراديس مروان بن الحكم في قتال الضّحّاك الخارجيّ والجبيريّ بعده قال الطّبريّ لمّا ذكر قتال الجبيريّ «فولّى الخوارج عليهم شيبان بن عبد العزيز اليشكريّ ويلقّب أبا الذّلفاء قاتلهم مروان بعد ذلك بالكراديس وأبطل الصّفّ من يومئذ» انتهى. فتنوسي قتال الزّحف بإبطال الصّفّ ثمّ تنوسي الصّفّ وراء المقاتلة بما داخل الدّول من التّرف وذلك أنّها حينما كانت بدويّة وسكناهم الخيام كانوا يستكثرون من الإبل وسكنى النّساء والولدان معهم في الأحياء فلمّا حصلوا على ترف الملك وألفوا سكنى القصور والحواضر وتركوا شأن البادية والقفر نسوا لذلك عهد الإبل والظّعائن وصعب عليهم اتّخاذها فخلّفوا النّساء في الأسفار وحملهم الملك والتّرف على اتّخاذ الفساطيط والأخبيّة فاقتصروا على الظّهر الحامل للأثقال 160 والأبنية وكان ذلك صفتهم في الحرب ولا يغني كلّ الغناء لأنّه لا يدعو إلى الاستماتة كما يدعو إليها الأهل والمال فيخفّ الصّبر من أجل ذلك وتصرفهم الهيعات 161 وتخرّم صفوفهم. ولما ذكرناه من ضرب المصافّ وراء العساكر وتأكّده في قتال الكرّ والفرّ صار ملوك المغرب يتّخذون طائفة من الإفرنج في جندهم واختصّوا بذلك لأنّ قتال أهل وطنهم كلّه بالكرّ والفرّ والسّلطان يتأكّد في حقّه ضرب المصافّ ليكون ردءا للمقاتلة أمامه فلا بدّ من أن يكون أهل ذلك الصّفّ من قوم متعوّدين للثّبات في الزّحف وإلّا أجفلوا على طريقة أهل الكرّ والفرّ فانهزم السّلطان والعساكر بإجفالهم فاحتاج الملوك بالمغرب أن يتّخذوا جندا من هذه الأمّة المتعوّدة الثّبات في الزّحف وهم الإفرنج ويرتّبون مصافّهم المحدق بهم منها هذا على ما فيه من الاستعانة بأهل الكفر. وإنّهم استخفّوا ذلك للضّرورة الّتي أريناكها من تخوّف الإجفال على مصافّ السّلطان والإفرنج لا يعرفون غير الثّبات في ذلك لأنّ عادتهم في القتال الزّحف فكانوا أقوم بذلك من غيرهم مع أنّ الملوك في المغرب إنّما يفعلون ذلك عند الحرب مع أمم العرب والبربر وقتالهم على الطّاعة وأمّا في الجهاد فلا يستعينون بهم حذرا من ممالأتهم على المسلمين هذا هو الواقع لهذا العهد وقد أبدينا سببه والله بكلّ شيء عليم. وبلغنا أنّ أمم التّرك لهذا العهد قتالهم مناضلة بالسّهام وأنّ تعبئة الحرب عندهم بالمصافّ وأنّهم يقسمون بثلاثة صفوف يضربون صفّا وراء صفّ ويترجّلون عن خيولهم ويفرّغون سهامهم بين أيديهم ثمّ يتناضلون جلوسا وكلّ صف ردء للّذي أمامه أن يكبسهم العدوّ إلى أن يتهيّأ النّصر لإحدى الطّائفتين على الأخرى وهي تعبئة محكمة غريبة. وكان من مذاهب الأوّل في حروبهم حفر الخنادق على معسكرهم عند ما يتقاربون للزّحف حذرا من معرّة البيات والهجوم على العسكر باللّيل لما في ظلمته ووحشته من مضاعفة الخوف فيلوذ الجيش بالفرار وتجد النّفوس في الظّلمة سترا من عاره فإذا تساووا في ذلك أرجف العسكر ووقعت الهزيمة فكانوا لذلك يحتفرون الخنادق على معسكرهم إذا نزلوا وضربوا أبنيتهم 162 ويديرون الحفائر نطاقا عليهم من جميع جهاتهم حرصا أن يخالطهم العدوّ بالبيات فيتخاذلوا. وكانت للدّول في أمثال هذا قوّة وعليه اقتدار باحتشاد الرّجال وجمع الأيدي عليه في كلّ منزل من منازلهم بما كانوا عليه من وفور العمران وضخامة الملك فلمّا خرب العمران وتبعه ضعف الدّول وقلّة الجنود وعدم الفعلة نسي هذا الشّأن جملة كأنّه لم يكن والله خير القادرين. وانظر وصيّة علي رضي الله عنه وتحريضه لأصحابه يوم صفّين تجد كثيرا من علم الحرب ولم يكن أحد أبصر بها منه قال في كلام له: «فسوّوا صفوفكم كالبنيان المرصوص وقدّموا الدّارع وأخّروا الحاسر وعضّوا على الأضراس فإنّه أنبى للسّيوف عن الهام والتووا على أطراف الرّماح فإنّه أصون للأسنّة وغضّوا الأبصار فإنّه أربط للجأش وأسكن للقلوب واخفتوا الأصوات فإنّه أطرد للفشل وأولى بالوقار وأقيموا راياتكم فلا تميلوها ولا تجعلوها إلّا بأيدي شجعانكم واستعينوا بالصّدق والصّبر فإنّه بقدر الصّبر ينزل النّصر» وقال الأشتر يومئذ يحرّض الأزد: «عضّوا على النّواجذ من الأضراس واستقبلوا القوم بهامكم وشدّوا شدّة قوم موتورين يثأرون بآبائهم وإخوانهم حناقا على عدوّهم وقد وطّنوا على الموت أنفسهم لئلّا يسبقوا بوتر ولا يلحقهم في الدّنيا عار» وقد أشار إلى كثير من ذلك أبو بكر الصّيرفيّ شاعر لمتونة وأهل الأندلس في كلمة يمدح بها تاشفين بن عليّ بن يوسف ويصف ثباته في حرب شهدها ويذكّره بأمور الحرب في وصايا تحذيرات تنبّهك على معرفة كثير من سياسة الحرب يقول فيها. يا أيّها الملأ الّذي يتقنّع ... من منكم الملك الهمام الأروع ومن الّذي غدر العدوّ به دجى ... فانفضّ كلّ وهو لا يتزعزع تمضي الفوارس والطّعان يصدّها ... عنه ويدمرها الوفاء فترجع واللّيل من وضح التّرائك إنّه ... صبح على هام الجيوش يلمّع أنّى فزعتم يا بني صنهاجة ... وإليكم في الرّوع كان المفزع إنسان عين لم يصبها منكم ... حضن وقلب أسلمته الأضلع وصددتم عن تاشفين وإنّه ... لعقابه لو شاء فيكم موضع ما أنتم إلّا أسود خفيّة ... كلّ لكلّ كريهة مستطلع يا تاشفين أقم لجيشك عذره ... باللّيل والعذر الّذي لا يدفع ومنها في سياسة الحرب أهديك من أدب السّياسة ما به ... كانت ملوك الفرس قبلك تولع لا إنّني أدري بها لكنّها ... ذكرى تحضّ المؤمنين وتنفع والبس من الحلق المضاعفة الّتي ... وصّى بها صنع الصّنائع تبّع والهندوانيّ الرّقيق فإنّه ... أمضى على حدّ الدّلاص وأقطع واركب من الخيل السّوابق عدّة ... حصنا حصينا ليس فيه مدفع خندق عليك إذا ضربت محلّة ... سيّان تتبع ظافرا أو تتبع والواد لا تعبره وانزل عنده ... بين العدوّ وبين جيشك يقطعواجعل مناجزة الجيوش عشيّة ... ووراءك الصّدق الّذي هو أمنع وإذا تضايقت الجيوش بمعرك ... ضنك فأطراف الرّماح توسّع واصدمه أوّل وهلة لا تكترث ... شيئا فإظهار النّكول يضعضع واجعل من الطّلّاع أهل شهامة ... للصّدق فيهم شيمة لا تخدع لا تسمع الكذّاب جاءك مرجفا ... لا رأي للكذّاب فيما يصنع قوله واصدمه أوّل وهلة لا تكترث البيت مخالف لما عليه النّاس في أمر الحرب فقد قال عمر لأبي عبيد بن مسعود الثّقفيّ لمّا ولّاه حرب فارس والعراق فقال له اسمع وأطع من أصحاب النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأشركهم في الأمر ولا تجيبنّ مسرعا حتّى تتبيّن فإنّها الحرب ولا يصلح لها الرّجل المكيث 163 الّذي يعرف الفرصة والكفّ وقال له في أخرى: «إنّه لن يمنعني أن أؤمر سليطا إلّا سرعته في الحرب وفي التّسرّع في الحرب إلّا عن بيان ضياع والله لولا ذلك لأمرته لكنّ الحرب لا يصلحها إلّا الرّجل المكيث» هذا كلام عمر وهو شاهد بأنّ التّثاقل في الحرب أولى من الخفوف حتّى يتبيّن حال تلك الحرب وذلك عكس ما قاله الصّيرفيّ إلّا أن يريد أنّ الصّدم بعد البيان 164 فله وجه والله تعالى أعلم. ولا وثوق في الحرب بالظّفر وإن حصلت أسبابه من العدّة والعديد وإنّما الظّفر فيها والغلب من قبيل البحث والاتّفاق وبيان ذلك أنّ أسباب الغلب في الأكثر مجتمعة من أمور ظاهرة وهي الجيوش ووفورها وكمال الأسلحة واستجادتها وكثرة الشّجعان وترتيب المصافّ ومنه صدق القتال وما جرى مجرى ذلك ومن أمور خفيّة وهي إمّا من خداع البشر وحيلهم في الإرجاف والتّشانيع الّتي يقع بها التّخذيل وفي التّقدّم إلى الأماكن المرتفعة ليكون الحرب من أعلى فيتوهّم المنخفض لذلك وفي الكمون في الغياض ومطمئنّ الأرض والتّواري بالكدى 165 حول العدوّ حتّى يتداولهم العسكر دفعة وقد تورّطوا فيتلفّتون إلى النّجاة وأمثال ذلك وإمّا أن تكون تلك الأسباب الخفيّة أمورا سماويّة لا قدرة للبشر على اكتسابها تلقى في القلوب فيستولي الرّهب عليهم لأجلها فتختلّ مراكزهم فتقع الهزيمة وأكثر ما تقع الهزائم عن هذه الأسباب الخفيّة لكثرة ما يعتمل لكلّ واحد من الفريقين فيها حرصا على الغلب فلا بدّ من وقوع التّأثير في ذلك لأحدهما ضرورة ولذلك قال صلّى الله عليه وسلّم «الحرب خدعة» ومن أمثال العرب «ربّ حيلة أنفع من قبيلة» فقد تبيّن أنّ وقوع الغلب في الحروب غالبا عن أسباب خفيّة غير ظاهرة ووقوع الأشياء عن الأسباب الخفيّة هو معنى البخت كما تقرّر في موضعه فاعتبره وتفهّم من وقوع الغلب عن الأمور السّماويّة كما شرحناه معنى قوله صلّى الله عليه وسلّم «نصرت بالرّعب مسيرة شهر» وما وقع من غلبه للمشركين في حياته بالعدد القليل وغلب المسلمين من بعده كذلك في الفتوحات فإنّ الله سبحانه وتعالى تكفّل لنبيّه بإلقاء الرّعب في قلوب الكافرين حتّى يستولي على قلوبهم فينهزموا معجزة لرسوله صلّى الله عليه وسلّم فكان الرّعب في قلوبهم سببا للهزائم في الفتوحات الإسلاميّة كلّها أنّه خفيّ عن العيون. وقد ذكر الطّرطوشيّ: أنّ من أسباب الغلب في الحرب أن تفضّل عدّة الفرسان المشاهير من الشّجعان في أحد الجانبين على عدّتهم في الجانب الآخر مثل أن يكون أحد الجانبين فيه عشرة أو عشرون من الشّجعان المشاهير وفي الجانب الآخر ثمانيّة أو ستّة عشر فالجانب الزّائد ولو بواحد يكون له الغلب وأعاد في ذلك وأبدى وهو راجع إلى الأسباب الظّاهرة الّتي قدّمنا وليس بصحيح. وإنّما الصّحيح المعتبر في الغلب حال العصبيّة أن يكون في أحد الجانبين عصبيّة واحدة جامعة لكلّهم وفي الجانب الآخر عصائب متعدّدة لأنّ العصائب إذا كانت متعدّدة يقع بينها من التّخاذل ما يقع في الوحدان المتفرّقين الفاقدين للعصبيّة تنزّل كلّ عصابة منهم منزلة الواحد ويكون الجانب الّذي عصابته متعدّدة لا يقاوم الجانب الّذي عصبته واحدة لأجل ذلك فتفهّمه واعلم أنّه أصحّ في الاعتبار ممّا ذهب إليه الطّرطوشيّ ولم يحمله على ذلك إلّا نسيان شأن العصبيّة في حلّة وبلدة وأنّهم إنّما يرون ذلك الدّفاع والحماية والمطالبة إلى الوحدان والجماعة النّاشئة عنهم لا يعتبرون في ذلك عصبيّة ولا نسبا وقد بيّنّا ذلك أوّل الكتاب مع أنّ هذا وأمثاله على تقدير صحّته إنّما هو من الأسباب الظّاهرة مثل اتّفاق الجيش في العدّة وصدق القتال وكثرة الأسلحة وما أشبهها فكيف يجعل ذلك كفيلا بالغلب ونحن قد قرّرنا لك الآن أنّ شيئا منها لا يعارض الأسباب الخفيّة من الحيل والخداع ولا الأمور السّماويّة من الرّعب والخذلان الإلهيّ فافهمه وتفهّم أحوال الكون «وَالله يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ 73: 20» . ويلحق بمعنى الغلب في الحروب وأنّ أسبابه خفيّة وغير طبيعيّة حال الشّهرة والصّيت فقلّ أن تصادف موضعها في أحد من طبقات النّاس من الملوك والعلماء والصّالحين والمنتحلين للفضائل على العموم وكثير ممّن اشتهر بالشّرّ وهو بخلافه وكثير ممّن تجاوزت عنه الشّهرة وهو أحقّ بها وأهلها وقد تصادف موضعها وتكون طبقا على صاحبها والسّبب في ذلك أنّ الشّهرة والصّيت إنّما هما بالإخبار والإخبار يدخلها الذّهول عن المقاصد عند التّناقل ويدخلها التّعصّب والتّشييع ويدخلها الأوهام ويدخلها الجهل بمطابقة الحكايات للأحوال لخفائها بالتّلبيس والتّصنّع أو لجهل النّاقل ويدخلها التّقرّب لأصحاب التّجلّة والمراتب الدّنيويّة بالثّناء والمدح وتحسين الأحوال وإشاعة الذّكر بذلك والنّفوس مولعة بحبّ الثّناء والنّاس متطاولون إلى الدّنيا وأسبابها من جاه أو ثروة وليسوا من الأكثر براغبين في الفضائل ولا منافسين في أهلها وأين مطابقة الحقّ مع هذه كلّها فتختلّ الشّهرة عن أسباب خفيّة من هذه وتكون غير مطابقة وكلّ ما حصل بسبب خفيّ فهو الّذي يعبّر عنه بالبخت كما تقرّر والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التّوفيق .
الفصل الثامن والثلاثون في الجباية وسبب قلتها وكثرتها
اعلم أنّ الجباية أوّل الدّولة تكون قليلة الوزائع كثيرة الجملة وآخر الدّولة تكون كثيرة الوزائع قليلة الجملة والسّبب في ذلك أنّ الدّولة إن كانت على سنن الدّين فليست تقتضي إلّا المغارم الشّرعيّة من الصّدقات والخراج والجزية وهي قليلة الوزائع لأنّ مقدار الزّكاة من المال قليل كما علمت وكذا زكاة الحبوب والماشية وكذا الجزية والخراج وجميع المغارم الشّرعيّة وهي حدود لا تتعدّى وإن كانت على سنن التّغلّب والعصبيّة فلا بدّ من البداوة في أوّلها كما تقدّم والبداوة تقتضي المسامحة والمكارمة وخفض الجناح والتّجافي عن أموال النّاس والغفلة عن تحصيل ذلك إلّا في النّادر فيقلّ لذلك مقدار الوظيفة الواحدة والوزيعة الّتي تجمع الأموال من مجموعها وإذا قلّت الوزائع والوظائف على الرّعايا نشطو للعمل ورغبوا فيه فيكثر الاعتمار ويتزايد لحصول الاغتباط بقلّة المغرم وإذا كثر الاعتمار كثرت أعداد تلك الوظائف والوزائع فكثرت الجباية الّتي هي جملتها فإذا استمرّت الدّولة واتّصلت وتعاقب ملوكها واحدا بعد واحد واتّصفوا بالكيس وذهب سرّ 166 البداوة والسّذاجة وخلقها من الإغضاء والتّجافي وجاء الملك العضوض 167 والحضارة الدّاعية إلى الكيس وتخلّق أهل الدّولة حينئذ بخلق التّحذلق وتكثّرت عوائدهم وحوائجهم بسبب ما انغمسوا فيه من النّعيم والتّرف فيكثّرون الوظائف والوزائع حينئذ على الرّعايا والأكرة 168 والفلّاحين وسائر أهل المغارم ويزيدون في كلّ وظيفة ووزيعة مقدارا عظيما لتكثر لهم الجباية ويضعون المكوس على المبايعات وفي الأبواب كما نذكر بعد ثمّ تتدرّج الزّيادات فيها بمقدار بعد مقدار لتدرّج عوائد الدّولة في التّرف وكثرة الحاجات والإنفاق بسببه حتّى تثقل المغارم على الرّعايا وتهضمهم وتصير عادة مفروضة لأنّ تلك الزّيادة تدرّجت قليلا قليلا ولم يشعر أحد بمن زادها على التّعيين ولا من هو واضعها إنّما ثبت على الرّعايا في الاعتمار لذهاب الأمل من نفوسهم بقلّة النّفع إذا قابل بين نفعه ومغارمه وبين ثمرته وفائدته فتنقبض كثير من الأيدي عن الاعتمار جملة فتنقص جملة الجباية حينئذ بنقصان تلك الوزائع منها وربّما يزيدون في مقدار الوظائف إذا رأوا ذلك النّقص في الجباية ويحسبونه جبرا لما نقص حتى تنتهي كلّ وظيفة ووزيعة إلى غاية ليس وراءها نفع ولا فائدة لكثرة الإنفاق حينئذ في الاعتمار وكثرة المغارم وعدم وفاء الفائدة المرجوّة به فلا تزال الجملة في نقص ومقدار الوزائع والوظائف في زيادة لما يعتقدونه من جبر الجملة بها إلى أن ينتقص العمران بذهاب الآمال من الاعتمار ويعود وبال ذلك على الدّولة لأنّ فائدة الاعتمار عائدة إليها وإذا فهمت ذلك علمت أنّ أقوى الأسباب في الاعتمار تقليل مقدار الوظائف على المعتمرين ما أمكن فبذلك تنبسط النّفوس إليه لثقتها بإدراك المنفعة فيه والله سبحانه وتعالى «مالك الأمور كلها وبِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ 23: 88» 169
الفصل التاسع والثلاثون في ضرب المكوس أواخر الدولة
ضرب المكوس أواخر الدولة اعلم أنّ الدّولة تكون في أوّلها بدويّة كما قلنا فتكون لذلك قليلة الحاجات لعدم التّرف وعوائده فيكون خرجها وإنفاقها قليلا فيكون في الجباية حينئذ وفاء بأزيد منها كثير عن حاجاتهم ثمّ لا تلبث أن تأخذ بدين الحضارة في التّرف وعوائدها وتجري على نهج الدّول السّابقة قبلها فيكثر لذلك خراج أهل الدّولة ويكثر خراج السّلطان خصوصا كثرة بالغة بنفقته في خاصّته وكثرة عطائه ولا تفي بذلك الجباية فتحتاج الدّولة إلى الزّيادة في الجباية لما تحتاج إليه الحامية من العطاء والسّلطان من النّفقة فيزيد في مقدار الوظائف والوزائع أوّلا كما قلناه ثمّ يزيد الخراج والحاجات والتّدريج في عوائد التّرف وفي العطاء للحامية ويدرك الدّولة الهرم وتضعف عصابتها عن جباية الأموال من الأعمال والقاصية فتقلّ الجباية وتكثر العوائد ويكثر بكثرتها أرزاق الجند وعطاؤهم فيستحدث صاحب الدّولة أنواعا من الجباية يضربها على البياعات ويفرض لها قدرا معلوما على الأثمان في الأسواق وعلى أعيان السّلع في أموال المدينة وهو مع هذا مضطرّ لذلك بما دعاه إليه طرق النّاس من كثرة العطاء من زيادة الجيوش والحامية وربّما يزيد ذلك في أواخر الدّولة زيادة بالغة فتكسد الأسواق لفساد الآمال ويؤذن ذلك باختلال العمران ويعود على الدّولة ولا يزال ذلك يتزايد إلى أن تضمحلّ. وقد كان وقع منه بأمصار المشرق في أخريات الدّولة العبّاسيّة والعبيديّة كثير وفرضت المغارم حتّى على الحاجّ في الموسم وأسقط صلاح الدّين أيّوب تلك الرّسوم جملة وأعاضها بآثار الخير وكذلك وقع بالأندلس لعهد الطّوائف حتّى محى رسمه يوسف بن تاشفين أمير المرابطين وكذلك وقع بأمصار الجريد بإفريقيّة لهذا العهد حين استبدّ بها رؤساؤها والله تعالى أعلم.
الفصل الأربعون في أن التجارة من السلطان مضرة بالرعايا ومفسدة للجباية
اعلم أنّ الدّولة إذا ضاقت جبايتها بما قدّمناه من التّرف وكثرة العوائدوالنّفقات وقصّر الحاصل من جبايتها على الوفاء بحاجاتها ونفقاتها واحتاجت إلى مزيد المال والجباية فتارة توضع المكوس على بياعات الرّعايا وأسواقهم كما قدّمنا ذلك في الفصل قبله وتارة بالزّيادة في ألقاب المكوس إن كان قد استحدث من قبل وتارة بمقاسمة العمّال والجباة وامتكاك 170 عظامهم لما يرون أنّهم قد حصلوا على شيء طائل من أموال الجباية لا يظهره الحسبان وتارة باستحداث التّجارة والفلاحة للسّلطان على تسمية الجباية لما يرون التّجّار والفلّاحين يحصلون على الفوائد والغلّات مع يسارة 171 أموالهم وأنّ الأرباح تكون على نسبة رءوس الأموال فيأخذون في اكتساب الحيوان والنّبات لاستغلاله في شراء البضائع والتّعرّض بها لحوالة الأسواق ويحسبون ذلك من إدرار الجباية وتكثير الفوائد وهو غلط عظيم وإدخال الضّرر على الرّعايا من وجوه متعدّدة فأوّلا مضايقة الفلّاحين والتّجّار في شراء الحيوان والبضائع وتيسير أسباب ذلك فإنّ الرّعايا متكافئون في اليسار متقاربون ومزاحمة بعضهم بعضا تنتهي إلى غاية موجودهم أو تقرب وإذا رافقهم السّلطان في ذلك وماله أعظم كثيرا منهم فلا يكاد أحد منهم يحصل على غرضه في شيء من حاجاته ويدخل على النفوس من ذلك غمّ ونكد ثمّ إنّ السّلطان قد ينتزع الكثير من ذلك إذا تعرّض له غضّا أو بأيسر ثمن أو لا يجد من يناقشه في شرائه فيبخس ثمنه على بائعه ثمّ إذا حصل فوائد الفلاحة ومغلّها كلّه من زرع أو حرير أو عسل أو سكّر أو غير ذلك من أنواع الغلّات وحصلت بضائع التّجارة من سائر الأنواع فلا ينتظرون به حوالة الأسواق ولا نفاق البياعات لما يدعوهم إليه تكاليف الدّولة فيكلّفون أهل تلك الأصناف من تاجر أو فلّاح بشراء تلك البضائع ولا يرضون في أثمانها إلّا القيم وأزيد فيستوعبون في ذلك ناضّ 172 أموالهم وتبقى تلك البضائع بأيديهم عروضا جامدة ويمكثون عطلا من الإدارة الّتي فيها كسبهم ومعاشهم وربّما تدعوهم الضّرورة إلى شيء من المال فيبيعون تلك السّلع على كساد من الأسواق بأبخس ثمن. وربّما يتكرّر ذلك على التاجر والفلّاح منهم بما يذهب رأس ماله فيقعد عن سوقه ويتعدّد ذلك ويتكرّر ويدخل به على الرّعايا من العنت والمضايقة وفساد الأرباح ما يقبض آمالهم عن السّعي في ذلك جملة ويؤدّي إلى فساد الجباية فإنّ معظم الجباية إنّما هي من الفلّاحين والتّجّار ولا سيّما بعد وضع المكوس ونموّ الجباية بها فإذا انقبض الفلّاحون عن الفلاحة وقعد التّجّار عن التّجارة ذهبت الجباية جملة أو دخلها النّقص المتفاحش وإذا قايس السّلطان بين ما يحصل له من الجباية وبين هذه الأرباح القليلة وجدها بالنّسبة إلى الجباية أقلّ من القليل ثمّ إنّه ولو كان مفيدا فيذهب له بحظّ عظيم من الجباية فيما يعانيه من شراء أو بيع فإنّه من البعيد أن يوجد فيه من المكس ولو كان غيره في تلك الصّفقات لكان تكسّبها كلّها حاصلا من جهة الجباية ثمّ فيه التّعرّض لأهل عمرانه واختلال الدّولة بفسادهم ونقصهم فإنّ الرّعايا إذا قعدوا عن تثمير أموالهم بالفلاحة والتّجارة نقصت وتلاشت بالنّفقات وكان فيها تلاف أحوالهم، فافهم ذلك 173 وكان الفرس لا يملّكون عليهم إلّا من أهل بيت المملكة ثمّ يختارونه من أهل الفضل والدّين والأدب والسّخاء والشّجاعة والكرم ثمّ يشترطون عليه مع ذلك العدل وأن لا يتّخذ صنعة فيضرّ بجيرانه ولا يتاجر فيحبّ غلاء الأسعار في البضائع وأن لا يستخدم العبيد فإنّهم لا يشيرون بخير ولا مصلحة. واعلم أنّ السّلطان لا ينمي ماله ولا يدرّ موجودة إلّا الجباية وإدرارها إنّما يكون بالعدل في أهل الأموال والنّظر لهم بذلك فبذلك تنبسط آمالهم وتنشرح صدورهم للأخذ في تثمير الأموال وتنميتها فتعظم منها جباية السّلطان وأمّا غير ذلك من تجارة أو فلج فإنّما هو مضرّة عاجلة للرّعايا وفساد للجباية ونقص للعمارة وقد ينتهي الحال بهؤلاء المنسلخين للتّجارة والفلاحة من الأمراء والمتغلّبين في البلدان أنّهم يتعرّضون لشراء الغلّات والسّلع من أربابها الواردين على بلدهم ويفرضون لذلك من الثّمن ما يشاءون ويبيعونها في وقتها لمن تحت أيديهم من الرّعايا بما يفرضون من الثّمن وهذه أشدّ من الأولى وأقرب إلى فساد الرّعيّة واختلال أحوالهم وربّما يحمل السّلطان على ذلك من يداخله من هذه الأصناف أعني التّجّار والفلّاحين لما هي صناعته الّتي نشأ عليها فيحمل السّلطان على ذلك ويضرب معه بسهم لنفسه ليحصل على غرضه من جمع المال سريعا ولا سيّما مع ما يحصل له من التّجارة بلا مغرم ولا مكس فإنّها أجدر بنموّ الأموال وأسرع في تثميره ولا يفهم ما يدخل على السّلطان من الضّرر بنقص جبايته فينبغي للسّلطان أن يحذر من هؤلاء ويعرض عن سعايتهم المضرّة بجبايته وسلطانه والله يلهمنا رشد أنفسنا وينفعنا بصالح الأعمال والله تعالى أعلم.
الفصل الحادي والأربعون في أن ثروة السلطان وحاشيته إنما تكون في وسط الدولة
والسّبب في ذلك أنّ الجباية في أوّل الدّولة تتوزّع على أهل القبيل والعصبيّة بمقدار غنائهم وعصبيّتهم ولأنّ الحاجة إليهم في تمهيد الدّولة كما قلناه من قبل فرئيسهم في ذلك متجاف لهم عمّا يسمون إليه من الاستبداد عليهم فله عليهم عزّة وله إليهم حاجة فلا يطيّر 174 في سهمانه من الجباية إلّا الأقلّ من حاجته فتجد حاشيته لذلك وأذياله من الوزراء والكتّاب والموالي متملّقين في الغالب وجاههم متقلّص لأنّه من جاه مخدومهم ونطاقه قد ضاق بمن يزاحمه فيه من أهل عصبيّته فإذا استفحلت طبيعة الملك وحصل لصاحب الدّولة الاستبداد على قومه قبض أيديهم عن الجبايات إلّا ما يطير لهم بين النّاس في سهمانهم وتقلّ حظوظهم إذ ذاك لقلّة غنائهم في الدّولة بما انكبح من أعنّتهم وصار الموالي والصّنائع مساهمين لهم في القيام بالدّولة وتمهيد الأمر فينفرد صاحب الدّولة حينئذ بالجباية أو معظمها ويحتوي على الأموال ويحتجنها للنّفقات في مهمّات الأحوال فتكثر ثروته وتمتلئ خزائنه ويتّسع نطاق جاهه ويعتزّ على سائر قومه فيعظم حال حاشيته وذويه من وزير وكاتب وحاجب ومولى وشرطيّ ويتّسع جاههم ويقتنون الأموال ويتأثّلونها 175 . ثمّ إذا أخذت الدّولة في الهرم بتلاشي العصبيّة وفناء القليل المعاهدين للدّولة احتاج صاحب الأمر حينئذ إلى الأعوان والأنصار لكثرة الخوارج والمنازعين والثّوّار وتوهّم الانتقاض فصار خراجه لظهرائه وأعوانه وهم أرباب السّيوف وأهل العصبيّات وأنفق خزائنه وحاصله في مهمّات الدّولة وقلّت مع ذلك الجباية لما قدّمناه من كثرة العطاء والإنفاق فيقلّ الخراج وتشتدّ حاجة الدّولة إلى المال فيتقلّص ظلّ النّعمة والتّرف عن الخواصّ والحجّاب والكتّاب بتقلّص الجاه عنهم وضيق نطاقه على صاحب الدّولة ثمّ تشتدّ حاجة صاحب الدّولة إلى المال وتنفق أبناء البطانة والحاشية ما تأثّله آباؤهم من الأموال في غير سبيلها من إعانة صاحب الدّولة ويقبلون على غير ما كان عليه آباؤهم وسلفهم من المناصحة ويرى صاحب الدّولة أنّه أحقّ بتلك الأموال الّتي اكتسبت في دولة سلفه وبجاههم فيصطلمها وينتزعها منهم لنفسه شيئا فشيئا وواحدا بعد واحد على نسبة رتبهم وتنكّر الدّولة لهم ويعود وبال ذلك على الدّولة بفناء حاشيتها ورجالاتها وأهل الثّروة والنّعمة من بطانتها ويتقوّض بذلك كثير من مباني المجد بعد أن يدعمه أهله ويرفعوه. وانظر ما وقع من ذلك لوزراء الدّولة العبّاسيّة في بني قحطبة وبني برمك وبني سهل وبني طاهر وأمثالهم ثمّ في الدّولة الأمويّة بالأندلس عند انحلالها أيّام الطّوائف في بني شهيد وبني أبي عبدة وبني حدير وبني برد وأمثالهم وكذا في الدّولة الّتي أدركناها لعهدنا سنّة الله الّتي قد خلت في عباده.
فصل
ولما يتوقّعه أهل الدّولة من أمثال هذه المعاطب صار الكثير منهم ينزعون إلى الفرار عن الرّتب والتّخلّص من ربقة السّلطان بما حصل في أيديهم من مال الدّولة إلى قطر آخر ويرون أنّه أهنأ لهم وأسلم في إنفاقه وحصول ثمرته وهو من الأغلاط الفاحشة والأوهام المفسدة لأحوالهم ودنياهم واعلم أنّ الخلاص من ذلك بعد الحصول فيه عسير ممتنع فإنّ صاحب هذا الغرض إذا كان هو الملك نفسه فلا تمكّنه الرّعيّة من ذلك طرفة عين ولا أهل العصبيّة المزاحمون له بل في ظهور ذلك منه هدم لملكه وإتلاف لنفسه بمجاري العادة بذلك لأنّ ربقة الملك يعسر الخلاص منها ولا سيّما عند استفحال الدّولة وضيق نطاقها وما يعرض فيها من البعد عن المجد والخلال والتّخلّق بالشّرّ وأمّا إذا كان صاحب هذا الغرض من بطانة السّلطان وحاشيته وأهل الرّتب في دولته فقلّ أن يخلّى بينه وبين ذلك. أمّا أوّلا فلما يراه الملوك أنّ ذويهم وحاشيتهم بل وسائر رعاياهم مماليك لهم مطّلعون على ذات صدورهم فلا يسمحون بحلّ ربقته من الخدمة ضنّا بأسرارهم وأحوالهم أن يطّلع عليها أحد، وغيرة من خدمته لسواهم ولقد كان بنو أميّة بالأندلس يمنعون أهل دولتهم من السّفر لفريضة الحجّ لما يتوهّمونه من وقوعهم بأيدي بني العبّاس فلم يحجّ سائر أيّامهم أحد من أهل دولتهم وما أبيح الحجّ لأهل الدّول من الأندلس إلّا بعد فراغ شأن الأمويّة ورجوعها إلى الطّوائف وأمّا ثانيا فلأنّهم وإن سمحوا بحلّ ربقته فلا يسمحون بالتّجافي عن ذلك المال لما يرون أنّه جزء من مالهم كما يرون أنّه جزء من دولتهم إذ لم يكتسب إلّا بها وفي ظلّ جاهها، فتحوم نفوسهم على انتزاع ذلك المال والتقامه كما هو جزء من الدّولة ينتفعون به ثمّ إذا توهّمنا أنّه خلّص بذلك المال إلى قطر آخر وهو في النّادر الأقلّ فتمتدّ إليه أعين الملوك بذلك القطر وينتزعونه بالإرهاب والتّخويف تعريضا أو بالقهر ظاهرا لما يرون أنّه مال الجباية والدّول وأنّه مستحقّ للإنفاق في المصالح وإذا كانت أعينهم تمتدّ إلى أهل الثّروة واليسار المتكسّبين من وجوه المعاش فأحرى بها أن تمتدّ إلى أموال الجباية والدّول الّتي تجد السّبيل إليه بالشّرع والعادة ولقد حاول السّلطان أبو يحيى زكريّا بن أحمد اللّحيانيّ تاسع أو عاشر ملوك الحفصيّين بإفريقة الخروج عن عهدة الملك واللّحاق بمصر فرارا من طلب صاحب الثّغور الغربيّة لمّا استجمع لغزو تونس فاستعمل اللّحيانيّ الرّحلة إلى ثغر طرابلس يورّي بتمهيده وركب السّفين من هنالك وخلص إلى الإسكندريّة بعد أن حمل جميع ما وجده ببيت المال من الصّامت 176 والذّخيرة وباع كلّ ما كان بخزائنهم من المتاع والعقار والجوهر حتّى الكتب واحتمل ذلك كلّه إلى مصر ونزل على الملك النّاصر محمّد بن قلاون سنة سبع عشرة من المائة الثّامنة فأكرم نزله ورفع مجلسه ولم يزل يستخلص ذخيرته شيئا فشيئا بالتّعريض إلى أن حصل عليها ولم يبق معاش ابن اللّحيانيّ إلّا في جرابته الّتي فرضت له إلى أن هلك سنة ثمان وعشرين حسبما نذكره في أخباره فهذا وأمثاله من جملة الوسواس الّذي يعتري أهل الدّول لما يتوقّعونه من ملوكهم من المعاطب وإنّما يخلصون إن اتّفق لهم الخلاص بأنفسهم وما يتوهّمونه من الحاجة فغلط ووهم والّذي حصل لهم من الشّهرة بخدمة الدّول كاف في وجدان المعاش لهم بالجرايات السّلطانيّة أو بالجاه في انتحال طرق الكسب من التّجارة والفلاحة والدّول أنساب لكن: النّفس راغبة إذا رغّبتها ... وإذا تردّ إلى قليل تقنع والله سبحانه هو الرّزّاق وهو الموفّق بمنّه وفضله والله أعلم.
الفصل الثاني والأربعون في أن نقص العطاء من السلطان نقص في الجباية
والسّبب في ذلك أنّ الدّولة والسّلطان هي السّوق الأعظم للعالم ومنه مادّة العمران فإذا احتجن السّلطان الأموال أو الجبايات أو فقدت فلم يصرفها في مصارفها قلّ حينئذ ما بأيدي الحاشية والحامية وانقطع أيضا ما كان يصل منهم لحاشيتهم وذويهم وقلّت نفقاتهم جملة وهم معظم السّواد ونفقاتهم أكثر مادّة للأسواق ممّن سواهم فيقع الكساد حينئذ في الأسواق وتضعف الأرباح في المتاجر فيقلّ الخراج لذلك لأنّ الخراج والجباية إنّما تكون من الاعتمار والمعاملات ونفاق الأسواق وطلب النّاس للفوائد والأرباح ووبال ذلك عائد على الدّولة بالنّقص لقلّة أموال السّلطان حينئذ بقلّة الخراج فإنّ الدّولة كما قلناه هي السّوق الأعظم أمّ الأسواق كلّها وأصلها ومادّتها في الدّخل والخرج فإن كسدت وقلّت مصارفها فأجدر بما بعدها من الأسواق أن يلحقها مثل ذلك وأشدّ منه وأيضا فالمال إنّما هو متردّد بين الرّعيّة والسّلطان منهم إليه ومنه إليهم فإذا حبسه السّلطان عنده فقدته الرّعيّة سنّة الله في عباده.
الفصل الثالث والأربعون في أن الظلم مؤذن بخراب العمران
اعلم أنّ العدوان على النّاس في أموالهم ذاهب بآمالهم في تحصيلها واكتسابهالما يرونه حينئذ من أنّ غايتها ومصيرها انتهابها من أيديهم وإذا ذهبت آمالهم في اكتسابها وتحصيلها انقبضت أيديهم عن السّعي في ذلك وعلى قدر الاعتداء ونسبته يكون انقباض الرّعايا عن السّعي في الاكتساب فإذا كان الاعتداء كثيرا عامّا في جميع أبواب المعاش كان القعود عن الكسب كذلك لذهابه بالآمال جملة بدخوله من جميع أبوابها وإن كان الاعتداء يسيرا كان الانقباض عن الكسب على نسبته والعمران ووفوره ونفاق أسواقه إنّما هو بالأعمال وسعي النّاس في المصالح والمكاسب ذاهبين وجائين فإذا قعد النّاس عن المعاش وانقبضت أيديهم عن المكاسب كسدت أسواق العمران وانتفضت الأحوال وابذعرّ 177 النّاس في الآفاق من غير تلك الإيالة في طلب الرّزق فيما خرج عن نطاقها فخفّ ساكن القطر وخلت دياره وخرجت أمصاره واختلّ باختلاله حال الدّولة والسّلطان لما أنّها صورة للعمران تفسد بفساد مادّتها ضرورة وانظر في ذلك ما حكاه المسعوديّ في أخبار الفرس عن الموبذان صاحب الدّين عندهم أيّام بهرام بن بهرام وما عرّض به للملك في إنكار ما كان عليه من الظّلم والغفلة عن عائدته على الدّولة بضرب المثال في ذلك على لسان البوم حين سمع الملك أصواتها وسأله عن فهم كلامها فقال له: «إنّ بوما ذكرا يروم نكاح بوم أنثى وإنّها شرطت عليه عشرين قرية من الخراب في أيّام بهرام فقبل شرطها، وقال لها: إن دامت أيّام الملك أقطعتك ألف قرية وهذا أسهل مرام» . فتنبّه الملك من غفلته وخلا بالموبذان وسأله عن مراده فقال له أيّها الملك إنّ الملك لا يتمّ عزّه إلّا بالشّريعة والقيام للَّه بطاعته والتّصرّف تحت أمره ونهيه ولا قوام للشّريعة إلّا بالملك ولا عزّ للملك إلّا بالرّجال ولا قوام للرّجال إلّا بالمال ولا سبيل إلى المال إلّا بالعمارة ولا سبيل للعمارة إلّا بالعدل والعدل الميزان المنصوب بين الخليقة نصبه الرّبّ وجعل له قيّما وهو الملك وأنت أيّها الملك عمدت إلى الضّياع فانتزعتها من أربابها وعمّارها وهم أرباب الخراج ومن تؤخذ منهم الأموال وأقطعتها الحاشية والخدم وأهل البطالة فتركوا العمارة والنّظر في العواقب وما يصلح الضّياع وسومحوا في الخراج لقربهم من الملك ووقع الحيف على من بقي من أرباب الخراج وعمّار الضّياع فانجلوا عن ضياعهم وخلّوا ديارهم وأووا إلى ما تعذّر من الضّياع فسكنوها فقلّت العمارة وخربت الضّياع وقلّت الأموال وهلكت الجنود والرّعيّة وطمع في ملك فارس من جاورهم من الملوك لعلمهم بانقطاع الموادّ الّتي لا تستقيم دعائم الملك إلّا بها. فلمّا سمع الملك ذلك أقبل على النّظر في ملكه وانتزعت الضّياع من أيدي الخاصّة وردّت على أربابها وحملوا على رسومهم السالفة وأخذوا في العمارة وقوي من ضعف منهم فعمرت الأرض وأخصبت البلاد وكثرت الأموال عند جباة الخراج وقويت الجنود وقطعت موادّ الأعداء وشحنت الثّغور وأقبل الملك على مباشرة أموره بنفسه فحسنت أيّامه وانتظم ملكه فتفهّم من هذه الحكاية أنّ الظّلم مخرّب للعمران وأنّ عائدة الخراب في العمران على الدّولة بالفساد والانتقاض. ولا تنظر في ذلك إلى أنّ الاعتداء قد يوجد بالأمصار العظيمة من الدّول الّتي بها ولم يقع فيها خراب واعلم أنّ ذلك إنّما جاء من قبل المناسبة بين الاعتداء وأحوال أهل المصر فلمّا كان المصر كبيرا وعمرانه كثيرا وأحواله متّسعة بما لا ينحصر كان وقوع النّقص فيه بالاعتداء والظّلم يسيرا لأنّ النّقص إنّما يقع بالتّدريج فإذا خفي بكثرة الأحوال واتّساع الأعمال في المصر لم يظهر أثره إلّا بعد حين وقد تذهب تلك الدّولة المعتدية من أصلها قبل خراب وتجيء الدّولة الأخرى فترفعه بجدّتها وتجبر النّقص الّذي كان خفيّا فيه فلا يكاد يشعر به إلّا أنّ ذلك في الأقلّ النّادر والمراد من هذا أنّ حصول النّقص في العمران عن الظّلم والعدوان أمر واقع لا بدّ منه لما قدّمناه ووباله عائد على الدّول. ولا تحسبنّ الظّلم إنّما هو أخذ المال أو الملك من يد مالكه من غير عوض ولا سبب كما هو المشهور بل الظّلم أعمّ من ذلك وكلّ من أخذ ملك أحد أو غصبه في عمله أو طالبه بغير حقّ أو فرض عليه حقّا لم يفرضه الشّرع فقد ظلمه فجباة الأموال بغير حقّها ظلمة والمعتدون عليها ظلمة والمنتهبون لها ظلمة والمانعون لحقوق النّاس ظلمة وخصّاب الأملاك على العموم ظلمة ووبال ذلك كلّه عائد على الدّولة بخراب العمران الّذي هو مادّتها لإذهابه الآمال من أهله واعلم أنّ هذه هي الحكمة المقصودة للشّارع في تحريم الظّلم وهو ما ينشأ عنه من فساد العمران وخرابه وذلك مؤذن بانقطاع النّوع البشريّ وهي الحكمة العامّة المراعية للشّرع في جميع مقاصده الضّروريّة الخمسة من حفظ الدّين والنّفس والعقل والنّسل والمال. فلمّا كان الظّلم كما رأيت مؤذنا بانقطاع النّوع لما أدّى إليه من تخريب العمران، كانت حكمة الخطر فيه موجودة، فكان تحريمه مهمّا، وأدلّته من القرآن والسّنّة كثيرة، أكثر من أن يأخذها قانون الضّبط والحصر. ولو كان كلّ واحد قادرا على الظّلم لوضع بإزائه من العقوبات الزّاجرة ما وضع بإزاء غيره من المفسدات للنّوع الّتي يقدر كلّ أحد على اقترافها من الزّنا والقتل والسّكر إلّا أنّ الظّلم لا يقدر عليه إلّا من يقدر عليه لأنّه إنّما يقع من أهل القدرة والسّلطان فبولغ في ذمّه وتكرير الوعيد فيه عسى أن يكون الوازع فيه للقادر عليه في نفسه «وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ 41: 46» ولا تقولنّ إنّ العقوبة قد وضعت بإزاء الحرابة في الشّرع وهي من ظلم القادر لأنّ المحارب زمن حرابته قادر فإنّ في الجواب عن ذلك طريقين. أحدهما أن تقول العقوبة على ما يقترفه من الجنايات في نفس أموال على ما ذهب إليه كثير وذلك إنّما يكون بعد القدرة عليه والمطالبة بجنايته وأمّا نفس الحرابة فهي خلو من العقوبة. الطّريق الثّاني أن تقول: المحارب لا يوصف بالقدرة لأنّا إنّما نعني بقدرة الظّالم اليد المبسوطة الّتي لا تعارضها قدرة فهي المؤذنة بالخراب وأمّا قدرة المحارب فإنّما هي إخافة يجعلها ذريعة لأخذ الأموال والمدافعة عنها بيد الكلّ موجودة شرعا وسياسة فليست من القدر المؤذن بالخراب والله قادر على ما يشاء.
فصل
ومن أشدّ الظّلامات وأعظمها في إفساد العمران تكليف الأعمال وتسخير الرّعايا بغير حقّ وذلك أنّ الأعمال من قبيل المتموّلات كما سنبيّن في باب الرّزق لأنّ الرّزق والكسب إنّما هو قيّم أعمال أهل العمران. فإذا مساعيهم وأعمالهم كلّها متموّلات ومكاسب لهم بل لا مكاسب لهم سواها فإنّ الرّعيّة المعتملين في العمارة إنّما معاشهم ومكاسبهم من اعتمالهم ذلك فإذا كلّفوا العمل في غير شأنهم واتّخذوا سخريّا في معاشهم بطل كسبهم واغتصبوا قيمة عملهم ذلك وهو متموّلهم فدخل عليهم الضّرر وذهب لهم حظّ كبير من معاشهم بل هو معاشهم بالجملة وإن تكرّر ذلك عليهم أفسد آمالهم في العمارة وقعدوا عن السّعي فيها جملة فأدّى ذلك إلى انتقاض العمران وتخريبه والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التّوفيق
الاحتكار
وأعظم من ذلك في الظّلم وإفساد العمران والدّولة التّسلّط على أموال النّاس بشراء ما بين أيديهم بأبخس الأثمان ثمّ فرض البضائع عليهم بأرفع الأثمان على وجه الغصب والإكراه في الشّراء والبيع وربّما تفرض عليهم تلك الأثمان على التّواحي والتّعجيل 178 فيتعلّلون في تلك الخسارة الّتي تلحقهم بما تحدّثهم المطامع من جبر ذلك بحوالة الأسواق في تلك البضائع الّتي فرضت عليهم بالغلاء إلى بيعها بأبخس الأثمان، وتعود خسارة ما بين الصّفقتين على رءوس أموالهم. وقد يعمّ ذلك أصناف التّجّار المقيمين بالمدينة والواردين من الآفاق في البضائع وسائر السّوقة وأهل الدّكاكين في المآكل والفواكه وأهل الصّنائع فيما يتّخذ من الآلات والمواعين فتشمل الخسارة سائر الأصناف والطّبقات وتتوالى على السّاعات وتجحف برءوس الأموال ولا يجدون عنها وليجة إلّا القعود عن الأسواق لذهاب رءوس الأموال في جبرها بالأرباح ويتثاقل الواردون من الآفاق لشراء البضائع وبيعها من أجل ذلك فتكسد الأسواق ويبطل معاش الرّعايا لأنّ عامّته من البيع والشّراء وإذا كانت الأسواق عطلا منها بطل معاشهم وتنقص جباية السّلطان أو تفسد لأنّ معظمها من أوسط الدّولة وما بعدها إنّما هو من المكوس على البياعات كما قدّمناه ويؤول ذلك إلى تلاشي الدّولة وفساد عمران المدينة ويتطرّق هذا الخلل على التّدريج ولا يشعر به. هذا ما كان بأمثال هذه الذّرائع والأسباب إلى أخذ الأموال وأمّا أخذها مجّانا والعدوان على النّاس في أموالهم وحرمهم ودمائهم وأسرارهم وأعراضهم فهو يفضي إلى الخلل والفساد دفعة وتنتقض الدّولة سريعا بما ينشأ عنه من الهرج المفضي إلى الانتقاض ومن أجل هذه المفاسد حظر الشّرع ذلك كلّه وشرع المكايسة في البيع والشّراء وحظر أكل أموال النّاس بالباطل سدّا لأبواب المفاسد المفضية إلى انتقاض العمران بالهرج أو بطلان المعاش واعلم أنّ الدّاعي لذلك كلّه إنّما هو حاجة الدّولة والسّلطان إلى الإكثار من المال بما يعرض لهم من التّرف في الأحوال فتكثر نفقاتهم ويعظم الخرج ولا يفي به الدّخل على القوانين المعتادة يستحدثون ألقابا ووجوها يوسّعون بها الجباية ليفي لهم الدّخل بالخرج ثمّ لا يزال التّرف يزيد والخرج بسببه يكثر والحاجة إلى أموال النّاس تشتدّ ونطاق الدّولة بذلك يزيد إلى أن تمحّي دائرتها ويذهب برسمها ويغلبها طالبها والله أعلم.
الفصل الرابع والأربعون في أن الحجاب كيف يقع في الدول وفي أنه يعظم عند الهرم
اعلم أنّ الدّولة في أوّل أمرها تكون بعيدة عن منازع الملك كما قدّمناه لأنّه لا بدّ لها من العصبيّة الّتي بها يتمّ أمرها ويحصل استيلاؤها والبداوة هي شعار العصبيّة والدّولة إن كان قيامها بالدّين فإنّه بعيد عن منازع الملك وإن كان قيامها بعزّ الغلب فقط فالبداوة الّتي بها يحصل الغلب بعيدة أيضا عن منازع الملك ومذاهبه فإذا كانت الدّولة في أوّل أمرها بدويّة كان صاحبها على حال الغضاضة والبداوة والقرب من النّاس وسهولة الإذن فإذا رسخ عزّه وصار إلى الانفرادبنفسه عن النّاس للحديث مع أوليائه في خواصّ شئونه لما يكثر حينئذ بحاشيته فيطلب الانفراد من العامّة ما استطاع ويتّخذ الإذن ببابه على من لا يأمنه من أوليائه وأهل دولته ويتّخذ حاجبا له عن النّاس يقيمه ببابه لهذه الوظيفة ثمّ إذا استفحل الملك وجاءت مذاهبه ومنازعة استحالت أخلاق صاحب الدّولة إلى أخلاق الملك وهي أخلاق غريبة مخصوصة يحتاج مباشرها إلى مداراتها ومعاملتها بما يجب لها وربّما جهل تلك الأخلاق منهم بعض من يباشرهم فوقع فيما لا يرضيهم فسخطوا وصاروا إلى حالة الانتقام منه فانفرد بمعرفة هذه الآداب الخواصّ من أوليائهم وحجبوا غير أولئك الخاصّة عن لقائهم في كلّ وقت حفظا على أنفسهم من معاينة ما يسخطهم على النّاس من التّعرّض لعقابهم فصار حجاب آخر أخصّ من الحجاب الأوّل يفضي إليهم منه خواصّهم من الأولياء ويحجب دونه من سواهم من العامّة 179 . والحجاب الثّاني يفضي إلى مجالس الأولياء ويحجب دونه من سواهم من العامّة 180 . والحجاب الأوّل يكون في أوّل الدّولة كما ذكرنا كما حدث لأيّام معاوية وعبد الملك وخلفاء بني أميّة وكان القائم على ذلك الحجاب يسمّى عندهم الحاجب جريا على مذهب الاشتقاق الصّحيح. ثمّ لمّا جاءت دولة بني العبّاس وجدت الدّولة من التّرف والعزّ ما هو معروف وكملت خلق الملك على ما يجب فيها فدعا ذلك إلى الحجاب الثّاني وصار اسم الحاجب أخصّ به وصار بباب الخلفاء داران للعبّاسيّة: دار الخاصّة ودار العامّة كما هو مسطور في أخبارهم. ثمّ حدث في الدّول حجاب ثالث أخصّ من الأوّلين وهو عند محاولة الحجر على صاحب الدّولة وذلك أنّ أهل الدّولة وخواصّ الملك إذا نصبوا الأبناء من الأعقاب وحاولوا الاستبداد عليهم فأوّل ما يبدأ به ذلك المستبدّ أن يحجب عنه بطانة ابنه وخواصّ أوليائه يوهمه أنّ في مباشرتهم إيّاه خرق حجاب الهيبة وفساد قانون الأدب ليقطع بذلك لقاء الغير ويعوّده ملابسة أخلاقه هو حتّى لا يتبدّل به سواه إلى أن يستحكم الاستيلاء عليه فيكون هذا الحجاب من دواعيه وهذا الحجاب لا يقع في الغالب إلّا أواخر الدّولة كما قدّمناه في الحجر ويكون دليلا على هرم الدّولة ونفاد قوّتها وهو ممّا يخشاه أهل الدّول على أنفسهم لأنّ القائمين بالدّولة يحاولون على ذلك بطباعهم عند هرم الدّولة وذهاب الاستبداد من أعقاب ملوكهم لما ركّب في النّفوس من محبّة الاستبداد بالملك وخصوصا مع التّرشيح لذلك وحصول دواعيه ومباديه.
الفصل الخامس والأربعون في انقسام الدولة الواحدة بدولتين
اعلم أن أوّل ما يقع من آثار الهرم في الدّولة انقسامها وذلك أنّ الملك عند ما يستفحل ويبلغ من أحوال التّرف والنّعيم إلى غايتها ويستبدّ صاحب الدّولة بالمجد وينفرد به ويأنف حينئذ عن المشاركة يصير إلى قطع أسبابها ما استطاع بإهلاك من استراب به من ذوي قرابته المرشّحين لمنصبه فربّما ارتاب المساهمون له في ذلك بأنفسهم ونزعوا إلى القاصية إليهم من يلحق بهم مثل حالهم من الاعتزار والاسترابة ويكون نطاق الدّولة قد أخذ في التّضايق ورجع عن القاصية فيستبدّ ذلك النّازع من القرابة فيها ولا يزال أمره يعظم بتراجع نطاق الدّولة حتّى يقاسم الدّولة أو يكاد وانظر ذلك في الدّولة الإسلاميّة العربيّة حين كان أمرها حريزا مجتمعا ونطاقا ممتدّا في الاتّساع وعصبيّة بني عبد مناف واحدة غالبة على سائر مضر ينبض عرق من الخلافة سائر أيّامه إلّا ما كان من بدعة الخوارج المستميتين في شأن بدعتهم لم يكن ذلك لنزعة ملك ولا رئاسة ولم يتمّأمرهم لمزاحمتهم العصبيّة القويّة ثمّ لمّا خرج الأمر من بني أميّة واستقلّ بنو العبّاس بالأمر. وكانت الدّولة العربيّة قد بلغت الغاية من الغلب والتّرف وآذنت بالتّقلّص عن القاصية نزع عبد الرّحمن الدّاخل إلى الأندلس قاصية دولة الإسلام فاستحدث بها ملكا واقتطعها عن دولتهم وصيّر الدّولة دولتين ثمّ نزع إدريس إلى المغرب وخرج به وقام بأمره وأمر ابنه من بعده البرابرة من أوربّة ومغيلة وزناتة واستولى على ناحية المغربين ثمّ ازدادت الدّولة تقلّصا فاضطرب الأغالبة في الامتناع عليهم ثمّ خرج الشّيعة وقام بأمرهم كتامة وصنهاجة واستولوا على إفريقية والمغرب ثمّ مصر والشّام والحجاز وغلبوا على الأدارسة وقسموا الدّولة دولتين أخريين وصارت الدّولة العربيّة ثلاث دول: دولة بني العبّاس مركز العرب وأصلهم ومادّتهم الإسلام، ودولة بني أميّة المجدّدين بالأندلس ملكهم القديم وخلافتهم بالمشرق، ودولة العبيديّين بإفريقيّة ومصر والشّام والحجاز ولم تزل هذه الدّولة إلى أن أصبح انقراضها متقاربا أو جميعا وكذلك انقسمت دولة بني العبّاس بدول أخرى وكان بالقاصية بنو ساسان فيما وراء النّهر وخراسان والعلويّة في الدّيلم وطبرستان وآل ذلك إلى استيلاء الدّيلم على العراقين وعلى بغداد والخلفاء ثمّ جاء السّلجوقيّة فملكوا جميع ذلك ثمّ انقسمت دولتهم أيضا بعد الاستفحال كما هو معروف في أخبارهم وكذلك اعتبره في دولة صنهاجة بالمغرب وإفريقية لمّا بلغت إلى غايتها أيّام باديس بن المنصور، خرج عليه عمّه حمّاد واقتطع ممالك العرب لنفسه ما بين جبل أوراس إلى تلمسان وملويّة واختطّ القلعة بجبل كتامة حيال المسيلة ونزلها واستولى على مركزهم أشير بجبل تيطرى واستحدث ملكا آخر قسيما لملك آل باديس وبقي آل باديس بالقيروان وما إليها ولم يزل ذلك إلى أن انقرض أمرهما جميعا. وكذلك دولة الموحّدين، لمّا تقلّص ظلّها ثار بإفريقيّة بنو أبي حفص فاستقلّوا بها واستحدثوا ملكا لأعقابهم بنواحيها ثمّ لمّا استفحل أمرهم واستولى على الغاية خرج على الممالك الغربيّة من أعقابهم الأمير أبو زكريّا يحيى ابن السّلطان أبي إسحاق إبراهيم رابع خلفائهم واستحدث ملكا بجباية وقسنطينة وما إليها، أورثه بنيه وقسموا به الدّولة قسمين ثمّ استولوا على كرسيّ الحضرة بتونس ثمّ انقسم ما بين أعقابهم ثمّ عاد الاستيلاء فيهم وقد ينتهي الانقسام إلى أكثر من دولتين وثلاث وفي غير أعياص الملك من قومه كما وقع في ملوك الطّوائف بالأندلس وملوك العجم بالمشرق وفي ملك صنهاجة بإفريقيّة فقد كان لآخر دولتهم في كلّ حصن من حصون إفريقية ثائر مستقلّ بأمره كما تقدّم ذكره وكذا حال الجريد والزّاب من إفريقية قبيل هذا العهد كما نذكره وهكذا شأن كلّ دولة لا بدّ وأن يعرض فيها عوارض الهرم بالتّرف والدّعة وتقلّص ظلّ الغلب فينقسم أعياصها أو من يغلب من رجال دولتها الأمر ويتعدّد فيها الدّول والله وارث الأرض ومن عليها.
الفصل السادس والأربعون في أن الهرم إذا نزل بالدولة لا يرتفع
قد قدّمنا ذكر العوارض المؤذنة بالهرم وأسبابه واحدا بعد واحد وبيّنّا أنّها تحدث للدّولة بالطّبع وأنّها كلّها أمور طبيعيّة لها وإذا كان الهرم طبيعيّا في الدّولة كان حدوثه بمثابة حدوث الأمور الطّبيعيّة كما يحدث الهرم في المزاج الحيوانيّ والهرم من الأمراض المزمنة الّتي لا يمكن دواؤها ولا ارتفاعها لما أنّه طبيعيّ والأمور الطّبيعيّة لا تتبدّل وقد يتنبّه كثير من أهل الدّول ممّن له يقظة في السّياسة فيرى ما نزل بدولتهم من عوارض الهرم ويظنّ أنّه ممكن الارتفاع فيأخذ نفسه بتلافي الدّولة وإصلاح مزاجها عن ذلك الهرم ويحسبه أنّه لحقها بتقصير من قبله من أهل الدّولة وغفلتهم وليس كذلك فإنّها أمور طبيعيّة للدّولة والعوائد هي المانعة له من تلافيها والعوائد منزلة طبيعيّة أخرى فإنّ من أدرك مثلا أباه وأكثر أهل بيته يلبسون الحرير والدّيباج ويتحلّون بالذّهب في السّلاح والمراكب ويحتجبون عن النّاس في المجالس والصّلوات فلا يمكنه مخالفة سلفه في ذلك إلى الخشونة في اللّباس والزّيّ والاختلاط بالنّاس إذ العوائد حينئذ تمنعه وتقبّح عليه مرتكبه ولو فعله لرمي بالجنون والوسواس في الخروج عن العوائد دفعة، وخشي عليه عائدة ذلك وعاقبته في سلطانه وانظر شأن الأنبياء في إنكار العوائد ومخالفتها لولا التّأييد الإلهيّ والنّصر السّماويّ وربّما تكون العصبيّة قد ذهبت فتكون الأبّهة تعوّض عن موقعها من النّفوس فإذا أزيلت تلك الأبّهة مع ضعف العصبيّة تجاسرت الرّعايا على الدّولة بذهاب أوهام الأبّهة فتتدرّع الدّولة بتلك الأبّهة ما أمكنها حتّى ينقضي الأمر وربّما يحدث عند آخر الدّولة قوّة توهم أنّ الهرم قد ارتفع عنها ويومض ذبالها إيماضة الخمود كما يقع في الذّبال المشتعل فإنّه عند مقاربة انطفائه يومض إيماضة توهم أنّها اشتعال وهي انطفاء فاعتبر ذلك ولا تغفل سرّ الله تعالى وحكمته في اطّراد وجوده على ما قدّر فيه «لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ 13: 38» .
الفصل السابع والأربعون في كيفية طروق الخلل للدولة
اعلم أنّ مبنى الملك على أساسين لا بدّ منهما فالأوّل الشّوكة والعصبيّة وهو المعبّر عنه بالجند والثّاني المال الّذي هو قوام أولئك الجند وإقامة ما يحتاج إليه الملك من الأحوال. والخلل إذا طرق الدّولة طرقها في هذين الأساسين فلنذكر أوّلا طروق الخلل في الشّوكة والعصبيّة ثمّ نرجع إلى طروقه في المال والجباية. واعلم أنّ تمهيد الدّولة وتأسيسها كما قلناه إنّما يكون بالعصبيّة وأنّه لا بدّ من عصبيّة كبرى جامعة للعصائب مستتبعة لها وهي عصبيّة صاحب الدّولة الخاصّة من عشيرة وقبيلة فإذا جاءت الدّولة طبيعة الملك من التّرف وجدع أنوف أهلالعصبيّة كان 181 أوّل ما يجدع أنوف عشيرته وذوي قرباه المقاسمين له في اسم الملك فيستبدّ في جدع أنوفهم بما بلغ من سوادهم لمكانهم من الملك والعزّ والغلب فيحيط بهم هادمان وهما التّرف والقهر ثمّ يصير القهر آخرا إلى القتل لما يحصل من مرض قلوبهم عند رسوخ الملك لصاحب الأمر فيقلب غيرته منهم إلى الخوف على ملكه فيأخذهم بالقتل والإهانة وسلب النّعمة والتّرف الّذي تعوّدوا الكثير منه فيهلكون ويقلّون وتفسد عصبيّة صاحب الدّولة منهم وهي العصبيّة الكبرى الّتي كانت تجمع بها العصائب وتستتبعها فتنحلّ عروتها وتضعف شكيمتها وتستبدل عنها بالبطانة من موالي النّعمة وصنائع الإحسان وتتّخذ منهم عصبيّة إلّا أنّها ليست مثل تلك الشّدّة الشّكيميّة لفقدان الرّحم والقرابة منها وقد كنّا قدّمنا أنّ شأن العصبيّة وقوّتها إنّما هي بالقرابة والرّحم لما جعل الله في ذلك فينفرد صاحب الدّولة عن العشير والأنصار الطّبيعيّة ويحسّ بذلك أهل العصائب الأخرى فيتجاسرون عليه وعلى بطانته تجاسرا طبيعيّا فيهلكهم صاحب الدّولة ويتبعهم بالقتل واحدا بعد واحد ويقلّد الآخر من أهل الدّولة في ذلك، الأوّل مع ما يكون قد نزل بهم من مهلكة التّرف الّذي قدّمنا فيستولي عليهم الهلاك بالتّرف والقتل حتّى يخرجوا عن صبغة تلك العصبيّة ويفشوا بعزّتها وثورتها ويصيروا أوجز على الحماية ويقلّون لذلك فتقلّ الحماية الّتي تنزل بالأطراف والثّغور فتتجاسر الرّعايا على بعض الدّعوة في الأطراف ويبادر الخوارج على الدّولة من الأعياص وغيرهم إلى تلك الأطراف لما يرجون حينئذ من حصول غرضهم بمبايعة أهل القاصية لهم وأمنهم من وصول الحامية إليهم ولا يزال ذلك يتدرّج ونطاق الدّولة يتضايق حتّى تصير الخوارج في أقرب الأماكن إلى مركز الدّولة وربّما انقسمت الدّولة عند ذلك بدولتين أو ثلاث على قدر قوّتها في الأصل كما قلناه ويقوم بأمرها غير أهل عصبيّتها لكن إذعانا لأهل عصبيّتها ولغلبهم المعهود واعتبر هذا في دولة العرب في الإسلام كيف انتهت أوّلا إلى الأندلس والهند والصّين وكان أمر بني أميّة نافذا في جميع العرب بعصبيّة بني عبد مناف حتّى لقد أمر سليمان بن عبد الملك بدمشق بقتل عبد العزيز بن موسى بن نصير بقرطبة فقتل ولم يردّ أمره. ثمّ تلاشت عصبيّة بني أميّة بما أصابهم من التّرف فانقرضوا. وجاء بنو العبّاس فغضّوا من أعنّة بني هاشم وقتلوا الطّالبيّين وشرّدوهم فانحلّت عصبيّة عبد مناف وتلاشت وتجاسر العرب عليهم فاستبدّ عليهم أهل القاصية مثل بني الأغلب بإفريقيّة وأهل الأندلس وغيرهم وانقسمت الدّولة ثمّ خرج بنو إدريس بالمغرب وقام البربر بأمرهم إذعانا للعصبيّة الّتي لهم وأمنا أن تصلهم مقاتلة أو حامية للدّولة. فإذا خرج الدّعاة آخرا فيتغلّبون على الأطراف والقاصية وتحصل لهم هناك دعوة وملك تنقسم به الدّولة وربّما يزيد ذلك متى زادت الدّولة تقلّصا إلى أن ينتهي إلى المركز وتضعف البطانة بعد ذلك بما أخذ منها التّرف فتهلك وتضمحلّ وتضعف الدّولة المنقسمة كلّها وربّما طال أمدها بعد ذلك فتستغني عن العصبيّة بما حصل لها من الصّبغة في نفوس أهل إيالتها وهي صبغة الانقياد والتّسليم منذ السّنين الطّويلة الّتي لا يعقل أحد من الأجيال مبدأها ولا أوّليّتها فلا يعقلون إلّا التّسليم لصاحب الدّولة فيستغني بذلك عن قوّة العصائب ويكفي صاحبها بما حصل لها في تمهيد أمرها الإجراء على الحامية من جنديّ ومرتزق ويعضد ذلك ما وقع في النّفوس عامّة من التّسليم فلا يكاد أحد يتصوّر عصيانا أو خروجا إلّا والجمهور منكرون عليه مخالفون له فلا يقدر على التّصدّي لذلك ولو جهد جهده وربّما كانت الدّولة في هذا الحال أسلم من الخوارج والمنازعة لاستحكام صبغة التّسليم والانقياد لهم فلا تكاد النّفوس تحدّث سرّها بمخالفة ولا يختلج في ضميرها انحراف عن الطّاعة فيكون أسلم من الهرج والانتقاض الّذي يحدث من العصائب والعشائر ثمّ لا يزال أمر الدّولة كذلك وهي تتلاشى في ذاتها شأن الحرارة الغريزيّة في البدن العادم للغذاء إلى أن تنتهي إلى وقتها المقدور ولكلّ أجل كتاب ولكلّ دولة أمد والله يقدّر اللّيل والنّهار وهوالواحد القهّار. وأمّا الخلل الّذي يتطرّق من جهة المال فاعلم أنّ الدّولة في أوّلها تكون بدويّة كما مرّ فيكون خلق الرّفق بالرّعايا والقصد في النّفقات والتّعفّف عن الأموال فتتجافى عن الإمعان في الجباية والتّحذلق والكيس في جمع الأموال وحسبان العمّال ولا داعية حينئذ إلى الإسراف في النّفقة فلا تحتاج الدّولة إلى كثرة المال ثمّ يحصل الاستيلاء ويعظم ويستفحل الملك فيدعو إلى التّرف ويكثر الإنفاق بسببه فتعظم نفقات السّلطان وأهل الدّولة على العموم بل يتعدّى ذلك إلى أهل المصر ويدعو ذلك إلى الزّيادة في أعطيات الجند وأرزاق أهل الدّولة ثمّ يعظم التّرف فيكثر الإسراف في النّفقات وينتشر ذلك في الرّعيّة لأنّ النّاس على دين ملوكها وعوائدها ويحتاج السّلطان إلى ضرب المكوس على أثمان البياعات في الأسواق لإدرار الجباية لما يراه من ترف المدينة الشّاهد عليهم بالرّفه ولما يحتاج هو إليه من نفقات سلطانه وأرزاق جنده ثمّ تزيد عوائد التّرف فلا تفي بها المكوس وتكون الدّولة قد استفحلت في الاستطالة والقهر لمن تحت يدها من الرّعايا فتمتدّ أيديهم إلى جمع المال من أموال الرّعايا من مكس أو تجارة أو نقد في بعض الأحوال بشبهة أو بغير شبهة ويكون الجند في ذلك الطّور قد تجاسر على الدّولة بما لحقها من الفشل والهرم في العصبيّة فتتوقّع ذلك منهم وتداوى بسكينة العطايا وكثرة الإنفاق فيهم ولا تجد عن ذلك وليجة وتكون جباة الأموال في الدّولة قد عظمت ثروتهم في هذا الطّور بكثرة الجباية وكونها بأيديهم وبما اتّسع لذلك من جاههم فيتوجّه إليهم باحتجان الأموال من الجباية وتفشو السّعاية فيهم، بعضهم من بعض للمنافسة والحقد فتعمّهم النّكبات والمصادرات واحدا واحدا إلى أن تذهب ثروتهم وتتلاشى أحوالهم ويفقد ما كان للدّولة من الأبّهة والجمال بهم وإذا اصطلمت نعمتهم تجاوزتهم الدّولة إلى أهل الثّروة من الرّعايا سواهم ويكون الوهن في هذا الطّور قد لحق الشّوكة وضعفت عن الاستطالة والقهر فتنصرف سياسة صاحب الدّولة حينئذ إلى مداراة الأمور ببذل المال ويراه أرفع من السّيف لقلّة غنائه فتعظم حاجته إلى الأموال زيادة على النّفقات وأرزاق الجند ولا يغنى فيما يريد ويعظم الهرم بالدّولة ويتجاسر عليها أهل النّواحي والدّولة تنحلّ عراها في كلّ طور من هذه إلى أن تفضي إلى الهلاك وتتعوّض من الاستيلاء الكلل فإن قصدها طالب انتزعها من أيدي القائمين بها وإلّا بقيت وهي تتلاشى إلى أن تضمحلّ كالذّبال في السّراج إذا فني زيته وطفئ والله مالك الأمور ومدبّر الأكوان لا إله إلّا هو.
الفصل الثامن والأربعين فصل في اتساع الدولة أولا إلى نهايته ثم تضايقه طورا بعد طور إلى فناء الدولة واضمحلالها182
قد كان تقدّم لنا في فصل الخلافة والملك، وهو الثّالث من هذه المقدّمة أنّ كلّ دولة لها حصّة من الممالك والعمالات لا تزيد عليها. واعتبر ذلك بتوزيع عصابة الدّولة على حماية أقطارها وجهاتها. فحيث نفد عددهم فالطّرف الّذي انتهى عنده هو الثّغر، ويحيط بالدولة من سائر جهاتها كالنطاق. وقد تكون النهاية هي نطاق الدولة الأولى، وقد تكون أوسع منه إذا كان عدد العصابة أوفر من الدولة قبلها. وهذا كلّه عند ما تكون الدولة في شعار البداوة وخشونة البأس. فإذا استفحل العزّ والغلب وتوفّرت النعم والأرزاق بدرور الجبايات، وزخر بحر التّرف والحضارة ونشأت الأجيال على اعتبار ذلك لطفت أخلاق الحامية ورقّت حواشيهم، وعاد من ذلك إلى نفوسهم هينات الجبن والكسل، بما يعانونه من ضنث الحضارة المؤدّي إلى الانسلاخ من شعار البأس والرجوليّة بمفارقة البداوة وخشونتها، وبأخذهم العزّ بالتطاول إلى الرئاسة والتّنازع عليها، فيفضي إلى قتل بعضهم ببعض، ويكبحهم السّلطان عن ذلك بما يؤدّي إلى قتل أكابرهم وإهلاك رؤسائهم، فتفقد الأمراء والكبراء، وتكثر التّابع والمرءوس، فيقلّ ذلك من حدّ الدولة، ويكسر من شوكتها. ويقع الخلل الأوّل في الدّولة، وهو الّذي من جهة الجند والحامية كما تقدّم. ويساوق ذلك السّرف في النّفقات بما يعتريهم من أبّهة العزّ، وتجاوز الحدود بالبذخ. بالمناغاة في المطاعم والملابس وتشييد القصور واستجادة السّلاح وارتباط الخيول، فيقصر دخل الدّولة حينئذ عن خرجها ويطرق الخلل الثّاني في الدّولة وهو الّذي من جهة المال والجباية. ويحصل العجز والانتقاص بوجود الخللين. وربّما تنافس رؤساؤهم فتنازعوا وعجزوا عن مغالبة المجاورين والمنازعين ومدافعتهم. وربّما اعتزّ أهل الثّغور والأطراف بما يحسبون من ضعف الدّولة وراءهم، فيصيرون إلى الاستغلال والاستبداد بما في أيديهم من العمالات، ويعجز صاحب الدّولة عن حملهم على الجادّة فيضيق نطاق الدّولة عمّا كانت انتهت إليه في أوّلها، وترجع العناية في تدبيرها بنطاق دونه، إلى أن يحدث في النّطاق الثّاني ما حدث في الأوّل بعينه من العجز والكسل في العصابة وقلّة الأموال والجباية. فيذهب القائم بالدّولة إلى تغيير القوانين الّتي كانت عليها سياسة الدّولة من قبل الجند والمال والولايات، ليجري حالها على استقامة بتكافؤ الدّخل والخرج والحامية والعمالات وتوزيع الجباية على الأرزاق، ومقايسة ذلك بأوّل الدّولة في سائر الأحوال. والمفاسد مع ذلك متوقّعة من كلّ جهة. فيحدث في هذا الطّور من بعد ما حدث في الأوّل من قبل، ويعتبر صاحب الدّولة ما اعتبره الأوّل، ويقايسبالوزان 183 الأوّل أحوالها الثّانية، يروم دفع مفاسد الخلل الّذي يتجدّد في كل طور ويأخذ من كلّ طرف حتّى يضيق نطاقها الآخر إلى نطاق دونه كذلك، ويقع فيه ما وقع في الأوّل. فكلّ واحد من هؤلاء المغيّرين للقوانين قبلهم كأنّهم منشئون دولة أخرى، ومجدّدون ملكا. حتّى تنقرض الدّولة، وتتطاول الأمم حولها إلى التّغلّب عليها وإنشاء دولة أخرى لهم، فيقع من ذلك ما قدّر الله وقوعه. واعتبر ذلك في الدّولة الإسلاميّة كيف اتّسع نطاقها بالفتوحات والتّغلّب على الأمم، ثمّ تزايد الحامية وتكاثر عددهم ممّا تخوّلوه من النّعم والأرزاق، إلى أن انقرض أمر بني أميّة وغلب بنو العبّاس. ثمّ تزايد التّرف، ونشأت الحضارة وطرق الخلل، فضاق النطاق من الأندلس والمغرب بحدوث الدّولة الأمويّة المروانيّة والعلويّة، واقتطعوا ذينك الثغرين عن نطاقها، إلى أن وقع الخلاف بين بني الرشيد، وظهر دعاة العلويّة من كلّ جانب، وتمهّدت لهم دول، ثمّ قتل المتوكّل، واستبدّ الأحرار على الخلفاء وحجروهم، واستقلّ الولاة بالعمالات في الأطراف. وانقطع الخراج منها، وتزايد التّرف. وجاء المعتضد فغيّر قوانين الدّولة إلى قانون آخر من السّياسة أقطع فيه ولاة الأطراف ما غلبوا عليه، مثل بني سامان وراء النهر وبني طاهر العراق وخراسان، وبني الصّغار السّند وفارس، وبني طولون مصر، وبني الأغلب إفريقية، إلى أن افترق أمر العرب وغلب العجم، واستبدّ بنو بويه والدّيلم بدولة الإسلام وحجروا الخلافة، وبقي بنو سامان في استبدادهم وراء النّهر، وتطاول الفاطميّون من المغرب إلى مصر والشام فملكوه. ثمّ قامت الدولة السّلجوقيّة من التّرك فاستولوا على ممالك الإسلام وأبقوا الخلفاء في حجرهم، إلى أن تلاشت دولهم. واستبدّ الخلفاء منذ عهد النّاصر في نطاق أضيق من هالة القمر وهو عراق العرب إلى أصبهان وفارس والبحرين. وأقامت الدولة كذلك بعض الشيء إلى أن انقرض أمر الخلفاء على يد هولاكو بن طولي بن دوشي خان ملك التّتر والمغل حين غلبوا السلجوقيّة وملكوا ما كان بأيديهم من ممالك الإسلام. وهكذا يتضايق نطاق كلّ دولة على نسبة نطاقها الأوّل. ولا يزال طورا بعد طور إلى أن تنقرض الدولة. واعتبر ذلك في كلّ دولة عظمت أو صغرت. فهكذا سنّة الله في الدّول إلى أن يأتي ما قدّر الله من الغناء على خلقه. و «كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ 28: 88» 184 .
الفصل التاسع والأربعون في حدوث الدولة وتجددها كيف يقع
الفصل التاسع والأربعون في حدوث الدولة وتجددها كيف يقع اعلم أنّ نشأة الدّول وبداءتها إذا أخذت الدّولة المستقرّة في الهرم والانتقاص تكون على نوعين إمّا بأن يستبدّ ولاة الأعمال في الدّولة بالقاصية عند ما يتقلّص ظلّها عنهم فيكون لكلّ واحد منهم دولة يستجدّها لقومه وما يستقرّ في نصابه يرثه عنه أبناؤه أو مواليه ويستفحل لهم الملك بالتّدريج وربّما يزدحمون على ذلك الملك ويتقارعون عليه ويتنازعون في الاستئثار به ويغلب منهم من يكون له فضل قوّة على صاحبه وينتزع ما في يده كما وقع في دولة بني العبّاس حين أخذت دولتهم في الهرم وتقلّص ظلّها عن القاصية واستبدّ بنو ساسان بما وراء النّهر وبنو حمدان بالموصل والشّام وبنو طولون بمصر وكما وقع بالدّولة الأمويّة بالأندلس وافترق ملكها في الطّوائف الّذين كانوا ولاتها في الأعمال وانقسمت دولا وملوكا أورثوها من بعدهم من قرابتهم أو مواليهم وهذا النّوع لا يكون بينهم وبين الدّولة المستقرّة حربا لأنّهم مستقرّون في رئاستهم ولا يطمعون في الاستيلاء على الدّولة المستقرّة بحرب وإنّما الدّولة أدركها الهرم وتقلّص ظلّها عن القاصية وعجزت عن الوصول إليها والنّوع الثّاني بأن يخرج على الدّولة خارج ممّن يجاورها من الأمم والقبائل إمّا بدعوة يحمل النّاس عليها كما أشرنا إليه أو يكون صاحب شوكة وعصبيّة كبيرا في قومه قد استفحل أمره فيسمو بهم إلى الملك وقد حدّثوا به أنفسهم بما حصل لهم من الاعتزاز على الدّولة المستقرّة وما نزل بها من الهرم فيتعيّن له ولقومه الاستيلاء عليها ويمارسونها بالمطالبة إلى أن يظفروا بها ويزنون 185 كما تبين والله سبحانه وتعالى أعلم.
الفصل الخمسون في ان الدولة المستجدة إنما تستولي على الدولة المستقرة بالمطاولة لا بالمناجزة
قد ذكرنا أنّ الدّول الحادثة المتجدّدة نوعان نوع من ولاية الأطراف إذا تقلّص ظلّ الدّولة عنهم وانحسر تيّارها وهؤلاء لا يقع منهم مطالبة للدّولة في الأكثر كما قدّمناه لأنّ قصاراهم القنوع بما في أيديهم وهو نهاية قوّتهم والنّوع الثّاني نوع الدّعاة والخوارج على الدّولة وهؤلاء لا بدّ لهم من المطالبة لأنّ قوّتهم وافية بها فإنّ ذلك إنّما يكون في نصاب يكون له من العصبيّة والاعتزاز ما هو كفاء 186 ذلك وواف به فيقع بينهم وبين الدّولة المستقرّة حروب سجال تتكوّر وتتّصل إلى أن يقع لهم الاستيلاء والظّفر بالمطلوب ولا يحصل لهم في الغالب ظفر بالمناجزة والسّبب في ذلك أنّ الظّفر في الحروب إنّما يقع كما قدّمناه بأمور نفسانيّة وهمية وإن كان العدد والسّلاح وصدق القتال كفيلا به لكنّه قاصر مع تلك الأمور الوهميّة كما مرّ ولذلك كان الخداع من أرفع ما يستعمل في الحرب وأكثر ما يقع الظّفر به وفي الحديث الحرب خدعة والدّولة المستقرّة قد صيّرت العوائد المألوفة طاعتها ضروريّة واجبة كما تقدّم في غير موضع فتكثر بذلك العوائق لصاحب الدّولة المستجدّة ويكثر من همم أتباعه وأهل شوكته وإن كان الأقربون من بطانته على بصيرة في طاعته ومؤازرته إلّا أنّ الآخرين أكثر وقد داخلهم الفشل بتلك العقائد في التّسليم للدّولة المستقرّة فيحصل بعض الفتور منهم ولا يكاد صاحب الدّولة المستقرّة يرجع إلى الصّبر والمطاولة حتّى يتّضح هرم الدّولة المستقرّة فتضمحلّ عقائد التّسليم لها من قومه وتنبعث منهم الهمم لصدق المطالبة معه فيقع الظّفر والاستيلاء وأيضا فالدّولة المستقرّة كثيرة الرّزق 187 بما استحكم لهم من الملك وتوسّع من النّعيم واللّذّات واختصّوا به دون غيرهم من أموال الجباية فيكثر عندهم ارتباط الخيول واستجادة الأسلحة وتعظم فيهم الأبّهة الملكيّة ويفيض العطاء بينهم من ملوكهم اختيارا واضطرارا فيرهبون بذلك كلّه عدوّهم وأهل الدّولة المستجدّة بمعزل عن ذلك لما هم فيه من البداوة وأحوال الفقر والخصاصة 188 فيسبق إلى قلوبهم أوهام الرّعب بما يبلغهم من أحوال الدّولة المستقرّة ويحرمون عن قتالهم من أجل ذلك فيصير أمرهم إلى المطاولة حتّى تأخذ المستقرّة مأخذها من الهرم ويستحكم الخلل فيها في العصبيّة والجباية فينتهز حينئذ صاحب الدّولة المستجدّة فرصته في الاستيلاء عليها بعد حين منذ المطالبة سنّة الله في عباده وأيضا فأهل الدّولة المستجدّة كلّهم مباينون للدّولة المستقرّة بأنسابهم وعوائدهم وفي سائر مناحيهم ثمّ هم مفاخرون لهم ومنابذون بما وقع من هذه المطالبة وبطمعهم في الاستيلاء عليه فتتمكّن المباعدة بين أهل الدّولتين سرّا وجهرا ولا يصل إلى أهل الدّولة المستجدّة خبر عن أهل الدّولة المستقرّة يصيبون منه غرّة 189 باطنا وظاهرا لانقطاع المداخلة بين الدّولتين فيقيمون على المطالبة وهم في إحجام وينكلون 190 عن المناجزة حتّى يأذن الله بزوال الدّولة المستقرّة وفناء عمرها ووفور الخلل في جميع جهاتها واتّضح لأهل الدّولة المستجدّة مع ما كان يخفى منهم من هرمها وتلاشيها وقد عظمت قوّتهم بما اقتطعوه من أعمالها ونقّصوه من أطرافها فتنبعث هممهم يدا واحدة للمناجزة ويذهب ما كان بثّ في عزائمهم من التّوهّمات وتنتهي المطاولة إلى حدّها ويقع الاستيلاء آخرا بالمعاجلة واعتبر ذلك في دولة بني العبّاس حين ظهورها حين قام الشّيعة بخراسان بعد انعقاد الدّعوة واجتماعهم على المطالبة عشر سنين أو تزيد وحينئذ تمّ لهم الظّفر واستولوا على الدّولة الأمويّة وكذا العلويّة بطبرستان عند ظهور دعوتهم في الدّيلم كيف كانت مطاولتهم حتّى استولوا على تلك النّاحية ثمّ لمّا انقضى أمر العلويّة وسما الدّيلم إلى ملك فارس والعراقين فمكثوا سنين كثيرة يطاولون حتّى اقتطعوا أصبهان ثمّ استولوا على الخليفة ببغداد. وكذا العبيديّون أقام داعيتهم بالمغرب أبو عبد الله الشّيعيّ ببني كتامة من قبائل البربر عشر سنين ويزيد تطاول بني الأغلب بإفريقيّة حتّى ظفر بهم واستولوا على المغرب كلّه وسموا إلى ملك مصر فمكثوا ثلاثين 191 سنة أو نحوها في طلبها يجهّزون إليها العساكر والأساطيل في كلّ وقت ويجيء المدد لمدافعتهم برّا وبحرا من بغداد والشّام وملكوا الإسكندريّة والفيّوم والصّعيد وتخطّت دعوتهم من هنالك إلى الحجاز وأقيمت بالحرمين ثمّ نازل قائدهم جوهر الكاتب بعساكره مدينة مصر واستولى عليها واقتلع دولة بني طغج من أصولها واختطّ القاهرة فجاء الخليفة بعد المعزّ لدين الله فنزلها لستّين سنة أو نحوها منذ استيلائهم على الإسكندريّة وكذا السّلجوقيّة ملوك التّرك لمّا استولوا على بني ساسان وأجازوا من وراء النّهر مكثوا نحوا من ثلاثين سنة يطاولون بني سبكتكين بخراسان حتّى استولوا على دولته. ثمّ زحفوا إلى بغداد فاستولوا عليها وعلى الخليفة بها بعد أيّام من الدّهر. وكذا التّتر من بعدهم خرجوا من المفازة عام سبعة عشر وستّمائة فلم يتمّ لهم الاستيلاء إلّا بعد أربعين سنة. وكذا أهل المغرب خرج به المرابطون من لمتونة على ملوكه من مغراوة فطاولوهم سنين ثمّ استولوا عليه. ثمّ خرج الموحّدون بدعوتهم على لمتونة فمكثوا نحوا من ثلاثين سنة يحاربونهم حتّى استولوا على كرسيّهم بمرّاكش وكذا بنو مرين من زناتة خرجوا على الموحّدين فمكثوا يطاولونهم نحوا من ثلاثين سنة واستولوا على فاس واقتطعوها وأعمالها من ملوكهم ثمّ أقاموا في محاربتهم ثلاثين أخرى حتّى استولوا على كرسيّهم بمراكش حسبما نذكر ذلك كلّه في تواريخ هذه الدّول فهكذا حال الدّول المستجدّة مع المستقرّة في المطالبة والمطاولة سنّة الله في عباده ولن تجد لسنّة الله تبديلا. ولا يعارض ذلك بما وقع في الفتوحات الإسلاميّة وكيف كان استيلاؤهم على فارس والرّوم لثلاث أو أربع من وفاة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم واعلم أنّ ذلك إنّما كان معجزة من معجزات نبيّنا سرّها استماتة المسلمين في جهاد عدوّهم استبعادا بالإيمان وما أوقع الله في قلوب عدوهم من الرّعب والتّخاذل فكان ذلك كلّه خارقا للعادة المقرّرة في مطاولة الدّول المستجدّة للمستقرّة وإذا كان ذلك خارقا فهو من معجزات نبيّنا صلوات الله عليه المتعارف ظهورها في الملّة الإسلاميّة والمعجزات لا يقاس عليها الأمور العاديّة ولا يعترض بها والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التّوفيق.
الفصل الحادي والخمسون في وفور العمران اخر الدولة وما يقع فيها من كثرة الموتان والمجاعات
اعلم أنّه قد تقرّر لك فيما سلف أنّ الدّولة في أوّل أمرها لا بدّ لها من الرّفق في ملكتها 192 والاعتدال في إيالتها إمّا من الدّين إن كانت الدّعوة دينيّة أو من المكارمة والمحاسنة الّتي تقتضيها البداوة الطّبيعيّة للدّول وإذا كانت الملكة رفيقة محسنة انبسطت آمال الرّعايا وانتشطوا للعمران وأسبابه فتوفّر ويكثر التّناسل وإذا كان ذلك كلّه بالتّدريج فإنّما يظهر أثره بعد جيل أو جيلين في الأقلّ وفي انقضاء الجيلين تشرف الدّولة على نهاية عمرها الطّبيعيّ فيكون حينئذ العمران في غاية الوفور والنّماء ولا تقولنّ إنّه قد مرّ لك أنّ أواخر الدّولة يكون فيها الإجحاف بالرّعايا وسوء الملكة فذلك صحيح ولا يعارض ما قلناه لأنّ الإجحاف وإن حدث حينئذ وقلّت الجبايات فإنّما يظهر أثره في تناقص العمران بعد حين من أجل التّدريج في الأمور الطّبيعيّة ثمّ إنّ المجاعات والموتان تكثر عند ذلك في أواخر الدّول والسّبب فيه: إمّا المجاعات فلقبض النّاس أيديهم عن الفلح في الأكثر بسبب ما يقع في آخر الدّولة من العدوان في الأموال والجبايات أو الفتن الواقعة في انتقاص الرّعايا وكثرة الخوارج لهرم الدّولة فيقلّ احتكار الزّرع غالبا وليس صلاح الزّرع وثمرته بمستمرّ الوجود ولا على وتيرة واحدة فطبيعة العالم في كثرة الأمطار وقلّتها مختلفة والمطر يقوى ويضعف ويقلّ ويكثر والزّرع والثّمار والضّرع على نسبته إلّا أنّ النّاس واثقون في أقواتهم بالاحتكار فإذا فقد الاحتكار عظم توقّع النّاس للمجاعات فغلا الزّرع وعجز عنه أولو الخصاصة 193 فهلكوا وكان بعض السّنوات الاحتكار مفقودا فشمل النّاس الجوع وأمّا كثرة الموتان فلها أسباب من كثرة المجاعات كما ذكرناه أو كثرة الفتن لاختلال الدّولة فيكثر الهرج والقتل أو وقوع الوباء وسببه في الغالب فساد الهواء بكثرة العمران لكثرة ما يخالطه من العفن والرّطوبات الفاسدة وإذا فسد الهواء وهو غذاء الرّوح الحيوانيّ وملابسه دائما فيسري الفساد إلى مزاجه فإن كان الفساد قويا وقع المرض في الرّئة وهذه هي الطّواعين وأمراضها مخصوصة بالرّئة وإن كان الفساد دون القويّ والكثير فيكثر العفن ويتضاعف فتكثر الحميّات في الأمزجة وتمرض الأبدان وتهلك وسبب كثرة العفن والرّطوبات الفاسدة في هذا كلّه كثرة العمران ووفوره آخر الدّولة لما كان في أوائلها من حسن الملكة ورفقها وقلّة المغرم وهو ظاهر ولهذا تبيّن في موضعه من الحكمة أنّ تخلّل الخلاء والقفر بين العمران ضروريّ ليكون تموّج الهواء يذهب بما يحصل في الهواء من الفساد والعفن بمخالطة الحيوانات ويأتي بالهواء الصّحيح ولهذا أيضا فإنّ الموتان يكون في المدن الموفورة العمران أكثر من غيرها بكثير كمصر بالمشرق وفاس بالمغرب والله يقدّر ما يشاء 194
الفصل الثاني والخمسون في أن العمران البشري لا بد له من سياسة ينتظم بها أمره
اعلم أنّه قد تقدّم لنا في غير موضع أنّ الاجتماع للبشر ضروريّ وهو معنى العمران الّذي نتكلّم فيه وأنّه لا بدّ لهم في الاجتماع من وازع حاكم يرجعون إليه وحكمه فيهم تارة يكون مستندا إلى شرع منزل من عند الله يوجب انقيادهم إليه إيمانهم بالثّواب والعقاب عليه الّذي جاء به مبلّغه وتارة إلى سياسة عقليّة يوجب انقيادهم إليها ما يتوقّعونه من ثواب ذلك الحاكم بعد معرفته بمصالحهم. فالأولى يحصل نفعها في الدّنيا والآخرة لعلم الشّارع بالمصالح في العاقبة ولمراعاته نجاة العباد في الآخرة والثّانية إنّما يحصل نفعها في الدّنيا فقط وما تسمعه من السّياسة المدنيّة فليس من هذا الباب وإنّما معناه عند الحكماء ما يجب أن يكون عليه كلّ واحد من أهل ذلك المجتمع في نفسه وخلقه حتّى يستغنوا عن الحكّام رأسا ويسمّون المجتمع الّذي يحصل فيه ما يسمّى من ذلك «بالمدينة الفاضلة» ، والقوانين المراعاة في ذلك «بالسّياسة المدنيّة» وليس مرادهم السّياسة الّتي يحمل عليها أهل الاجتماع بالمصالح العامّة فإنّ هذه غير تلك وهذه المدينة الفاضلة عندهم نادرة أو بعيدة الوقوع وإنّما يتكلّمون عليها على جهة الفرض والتّقدير ثمّ إنّ السّياسة العقليّة الّتي قدّمناها تكون على وجهين أحدهما يراعى فيها المصالح على العموم ومصالح السّلطان في استقامة ملكه على الخصوص وهذه كانت سياسة الفرس وهي على جهة الحكمة. وقد أغنانا الله تعالى عنها في الملّة ولعهد الخلافة لأنّ الأحكام الشّرعيّة مغنية عنها في المصالح العامّة والخاصّة وأحكام الملك مندرجة فيها. الوجه الثّاني أن يراعى فيها مصلحة السّلطان وكيف يستقيم له الملك مع القهر والاستطالة وتكون المصالح العامّة في هذه تبعا وهذه السّياسة الّتي يحمل عليها أهل الاجتماع الّتي لسائر الملوك في العالم من مسلم وغيره إلّا أنّ ملوك المسلمين يجرون منها على ما تقتضيه الشّريعة الإسلاميّة بحسب جهدهم فقوانينها إذا مجتمعة من أحكام شرعيّة وآداب خلقيّة وقوانين في الاجتماع طبيعيّة، وأشياء من مراعاة الشّوكة والعصبيّة ضروريّة والاقتداء فيها بالشّرع أوّلا ثمّ الحكماء في آدابهم والملوك في سيرهم ومن أحسن ما كتب في ذلك وأودع كتاب طاهر بن الحسين لابنه عبد الله بن طاهر لمّا ولّاه المأمون الرّقّة ومصر وما بينهما فكتب إليه أبوه طاهر كتابه المشهور عهد إليه فيه ووصّاه بجميع ما يحتاج إليه في دولته وسلطانه من الآداب الدّينيّة والخلقيّة والسّياسة الشّرعيّة والملوكيّة، وحثّه على مكارم الأخلاق ومحاسن الشّيم بما لا يستغني عنه ملك ولا سوقة. ونصّ الكتاب (بسم الله الرحمن الرحيم) أمّا بعد فعليك بتقوى الله وحده لا شريك له وخشيته ومراقبته عزّ وجلّ ومزايلة 195 سخطه واحفظ رعيّتك في اللّيل والنّهار والزم ما ألبسك الله من العافية بالذّكر لمعادك وما أنت صائر إليه وموقوف عليه ومسئول عنه، والعمل في ذلك كلّه بما يعصمك الله عزّ وجلّ وينجّيك يوم القيامة من عقابه وأليم عذابه فإنّ الله سبحانه قد أحسن إليك وأوجب الرّأفة عليك بمن استرعاك أمرهم من عباده وألزمك العدل فيهم والقيام بحقّه وحدوده عليهم والذبّ عنهم والدّفع عن حريمهم ومنصبهم والحقن لدمائهم والأمن لسربهم وإدخال الرّاحة عليهم ومؤاخذك بما فرض عليك وموقفك عليه وسائلك عنه ومثيبك عليه بما قدّمت وأخّرت ففرّغ لذلك فهمك وعقلك وبصرك ولا يشغلك عنه شاغل، وإنّه رأس أمرك وملاك 196 شأنك وأوّل ما يوقفك الله عليه وليكن أوّل ما تلزم به نفسك وتنسب إليه فعلك المواظبة على ما فرض الله عزّ وجلّ عليك من الصّلوات الخمس والجماعة عليها بالنّاس قبلك وتوابعها على سننها من إسباغ الوضوء لها وافتتاح ذكر الله عزّ وجلّ فيها ورتّل في قراءتك وتمكّن في ركوعك وسجودك وتشهّدك ولتصرف فيه رأيك ونيّتك واحضض عليه جماعة ممّن معك وتحت يدك وادأب عليها فإنّها كما قال الله عزّ وجلّ تنهى عن الفحشاء والمنكر ثمّ اتّبع ذلك بالأخذ بسنن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمثابرة على خلائقه واقتفاء أثر السّلف الصّالح من بعده، وإذا ورد عليك أمر فاستعن عليه باستخارة الله عزّ وجلّ وتقواه وبلزوم ما أنزل الله عزّ وجلّ في كتابه من أمره ونهيه وحلاله وحرامه وائتمام ما جاءت به الآثار عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثمّ قم فيه بالحقّ للَّه عزّ وجلّ ولا تميلنّ عن العدل فيما أحببت أو كرهت لقريب من النّاس أو لبعيد وآثر الفقه وأهله والدّين وحملته وكتاب الله عزّ وجلّ والعاملين به 197 فإنّ أفضل ما يتزيّن به المرء الفقه في الدّين والطّلب له والحثّ عليه والمعرفة بما يتقرّب به إلى الله عزّ وجلّ فإنّه الدّليل على الخير كلّه والقائد إليه والآمر والنّاهي عن المعاصي والموبقات كلّها ومع توفيق الله عزّ وجلّ يزداد المرء معرفة وإجلالا له ودركا 198 للدّرجات العلى في المعاد مع ما في ظهوره للنّاس من التّوقير لأمرك والهيبة لسلطانك والأنسة بك والثّقة بعدلك وعليك بالاقتصاد في الأمور كلّها فليس شيء أبين نفعا ولا أخصّ أمنا ولا أجمع فضلا منه. والقصد داعية إلى الرّشد والرّشد دليل على التّوفيق والتّوفيق قائد إلى السّعادة وقوام الدّين والسّنن الهادية بالاقتصاد وكذا في دنياك كلّها. ولا تقصّر في طلب الآخرة والأجر والأعمال الصّالحة والسّنن المعروفة ومعالم الرّشد والإعانة والاستكثار من البرّ والسّعي له إذا كان يطلب به وجه الله تعالى ومرضاته ومرافقة أولياء الله في دار كرامته أما تعلم أنّ القصد في شأن الدّنيا يورث العزّ ويمحّص من الذّنوب وأنّك لن تحوط نفسك من قائل ولا تنصلح أمورك بأفضل منه فأته واهتد به تتمّ أمورك وتزد مقدرتك وتصلح عامّتك وخاصّتك وأحسن ظنّك باللَّه عزّ وجلّ تستقم لك رعيّتك والتمس الوسيلة إليه في الأمور كلّها تستدم به النّعمة عليك ولا تتهمنّ أحدا من النّاس فيما تولّيه من عملك قبل أن تكشف أمره فإنّ إيقاع التّهم بالبراء والظّنون السّيئة بهم آثم إثم. فاجعل من شأنك حسن الظّنّ بأصحابك واطرد عنك سوء الظّنّ بهم، وارفضه فيهم يعنك ذلك على استطاعتهم ورياضتهم. ولا يجدنّ عدوّ الله الشّيطان في أمرك مغمزا 199 فإنّه يكتفي بالقليل من وهنك ويدخل عليك من الغمّ بسوء الظّنّ بهم ما ينقص لذاذة عيشك. واعلم أنّك تجد بحسن الظّنّ قوّة وراحة، وتكتفي به ما أحببت كفايته من أمورك وتدعو به النّاس إلى محبّتك والاستقامة في الأمور كلّها ولا يمنعك حسن الظّنّ بأصحابك والرّأفة برعيّتك أن تستعمل المسألة والبحث عن أمورك والمباشرة لأمور الأولياء وحياطة الرّعيّة والنّظر في حوائجهم وحمل مئوناتهم أيسر عندك ممّا سوى ذلك فإنّه أقوم للدّين وأحيا للسّنّة. وأخلص نيّتك في جميع هذا وتفرّد بتقويم نفسك تفرّد من يعلم أنّه مسئول عمّا صنع ومجزيّ بما أحسن ومؤاخذ بما أساء فإنّ الله عزّ وجلّ جعل الدّين حرزا وعزّا ورفع من اتّبعه وعزّزه واسلك بمن تسوسه وترعاه نهج الدّين وطريقة الهدى 200 . وأقم حدود الله تعالى في أصحاب الجرائم على قدر منازلهم وما استحقّوه ولا تعطّل ذلك ولا تتهاون به ولا تؤخّر عقوبة أهل العقوبة فإنّ في تفريطك في ذلك ما يفسد عليك حسن ظنّك واعتزم على أمرك في ذلك بالسّنن المعروفة وجانب البدع والشّبهات يسلم لك دينك وتقم لك مروءتك. وإذا عاهدت عهدا فأوف به وإذا وعدت خيرا فأنجزه واقبل الحسنة وادفع بها، واغمض عن عيب كلّ ذي عيب من رعيّتك، واشدد لسانك عن قول الكذب والزّور، وأبغض أهل النّميمة، فإنّ أوّل فساد أمورك في عاجلها وآجلها، تقريب الكذوب، والجراءة على الكذب، لأنّ الكذب رأس المآثم، والزّور والنّميمة خاتمتها، لأنّ النّميمة لا يسلم صاحبها وقائلها، لا يسلم له صاحب ولا يستقيم له أمر. وأحبب أهل الصّلاح. والصّدق، وأعزّ الأشراف بالحقّ، وآس 201 الضّعفاء، وصل الرّحم، وابتغ بذلك وجه الله تعالى وإعزاز أمره، والتمس فيه ثوابه والدّار الآخرة. واجتنب سوء الأهواء والجور، واصرف عنهما رأيك، وأظهر براءتك من ذلك لرعيّتك وأنعم بالعدل في سياستهم 202 وقم بالحقّ فيهم، وبالمعرفة الّتي تنتهي بك إلى سبيل الهدى. وأملك نفسك عند الغضب، وآثر الحلم والوقار، وإيّاك والحدّة والطّيش والغرور فيما أنت بسبيله. وإيّاك أن تقول أنا مسلّط أفعل ما أشاء فإنّ ذلك سريع إلى نقص الرّأي وقلّة اليقين باللَّه 203 عزّ وجلّ وأخلص للَّه وحده النّيّة فيه واليقين به. واعلم أنّ الملك للَّه سبحانه وتعالى يؤتيه من يشاء وينزعه ممّن يشاء. ولن تجد تغيّر النّعمة وحلول النّقمة على أحد أسرع منه إلى حملة 204 النّعمة من أصحاب السّلطان والمبسوط لهم في الدّولة إذا كفروا نعم الله وإحسانه واستطالوا بما أعطاهم الله عزّ وجلّ من فضله. ودع عنك شره نفسك ولتكن ذخائرك وكنوزك الّتي تدّخر وتكنز البرّ والتّقوى واستصلاح الرّعيّة وعمارة بلادهم والتّفقّد لأمورهم والحفظ لدمائهم والإغاثة لملهوفهم. واعلم أنّ الأموال إذا اكتنزت وادّخرت في الخزائن لا تنمو وإذا كانت في صلاح الرّعيّة وإعطاء حقوقهم وكفّ الأذيّة عنهم نمت وزكت وصلحت بها العامّة وترتّبت بها الولاية وطاب بها الزّمان واعتقد فيها العزّ والمنفعة. فليكن كنز خزائنك تفريق الأموال في عمارة الإسلام وأهله. ووفّر منه على أولياء أمير المؤمنين قبلك حقوقهم وأوف من ذلك حصصهم وتعهّد ما يصلح أمورهم ومعاشهم فإنّك إذا فعلت ذلك قرّت النّعمة عليك 205 واستوجبت المزيد من الله تعالى وكنت بذلك على جباية خراجك وجمع أموال رعيّتك وعملك أقدر 206 وكان الجميع لما شملهم من عدلك وإحسانك أسلس لطاعتك وأطيب أنفسا بكلّ ما أردت 207 وأجهد نفسك فيما حدّدت لك في هذا الباب وليعظم حقّك فيه وإنّما يبقى من المال ما أنفق في سبيل الله واعرف للشّاكرين حقّهم وأثبهم عليه وإيّاك أن تنسيك الدّنيا وغرورها هول الآخرة فتتهاون بما يحقّ عليك فإنّ التّهاون يورث التّفريط والتّفريط يورث البوار. وليكن عملك للَّه عزّ وجلّ وارج الثّواب فيه 208 فإنّ الله سبحانه قد أسبغ عليك فضله. واعتصم بالشكر وعليه فاعتمد يزدك الله خيرا وإحسانا فإنّ الله عزّ وجلّ يثيب بقدر شكر الشّاكرين وإحسان المحسنين. ولا تحقّرنّ ذنبا ولا تمالئنّ حاسدا ولا ترحمنّ فاجرا ولا تصلنّ كفورا ولا تداهننّ عدوا ولا تصدّقنّ نمّاما ولا تأمننّ غدّارا ولا توالينّ فاسقا ولا تتّبعنّ غاويا ولا تحمدنّ مرائيا ولا تحقّرنّ إنسانا ولا تردّنّ سائلا فقيرا ولا تحسننّ باطلا ولا تلاحظنّ مضحكا ولا تخلفنّ وعدا ولا تزهونّ فخرا ولا تظهرنّ غضبا ولا تبايننّ رجاء ولا تمشينّ مرحا ولا تفرطنّ في طلب الآخرة ولا ترفع 209 للنّمام عينا ولا تغمضنّ عن ظالم رهبة منه أو محاباة ولا تطلبنّ ثواب الآخرة في الدّنيا. وأكثر مشاورة الفقهاء واستعمل نفسك بالحلم وخذ عن أهل التّجارب وذوي العقل والرّأي والحكمة. ولا تدخلنّ في مشورتك أهل الرّفه والبخل ولا تسمعنّ لهم قولا فإنّ ضررهم أكثر من نفعهم وليس شيء أسرع فسادا لما استقبلت فيه أمر رعيّتك من الشّحّ. واعلم أنّك إذا كنت حريصا كنت كثير الأخذ قليل العطيّة وإذا كنت كذلك لم يستقم لك أمرك 210 إلّا قليلا فإنّ رعيّتك إنّما تعقد على محبّتك بالكفّ عن أموالهم وترك الجور عليهم. وابتدئ 211 من صافاك من أوليائك بالإفضال عليهم وحسن العطيّة لهم. واجتنب الشّحّ واعلم أنّه أوّل ما عصى الإنسان به ربّه وإنّ العاصي بمنزلة خزي 212 وهو قول الله عزّ وجلّ «وَمن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ 59: 9» 213 فسهّل طريق الجود بالحقّ واجعل للمسلمين كلّهم من فيئك 214 حظّا ونصيبا وأيقن أنّ الجود أفضل أعمال العباد فأعدّه لنفسك خلقا وارض به عملا ومذهبا. وتفقّد الجند في دواوينهم ومكانتهم 215 وأدرّ عليهم أرزاقهم ووسّع عليهم في معايشهم يذهب الله عزّ وجلّ بذلك فاقتهم فيقوى لك أمرهم وتزيد قلوبهم في طاعتك وأمرك خلوصا وانشراحا. وحسب ذي السّلطان من السّعادة أن يكون على جنده ورعيّته ذا رحمة في عدله وحيطته 216 وإنصافه وعنايته وشفقته وبرّه وتوسعته فزايل مكروه أحد البابين باستشعار فضيلة 217 الباب الآخر ولزوم العمل به تلق إن شاء الله تعالى نجاحا وصلاحا وفلاحا. واعلم أنّ القضاء من الله تعالى بالمكان الّذي ليس فوقه شيء من الأمور لأنّه ميزان الله الّذي تعدّل عليه أحوال النّاس في الأرض. وبإقامة العدل في القضاء والعمل تصلح أحوال الرّعيّة وتأمن السّبل وينتصف المظلوم وتأخذ النّاس حقوقهم وتحسن المعيشة ويؤدّى حقّ الطّاعة ويرزق الله العافية والسّلامة ويقيم الدّين ويجري السّنن والشّرائع في مجاريها. واشتدّ في أمر الله عزّ وجلّ وتورّع عن النّطف 218 وامض لإقامة الحدود. وأقلّ 219 العجلة وأبعد عن الضّجر والقلق واقنع بالقسم وانتفع بتجربتك وانتبه في صمتك واسدد في منطقك وأنصف الخصم وقف عند الشّبهة وأبلغ في الحجّة ولا يأخذك في أحد من رعيّتك محاباة ولا مجاملة ولا لومة لائم وتثبّت وتأنّ وراقب وانظر وتنكّر وتدبّر واعتبر وتواضع لربّك وارفق بجميع الرّعيّة وسلّط الحقّ على نفسك ولا تسرعنّ إلى سفك دم، فإنّ الدّماء من الله عزّ وجلّ بمكان عظيم انتهاكا لها بغير حقّها. وانظر هذا الخراج الّذي استقامت عليه الرّعيّة وجعله الله للإسلام عزّا ورفعة ولأهله توسعة ومنعة ولعدوّه وعدوّهم 220 كبتا وغيظا ولأهل الكفر من معاديهم ذلّا وصغارا فوزّعه بين أصحابه بالحقّ والعدل والتّسوية والعموم ولا تدفعنّ شيئا منه عن شريف لشرفه ولا عن غني لغناه ولا عن كاتب لك ولا عن أحد من خاصّتك ولا حاشيتك ولا تأخذنّ منه فوق الاحتمال له. ولا تكلّف أمرا فيه شطط. واحمل النّاس كلّهم على أمر الحقّ فإنّ ذلك أجمع لأنفسهم 221 وألزم لرضاء العامّة. واعلم أنّك جعلت بولايتك خازنا وحافظا وراعيا وإنّما سمّي أهل عملك رعيّتك لأنّك راعيهم وقيّمهم. فخذ منهم ما أعطوك من عفوهم ونفّذه في قوام أمرهم وصلاحهم وتقويم أودهم. واستعمل عليهم أولي الرّأي والتّدبير والتّجربة والخبرة بالعلم والعمل 222 بالسياسة والعفاف. ووسّع عليهم في الرّزق فإنّ ذلك من الحقوق اللّازمة لك فيما تقلّدت وأسند إليك فلا يشغلك عنه شاغل ولا يصرفك عنه صارف فإنّك متى آثرته وقمت فيه بالواجب استدعيت به زيادة النّعمة من ربّك وحسن الأحدوثة في عملك واجتررت به المحبّة من رعيّتك وأعنت على الصّلاح فدرّت الخيرات ببلدك وفشت العمارة بناحيتك وظهر الخصب في كورك وكثر خراجك وتوفّرت أموالك وقويت بذلك على ارتياض جندك وإرضاء العامّة بإفاضة العطاء فيهم من نفسك وكنت محمود السّياسة مرضيّ العدل في ذلك عند عدوّك وكنت في أمورك كلّها ذا عدل وآلة وقوّة وعدّة. فنافس 223 في ذلك ولا تقدّم عليه شيئا تحمد عاقبة أمرك إن شاء الله تعالى. واجعل في كلّ كورة من عملك أمينا يخبرك أخبار 224 عمّالك ويكتب إليك بسيرهم وأعمالهم حتّى كأنّك مع كلّ عامل في عمله معاين لأموره كلّها. فإن أردت أن تأمرهم بأمر فانظر في عواقب ما أردت من ذلك فإن رأيت السّلامة فيه والعافية ورجوت فيه حسن الدّفاع والصّنع فأمضه وإلّا فتوقّف عنه وراجع أهل البصر والعلم به ثمّ خذ فيه عدّته فإنّه ربّما نظر الرّجل في أمره وقدّره وأتاه على ما يهوى 225 فأغواه ذلك وأعجبه فإن لم ينظر في عواقبه أهلكه ونقص عليه أمره. فاستعمل الحزم في كلّ ما أردت وباشره بعد عون الله عزّ وجلّ بالقوّة. وأكثر من استخارة ربّك في جميع أمورك. وافرغ من يومك ولا تؤخّره لغدك وأكثر مباشرته بنفسك فإنّ للغد 226 أمورا وحوادث تلهيك عن عمل يومك الّذي أخّرت. واعلم أنّ اليوم إذا مضى ذهب بما فيه وإذا أخّرت عمله اجتمع عليك عمل يومين فيثقلك 227 ذلك حتّى تمرض منه. وإذا أمضيت لكلّ يوم عمله أرحت بدنك ونفسك وجمعت أمر سلطانك وانظر أحرار النّاس وذوي الفضل منهم ممّن بلوت صفاء طويّتهم وشهدتّ مودّتهم لك ومظاهرتهم بالنّصح والمحافظة على أمرك فاستخلصهم وأحسن إليهم وتعاهد أهل البيوتات ممّن قد دخلت عليهم الحاجة واحتمل مئونتهم وأصلح حالهم حتّى لا يجدوا لخلّتهم مسّا 228 وأفرد نفسك للنّظر 229 في أمور الفقراء والمساكين ومن لا يقدر على رفع مظلمته إليك والمحتقر الّذي لا علم له بطلب حقّه فسل عنه أحفى مسألة ووكّل بأمثاله أهل الصّلاح من رعيّتك ومرهم برفع حوائجهم وحالاتهم 230 إليك لتنظر فيما يصلح الله به أمرهم وتعاهد ذوي البأساء وأيتامهم 231 وأراملهم واجعل لهم أرزاقا من بيت المال اقتداء بأمير المؤمنين أعزّه الله تعالى في العطف عليهم والصّلة لهم ليصلح الله بذلك عيشهم ويرزقك به بركة وزيادة. وأجر للأضرّاء من بيت المال وقدّم حملة القرآن منهم والحافظين لأكثره في الجراية على غيرهم وانصب لمرضى المسلمين دورا تأويهم وقوّاما يرفقون بهم وأطبّاء يعالجون أسقامهم وأسعفهم بشهواتهم ما لم يؤدّ ذلك إلى إسراف 232 في بيت المال. واعلم أنّ النّاس إذا أعطوا حقوقهم وأفضل أمانيّهم لم يرضهم ذلك ولم تطب أنفسهم دون رفع حوائجهم إلى ولاتهم طمعا في نيل الزّيادة وفضل الرّفق منهم 233 . وربّما تبرّم المتصفّح لأمور النّاس لكثرة ما يرد عليه ويشغل فكره وذهنه فيها 234 ما يناله به من مئونة ومشقّة. وليس من يرغب في العدل ويعرف محاسن أموره في العاجل وفضل ثواب الآجل كالّذي يستقبل ما يقرّبه إلى الله تعالى ويلتمس رحمته 235 وأكثر الإذن للنّاس عليك وأبرز لهم 236 وجهك وسكّن لهم حواسّك واخفض لهم جناحك وأظهر لهم بشرك ولن لهم في المسألة والنّطق واعطف عليهم بجودك وفضلك. وإذا أعطيت فأعط بسماحة وطيب نفس والتماس للصّنيعة والأجر من غير تكدير ولا امتنان فإنّ العطيّة على ذلك تجارة مربحة إن شاء الله تعالى. واعتبر بما ترى من أمور الدّنيا ومن مضى قبلك من أهل السّلطان والرّئاسة في القرون الخالية والأمم البائدة. ثمّ اعتصم في أحوالك كلّها باللَّه سبحانه وتعالى والوقوف عند محبّته والعمل بشريعته وسنته وبإقامة دينه وكتابه واجتنب ما فارق ذلك وخالفه ودعا إلى سخط الله عزّ وجلّ. واعرف ما يجمع عمّالك من الأموال وما ينفقون منها ولا تجمع حراما ولا تنفق إسرافا. وأكثر مجالسة العلماء ومشاورتهم ومخالطتهم وليكن هواك اتّباع السّنن وإقامتها وإيثار مكارم الأخلاق ومعاليها وليكن أكرم دخلائك وخاصّتك عليك من إذا رأى عيبا فيك لم تمنعه هيبتك عن إنهاء ذلك إليك في سرّك وإعلانك 237 بما فيه من النّقص فإنّ أولئك أنصح أوليائك ومظاهرون لك 238 . وانظر عمّالك الّذين بحضرتك وكتّابك فوقّت لكلّ رجل منهم في كلّ يوم وقتا يدخل فيه عليك بكتبه ومؤامراته وما عنده من حوائج عمّالك وأمور الدّولة ورعيّتك ثمّ فرّغ لما يورد عليك من ذلك سمعك وبصرك وفهمك وعقلك وكرّر النّظر فيه والتّدبّر له فما كان موافقا للحقّ والحزم فأمضه واستخر الله عزّ وجلّ فيه وما كان مخالفا لذلك فاصرفه إلى المسألة عنه والتّثبّت منه ولا تمننّ على رعيّتك ولا غيرهم بمعروف تؤتيه إليهم. ولا تقبل من أحد إلّا الوفاء والاستقامة والعون في أمور أمير 239 المسلمين ولا تضعنّ المعروف إلّا على ذلك. وتفهّم كتابي إليك وأنعم النّظر فيه والعمل به واستعن باللَّه على جميع أمورك واستخره فإنّ الله عزّ وجلّ مع الصّلاح وأهله وليكن أعظم سيرتك وأفضل رغبتك ما كان للَّه عزّ وجلّ رضى ولدينه نظاما ولأهله عزّا وتمكينا وللملّة والذّمّة 240 عدلا وصلاحا وأنا أسأل الله أن يحسن عونك وتوفيقك ورشدك وكلاءتك والسّلام. وحدّث الأخباريّون أنّ هذا الكتاب لمّا ظهر وشاع أمره أعجب به النّاس واتّصل بالمأمون فلمّا قرئ عليه قال ما أبقى أبو الطّيّب يعني طاهرا شيئا من أمور الدّنيا والدّين والتّدبير والرّأي والسّياسة وصلاح الملك والرّعيّة وحفظ السّلطان وطاعة الخلفاء وتقويم الخلافة إلّا وقد أحكمه وأوصى به ثمّ أمر المأمون فكتب به إلى جميع العمّال في النّواحي ليقتدوا به ويعملوا بما فيه هذا أحسن ما وقفت عليه في هذه السّياسة والله أعلم.
الفصل الثالث والخمسون في أمر الفاطمي وما يذهب إليه الناس في شأنه وكشف الغطاء عن ذلك
اعلم أنّ في المشهور بين الكافّة من أهل الإسلام على ممرّ الأعصار أنّه لا بدّ في آخر الزّمان من ظهور رجل من أهل البيت يؤيّد الدّين ويظهر العدل ويتبعه المسلمون ويستولي على الممالك الإسلاميّة ويسمّى بالمهديّ ويكون خروج الدّجّال وما بعده من أشراط 241 السّاعة الثّابتة في الصّحيح على أثره وأنّ عيسى ينزل من بعده فيقتل الدّجّال أو ينزل معه فيساعده على قتله ويأتمّ بالمهديّ في صلاته ويحتجّون في الشّأن بأحاديث خرّجها الأئمّة وتكلّم فيها المنكرون لذلك وربّما عارضوها ببعض الأخبار وللمتصوّفة المتأخّرين في أمر هذا الفاطميّ طريقة أخرى ونوع من الاستدلال وربّما يعتمدون في ذلك على الكشف الّذي هو أصل طرائقهم. ونحن الآن نذكر هنا الأحاديث الواردة في هذا الشّأن وما للمنكرين فيها من المطاعن وما لهم في إنكارهم من المستند ثمّ نتبعه بذكر كلام المتصوّفة ورأيهم ليتبيّن لك الصّحيح من ذلك إن شاء الله تعالى فنقول إنّ جماعة من الأئمّة خرّجوا أحاديث المهديّ منهم التّرمذيّ وأبو داود والبزّاز وابن ماجة والحاكم والطّبرانيّ وأبو يعلى الموصليّ وأسندوها إلى جماعة من الصّحابة مثل عليّ وابن عبّاس وابن عمر وطلحة وابن مسعود وأبي هريرة وأنس وأبي سعيد الخدريّ وأمّ حبيبة وأمّ سلمة وثوبان وقرّة بن إياس وعليّ الهلاليّ وعبد الله بن الحارث بن جزء بأسانيد ربّما يعرّض لها المنكرون كما نذكره إلّا أنّ المعروف عند أهل الحديث أنّ الجرح مقدّم على التّعديل فإذا وجدنا طعنا في بعض رجال الأسانيد بغفلة أو بسوء حفظ أو ضعف أو سوء رأي تطرّق ذلك إلى صحّة الحديث وأوهن منها ولا تقولنّ مثل ذلك ربّما يتطرّق إلى رجال الصّحيحين فإنّ الإجماع قد اتّصل في الأمّة على تلقّيهما بالقبول والعمل بما فيهما وفي الإجماع أعظم حماية وأحسن دفعا وليس غير الصّحيحين بمثابتهما في ذلك فقد تجد مجالا للكلام في أسانيدها بما نقل عن أئمّة الحديث في ذلك. ولقد توغّل أبو بكر بن أبي خيثمة على ما نقل السهيليّ عنه في جمعه للأحاديث الواردة في المهديّ فقال ومن أغربها إسنادا ما ذكره أبو بكر الإسكاف في فوائد الأخبار مستندا إلى مالك بن أنس عن محمّد بن المنكدر عن جابر قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من كذّب بالمهديّ فقد كفر ومن كذّب بالدّجال فقد كذب 242 وقال في طلوع الشّمس من مغربها مثل ذلك فيما أحسب وحسبك هذا غلوّا. والله أعلم بصحة طريقه إلى مالك بن أنس على أنّ أبا بكر الإسكاف عندهم متّهم وضّاع. وأمّا التّرمذيّ فخرج هو وأبو داود بسنديهما إلى ابن عبّاس من طريق عاصم بن أبي النّجود أحد القرّاء السّبعة إلى زرّ بن حبيش عن عبد الله بن مسعود عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لو لم يبق من الدّنيا إلّا يوم لطوّل الله ذلك اليوم حتّى يبعث الله فيه رجلا منّي أو من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي. هذا لفظ أبي داود وسكت عليه وقال في رسالته المشهورة إنّ ما سكت عليه في كتابه فهو صالح ولفظ التّرمذيّ لا تذهب الدّنيا حتّى يملك العرب رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي وفي لفظ آخر حتّى يلي رجل من أهل بيتي وكلاهما حديث حسن صحيح ورواه أيضا من طريق موقوفا على أبي هريرة وقال الحاكم رواه الثّوريّ وشعبة وزائدة وغيرهم من أئمّة المسلمين عن عاصم قال: وطرق عاصم عن زرّ عن عبد الله كلّها صحيحة على ما أصّلته من الاحتجاج بأخبار عاصم إذ هو إمام من أئمّة المسلمين (انتهى) إلّا أنّ عاصما قال فيه أحمد بن حنبل: كان رجلا صالحا قارئا للقرآن خيّرا ثقة والأعمش أحفظ منه وكان شعبة يختار الأعمش عليه في تثبيت الحديث وقال العجليّ كان يختلف عليه في زرّ وأبي وائل يشير بذلك إلى ضعف روايته عنهما وقال محمّد بن سعد كان ثقة إلّا أنّه كثير الخطإ في حديثه وقال يعقوب بن سفيان في حديثه اضطراب وقال عبد الرّحمن بن أبي حاتم قلت لأبي إنّ أبا زرعة يقول عاصم ثقة فقال ليس محلّه هذا وقد تكلّم فيه ابن عليّة فقال كلّ من اسمه عاصم سيّئ الحفظ وقال أبو حاتم محلّه عندي محلّ الصّدق صالح الحديث ولم يكن بذلك الحافظ واختلف فيه قول النّسائيّ وقال ابن حرّاش في حديثه نكرة وقال أبو جعفر العقيليّ لم يكن فيه إلّا سوء الحفظ وقال الدّارقطنيّ في حفظه شيء وقال يحيى القطّان ما وجدت رجلا اسمه عاصم إلّا وجدته رديء الحفظ وقال أيضا سمعت شعبة يقول حدّثنا عاصم بن أبي النّجود وفي النّاس ما فيها وقال الذّهبيّ ثبت في القراءة وهو حسن الحديث. وإن احتجّ أحد بأنّ الشّيخين أخرجا له فنقول أخرجا له مقرونا بغيره لا أصلا والله أعلم. وخرّج أبو داود في الباب عن عليّ رضي الله عنه من رواية قطن بن خليفة عن القاسم بن أبي مرّة عن أبي الطّفيل عن عليّ عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «لو لم يبق من الدّهر إلّا يوم لبعث الله رجلا من أهل بيتي يملأها عدلا كما ملئت جورا» وقطن 243 بن خليفة وإن وثقه أحمد ويحيى بن القطّان وابن معين والنّسائيّ وغيرهم إلّا أنّ العجليّ قال: حسن الحديث وفيه تشيّع قليل: وقال ابن معين مرّة: ثقة شيعيّ. وقال أحمد بن عبد الله بن يونس: كنّا نمرّ على قطن وهو مطروح لا نكتب عنه. وقال مرّة: كنت أمرّ به وأدعه مثل الكلب. وقال الدّارقطنيّ: لا يحتجّ به. وقال أبو بكر بن عيّاش: ما تركت الرّواية عنه إلّا لسوء مذهبه. وقال الجرجانيّ: زائغ غير ثقة انتهى. وخرّج أبو داود أيضا بسنده إلى عليّ رضي الله عنه عن مروان بن المغيرة عن عمر بن أبي قيس عن شعيب بن أبي خالد عن أبي إسحاق النّسفيّ قال: قال عليّ ونظر إلى ابنه الحسن إنّ ابني هذا سيّد كما سمّاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سيخرج من صلبه رجل يسمّى باسم نبيّكم يشبهه في الخلق ولا يشبهه في الخلق يملأ الأرض عدلا وقال هارون حدّثنا عمر بن أبي قيس عن مطرّف بن طريف عن أبي الحسن عن هلال بن عمر سمعت عليّا يقول: قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم «يخرج رجل من وراء النّهر يقال له الحارث على مقدّمته رجل يقال له منصور يوطّئ أو يمكن لآل محمّد كما مكّنت قريش لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجب على كلّ مؤمن نصره أو قال إجابته» سكت أبو داود عليه. وقال في موضع آخر في هارون: هو من ولد الشّيعة. وقال السّليمانيّ: فيه نظر. وقال أبو داود في عمر بن أبي قيس: لا بأس في حديثه خطأ. وقال الذّهبي: صدق له أوهام. وأمّا أبو إسحاق الشّيعيّ وإن خرّج عنه في الصّحيحين فقد ثبت أنّه اختلط آخر عمره وروايته عن علي منقطعة، وكذلك رواية أبي داود عن هارون بن المغيرة. وأمّا السّند الثّاني فأبو الحسن فيه وهلال بن عمر مجهولان ولم يعرف أبو الحسن إلّا من رواية مطرّف بن طريف عنه انتهى. وخرّج أبو داود أيضا عن أمّ سلمة قالت سمعت في المستدرك 244 من طريق عليّ بن نفيل عن سعيد بن المسيّب عن أمّ سلمة قالت سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «المهديّ من ولد فاطمة» ولفظ الحاكم: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يذكر المهديّ فقال: «نعم هو حقّ وهو من بني فاطمة» ولم يتكلّم عليه بالصّحيح ولا غيره وقد ضعّفه أبو جعفر العقيليّ وقال: لا يتابع عليّ بن نفيل عليه ولا يعرف إلّا به. وخرّج أبو داود أيضا عن أمّ سلمة من رواية صالح أبي الخليل 245 عن صاحب له عن أمّ سلمة قال: يكون اختلاف عند موت خليفة فيخرج رجل من أهل المدينة هاربا إلى مكّة فيأتيه ناس من أهل مكّة فيخرجونه وهو كاره فيبايعونه بين الرّكن والمقام فيبعث إليه بعث من الشّام فيخسف بهم بالبيداء بين مكّة والمدينة فإذا رأى النّاس ذلك أتاه أبدال 246 أهل الشّام وعصائب أهل العراق فيبايعونه ثمّ ينشأ رجل من قريش أخواله كلب فيبعث إليهم بعثا فيظهرون عليهم وذلك بعث كلب والخيبة لمن لم يشهد غنيمة كلب فيقسم المال ويعمل في النّاس بسنّة نبيّهم صلّى الله عليه وسلّم ويلقي الإسلام بجرانه على الأرض فيلبث سبع سنين وقال بعضهم تسع سنين ثمّ رواه أبو داود من رواية أبي الخليل عن عبد الله بن الحارث عن أمّ سلمة فتبيّن بذلك المبهم في الإسناد الأوّل ورجاله رجال الصّحيحين لا مطعن فيهم ولا مغمز وقد يقال إنّه من رواية قتادة عن أبي الخليل وقتادة مدلّس وقد عنعنه والمدلّس لا يقبل من حديثه إلّا ما صرّح فيه بالسّماع، مع أنّ الحديث ليس فيه تصريح بذكر المهدي نعم ذكره أبو داود في أبوابه. وخرّج أبو داود أيضا وتابعه الحاكم عن أبي سعيد الخدريّ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «المهديّ منّي أجلى الجبهة اقنى 247 الأنف يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا يملك سبع سنين» هذا لفظ أبي داود وسكت عليه ولفظ الحاكم: «المهديّ منّا أهل البيت أشمّ الأنف أقنى أجلى يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا يعيش هكذا ويبسط يساره وإصبعين من يمينه السّبّابة والإبهام وعقد ثلاث 248 » قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرّجاه. 1 هـ-. وعمران القطّان مختلف في الاحتجاج به إنّما أخرج له البخاريّ استشهادا لا أصلا وكان يحيى القطّان لا يحدّث عنه وقال يحيى بن معين: ليس بالقويّ وقال مرّة: ليس بشيء. وقال أحمد بن حنبل أرجو أن يكون صالح الحديث وقال يزيد بن زريع كان حروريّا 249 وكان يرى السّيف على أهل القبلة وقال النّسائيّ ضعيف وقال أبو عبيد الآجريّ: سألت أبا داود عنه، فقال من أصحاب الحسن وما سمعت إلّا خيرا. وسمعته مرّة أخرى ذكره فقال: ضعيف أفتى في إبراهيم بن عبد الله بن حسن بفتوى شديدة فيها سفك الدّماء. وخرّج التّرمذيّ وابن ماجة والحاكم عن أبي سعيد الخدريّ من طريق زيد العميّ عن أبي صديق النّاجيّ عن أبي سعيد الخدريّ قال: خشينا أن يكون بعض شيء حدث فسألنا نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «إنّ في أمّتي المهديّ يخرج ويعيش خمسا أو سبعا أو تسعا» زيد الشّاكّ قال قلنا: وما ذاك؟ قال سنين! قال: «فيجيء إليه الرّجل فيقول: يا مهديّ أعطني» قال: «فيحثو له في ثوبه ما استطاع أن يحمله» لفظ التّرمذيّ وقال: هذا حديث حسن وقد روى من غير وجه عن أبي سعيد عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ولفظ ابن ماجة والحاكم: «يكون في أمّتي المهديّ إن قصّر فسبع وإلّا فتسع فتنعم أمّتي فيه نعمة لم يسمعوا بمثلها قطّ تؤتى الأرض أكلها ولا يدّخر منه شيء والمال يومئذ كدوس فيقوم الرّجل فيقول: يا مهديّ أعطني فيقول خذ.» انتهى. وزيد العميّ وإن قال فيه الدّارقطنيّ وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين إنّه صالح وزاد أحمد إنّه فوق يزيد الرّقاشيّ وفضل بن عيسى إلّا أنّه قال فيه أبو حاتم: ضعيف يكتب حديثه ولا يحتجّ به. وقال يحيى بن معين في رواية أخرى: لا شيء. وقال مرّة يكتب حديثه وهو ضعيف. وقال الجرجانيّ: متماسك وقال أبو زرعة ليس: بقويّ واهي الحديث ضعيفا وقال أبو حاتم ليس بذاك وقد حدّث عنه شعبة. وقال النّسائيّ: ضعيف وقال ابن عدي: عامّة ما يرويه ومن يروى عنهم ضعفاء على أنّ شعبة قد روى عنه ولعلّ شعبة لم يرو عن أضعف منه. وقد يقال إنّ حديث التّرمذيّ وقع تفسيرا لما رواه مسلم في صحيحه من حديث جابر قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يكون في آخر أمّتي خليفة يحثو المال حثوا لا يعدّه عدّا» ومن حديث أبي سعيد قال: «من خلفائكم خليفة يحثو المال حثوا» ومن طريق أخرى عنهما قال: «يكون في آخر الزّمان خليفة يقسم المال ولا يعدّه» انتهى. وأحاديث مسلم لم يقع فيها ذكر المهديّ ولا دليل يقوم على أنّه المراد منها. ورواه الحاكم أيضا من طريق عوف الأعرابيّ عن أبي الصّدّيق النّاجي عن أبي سعيد الخدريّ قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تقوم السّاعة حتّى تملأ الأرض جورا وظلما وعدوانا ثمّ يخرج من أهل بيتي رجل يملأها قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وعدوانا» وقال فيه الحاكم: هذا صحيح على شرط الشّيخين ولم يخرّجاه. ورواه الحاكم أيضا عن طريق سليمان بن عبيد عن أبي الصّدّيق النّاجي عن أبي سعيد الخدريّ عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «يخرج في آخر أمّتي المهديّ يسقيه الله الغيث وتخرج الأرض نباتها ويعطي المال صحاحا وتكثر الماشية وتعظم الأمّة يعيش سبعا أو ثمانيا» يعني حججا وقال فيه حديث صحيح الإسناد ولم يخرّجاه. مع أنّ سليمان بن عبيد لم يخرّج له أحد من السّتّة لكن ذكره ابن حبّان في الثّقات ولم يرد أنّ أحدا تكلّم فيه ثمّ رواه الحاكم أيضا من طريق أسد بن موسى عن حماد بن سلمة عن مطر الورّاق وأبي هارون العبديّ عن أبي الصّدّيق النّاجي عن أبي سعيد أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «تملأ الأرض جورا وظلما فيخرج رجل من عترتي فيملك سبعا أو تسعا فيملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت جورا وظلما» وقال الحاكم فيه: هذا حديث صحيح على شرط مسلم لأنّه أخرج عن حماد بن سلمة وعن شيخه مطر الورّاق. وأمّا شيخه الآخر وهو أبو هارون العبديّ فلم يخرّج له. وهو ضعيف جدّا متّهم بالكذب ولا حاجة إلى بسط أقوال الأئمّة في تضعيفه. وأمّا الرّاوي له عن حماد بن سلمة فهو أسد بن موسى يلقّب أسد السّنّة وإن قال البخاريّ: مشهور الحديث واستشهد به في صحيحه. واحتجّ به أبو داود والنّسائيّإلّا أنّه قال مرّة أخرى: ثقة لو لم يصنّف كان خيرا له. وقال فيه محمّد بن حزم: منكر الحديث. ورواه الطّبرانيّ في معجمه الأوسط من رواية أبي الواصل عبد الحميد بن واصل عن أبي الصّدّيق النّاجي عن الحسن بن يزيد السعديّ أحد بني بهذلة عن أبي سعيد الخدريّ قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «يخرج رجل من أمّتي يقول بسنّتي ينزل الله عزّ وجلّ له القطر من السّماء وتخرج الأرض بركتها وتملأ الأرض منه قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما يعمل على هذه الأمّة سبع سنين وينزل على بيت المقدس» وقال الطّبرانيّ: فيه رواه جماعة عن أبي الصّدّيق ولم يدخل أحد منهم بينه وبين أبي سعيد أحدا إلّا أبا الواصل فإنّه رواه عن الحسن بن يزيد عن أبي سعيد انتهى. وهذا الحسن بن يزيد ذكره ابن أبي حاتم ولم يعرّفه بأكثر ممّا في هذا الإسناد من روايته عن أبي سعيد ورواية أبي الصّدّيق عنه وقال الذّهبيّ في الميزان: إنّه مجهول. لكن ذكره ابن حبّان في الثّقات وأمّا أبو الواصل الّذي رواه عن أبي الصّدّيق فلم يخرّج له أحد من السّتّة. وذكره ابن حبّان في الثّقات في الطّبقة الثّانية وقال فيه: يروى عن أنس روى عنه شعبة وعتاب بن بشر وخرّج ابن ماجة في كتاب السّنن عن عبد الله بن مسعود من طريق يزيد بن أبي زياد عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال بينما نحن عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذ أقبل فتية من بني هاشم فلمّا رآهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذرفت عيناه وتغيّر لونه قال فقلت ما نزال نرى في وجهك شيئا نكرهه فقال: «إنّا أهل البيت اختار الله لنا الآخرة على الدّنيا وإنّ أهل بيتي سيلقون بعدي بلاء وتشريدا وتطريدا حتّى يأتي قوم من قبل المشرق معهم رايات سود فيسألون الخبر فلا يعطونه فيقاتلون وينصرون فيعطون ما سألوا فلا يقبلونه حتّى يدفعوها إلى رجل من أهل بيتي فيملؤها قسطا كما ملؤها جورا فمن أدرك ذلك منكم فليأتهم ولو حبوا على الثّلج» انتهى. وهذا الحديث يعرف عند المحدّثين بحديث الرّايات. ويزيد بن أبيزياد راويه قال فيه شعبة: كان رفّاعا يعني يرفع الأحاديث الّتي لا تعرف مرفوعة. وقال محمّد بن الفضيل: من كبار أئمّة الشّيعة. وقال أحمد بن حنبل: لم يكن بالحافظ وقال مرّة: حديثه ليس بذلك. وقال يحيى بن معين: ضعيف. وقال العجليّ: جائز الحديث، وكان بآخره يلقّن. وقال أبو زرعة: ليّن يكتب حديثه ولا يحتجّ به. وقال أبو حاتم: ليس بالقويّ. وقال الجرجانيّ: سمعتهم يضعّفون حديثه. وقال أبو داود: لا أعلم أحدا ترك حديثه وغيره أحبّ إليّ منه. وقال ابن عديّ هو من شيعة أهل الكوفة ومع ضعفه يكتب حديثه. وروى له مسلم لكن مقرونا بغيره. وبالجملة فالأكثرون على ضعفه. وقد صرّح الأئمة بتضعيف هذا الحديث الّذي رواه عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله وهو حديث الرّايات. وقال وكيع بن الجرّاح فيه: ليس بشيء. وكذلك قال أحمد بن حنبل وقال أبو قدامة سمعت أبا أسامة يقول في حديث يزيد عن إبراهيم في الرّايات لو حلف عندي خمسين يمينا أسامة 250 ما صدّقته أهذا مذهب إبراهيم؟ أهذا مذهب علقمة؟ أهذا مذهب عبد الله؟ وأورد العقيليّ هذا الحديث في الضّعفاء وقال الذّهبيّ ليس بصحيح. وخرّج ابن ماجة عن عليّ رضي الله عنه من رواية ياسين العجليّ عن إبراهيم بن محمّد بن الحنفيّة عن أبيه عن جدّه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «المهديّ منّا أهل البيت يصلح الله به في ليلة» . وياسين العجليّ وإن قال فيه ابن معين ليس به بأس فقد قال البخاريّ فيه نظر. وهذه اللّفظة من اصطلاحه قويّة في التّضعيف جدّا. وأورد له ابن عديّ في الكامل والذّهبيّ في الميزان هذا الحديث على وجه الاستنكار له وقال هو معروف به. وخرّج الطّبرانيّ في معجمه الأوسط عن عليّ رضي الله عنه أنّه قال للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم «أمنّا المهديّ أم من غيرنا يا رسول الله؟» فقال: «بل منّا بنا يختم الله كما بنا فتح وبنا يستنقذون من الشّرك وبنا يؤلّف الله قلوبهم بعد عداوة بيّنة كما بنا ألّف بين قلوبهم بعد عداوة الشّرك» . قال عليّ: «أمؤمنون أم كافرون؟» قال: «مفتون وكافر» . انتهى. وفيه عبد الله بن لهيعة وهو ضعيف معروف الحال. وفيه عمر بن جابر الحضرميّ وهو أضعف منه. قال أحمد بن حنبل: روي عن جابر مناكير وبلغني أنّه كان يكذب وقال النّسائيّ: ليس بثقة وقال كان ابن لهيعة شيخا أحمق ضعيف العقل وكان يقول: «عليّ في السّحاب» وكان يجلس معنا فيبصر سحابة فيقول: «هذا عليّ قد مرّ في السّحاب» وخرّج الطّبرانيّ عن عليّ رضي الله تعالى عنه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «يكون في آخر الزّمان فتنة يحصل النّاس فيها كما يحصل الذّهب في المعدن فلا تسبّوا أهل الشّام ولكن سبّوا أشرارهم فإنّ فيهم الابدال 251 يوشك أن يرسل على أهل الشّام صيّب من السّماء فيفرّق جماعتهم حتّى لو قاتلتهم الثّعالب غلبتهم فعند ذلك يخرج خارج من أهل بيتي في ثلاث رايات المكثر يقول بهم خمسة عشر ألفا والمقلّ يقول بهم اثنا عشر ألفا وأمارتهم «أمت أمت» 252 يلقون سبع رايات تحت كلّ راية منها رجل يطلب الملك فيقتلهم الله جميعا ويردّ الله إلى المسلمين ألفتهم ونعمتهم وقاصيتهم ورأيهم 253 هـ-. وفيه عبد الله بن لهيعة وهو ضعيف معروف الحال ورواه الحاكم في المستدرك وقال صحيح الإسناد ولم يخرّجاه في روايته ثمّ يظهر الهاشميّ فيردّ الله النّاس إلى ألفتهم إلخ وليس في طريقه ابن لهيعة وهو إسناد صحيح كما ذكر. وخرّج الحاكم في المستدرك عن عليّ رضي الله عنه من رواية أبي الطّفيل عن محمّد بن الحنفيّة قال: «كنّا عند عليّ رضي الله عنه فسأله رجل عن المهديّ فقال له: هيهات ثمّ عقد بيده سبعا فقال ذلك يخرج في آخر الزّمان إذا قال الرّجل الله الله قتل ويجمع الله له قوما قزعا 254 كقزع السّحاب يؤلّف الله بين قلوبهم فلا يستوحشون إلى أحد ولا يفرحون بأحد دخل فيهم عدّتهم على عدّة أهل بدر لم يسبقهم الأوّلون ولا يدركهم الآخرون وعلى عدد أصحاب طالوت الّذين جاوزوا معه النّهر. قال أبو الطّفيل قال ابن الحنفيّة: أتريده؟ قلت: نعم. قال: فإنّه يخرج من بين هذين الأخشبين 255 قلت لا جرم والله ولا أدعها حتّى أموت» ومات بها يعني مكّة قال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط الشّيخين» . وإنّما هو على شرط مسلم فقط فإنّ فيه عمّارا الذّهبيّ 256 ويونس بن أبي إسحاق ولم يخرّج لهما البخاريّ وفيه عمرو بن محمّد العبقريّ ولم يخرّج له البخاريّ احتجاجا بل استشهادا مع ما ينضمّ إلى ذلك من تشيّع عمّار الذّهبيّ وهو وإن وثقه أحمد وابن معين وأبو حاتم النسائيّ وغيرهم فقد قال عليّ بن المدنيّ 257 عن سفيان أنّ بشر بن مروان قطع عرقوبيه قلت في أيّ شيء؟ قال: في التّشيّع. وخرّج ابن ماجة عن أنس بن مالك رضي الله عنه في رواية سعد بن عبد الحميد بن جعفر عن عليّ بن زياد اليماميّ عن عكرمة بن عمّار عن إسحاق بن عبد الله عن أنس قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «نحن ولد عبد المطّلب سادات أهل الجنّة أنا وحمزة وعليّ وجعفر والحسن والحسين والمهديّ» . انتهى. وعكرمة بن عمّار وإن أخرج له مسلم فإنّما أخرج له متابعة. وقد ضعّفه بعض ووثّقه آخرون وقال أبو حاتم الرّازيّ: هو مدلّس فلا يقبل إلى أن يصرّح بالسّماع عليّ بن زياد. قال الذّهبيّ في الميزان: لا ندري من هو، ثمّ قال الصّواب فيه: عبد الله بن زياد وسعد بن عبد الحميد وإن وثقه يعقوب بن أبي شيبة وقال فيه يحيى بن معين ليس به بأس فقد تكلّم فيه الثّوريّ قالوا لأنّه رآه يفتي في مسائل ويخطئ فيها. وقال ابن حبّان: كان ممّن فحش عطاؤه فلا يحتجّ فيه. وقال أحمد بن حنبل: سعيد 258 بن عبد الحميد يدّعي أنّه سمع عرض كتب مالك والنّاس ينكرون عليه ذلك وهو هاهنا ببغداد لم يحتجّ 259 فكيف سمعها؟ وجعله الذّهبيّ ممّن لم يقدح فيه كلام من تكلّم فيه وخرّج الحاكم في مستدركه من رواية مجاهد عن ابن عبّاس موقوفا عليه قال مجاهد قال لي ابن عبّاس: لو لم أسمع أنّك مثل أهل البيت ما حدّثتك بهذا الحديث قال فقال مجاهد: فإنّه في ستر لا أذكره لمن يكره قال فقال ابن عبّاس: «منّا أهل البيت أربعة منّا السّفّاح ومنّا المنذر ومنّا المنصور ومنّا المهديّ» قال فقال مجاهد: بيّن لي هؤلاء الأربعة. فقال ابن عبّاس: «أمّا السّفّاح فربّما قتل أنصاره وعفا عن عدوّه، وأمّا المنذر أراه قال فإنّه يعطي المال الكثير ولا يتعاظم في نفسه ويمسك القليل من حقّه وأمّا المنصور فإنّه يعطى النّصر على عدوّه الشّطر ممّا كان يعطي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويرهب منه عدوّه على مسيرة شهرين والمنصور يرهب منه عدوّه على مسيرة شهر وأمّا المهديّ الّذي يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا وتأمن البهائم السّباع وتلقي الأرض أفلاذ كبدها» . قال: «قلت وما أفلاذ كبدها؟» قال: «أمثال الأسطوانة من الذّهب والفضّة» . وقال الحاكم هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرّجاه وهو من رواية إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر عن أبيه وإسماعيل ضعيف وإبراهيم أبوه وإن خرّج له مسلّم فالأكثرون على تضعيفه. وخرّج ابن ماجة عن ثوبان قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يقتتل عند كبركم 260 ثلاثة كلّهم ابن خليفة ثمّ لا يصير إلى واحد منهم ثمّ تطلع الرّايات السّود من قبل المشرق فيقتلونهم قتلا لم يقتله قوم» ثمّ ذكر شيئا لا أحفظه قال: «فإذا رأيتموه فبايعوه ولو حبوا على الثّلج فإنّه خليفة الله المهديّ» . 1 هـ-. ورجاله رجال الصّحيحين إلّا أنّ فيه أبا قلابة الجرميّ وذكر الذّهبيّ وغيره أنّه مدلس وفيه سفيان الثّوريّ وهو مشهور بالتّدليس وكلّ واحد منهما عنعن ولم يصرّح بالسّماع فلا يقبل وفيه عبد الرّزاق بن همّام وكان مشهورا بالتّشيّع وعمي في آخر وقته فخلّط قال ابن عديّ: «حدّث بأحاديث في الفضائل لم يوافقه عليها أحد» ونسبوه إلى التّشيّع. انتهى. وخرّج ابن ماجة عن عبد الله بن الحارث بن جزء الزّيديّ من طريق ابن لهيعة عن أبي زرعة عن عمر بن جابر الحضرميّ عن عبد الله بن الحارث بن جزء قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يخرج ناس من المشرق فيوطّئون للمهديّ» . يعني سلطانه. قال الطّبرانيّ: تفرّد به ابن لهيعة وقد تقدّم لنا في حديث عليّ الّذي خرّجه الطّبراني في معجمه الأوسط أنّ ابن لهيعة ضعيف وأنّ شيخه عمر بن جابر أضعف منه وخرّج البزّار في مسندة والطّبرانيّ في معجمه الأوسط واللّفظ للطّبرانيّ عن أبي هريرة عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «يكون في أمّتي المهديّ إن قصّر فسبع وإلّا فثمان وإلّا فتسع تنعم فيها أمّتي نعمة لم ينعموا بمثلها ترسل السّماء عليهم مدرارا ولا تدّخر الأرض شيئا من النّبات والمال كدوس يقوم الرّجل يقول يا مهديّ أعطني فيقول خذ» . قال الطّبرانيّ والبزّار تفرّد به محمّد بن مروان العجليّ زاد البزّار: ولا نعلم أنّه تابعه عليه أحد وهو وإن وثقه أبو داود وابن حبّان أيضا بما ذكره في الثّقات وقال فيه يحيى بن معين صالح وقال مرّة ليس به بأس فقد اختلفوا فيه وقال أبو زرعة: ليس عندي بذلك وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: رأيت محمّد بن مروان العجليّ حدّث بأحاديث وأنا شاهد لم نكتبها تركتها على عمد وكتب بعض أصحابنا عنه كأنّه ضعّفه. وخرّجه أبو يعلى الموصليّ في مسندة عن أبي هريرة وقال: «حدّثني خليلي أبو القاسم صلّى الله عليه وسلّم قال: لا تقوم السّاعة حتّى يخرج عليهم رجل من أهل بيتي فيضربهم حتّى يرجعوا إلى الحقّ قال قلت: وكم يملك؟ قال: خمسا واثنتين قال قلت وما خمسا واثنتين قال لا أدري» . وهذا السّند غير محتجّ به وإن قال فيه بشير بن نهيك وقال فيه أبو حاتم لا يحتجّ به فقد احتجّ به الشّيخان ووثقه النّاس ولم يلتفتوا إلى قول أبي حاتم لا يحتجّ به إلّا أنّه قال فيه رجاء 261 ابن أبي رجاء اليشكريّ وهو مختلف فيه قال أبو زرعة ثقة وقال يحيى بن معين: ضعيف. وقال أبو داود: ضعيف. وقال مرّة: صالح. وعلّق له البخاريّ في صحيحه حديثا واحدا. وخرّج أبو بكر البزّار في مسندة والطّبرانيّ في معجمه الكبير والأوسط عن قرّة بن إياس قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لتملأنّ الأرض جورا وظلما فإذا ملئت جورا وظلما بعث الله رجلا من أمّتي اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي يملأها عدلا وقسطا كما ملئت جورا وظلما فلا تمنع السّماء من قطرها شيئا ولا تدّخر الأرض من نباتها يلبث فيكم سبعا أو ثمانيا أو تسعا» . يعني سنين. 1 هـ-. وفيه داود بن المحبّي بن المحرم 262 عن أبيه وهما ضعيفان جدّا. وخرّج الطّبرانيّ في معجمه الأوسط عن ابن عمر قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في نفر من المهاجرين والأنصار وعليّ بن أبي طالب عن يساره والعبّاس عن يمينه إذ تلاحى العباس ورجل من الأنصار فأغلظ الأنصاريّ للعبّاس فأخذ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بيد العبّاس وبيد عليّ» وقال: «سيخرج من صلب هذا فتى يملأ الأرض جورا وظلما وسيخرج من صلب هذا فتى يملأ الأرض قسطا وعدلا فإذا رأيتم ذلك فعليكم بالفتى التّميميّ فإنّه يقبل من قبل المشرق وهو صاحب راية المهديّ» . انتهى. وفيه عبد الله بن عمر وعبد الله بن لهيعة وهما ضعيفان. 1 هـ-. وخرّج الطّبرانيّ في معجمه الأوسط عن طلحة بن عبد الله عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «ستكون فتنة لا يسكن منها جانب إلّا تشاجر جانب حتّى ينادي مناد من السّماء إنّ أميركم فلان. 1 هـ-. وفيه المثنّى بن الصّباح وهو ضعيف جدّا. وليس في الحديث تصريح بذكر المهديّ وإنّما ذكروه في أبوابه وترجمته استئناسا. فهذه جملة الأحاديث الّتي خرّجها الأئمّة في شأن المهديّ وخروجه آخر الزّمان. وهي كما رأيت لم يخلص منها من النّقد إلّا القليل والأقلّ منه. وربّما تمسّك المنكرون لشأنه بما رواه محمّد بن خالد الجنديّ عن أبان بن صالح بن أبي عيّاش عن الحسن البصريّ عن أنس بن مالك عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: «لا مهديّ إلّا عيسى بن مريم» وقال يحيى بن معين في محمّد بن خالد الجندي: إنّه ثقة. وقال البيهقيّ: تفرّد به محمّد بن خالد. وقال الحاكم فيه: إنّه رجل مجهول واختلف عليه في إسناده فمرّة يروونه 263 كما تقدّم وينسب ذلك لمحمّد بن إدريس الشّافعيّ ومرّة يروونه 264 عن محمّد بن خالد عن أبان عن الحسن عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم مرسلا. قال البيهقيّ: فرجع إلى رواية محمّد بن خالد وهو مجهول عن أبان بن أبي عيّاش وهو متروك عن الحسن عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهو منقطع وبالجملة فالحديث ضعيف مضطرب. وقد قيل «أن لا مهديّ إلّا عيسى» أي لا يتكلّم في المهد إلّا عيسى يحاولون بهذا التّأويل ردّ الاحتجاج به أو الجمع بينه وبين الأحاديث وهو مدفوع بحديث جريج ومثله من الخوارق. وأمّا المتصوّفة فلم يكن المتقدّمون منهم يخوضون في شيء من هذا وإنّما كان كلامهم في المجاهدة بالأعمال وما يحصل عنها من نتائج المواجد والأحوال وكان كلام الإماميّة والرافضة من الشّيعة في تفضيل عليّ رضي الله عنه والقول بإمامته وادّعاء الوصيّة له بذلك من النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، والتّبرّي من الشّيخين كما ذكرناه في مذاهبهم ثمّ حدث فيهم بعد ذلك القول بالإمام المعصوم وكثرت التّآليف في مذاهبهم. وجاء الإسماعيليّة منهم يدّعون الوهيّة الإمام بنوع من الحلول وآخرون يدّعون رجعة من مات من الأئمّة بنوع التّناسخ، وآخرون منتظرون مجيء من يقطع بموته منهم وآخرون منتظرون عود الأمر في أهل البيت مستدلّين على ذلك بما قدّمناه من الأحاديث في المهديّ وغيرها. ثمّ حدث أيضا عند المتأخّرين من الصّوفيّة الكلام في الكشف وفيما وراء الحسّ وظهر من كثير منهم القول على الإطلاق بالحلول والوحدة فشاركوا فيها الإماميّة والرّافضة لقولهم بألوهيّة الأئمّة وحلول الإله فيهم. وظهر منهم أيضا القول بالقطب والإبدال وكأنّه يحاكي مذهب الرّافضة في الإمام والنّقباء. وأشربوا أقوال الشّيعة وتوغّلوا في الدّيانة بمذاهبهم، حتّى جعلوا مستند طريقهم في لبس الخرقة أنّ عليّا رضي الله عنه ألبسها الحسن البصريّ وأخذ عليه العهد بالتزام الطّريقة. واتّصل ذلك عنهم بالجنيد من شيوخهم. ولا يعلم هذا عن عليّ من وجه صحيح. ولم تكن هذه الطّريقة خاصّة بعليّ كرّم الله وجهه بل الصّحابة كلّهم أسوة في طريق الهدى وفي تخصيص هذا بعليّ دونهم رائحة من التّشيّع قويّة يفهم منها ومن غيرها من القوم دخلهم 265 في التّشيّع وانخراطهم في سلكه. وظهر منهم أيضا القول بالقطب وامتلأت كتب الإسماعيليّة من الرّافضة وكتب المتأخرين من المتصوّفة بمثل ذلك في الفاطميّ المنتظر. وكان بعضهم يمليه على بعض ويلقّنه بعضهم عن بعض وكأنّه مبنيّ على أصول واهية من الفريقين وربّما يستدلّ بعضهم بكلام المنجّمين في القرانات وهو من نوع الكلام في الملاحم ويأتي الكلام عليها في الباب الّذي يلي هذا. وأكثر من تكلّم من هؤلاء المتصوّفة المتأخّرين في شأن الفاطميّ، ابن العربيّ، الحاتميّ في كتاب (عنقاء مغرب) وابن قسيّ في كتاب (خلع النّعلين) وعبد الحقّ بن سبعين وابن أبي واصل 266 تلميذه في شرحه لكتاب (خلع النّعلين) . وأكثر كلماتهم في شأنه ألغاز وأمثال وربّما يصرّحون في الأقلّ أو يصرّح مفسّرو كلامهم. وحاصل مذهبهم فيه على ما ذكر ابن أبي واصل أنّ النّبوة بها ظهر الحقّ والهدى بعد الضّلال والعمى وأنّها تعقبها الخلافة ثمّ يعقب الخلافة الملك ثمّ يعود تجبّرا وتكبّرا وباطلا. قالوا: ولمّا كان في المعهود من سنّة الله رجوع الأمور إلى ما كانت وجب أن يحيا أمر النّبوة والحقّ بالولاية ثمّ بخلافتها ثمّ يعقبها الدّجل مكان الملك والتّسلّط ثمّ يعود الكفر بحاله. يشيرون بهذا لما وقع من شأن النّبوة والخلافة بعدها والملك بعد الخلافة. هذه ثلاث مراتب. وكذلك الولاية الّتي هي لهذا الفاطميّ والدّجل بعدها كناية عن خروج الدّجّال على أثره والكفر من بعد ذلك. فهي ثلاث مراتب على نسبة الثّلاث المراتب الأولى. قالوا: ولمّا كان أمر الخلافة لقريش حكما شرعيّا بالإجماع الّذي لا يوهنه إنكار من يزاول علمه وجب أن تكون الإمامة فيمن هو أخصّ من قريش بالنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم إمّا ظاهرا كبني عبد المطّلب وإمّا باطنا ممّن كان من حقيقة الآل، والآل من إذا حضر لم يلقّب 267 من هو آله. وابن العربيّ الحاتميّ سمّاه في كتابه «عنقاء مغرب» من تأليفه: خاتم الأولياء وكنى عنه بلبنة الفضّة إشارة إلى حديث البخاريّ في باب خاتم النّبيّين قال صلّى الله عليه وسلّم: «مثلي فيمن قبلي من الأنبياء كمثل رجل ابتنى بيتا وأكمله حتّى إذا لم يبق منه إلّا موضع لبنة فأنا تلك اللّبنة» فيفسّرون خاتم النّبيّين باللّبنة حتّى أكملت البنيان ومعناه النّبيّ الّذي حصلت له النّبوة الكاملة. ويمثّلون الولاية في تفاوت مراتبها بالنّبوءة ويجعلون صاحب الكمال فيها خاتم الأولياء أي حائز الرّتبة الّتي هي خاتمة الولاية كما كان خاتم الأنبياء حائزا للمرتبة التي هي خاتمة النّبوة. فكنى الشّارح 268 عن تلك المرتبة الخاتمة بلبنة البيت في الحديث المذكور. وهما على نسبة واحدة فيهما. فهي لبنة واحدة في التّمثيل. ففي النّبوة لبنة ذهب وفي الولاية لبنة فضّة للتّفاوت بين الرّتبتين كما بين الذّهب والفضّة. فيجعلون لبنة الذّهب كناية عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ولبنة الفضّة كناية عن هذا الوليّ الفاطميّ المنتظر وذلك خاتم الأنبياء وهذا خاتم الأولياء. وقال ابن العربيّ فيما نقل ابن أبي واصل عنه وهذا الإمام المنتظر هو من أهل البيت من ولد فاطمة وظهوره يكون من بعد مضيّ (خ ف ج) من الهجرة ورسم حروفا ثلاثة يريد عددها بحساب الجمّل وهو الخاء المعجمة بواحدة من فوق ستّمائة والفاء أخت القاف بثمانين والجيم المعجمة بواحدة من أسفل ثلاثة وذلك ستّمائة وثلاث وثمانون سنة وهي آخر القرن السّابع ولمّا انصرم هذا العصر ولم يظهر حمل ذلك بعض المقلّدين لهم على أنّ المراد بتلك المدّة مولده وعبّر بظهوره عن مولده وأنّ خروجه يكون بعد العشر السبعمائة فإنّه الإمام النّاجم من ناحية المغرب. قال: «وإذا كان مولده كما زعم ابن العربيّ سنة ثلاث وثمانين وستّمائة فيكون عمره عند خروجه ستّا وعشرين سنة» قال وزعموا أنّ خروج الدّجّال يكون سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة من اليوم المحمّديّ وابتداء اليوم المحمّديّ عندهم من يوم وفاة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى تمام ألف سنة» قال ابن أبيّ واصل في شرحه كتاب (خلع النّعلين) الوليّ المنتظر القائم بأمر الله المشار إليه بمحمّد المهديّ وخاتم الأولياء وليس هو بنبيّ وإنّما هو وليّ ابتعثه روحه وحبيبه. قال صلّى الله عليه وسلّم: «العالم في قومه كالنّبيّ في أمّته» . وقال: «علماء أمّتي كأنبياء بني إسرائيل ولم تزل البشرى تتابع به من أوّل اليوم المحمّديّ إلى قبيل الخمسمائة نصف اليوم وتأكّدت وتضاعفت بتباشير المشايخ بتقريب وقته وازدلاف زمانه منذ انقضت إلى هلمّ جرّا» قال وذكر الكنديّ: «أنّ هذا الوليّ هو الّذي يصلّي بالنّاس صلاة الظّهر ويجدّد الإسلام ويظهر العدل ويفتح جزيرة الأندلس ويصل إلى رومية فيفتحها ويسير إلى المشرق فيفتحه ويفتح القسطنطينيّة ويصير له ملك الأرض فيتقوّى المسلمون ويعلو الإسلام ويطّهّر دين الحنفيّة فإنّ من صلاة الظّهر إلى صلاة العصر وقت صلاة» قال عليه الصّلاة والسّلام: «ما بين هذين وقت» وقال الكنديّ أيضا: «الحروف العربيّة غير المعجمة يعني المفتتح بها سور القرآن جملة عددها سبعمائة وثلاث وأربعون وسبع دجّاليّة 269 ثمّ ينزل عيسى في وقت صلاة العصر فيصلح الدّنيا وتمشي الشّاة مع الذّئب ثمّ مبلغ 270 ملك العجم بعد إسلامهم مع عيسى مائة وستّون عاما عدد حروف المعجم وهي (ق ي ن) دولة العدل منها أربعون عاما قال ابن أبي واصل وما ورد من قوله لا مهديّ إلّا عيسى فمعناه لا مهدي تساوي هدايته ولايته وقيل لا يتكلّم في المهد إلّا عيسى وهذا مدفوع بحديث جريج وغيره. وقد جاء في الصّحيح أنّه قال: «لا يزال هذا الأمر قائما حتّى تقوم السّاعة أو يكون عليهم اثنا عشر خليفة يعني قرشيّا» . وقد أعطى الوجود أنّ منهم من كان في أوّل الإسلام ومنهم من سيكون في آخره. وقال: «الخلافة بعدي ثلاثون أو إحدى وثلاثون أو ستّ وثلاثون وانقضاؤها في خلافة الحسن وأوّل أمر معاوية فيكون أوّل أمر معاوية خلافة أخذا بأوائل الأسماء فهو سادس الخلفاء وأمّا سابع الخلفاء فعمر بن عبد العزيز. والباقون خمسة من أهل البيت من ذرّيّة عليّ يؤيّده قوله: «إنّك لذو قرنيها» يريد الأمّة أي إنّك لخليفة في أوّلها وذرّيّتك في آخرها. وربّما استدلّ بهذا الحديث القائلون بالرّجعة، فالأوّل هو المشار إليه عندهم بطلوع الشّمس من مغربها. وقد قال صلّى الله عليه وسلّم إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده والّذي نفسي بيده لتنفقنّ كنوزهما في سبيل الله وقد أنفق عمر بن الخطّاب كنوز كسرى في سبيل الله والّذي يهلك قيصر وينفق كنوزه في سبيل الله هو هذا المنتظر حين يفتح القسطنطينيّة: فنعم الأمير أميرها ونعم الجيش ذلك الجيش. كذا قال صلّى الله عليه وسلّم: «ومدّة حكمه بضع» والبضع من ثلاث إلى تسع وقيل إلى عشر وجاء ذكر أربعين وفي بعض الرّوايات سبعين. وأمّا الأربعون فإنّها مدّته ومدّة الخلفاء الأربعة الباقين من أهله القائمين بأمره من بعده على جميعهم السّلام قال وذكر أصحاب النّجوم والقرانات أنّ مدّة بقاء أمره وأهل بيته من بعده مائة وتسعة وخمسون عاما فيكون الأمر على هذا جاريا على الخلافة والعدل أربعين أو سبعين ثمّ تختلف الأحوال فتكون ملكا» انتهى كلام ابن أبي واصل. وقال في موضع آخر: «نزول عيسى يكون في وقت صلاة العصر من اليوم المحمّديّ حين تمضي ثلاثة أرباعه» قال وذكر الكنديّ يعقوب بن إسحاق في كتاب الجفر الّذيذكر فيه القرانات: «أنّه إذا وصل القرآن إلى الثّور على رأس ضحّ بحرفين الضّاد 271 المعجمة والحاء المهملة» يريد ثمانية وتسعين وستّمائة من الهجرة ينزل المسيح فيحكم في الأرض ما شاء الله تعالى قال وقد ورد في الحديث أنّ عيسى ينزل عند المنارة البيضاء شرقيّ دمشق ينزل بين مهرودتين يعني حلّتين مزعفرتين صفراوين ممصّرتين واضعا كفّيه على أجنحة الملكين له لمّة كأنّما خرج من ديماس إذا طأطأ رأسه قطر وإذا رفعه تحدّر منه جمان كاللّؤلؤ كثير خيلان الوجه وفي حديث آخر مربوع الخلق وإلى البياض والحمرة. وفي آخر: أنّه يتزوّج في الغرب. والغرب دلو البادية يريد أنّه يتزوّج منها وتلد زوجته. وذكر وفاته بعد أربعين عاما. وجاء أنّ عيسى يموت بالمدينة ويدفن إلى جانب عمر بن الخطّاب. وجاء أنّ أبا بكر وعمر يحشران بين نبيّين قال ابن أبي واطيل: «والشّيعة تقول إنّه هو المسيح مسيح المسائح من آل محمّد قلت وعليه حمل بعض المتصوّفة حديث لا مهديّ إلّا عيسى أي لا يكون مهديّ إلّا المهديّ الّذي نسبته إلى الشّريعة المحمّديّة نسبة عيسى إلى الشّريعة الموسويّة في الاتباع وعدم النّسخ إلى كلام من أمثال هذا يعيّنون فيه الوقت والرّجل والمكان بأدلّة واهية وتحكّمات مختلفة فينقضي الزّمان ولا أثر لشيء من ذلك فيرجعون إلى تجديد رأي آخر منتحل كما تراه من مفهومات لغويّة وأشياء تخييليّة وأحكام نجوميّة في هذا انقضت أعمار الأوّل منهم والآخر. وأمّا المتصوّفة الّذين عاصرناهم فأكثرهم يشيرون إلى ظهور رجل مجدّد لأحكام الملّة ومراسم الحقّ ويتحيّنون ظهوره لما قرب من عصرنا فبعضهم يقول من ولد فاطمة وبعضهم يطلق القول فيه سمعناه من جماعة أكبرهم أبو يعقوب البادسيّ كبير الأولياء بالمغرب كان في أوّل هذه المائة الثّامنة وأخبرني عنه حافده صاحبنا أبو يحيى زكريّا عن أبيه أبي محمّد عبد الله عن أبيه الوليّ أبي يعقوب المذكور هذا آخر ما اطّلعنا عليه أو بلغنا من كلام هؤلاء المتصوّفة وما أورده أهل الحديث من أخبار المهديّ قد استوفينا جميعه بمبلغ طاقتنا والحقّ الّذي ينبغي أن يتقرّر لديك أنّه لا تتمّ دعوة من الدّين والملك إلّا بوجود شوكة عصبيّة تظهره وتدافع عنه من يدفعه حتّى يتمّ أمر الله فيه. وقد قرّرنا ذلك من قبل بالبراهين القطعيّة الّتي أريناك هناك وعصبيّة الفاطميّين بل وقريش أجمع قد تلاشت من جميع الآفاق ووجد أمم آخرون قد استعلت عصبيّتهم على عصبيّة قريش إلّا ما بقي بالحجاز في مكّة وينبع بالمدينة من الطّالبين من بني حسن وبني حسين وبني جعفر وهم منتشرون في تلك البلاد وغالبون عليها وهم عصائب بدويّة متفرّقون في مواطنهم وإماراتهم يبلغون آلافا من الكثرة فإن صحّ ظهور هذا المهديّ فلا وجه لظهور دعوته إلّا بأن يكون منهم ويؤلّف الله بين قلوبهم في اتّباعه حتّى تتمّ له شوكة وعصبيّة وافية بإظهار كلمته وحمل النّاس عليها وأمّا على غير هذا الوجه مثل أن يدعو فاطميّ منهم إلى مثل هذا الأمر في أفق من الآفاق من غير عصبيّة ولا شوكة إلّا مجرّد نسبة في أهل البيت فلا يتمّ ذلك ولا يمكن لما أسلفناه من البراهين الصّحيحة. وأمّا ما تدّعيه العامّة والأغمار من الدّهماء ممّن لا يرجع في ذلك إلى عقل يهديه ولا علم يفيده فيجيبون 272 ذلك على غير نسبة وفي غير مكان، تقليدا لما اشتهر من ظهور فاطمي ولا يعلمون حقيقة الأمر كما بيّنّاه وأكثر ما يجيبون 273 في ذلك القاصية من الممالك وأطراف العمران مثل الزّاب بإفريقيّة والسّوس من المغرب. ونجد الكثير من ضعفاء البصائر يقصدون رباطا بماسة لما كان ذلك الرّباط بالمغرب من الملثّمين من كدالة واعتقادهم أنّه منهم أو قائمون بدعوته زعما لا مستند لهم إلّا غرابة تلك الأمم وبعدهم عن يقين المعرفة بأحوالها من كثرة أو قلّة أو ضعف أو قوّة ولبعد القاصية عن منال الدّولة وخروجها عن نطاقها فتقوى عندهم الأوهام في ظهوره هناك بخروجه عن ربقة الدّولة ومنال الأحكام والقهر ولا محصول لديهم في ذلك إلّا هذا. وقد يقصد ذلك الموضع كثير من ضعفاء العقول للتّلبيس بدعوة يمييه 274 تمامها وسواسا وحمقا، وقتل كثير منهم. اخبرني شيخنا محمّد بن إبراهيم الأبلّيّ قال خرج برباط ماسة لأوّل المائة الثّامنة وعصر السّلطان يوسف بن يعقوب رجل من منتحلي التّصوّف يعرف بالتّويزريّ نسبة إلى توزر مصغّرا وادّعى أنّه الفاطميّ المنتظر واتّبعه الكثير من أهل السّوس من ضالّة وكزولة وعظم أمره وخافه رؤساء المصامدة على أمرهم فدسّ عليه السّكسيويّ من قتله بياتا وانحلّ أمره. وكذلك ظهر في غمارة في آخر المائة السّابعة وعشر التّسعين منها رجل يعرف بالعبّاس وادّعى أنّه الفاطميّ واتّبعه الدّهماء من غمارة ودخل مدينة فاس عنوة وحرق أسواقها وارتحل إلى بلد المزمة فقتل بها غيلة ولم يتمّ أمره. وكثير من هذا النّمط. وأخبرني شيخنا المذكور بغريبة في مثل هذا وهو أنّه صحب في حجّة في رباط العباد وهو مدفن الشّيخ أبي مدين في جبل تلمسان المطلّ عليها رجلا من أهل البيت من سكّان كربلاء كان متبوعا معظّما كثير التّلميذ والخادم. قال وكان الرّجال من موطنه يتلقّونه بالنّفقات في أكثر البلدان. قال وتأكّدت الصّحبة بيننا في ذلك الطّريق فانكشف لي أمرهم وأنّهم إنّما جاءوا من موطنهم بكربلاء لطلب هذا الأمر وانتحال دعوة الفاطميّ بالمغرب. فلمّا عاين دولة بني مرين ويوسف بن يعقوب يومئذ منازل تلمسان قال لأصحابه: ارجعوا فقد أزرى بنا الغلط وليس هذا الوقت وقتنا. ويدلّ هذا القول من هذا الرّجل على أنّه مستبصر في أنّ الأمر لا يتمّ إلّا بالعصبيّة المكافئة لأهل الوقت فلمّا علم أنّه غريب في ذلك الوطن ولا شوكة له وأنّ عصبيّة بني مرين لذلك العهد لا يقاومها أحد من أهل المغرب استكان ورجع إلى الحقّ وأقصر عن مطامعه. وبقي عليه أن يستيقن أنّ عصبيّة الفواطم وقريش أجمع قد ذهبت لا سيّما في المغرب إلّا أنّ التّعصّب لشأنه لم يتركه لهذا القول والله يعلم وأنتم لا تعلمون. وقد كانت بالمغرب لهذه العصور القريبة نزعة من الدّعاة إلى الحقّ والقيام بالسّنّة لا ينتحلون فيها دعوة فاطميّ ولا غيره وإنّما ينزع منهم في بعض الأحيان الواحد فالواحد إلى إقامة السّنّة وتغيير المنكر ويعني بذلك ويكثر تابعه. وأكثر ما يعنون بإصلاح السّابلة لما أنّ أكثر فساد الأعراب فيها لما قدّمناه من طبيعة معاشهم فيأخذون في تغيير المنكر بما استطاعوا إلّا أنّ الصبغة الدّينيّة فيهم لم تستحكم لما أنّ توبة العرب ورجوعهم إلى الدّين إنّما يقصدون بها الإقصار عن الغارة والنّهب لا يعقلون في توبتهم وإقبالهم إلى مناحي الدّيانة غير ذلك لأنّها المعصية الّتي كانوا عليها قبل المقربة ومنها توبتهم، فتجد ذلك المنتحل للدّعوة والقائم بزعمه بالسّنّة غير متعمّقين في فروع الاقتداء والاتّباع إنّما دينهم الإعراض عن النّهب والبغي وإفساد السّابلة ثمّ الإقبال على طلب الدّنيا والمعاش بأقصى جهدهم. وشتّان بين طلب هذا الأجر من إصلاح الخلق ومن طلب الدّنيا فاتّفاقهما ممتنع لا تستحكم له صبغة في الدّين ولا يكمل له نزوع عن الباطل على الجملة ولا يكثرون. ويختلف حال صاحب الدّعوة معهم في استحكام دينه وولايته في نفسه دون تابعه فإذا هلك انحلّ أمرهم وتلاشت عصبيّتهم وقد وقع ذلك بإفريقيّة لرجل من كعب من سليم يسمّى قاسم بن مرّة بن أحمد في المائة السّابعة ثمّ من بعده لرجل آخر من بادية رياح من بطن منهم يعرفون بمسلّم وكان يسمّى سعادة وكان أشدّ دينا من الأوّل وأقوم طريقة في نفسه ومع ذلك فلم يستتبّ أمر تابعه كما ذكرناه حسبما يأتي ذكر ذلك في موضعه عند ذكر قبائل سليم ورياح وبعد ذلك ظهر ناس بهذه الدّعوة يتشبّهون بمثل ذلك ويلبّسون فيها وينتحلون اسم السّنّة وليسوا عليها إلّا الأقلّ فلا يتمّ لهم ولا لمن بعدهم شيء من أمرهم. انتهى .
الفصل الرابع والخمسون في ابتداء الدول والأمم وفي الكلام على الملاحم والكشف عن مسمى الجفر
اعلم أنّ من خواصّ النّفوس البشريّة التّشوّق إلى عواقب أمورهم وعلم ما يحدث لهم من حياة وموت وخير وشرّ سيّما الحوادث العامّة كمعرفة ما بقي من الدّنيا ومعرفة مدد الدّول أو تفاوتها والتّطلع إلى هذا طبيعة مجبولون عليها ولذلك تجد الكثير من النّاس يتشوّقون إلى الوقوف على ذلك في المنام والأخبار من الكهّان لمن قصدهم بمثل ذلك من الملوك والسّوقة معروفة ولقد نجد في المدن صنفا من النّاس ينتحلون المعاش من ذلك لعلمهم بحرص النّاس عليه فينتصبون لهم في الطّرقات والدّكاكين يتعرّضون لمن يسألهم عنه فتغدو عليهم وتروح نسوان المدينة وصبيانها وكثير من ضعفاء العقول يستكشفون عواقب أمرهم في الكسب والجاه والمعاش والمعاشرة والعداوة وأمثال ذلك ما بين خطّ في الرّمل ويسمّونه المنجّم وطرق بالحصى والحبوب ويسمّونه الحاسب ونظر في المرايا والمياه ويسمّونه ضارب المندل وهو من المنكرات الفاشية في الأمصار لما تقرّر في الشّريعة من ذمّ ذلك وإنّ البشر محجوبون عن الغيب إلّا من أطلعه الله عليه من عنده في نوم أو ولاية. وأكثر ما يعتني 275 بذلك ويتطلّع إليه الأمراء والملوك في آماد دولتهم ولذلك انصرفت العناية من أهل العلم إليه وكلّ أمّة من الأمم يوجد لهم كلام من كاهن أو منجّم أو وليّ في مثل ذلك من ملك يرتقبونه أو دولة يحدّثون أنفسهم بها وما يحدث لهم من الحرب والملاحم ومدّة بقاء الدّولة وعدد الملوك فيها والتّعرّض لأسمائهم ويسمّى مثل ذلك الحدثان وكان في العرب الكهّان والعرّافون يرجعون إليهم في ذلك وقد أخبروا بما سيكون للعرب من الملك والدّولة كما وقع لشقّ وسطيح في تاويل رؤيا ربيعة بن نصر من ملوك اليمن أخبرهم بملك الحبشة بلادهم ثمّ رجوعها إليهم ثمّ ظهر الملك والدّولة للعرب من بعد ذلك وكذا تأويل سطيح لرؤيا الموبذان حيث بعث إليه كسرى بها مع عبد المسيح وأخبرهم بظهور دولة العرب. وكذا كان في جيل البربر كهّان من أشهرهم موسى بن صالح من بني يفرن ويقال من غمرة له كلمات حدثانيّة على طريقة الشّعر برطانتهم وفيها حدثان كثير ومعظمه فيما يكون. لزناتة من الملك والدّولة بالمغرب وهي متداولة بين أهل الجيل وهم يزعمون تارة أنّه وليّ وتارة أنّه كاهن وقد يزعم بعض مزاعمهم أنّه كان نبيّا لأنّ تاريخه عندهم قبل الهجرة بكثير والله أعلم. وقد يستند الجيل إلى خبر الأنبياء إن كان لعهدهم كما وقع لبني إسرائيل فإنّ أنبياءهم المتعاقبين فيهم كانوا يخبرونهم بمثله عند ما يعنونهم في السّؤال عنه. وأمّا في الدّولة الإسلاميّة فوقع منه كثير فيما يرجع إلى بقاء الدّنيا ومدّتها على العموم وفيما يرجع إلى الدّولة وأعمارها على الخصوص وكان المعتمد في ذلك في صدر الإسلام لآثار منقولة عن الصّحابة وخصوصا مسلمة بني إسرائيل مثل كعب الأخبار ووهب بن منبّه وأمثالهما وربّما اقتبسوا بعض ذلك من ظواهر مأثورة وتأويلات محتملة. ووقع لجعفر وأمثاله من أهل البيت كثير من ذلك مستندهم فيه والله أعلم الكشف بما كانوا عليه من الولاية وإذا كان مثله لا ينكر من غيرهم من الأولياء في ذويهم وأعقابهم وقد قال صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ فيكم محدّثين» فهم أولى النّاس بهذه الرّتب الشّريفة والكرامات الموهوبة. وأمّا بعد صدر الملّة وحين علق النّاس على العلوم والاصطلاحات وترجمت كتب الحكماء إلى اللّسان العربيّ. فأكثر معتمدهم في ذلك كلام المنجّمين في الملك والدّول وسائر الأمور العامّة من القرانات وفي المواليد والمسائل وسائر الأمور الخاصّة من الطّوالع لها وهي شكل الفلك عند حدوثها فلنذكر الآن ما وقع لأهلالأثر في ذلك ثمّ نرجع إلى كلام المنجّمين. أمّا أهل الأثر فلهم في مدّة الملل وبقاء الدّنيا على ما وقع في كتاب السّهيليّ فإنّه نقل عن الطّبريّ ما يقتضي أنّ مدّة بقاء الدّنيا منذ الملّة خمسمائة سنة ونقض ذلك بظهور كذبه ومستند الطّبريّ في ذلك أنّه نقل عن ابن عبّاس أنّ الدّنيا جمعة من جمع الآخرة ولم يذكر لذلك دليلا. وسرّه والله أعلم تقدير الدّنيا بأيّام خلق السّماوات والأرض وهي سبعة ثمّ اليوم بألف سنة لقوله: «وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ» 22: 47 وقد ثبت في الصّحيحين: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أجلكم في أجل من كان قبلكم من صلاة العصر إلى غروب الشّمس» وقال: «بعثت أنا والسّاعة كهاتين» وأشار بالسّبّابة والوسطى وقدّر ما بين صلاة العصر وغروب الشّمس حين صيرورة ظلّ كلّ شيء مثليه يكون على التّقريب نصف سبع، وكذلك وصل الوسطى على السّبّابة فتكون هذه المدّة نصف سبع الجمعة كلّها وهو خمسمائة سنة ويؤيّده قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لن يعجز الله أن يؤخّر هذه الأمّة نصف يوم» فدلّ ذلك على أنّ مدّة الدّنيا قبل الملّة خمسة آلاف وخمسمائة سنة وعن وهب بن منبّه أنّها خمسة آلاف وستّمائة سنة أعني الماضي وعن كعب أنّ مدّة الدّنيا كلّها ستّة آلاف سنة قال السّهيليّ: «وليس في الحديثين ما يشهد لشيء ممّا ذكره مع وقوع الوجود بخلافه» . فأمّا قوله: «لن يعجز الله ان يؤخّر هذه الأمّة نصف يوم» فلا يقتضي نفي الزّيادة على النّصف وأمّا قوله: «بعثت أنا والسّاعة كهاتين» فإنّما فيه الإشارة إلى القرب وأنّه ليس بينه وبين السّاعة نبيّ غيره ولا شرع غير شرعه ثمّ رجع السّهيليّ إلى تعيين أمد الملّة من مدرك آخر لو ساعده التّحقيق وهو أنّه جمع الحروف المقطّعة في أوائل السّور بعد حذف المكرّر قال وهي أربعة عشر حرفا يجمعها قولك (ألم يسطع نص حق كره) فأخذ عددها بحساب الجمّل فكان سبعمائة وثلاثة 276 أضافه إلى المنقضي من الألف الآخر قبل بعثته فهذه هي مدّة الملّة قال ولا يبعد ذلك أن يكون من مقتضيات هذه الحروف وفوائدها قلت: وكونه لا يبعد لا يقتضي ظهوره ولا التّعويل عليه. والّذي حمل السّهيليّ على ذلك إنّما هو ما وقع في كتاب السّير لابن إسحاق في حديث ابني أخطب من أخبار اليهود وهما أبو ياسر وأخوه حيّ حين سمعا من الأحرف المقطّعة (الم 2: 1) وتأوّلاها على بيان المدّة بهذا الحساب فبلغت إحدى وسبعين فاستقلّا المدّة وجاء حيّ إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يسأله: هل مع هذا غيره؟ فقال (المصّ) ثمّ استزاد (الرّثم) ثمّ استزاد (المرّ) فكانت إحدى وسبعين ومائتين فاستطال المدّة وقال: قد لبّس علينا أمرك يا محمّد حتّى لا ندري أقليلا أعطيت أم كثيرا ثمّ ذهبوا عنه وقال لهم أبو ياسر ما يدريكم لعلّه أعطى عددها كلّها تسعمائة وأربع سنين قال ابن إسحاق فنزل قوله تعالى: «مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ» 3: 7. 1 هـ-. ولا يقوم من القصّة دليل على تقدير الملّة بهذا العدد لأنّ دلالة هذه الحروف على تلك الأعداد ليست طبيعيّة ولا عقليّة وإنّما هي بالتّواضع والاصطلاح الّذي يسمّونه حساب الجمّل نعم إنّه قديم مشهور وقدم الاصطلاح لا يصير حجّة وليس أبو ياسر وأخوه حيّ ممّن يؤخذ رأيه في ذلك دليلا ولا من علماء اليهود لأنّهم كانوا بادية بالحجاز غفلا عن الصّنائع والعلوم حتّى عن علم شريعتهم وفقه كتابهم وملّتهم وإنّما يتلقّفون مثل هذا الحساب كما تتلقّفه العوامّ في كلّ ملّة فلا ينهض للسّهيليّ دليل على ما ادّعاه من ذلك. ووقع في الملّة في حدثان دولتها على الخصوص مسند من الأثر إجماليّ في حديث خرّجه أبو داود عن حذيفة بن اليمان من طريق شيخه محمّد بن يحيى الذّهبيّ عن سعيد بن أبي مريم عن عبد الله بن فروخ عن أسامة بن زيد اللّيثيّ عن أبي قبيصة بن ذؤيب عن أبيه قال قال حذيفة بن اليمان: والله ما أدري أنسي أصحابي أم تناسوه والله ما ترك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من قائد فئة إلى أن تنقضي الدّنيا لا يبلغ من معه ثلاثمائة فصاعدا إلّا قد سمّاه لنا باسمه واسم أبيه وقبيلته وسكت عليه أبوداود وقد تقدّم أنّه قال في رسالته ما سكت عليه في كتابه فهو صالح وهذا الحديث إذا كان صحيحا فهو مجمل ويفتقر في بيان إجماله وتعيين مبهماته إلى آثار أخرى يجوّد أسانيدها. وقد وقع إسناد هذا الحديث في غير كتاب السّنن على غير هذا الوجه فوقع في الصّحيحين من حديث حذيفة أيضا قال: قام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فينا خطيبا فما ترك شيئا يكون في مقامه ذاك إلى قيام السّاعة إلّا حدّث عنه حفظه من حفظه ونسيه من نسيه قد علّمه أصحابه هؤلاء. 1 هـ-. ولفظ البخاريّ: ما ترك شيئا إلى قيام السّاعة إلّا ذكره وفي كتاب التّرمذيّ من حديث أبي سعيد الخدريّ قال صلّى بنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوما صلاة العصر بنهار ثمّ قام خطيبا فلم يدع شيئا يكون إلى قيام السّاعة إلّا أخبرنا به حفظه من حفظه ونسيه من نسيه 1 هـ- وهذه الأحاديث كلّها محمولة على ما ثبت في الصّحيحين من أحاديث الفتن والاشتراط لا غير لأنّه المعهود من الشّارع صلوات الله وسلامه عليه في أمثال هذه العمومات وهذه الزّيادة الّتي تفرّد بها أبو داود في هذه الطّريق شاذّة منكرة مع أنّ الأئمّة اختلفوا في رجاله فقال ابن أبي مريم في ابن فروخ أحاديثه مناكير. وقال البخاريّ يعرف منه وينكر وقال ابن عديّ أحاديثه غير محفوظة وأسامة بن زيد وإن خرّج له في الصّحيحين ووثّقه ابن معين فإنّما خرّج له البخاريّ استشهادا وضعّفه يحيى بن سعيد وأحمد بن حنبل وقال ابن حاتم يكتب حديثه ولا يحتجّ به. وأبو قبيصة ابن ذؤيب مجهول. فتضعف هذه الزّيادة الّتي وقعت لأبي داود في هذا الحديث من هذه الجهات مع شذوذها كما مرّ. وقد يستندون في حدثان الدّول على الخصوص إلى كتاب الجفر ويزعمون أنّ فيه علم ذلك كلّه من طريق الآثار والنّجوم لا يزيدون على ذلك ولا يعرفون أصل ذلك ولا مستنده واعلم أنّ كتاب الجفر كان أصله أنّ هارون بن سعيد العجليّ وهو رأس الزّيديّة كان له كتاب يرويه عن جعفر الصّادق وفيه علم ما سيقع لأهل البيت على العموم ولبعض الأشخاص منهم على الخصوص وقع ذلك لجعفر ونظائرهمن رجالاتهم على طريق الكرامة والكشف الّذي يقع لمثلهم من الأولياء وكان مكتوبا عند جعفر في جلد ثور صغير فرواه عنه هارون العجليّ وكتبه وسمّاه الجفر باسم الجلد الّذي كتب فيه لأنّ الجفر في اللّغة هو الصّغير وصار هذا الاسم علما على هذا الكتاب عندهم وكان فيه تفسير القرآن وما في باطنه من غرائب المعاني مرويّة عن جعفر الصّادق. وهذا الكتاب لم تتّصل روايته ولا عرف عينه وإنّما يظهر منه شواذّ من الكلمات لا يصحبها دليل ولو صحّ السّند إلى جعفر الصّادق لكان فيه نعم المستند من نفسه أو من رجال قومه فهم أهل الكرامات وقد صحّ عنه أنّه كان يحذّر بعض قرابته بوقائع تكون لهم فتصحّ كما يقول وقد حذّر يحيى ابن عمه زيد من مصرعه وعصاه فخرج وقتل بالجوزجان كما هو معروف. وإذا كانت الكرامة تقع لغيرهم فما ظنّك بهم علما ودينا وآثارا من النّبوة وعناية من الله بالأصل الكريم تشهد لفروعه الطّيّبة وقد ينقل بين أهل البيت كثير من هذا الكلام غير منسوب إلى أحد وفي أخبار دولة العبيديّين كثير منه وانظر ما حكاه ابن الرّقيق في لقاء أبي عبد الله الشّيعيّ لعبيد الله المهديّ مع ابنه محمّد الحبيب وما حدّثاه به وكيف بعثاه إلى ابن حوشب داعيتهم باليمن فأمره بالخروج إلى المغرب وبثّ الدّعوة فيه على علم لقّنه أنّ دعوته تتمّ هناك وأنّ عبيد الله لمّا بنى المهديّة بعد استفحال دولتهم بإفريقيّة قال: «بنيتها ليعتصم بها الفواطم ساعة من نهار» وأراهم موقف صاحب الحمار أبي يزيد بالهديّة وكان يسأل عن منتهى موقفه حتّى جاءه الخبر ببلوغه إلى المكان الّذي عيّنه جدّه أبو عبيد الله فأيقن بالظّفر وبرز من البلد فهزمه واتّبعه إلى ناحية الزّاب فظفر به وقتله ومثل هذه الأخبار كثيرة. وأمّا المنجّمون فيستندون في حدثان الدّول إلى الأحكام النّجوميّة أمّا في الأمور العامّة مثل الملك والدّول فمن القرانات وخصوصا بين العلويّين وذلك أنّ العلويّين زحل والمشتري يقترنان في كلّ عشرين سنة مرّة ثمّ يعود القران إلىبرج آخر في تلك المثلّثة من التّثليث الأيمن ثمّ بعده إلى آخر كذلك إلى أن يتكرّر في المثلّثة الواحدة اثنتي عشرة مرّة تستوي بروجه الثّلاثة في ستّين سنة ثمّ يعود فيستوي بها في ستين سنة ثمّ يعود ثالثة ثمّ رابعة فيستوي في المثلّثة باثنتي عشرة مرّة وأربع عودات في مائتين وأربعين سنة ويكون انتقاله في كلّ برج على التّثليث الأيمن وينتقل من المثلّثة إلى المثلّثة الّتي تليها أعني البرج الّذي يلي البرج الأخير من القران الّذي قبله في المثلّثة وهذا القران الّذي هو قران العلويّين ينقسم إلى كبير وصغير ووسط فالكبير هو اجتماع العلويّين في درجة واحدة من الفلك إلى أن يعود إليها بعد تسعمائة وستّين سنة مرّة واحدة والوسط هو اقتران العلويّين في كلّ مثلّثة اثنتي عشرة مرّة وبعد مائتين وأربعين سنة ينتقل إلى مثلّثة أخرى والصّغير هو اقتران العلويّين في درجة برج وبعد عشرين سنة يقترنان في برج آخر على تثليثه الأيمن في مثل درجة أو دقائقه مثال ذلك وقع القران يكون أوّل دقيقة من الحمل وبعد عشرين يكون في أوّل دقيقة من الأسد وهذه كلها ناريّة وهذا كلّه قران صغير ثمّ يعود إلى أوّل الحمل بعد ستّين سنة ويسمّى دور القران وعود القران وبعد مائتين وأربعين ينتقل من النّاريّة إلى التّرابيّة لأنّها بعدها وهذا قران وسط ثمّ ينتقل إلى الهوائيّة ثمّ المائيّة ثمّ يرجع إلى أوّل الحمل في تسعمائة وستّين سنة وهو الكبير والقران الكبير يدلّ على عظام الأمور مثل تغيير الملك والدّولة وانتقال الملك من قوم إلى قوم والوسط على ظهور المتغلّبين والطّالبين للملك والصّغير على ظهور الخوارج والدّعاة وخراب المدن أو عمرانها ويقع في أثناء هذه القرانات قران النّحسين في برج السّرطان في كلّ ثلاثين سنة مرّة ويسمّى الرّابع وبرج السّرطان هو طالع العالم وفيه وبال زحل وهبوط المرّيخ فتعظم دلالة هذا القران في الفتن والحروب وسفك الدّماء وظهور الخوارج وحركة العساكر وعصيان الجند والوباء والقحط ويدوم ذلك أو ينتهي على قدر السّعادة والنّحوسة في وقت قرانهما على قدر تيسير الدّليل فيه. قال جراس بنأحمد الحاسب في الكتاب الّذي ألّفه لنظام الملك ورجوع المرّيخ إلى العقرب له أثر عظيم في الملّة الإسلاميّة لأنّه كان دليلها فالمولد النّبويّ كان عند قران العلويّين ببرج العقرب فلمّا رجع هنالك حدث التّشويش على الخلفاء وكثر المرض في أهل العلم والدّين ونقصت أحوالهم وربّما انهدم بعض بيوت العبادة وقد يقال إنّه كان عند قتل عليّ رضي الله عنه ومروان من بني أميّة والمتوكّل من بني العبّاس فإذا روعيت هذه الأحكام مع أحكام القرانات كانت في غاية الإحكام وذكر شاذان البلخيّ: أنّ الملّة تنتهي إلى ثلاثمائة وعشرين. وقد ظهر كذب هذا القول. وقال أبو معشر: يظهر بعد المائة والخمسين منها اختلاف كثير ولم يصحّ ذلك. وقال خراش: رأيت في كتب القدماء أنّ المنجّمين أخبروا كسرى عن ملك العرب وظهور النّبوة فيهم. وأنّ دليلهم الزّهرة وكانت في شرفها فيبقى الملك فيهم أربعين سنة وقال أبو معشر في كتاب القرانات القسمة إذا انتهت إلى السّابعة والعشرين من الحوت فيها شرف الزّهرة ووقع القران مع ذلك ببرج العقرب وهو دليل العرب ظهرت حينئذ دولة العرب وكان منهم نبيّ ويكون قوّة ملكه ومدّته على ما بقي من درجات شرف الزّهرة وهي إحدى عشرة درجة بتقريب من برج الحوت ومدّة ذلك ستّمائة وعشر سنين وكان ظهور أبي مسلم عند انتقال الزّهرة ووقوع القسمة أوّل الحمل وصاحب الجدّ المشتري. وقال يعقوب بن إسحاق الكنديّ إنّ مدّة الملّة تنتهي إلى ستّمائة وثلاث وتسعين سنة. قال: لأنّ الزّهرة كانت عند قران الملّة في ثمان وعشرين درجة وثلاثين دقيقة من الحوت فالباقي إحدى عشرة درجة وثمان عشرة دقيقة ودقائقها ستّون فيكون ستّمائة وثلاثا وتسعين سنة. قال: وهذه مدّة الملّة باتّفاق الحكماء ويعضده الحروف الواقعة في أوّل السّور بحذف المكرّر واعتباره بحساب الجمّل. قلت وهذا هو الّذي ذكره السّهيليّ والغالب أنّ الأوّل هو مستند السّهيليّ فيما نقلناه عنه. قال خراش 277 : «سأل هرمز إفريد الحكيم عن مدّة أردشير وولده ملوك السّاسانيّة» فقال: «دليل ملكه المشتري» وكان في شرفه فيعطى أطول السّنين وأجودها أربعمائة وسبعا وعشرين سنة ثمّ تزيد الزّهرة وتكون في شرفها وهي دليل العرب فيملكون لأنّ طالع القران الميزان وصاحبه الزّهرة وكانت عند القران في شرفها فدلّ أنّهم يملكون ألف سنة وستّين سنة. وسأل كسرى أنوشروان وزيره بزرجمهر الحكيم عن خروج الملك من فارس إلى العرب فأخبره: أنّ القائم منهم يولد لخمس وأربعين من دولته ويملك المشرق والمغرب والمشتري يغوص إلى الزّهرة وينتقل القران من الهوائيّة إلى العقرب وهو مائيّ وهو دليل العرب فهذه الأدلّة تفضي للملّة بمدة دور الزّهرة وهي ألف وستّون سنة. وسأل كسرى أبرويز أليوس الحكيم عن ذلك فقال مثل قول بزرجمهر. وقال توفيل الرّوميّ المنجّم في أيّام بني أميّة: إنّ ملّة الإسلام تبقى مدّة القران الكبير تسعمائة وستّين سنة فإذا عاد القران إلى برج العقرب كما كان في ابتداء الملّة وتغيّر وضع الكواكب عن هيئتها في قران الملّة فحينئذ إمّا أن يفتر العمل به أو يتجدّد من الأحكام ما يوجب خلاف الظّنّ. قال خراش: واتّفقوا على أنّ خراب العالم يكون باستيلاء الماء والنّار حتّى تهلك سائر المكوّنات وذلك عند ما يقطع قلب الأسد أربعا وعشرين درجة وهي حدّ المرّيخ، وذلك بعد مضيّ تسعمائة وستّين سنة. وذكر خراش: أنّ ملك زابلستان بعث إلى المأمون بحكيمه ذوبان أتحفه به في هديّة وأنّه تصرّف للمأمون في الاختيارات بحروب أخيه وبعقد اللّواء لطاهر وأنّ المأمون أعظم حكمته فسأله عن مدّة ملكهم فأخبره بانقطاع الملك من عقبه واتّصاله في ولد أخيه وأنّ العجم يتغلّبون على الخلافة من الدّيلم في دولة سنة خمسين ويكون ما يريده الله ثمّ يسوء حالهم ثمّ تظهر الترك من شمال المشرق فيملكون إلى الشّام والفرات وسيحون وسيملكون بلاد الرّوم ويكون ما يريده الله فقال له المأمون: من أين لك هذا؟ فقال: من كتب الحكماء ومن أحكام صصّة بن داهر الهنديّالّذي وضع الشّطرنج. قلت والتّرك الّذين أشار إلى ظهورهم بعد الدّيلم هم السّلجوقيّة وقد انقضت دولتهم أوّل القرن السّابع. قال خراش: وانتقال القران إلى المثلّثة المائيّة من برج الحوت يكون سنة ثلاث وثلاثين وثمانمائة ليزدجرد وبعدها إلى برج العقرب حيث كان قران الملّة سنة ثلاث وخمسين. قال: والّذي في الحوت هو أوّل الانتقال والّذي في العقرب يستخرج منه دلائل الملّة. قال: وتحويل السّنة الأولى من القران الأوّل في المثلّثات المائيّة في ثاني رجب سنة ثمان وستّين وثمانمائة ولم يستوف الكلام على ذلك. وأمّا مستند المنجّمين في دولة على الخصوص فمن القران الأوسط وهيئة الفلك عند وقوعه لأنّ له دلالة عندهم على حدوث الدّولة وجهاتها من العمران والقائمين بها من الأمم وعدد ملوكهم وأسمائهم وأعمارهم ونحلهم وأديانهم وعوائدهم وحروبهم كما ذكر أبو معشر في كتابه في القرانات وقد توجد هذه الدّلالة من القران الأصغر إذا كان الأوسط دالّا عليه فمن يوجد الكلام في الدّول وقد كان يعقوب بن إسحاق الكنديّ منجّم الرّشيد والمأمون وضع في القرانات الكائنة في الملّة كتابا سمّاه الشّيعة بالجفر باسم كتابهم المنسوب إلى جعفر الصّادق وذكر فيه فيما يقال حدثان: دولة بني العبّاس وأنّها نهايته وأشار إلى انقراضها والحادثة على بغداد أنّها تقع في انتصاف المائة السّابعة وأنّه بانقراضها يكون انقراض الملّة ولم نقف على شيء من خبر هذا الكتاب ولا رأينا من وقف عليه ولعلّه غرق في كتبهم الّتي طرحها هلاكو ملك التّتر في دجلة عند استيلائهم على بغداد وقتل المستعصم آخر الخلفاء وقد وقع بالمغرب جزء منسوب إلى هذا الكتاب يسمّونه الجفر الصّغير والظّاهر أنّه وضع لبني عبد المؤمن لذكر الأوّلين من ملوك الموحّدين فيه على التّفصيل ومطابقة من تقدّم عن ذلك من حدثانه وكذّب ما بعده وكان في دولة بني العبّاس من بعد الكنديّ منجّمون وكتب في الحدثان وانظر ما نقله الطّبريّ في أخبار المهديّ عن أبي بديل من أصحاب صنائع الدّولة قال بعث إليّ الرّبيع والحسن في غزاتهما معالرّشيد أيّام أبيه فجئتهما جوف اللّيل فإذا عندهما كتاب من كتب الدّولة يعني الحدثان وإذا مدّة المهديّ فيه عشر سنين فقلت: هذا الكتاب لا يخفى على المهديّ وقد مضى من دولته ما مضى فإذا وقف عليه كنتم قد نعيتم إليه نفسه. قالا: فما الحيلة فاستدعيت عنبسة الورّاق مولى آل بديل وقلت له انسخ هذه الورقة واكتب مكان عشر أربعين ففعل فو الله لولا أني رأيت العشرة في تلك الورقة والأربعين في هذه ما كنت أشكّ أنّها هي ثمّ كتب النّاس من بعد ذلك في حدثان الدّول منظوما ومنثورا ورجزا ما شاء الله أن يكتبوه وبأيدي النّاس متفرّقة كثير منها وتسمّى الملاحم. وبعضها في حدثان الملّة على العموم وبعضها في دولة على الخصوص وكلّها منسوبة إلى مشاهير من أهل الخليقة وليس منها أصل يعتمد على روايته عن واضعه المنسوب إليه فمن هذه الملاحم بالمغرب قصيدة ابن مرّانة من بحر الطّويل على رويّ الرّاء وهي متداولة بين النّاس وتحسب العامّة أنّها من الحدثان العامّ فيطلقون الكثير منها على الحاضر والمستقبل والّذي سمعناه من شيوخنا أنّها مخصوصة بدولة لمتونة لأنّ الرّجل كان قبيل دولتهم وذكر فيها استيلاءهم على سبتة من يد موالي بني حمّود وملكهم لعدوة الأندلس ومن الملاحم بيد أهل المغرب أيضا قصيدة تسمّى التّبعيّة أوّلها: طربت وما ذاك منّي طرب ... وقد يطرب الطّائر المغتصب وما ذاك منّي للهو أراه ... ولكن لتذكار بعض السّبب قريبا من خمسمائة بيت أو ألف فيما يقال ذكر فيها كثيرا من دولة الموحّدين وأشار فيها إلى الفاطميّ وغيره والظّاهر أنّها مصنوعة ومن الملاحم بالمغرب أيضا ملعّبة من الشّعر الزّجليّ منسوبة لبعض اليهود ذكر فيها أحكام القرانات لعصره العلويّين والنّحسين وغيرهما وذكر ميتته قتيلا بفاس وكان كذلك فيما زعموه وأوّله: في صبغ ذا الأزرق لشرفه خيارا ... فافهموا يا قوم هذي الاشارانجم زحل أخبر بذي العلاما ... وبدّل الشكلا وهي سلاما شاشية زرقا بدل العماما ... وشاش أزرق بدل الغرارا يقول في آخره قد تم ذا التجنيس لإنسان يهودي ... يصلب في بلدة فاس في يوم عيد حتى يجيه الناس من البوادي ... وقتله يا قوم على الفراد وأبياته نحو الخمسمائة وهي في القرانات الّتي دلّت على دولة الموحّدين ومن ملاحم المغرب أيضا قصيدة من عروض المتقارب على رويّ الباء في حدثان دولة بني أبي حفص بتونس من الموحّدين منسوبة لابن الأبّار. وقال لي قاضي قسنطينيّة الخطيب الكبير أبو عليّ بن باديس وكان بصيرا بما يقوله وله قدم في التّنجيم فقال لي: إنّ هذا ابن الأبّار ليس هو الحافظ الأندلسيّ الكاتب مقتول المستنصر وإنّما هو رجل خيّاط من أهل تونس تواطأت شهرته مع شهرة الحافظ وكان والدي رحمه الله تعالى ينشد هذه الأبيات من هذه الملحمة وبقي بعضها في حفظي مطلعها: عذيري من زمن قلّب ... يغرّ ببارقه الأشنب ومنها. ويبعث من جيشه قائدا ... ويبقى هناك على مرقب فتأتي إلى الشّيخ أخباره ... فيقبل كالجمل الأجرب ويظهر من عدله سيرة ... وتلك سياسة مستجلب ومنها في ذكر أحوال تونس على العموم. فإمّا 278 رأيت الرّسوم امّحت ... ولم يرع حقّ لذي منصب فخذ في التّرحّل عن تونس ... وودّع معالمها واذهب فسوف تكون بها فتنة ... تضيف البريء إلى المذنب ووقفت بالمغرب على ملحمة أخرى في دولة بني أبي حفص هؤلاء بتونس فيها بعد السّلطان أبي يحيى الشّهير عاشر ملوكهم ذكر محمّد أخيه من بعده يقول فيها: وبعد أبي عبد الإله شقيقه ... ويعرف بالوثّاب في نسخة الأصل إلّا أنّ هذا الرّجل لم يملكها بعد أخيه وكان يمنيّ بذلك نفسه إلى أن هلك ومن الملاحم في المغرب أيضا الملعّبة المنسوبة إلى الهوثنيّ 279 على لغة العامّة في عروض البلد: دعني بدمعي الهتان ... فترت الأمطار ولم تفتر واستقت كلها الويدان ... وانى تملى وتغدر البلاد كلّها تروي ... فأولى بها ميل ما تدري ما بين الصيف والشتوي ... والعام والربيع تجري قال حين صحّت الدعوى: ... دعني نبكي ومن عذر أنادي من ذي الأزمان ... ذا القرن اشتد وتمري وهي طويلة ومحفوظة بين عامّة المغرب الأقصى والغالب عليها الوضع لأنّه لم يصحّ منها قول إلّا على تأويل تحرّفه العامّة أو الحارف فيه من ينتحلها من الخاصّة ووقفت بالمشرق على ملحمة منسوبة لابن العربيّ الحاتميّ في كلام طويل شبه الألغاز لا يعلم تأويله إلّا الله لتحلّله إلى أوفاق عدديّة ورموز ملغوزة وأشكال حيوانات تامّة ورءوس مقطّعة وتماثيل من حيوانات غريبة. وفي آخرها قصيدة على رويّ اللّام والغالب أنّها كلّها غير صحيحة لأنّها لم تنشأ عن أصل علميّ من نجامة ولا غيرها وسمعت أيضا أنّ هناك ملاحم أخرى منسوبة لابن سيناء وابن عقاب وليس في شيء منها دليل على الصّحّة لأنّ ذلك إنّما يؤخذ من القرانات ووقفت بالمشرق أيضا على ملحمة من حدثان دولة التّرك منسوبة إلى رجل من الصّوفيّة يسمّى الباجربقيّ وكلّها إلغاز بالحروف أوّلها. إن شئت تكسف سرّ الجفر يا سائلي ... من علم جفر وصيّ والد الحسن فافهم وكن واعيا حرفا وجملته ... والوصف فافهم كفعل الحاذق الفطن أمّا الّذي قبل عصري لست أذكره ... لكنّني أذكر الآتي من الزّمن بشهر بيبرس يبقى بعد خمستها ... بحاء ميم بطيش نام في الكنن شين له أثر من تحت سرّته ... له القضاء قضى أي ذلك المنن فمصر والشّام مع أرض العراق له ... وأذربيجان في ملك إلى اليمن ومنها: وآل بوران لما نال طاهرهم ... الفاتك الباتك المعنيّ بالسمن لخلع سين ضعيف السّن سين أتى ... لا لوفاق ونوت ذي قرن قوم شجاع له عقل ومشورة ... يبقى بحاء وأين بعد ذو سمن ومنها: من بعد باء من الأعوام قتلته ... يلي المشورة ميم الملك ذو اللسن ومنها: هذا هو الأعرج الكلبيّ فأعن به ... في عصره فتن ناهيك من فتن يأتي من الشرق في جيش يقدّمهم ... عار عن القاف قاف جدّ بالفتن بقتل دال ومثل الشام أجمعها ... أبدت بشجو على الأهلين والوطن إذا أتى زلزلت يا ويح مصر من ... الزلزال ما زال حاء غير مقتطن طاء وظاء وعين كلّهم حبسوا ... هلكا وينفق أموالا بلا ثمنيسير القاف قافا عند جمعهم هوّن به إنّ ذاك الحصن في سكن وينصبون أخاه وهو صالحهم لا سلّم الألف سين لذاك بني تمّت ولايتهم بالحاء لا أحد من السنين يداني الملك في الزمن ويقال إنه أشار إلى الملك الظاهر وقدوم أبيه عليه بمصر: يأتي إليه أبوه بعد هجرته ... وطول غيبته والشّظف والرزن وأبياتها كثيرة والغالب أنّها موضوعة ومثل صنعتها كان في القديم كثير ومعروف الانتحال. حكى المؤرّخون لأخبار بغداد أنّه كان بها أيّام المقتدر ورّاق ذكيّ يعرف بالدّاناليّ 280 يبلّ الأوراق ويكتب فيها بخطّ عتيق يرمز فيه بحروف من أسماء أهل الدّولة ويشير بها إلى ما يعرف ميلهم إليه من أحوال الرّفعة والجاه كأنّها ملاحم ويحصل على ما يريده منهم من الدّنيا وإنّه وضع في بعض دفاتره ميما مكرّرة ثلاث مرّات وجاء به إلى مفلح مولى المقتدر. فقال له: هذا كناية عنك وهو مفلح مولى المقتدر وذكر عنه ما يرضاه ويناله من الدّولة ونصب لذلك علامات يموّه بها عليه فبذل له ما أغناه به ثمّ وضعه للوزير ابن القاسم بن وهب على مفلح هذا وكان معزولا فجاءه بأوراق مثلها وذكر اسم الوزير بمثل هذه الحروف وبعلامات ذكرها وأنّه يلي الوزارة للثّاني عشر من الخلفاء وتستقيم الأمور على يديه ويقهر الأعداء وتعمر الدّنيا في أيّامه وأوقف مفلحا هذا على الأوراق وذكر فيها كوائن أخرى وملاحم من هذا النّوع ممّا وقع وممّا لم يقع ونسب جميعه إلى دانيال فأعجب به مفلح. ووقف عليه المقتدر واهتدى من تلك الأمور والعلامات إلى ابن وهب وكان ذلك سببا لوزارته بمثل هذه الحيلة العريقة في الكذب والجهل بمثل هذه الألغاز والظّاهر أنّ هذه الملحمة الّتي ينسبونها إلى الباجربقيّ من هذا النّوع. ولقد سألت أكمل الدّين ابن شيخ الحنفيّة من العجم بالدّيار المصريّة عن هذه الملحمة وعن هذا الرّجل الّذي تنسب إليه من الصّوفيّة وهو الباجربقيّ وكان عارفا بطرائقهم فقال كان من القلندريّة المبتدعة في حلق اللّحية وكان يتحدّث عمّا يكون بطريق الكشف ويومي إلى رجال معيّنين عنده ويلغز عليهم بحروف يعيّنها في ضمنها لمن يراه منهم وربّما يظهر نظم ذلك في أبيات قليلة كان يتعاهدها فتنوقلت عنه وولع النّاس بها وجعلوها ملحمة مرموزة وزاد فيها الخرّاصون من ذلك الجنس في كلّ عصر وشغل العامّة بفكّ رموزها وهو أمر ممتنع إذ الرّمز إنّما يهدي إلى كشفه قانون يعرف قبله ويوضع له وأمّا مثل هذه الحروف فدلالتها على المراد منها مخصوصة بهذا النّظم لا يتجاوزوه فرأيت من كلام هذا الرّجل الفاضل شفاء لما كان في النّفس من أمر هذه الملحمة «وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا الله 7: 43» والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التّوفيق.
حواش
- ↑ تذامر القوم: حضّ بعضهم بعضا على القتال.
- ↑ بمعنى توثب، والأصح تنزى.
- ↑ بمعنى الذين أتوا من أماكن اخرى.
- ↑ اعياص: ج عيص، الأصل بمعنى أنهم يرجون أنتقال الملك إليه من أصوله أي من آبائه وأجداده.
- ↑ يشفّ: يزيد.
- ↑ أبدى: من البداوة وأبدى أفعل التفضيل من بدا ومعناها أشد بداوة.
- ↑ لم نعثر على حصن اركش في معجم البلدان وكذلك في المراجع التي بين أيدينا وربما هناك تحريف بالاسم وهو حصن اركون، وهو حصن منيع في الأندلس وموقعه ينسجم مع سياق الحديث عن المرابطين بالأندلس.
- ↑ وفي بعض النسخ المتشبثون.
- ↑ الأصح موزورين.
- ↑ هو طاهر بن الحسين، كان قائدا لجيش المأمون زمن الخلاف بين الأخوين الأمين والمأمون وقد خرج أيام الأمين.
- ↑ الفتنة.
- ↑ الزعرة ج زعر وفي العامية ازعر وزعران وهم ذوي الأخلاق السيئة. (قاموس) .
- ↑ اللصوص والمجرمين.
- ↑ هو نهب مال الإنسان بأجمعه. وفي الحديث الحارب الميشلح أي الغاصب الناهب، الّذي يعرّي الناس ثيابهم.
- ↑ طلب النجدة والعون.
- ↑ المحافظة أي منع المحافظة عليهم.
- ↑ الكذابين.
- ↑ اغمارهم: احداثهم الذين لم يفقهوا الأمور بعد.
- ↑ المعقل والملجأ (قاموس) .
- ↑ هناك تشويش في معنى العبارة وربما تكون العبارة: يتساوى في ذلك بنو العباس أهل المركز وبنوا أمية المستبدون بالأندلس.
- ↑ اثخن في العدو: أكثر في القتل والجرح وورد في الآية 67 من سورة الأنفال «ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ في الْأَرْضِ 8: 67» .
- ↑ مخالف وفي الآية 4 من سورة الحشر «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا الله وَرَسُولَهُ 59: 4» .
- ↑ متتالية ومتتابعة.
- ↑ الاسم الّذي أطلقه عرب الأندلس على ملك الفرنج في البرتغال وقشتالة.
- ↑ ترسخ وتأصّل.
- ↑ سورة الأنبياء الآية 22.
- ↑ الفارة في الفرس والبرذون والحمار: الجيد السير.
- ↑ الدفاع عن الناحية.
- ↑ أحبوا وآلفوا.
- ↑ الوليجة: البطانة والخاصة ومن يتخذه الإنسان معتمدا عليه من غير أهله (قاموس) .
- ↑ الخلل: الوهن في الأمر والرقة في الناس (قاموس) ولعل الكلمة محرّفة من كلمة الخلّة وهي الحاجة.
- ↑ الرديء من كل شيء.
- ↑ سورة الأحقاف الآية 15.
- ↑ في بعض النسخ تفنقوه: أي تنعموا به (قاموس) وتبنقوه: توصلوا إليه.
- ↑ الأصح أن يقول نفاد عددهم.
- ↑ الخبز المرقوق.
- ↑ اردأ المتاع.
- ↑ أملاكها: زواجها.
- ↑ بدر: ج بدرة وهي عشرة آلاف درهم.
- ↑ قوله وثلثان الّذي كتب في اللغة ان المن رطل وقيل رطلان ولم يوجد في النسخة التونسية ثلثان.
- ↑ الحراقات بالفتح جمع حراقة سفينة فيها مرامي نار يرمي بها العدو 1 هـ- مختار.
- ↑ نضارتهم.
- ↑ اسم فارسي يطلق على رئيس القرية وأصحاب العقارات الكبيرة.
- ↑ ان طبيعة الحجاج البدوية أبت التصنع والتكلف فأمر غلامه بذبح الجزر وإطعام الناس.
- ↑ بمعنى استعراض جنده.
- ↑ سلاحهم.
- ↑ (بمعنى الجميل في مظهرة، الوضيع في مخبره وفي الحديث: «وإياكم وخضراء الدمن» قالوا: وما خضراء الدمن يا رسول الله؟ قال: «المرأة الحسناء في المنبت السوء» ) .
- ↑ تكاءد: تكلفه وكابده. والأصح أن يقول تكاءده.
- ↑ الهندام: التنظيم والإصلاح.
- ↑ قوله ابن عناق الّذي في القاموس في باب الجيم عوج بن عوق بالواو والمشهور على ألسنة الناس عنق بالنون قاله نصر الهوريني (وهو رجل ولد في منزل آدم. فعاش إلى زمن موسى، وذكر من عظم خلقه ما لا يصدقه العقل) .
- ↑ ثبت للعلم الحديث أن الشمس جسم ملتهب، وأنها محتفظة بالتهابها وحرارتها.
- ↑ في بعض النسخ المرّة: بمعنى القوة وقال تعالى في آيتي 5 و 6 من سورة النجم: «عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى 53: 5- 6»
- ↑ كرش: وعاء الطيب (قاموس) .
- ↑ الحملان: ما يحمل عليه من الدواب في الهبة خاصة (قاموس) .
- ↑ السواد: كان العرب يطلقونها على الأراضي الزراعية (سواد العراق سواد فارس إلخ.) .
- ↑ الحلل: ج حلة: ثوبان من جنس واحد.
- ↑ كنلور في معجم البلدان هكذا ذكرها ياقوت الحموي.
- ↑ حلوان: مقاطعة في العراق وهي غير حلوان مصر وهي في شرقي العراق.
- ↑ نوع من الحلوى.
- ↑ القطعة المذابة من الفضة أو الذهب.
- ↑ ثمر معروف ج اهليلجة.
- ↑ قوله والدينار والظاهر أنها الدينور وفي الترجمة التركية ما سندان وربان انتهى-
- ↑ قوله ومن البزاة في التركية ومن السكر عشرة صناديق انتهى-
- ↑ وفي نسخة القسط وهو عود يتداوى به
- ↑ كان ابتداء رحلة ابن بطوطة سنة 725 وانتهاؤها سنة 754 وهي عجيبة ومختصرها 7 كراريس 1 هـ.
- ↑ كذا في جميع النسخ وتعرف اليوم باسم دلهي.
- ↑ شكائر من شكر: بمعنى الضروع.
- ↑ بمعنى رخاوة.
- ↑ بمعنى يحقدون عليه.
- ↑ ليس لها معنى وربما تكون زائدة.
- ↑ أظآر ج ظئر: المرضع. وظئر القصر: ركنه (قاموس)
- ↑ قوله لنفسه بفتح اللام والنون وكسر الفاء يقال نفس عليه الشيء كفرح لم يره أهلا له كما في القاموس.
- ↑ اعياص ج عيص: منبت خيار الشجر، ويقال هو من عيص كريم: أي من أصل كريم (قاموس)
- ↑ أي نصب الامام.
- ↑ تعطل الرجل إذا بقي لا عمل له والاسم العطلة وفلان ذو عطلة إذا لم تكن له صنعة يمارسها (لسان العرب) وقد استعملها ابن خلدون بمعنى فقد الحواس أو تعطيلها.
- ↑ قوله الإمام ابن الخطيب هو الفخر الرازيّ قاله نصر.
- ↑ هم علماء التوحيد المسمّى بعلم الكلام.
- ↑ كذا في جميع النسخ والأصح أن يقول غزوتين. مثنى غزوة.
- ↑ غمص عليه قوله: كذب عليه كلامه، عابه عليه. وغمصه: حقره واستصغره (قاموس) .
- ↑ السبط: ولد البنت، ولذلك يطلق على الحسن والحسين ابني الإمام علي (رضي الله عنهم) من فاطمة الزهراء (رضي الله عنها) بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فكل منهما سبط للرسول صلّى الله عليه وسلّم.
- ↑ ربما سقط حرف على من الجملة. بحيث تصبح الجملة «وسخط محمد بن الحنفية على المختار..» .
- ↑ ورد ذكر هذه القصة في القرآن الكريم «سورة الكهف بين الآية 65- 85» .
- ↑ المعروف أنه غاب في سامراء ومقامه معروف إلى اليوم.
- ↑ قذال: ج قذل وأقذلة: ما بين الأذنين من مؤخر الرأس. الخضاب: الحنة.
- ↑ يقصد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.
- ↑ لقب الإسماعيلية جعفر بن محمد المكتوم بلقب جده الثاني جعفر الصادق.
- ↑ كتاب ابن حزم اسمه: «الفصل في الملل والنّحل» وكتاب الشهرستاني «الملل والنحل» .
- ↑ عبة بضم العين وكسرها الموحدة المشددة وتشديد المثناة التحتية الكبر والفخر والنخوة أهـ- قاموس.
- ↑ الخلاق: النصيب الوافر من الخير، وبكسر الخاء نوع من الطيب أعظم أجزائه الزعفران.
- ↑ أي يضربونه بالحجارة حتى يرق.
- ↑ وفي بعض النسخ مائة ألف.
- ↑ يعلى بن منيه أو يعلى بن أميه (أعلام الرجال) .
- ↑ هو كتاب مشهور في الحديث لمالك بن أنس.
- ↑ قوله عبد الله كذا في النسخة التونسية وبعض الفارسية وفي بعضها عبد الملك وأظنه تصحيفا (قاله نصر) .
- ↑ فرشنا.
- ↑ البيعة بفتح الموحدة أما بكسرها على وزن شيعة بسكون الياء فيها فهي معبد النصارى. 1 هـ-.
- ↑ ما تجرح به شهادة خصمك أو حجته.
- ↑ كذا في جميع النسخ ومقتضى السياق: هذا إلى أن الكثير.
- ↑ (ورد في لسان العرب قول الأزهري: والّذي يقع عندي. والله أعلم. ان القرن) هل كل مدة كان فيها، أو كان فيها طبقة من أهل العلم، قلت السنون أو كثرت والدليل على هذا قول النبي صلّى الله عليه وسلّم «خيركم قرني، يعني أصحابي ثم الذين يلونهم، يعني التابعين، ثم الذين يلونهم، يعني الذين أخذوا عن التابعين» قال: وجائز أن يكون القرن لجملة الأمة، وهؤلاء قرون فيها.
- ↑ الضمير يعود إلى الله تعالى.
- ↑ الذين يزورونها للصلاة.
- ↑ يخالفه.
- ↑ في بعض النسخ: فيدلّ أي يثق به ويعتز.
- ↑ وفي بعض النسخ: مجرّبا.
- ↑ وفي بعض النسخ: أمور.
- ↑ ربّما تكون محرّفة من الصوائف: أي الغزو أثناء الصيف.
- ↑ القود: قتل القاتل بدل القتيل (منجد) .
- ↑ الضمير يعود إلى الناس أو العامة.
- ↑ المران بكسر الميم التمرن والاعتياد على الشيء 1 هـ-.
- ↑ الأصح أن يقول: حتى إذا استولوا على الدولة حولوا اللقب.
- ↑ كذا في جميع النسخ واسمه ابن شرف.
- ↑ الدست كلمة أعجمية لم ترد في لسان العرب ومعناها صدر البيت أو المجلس والدست من الثياب ما يكفي حاجة الإنسان (المنجد) وقد استعملها ابن خلدون بمعنى المراس.
- ↑ الأصح أن يقول: فانقلبا إليه.
- ↑ اللبوس، الثياب والسلاح، قال الله تعالى: «وعلمناه صنعة لبوس لكم» قالوا: هي الدرع تلبس في الحروب (لسان العرب) .
- ↑ يتضح من سياق الجملة وما يليها أن الأصح أن يقول: في عدم انتحال اللقب بأمير المؤمنين.
- ↑ هو صموئيل كما في التوراة
- ↑ الجلوة: زفاف العروس وليس لها معنى هنا والأصح أن يقول الجلاء أو الجلو من جلا.
- ↑ أي حسدوا المسيح وكذبوه.
- ↑ وهو مرقص الرسول.
- ↑ وفي التوراة: سفر المكابيين (بتشديد الميم والكاف) الأول والثاني وليس هناك ثالث. ولم يرد ذكر ابن كريون وربما تكون محرفة عن اسم الرجل الّذي اختصر اسفار المكابيين واسمه (يس الكريوني) نسبة إلى كريان وهي الاسم القديم لمقاطعة برقة في ليبيا.
- ↑ هو سفر استير (التوراة) .
- ↑ هو يشوع بن سيراخ (التوراة) .
- ↑ كذا بالأصل وهو خطأ. لأن اريوس قسيس، ولم يتولّ مطلقا كرسي الباباوية ولا ما يقرب منها. وله مذهب خاص يقول بنفي الطبيعة اللاهوتية للمسيح، ولذلك حكم مجمع نيقية بتجريده من ألقابه الكهونية سنة 325 م.
- ↑ وفي بعض النسخ ملاء واختبار.
- ↑ المشهور قديما إمبراطور بالطاء المهملة والفرنسيس تقول (أمبرور) ومعناها عندهم ملك الملوك.
- ↑ أي أن البابا يضع التاج على رأس الامبراطور ثم يباركه.
- ↑ المهنة الخدمة وجمعها مهن بكسر الميم.
- ↑ أبناء السبيل.
- ↑ سورة طه (الآية 29- 32) .
- ↑ معنى الجملة: ان الملك يستعين بسيف هذا في شئون الحرب وقلم ذاك في شئون الكتابة. ورأي آخر في شئون السياسة.
- ↑ الأصح أن يقول «يدفع النظر إليه في الملك كله»
- ↑ أي الكتابة.
- ↑ أهل الكتاب: أي النصارى واليهود.
- ↑ الذياع والشياع: ليسا من مصادر ذاع وشاع والأصح أن يقول: الذيوع والشيوع.
- ↑ أي الخليفة كما يتضح من العبارة اللاحقة.
- ↑ بمعنى استيعابها للخطط.
- ↑ كثيرة الرفس.
- ↑ كثيرة رفع اليدين.
- ↑ بمعنى الضرب.
- ↑ الجديد الّذي لم تسبق فيه تجربة.
- ↑ يتعاظم أو يفاخر.
- ↑ دنا.
- ↑ قطعوا.
- ↑ الفرجة: ج فرج: كل منفرج بين شيئين وهنا بمعنى خلل.
- ↑ قوله موسيقية وفي نسخة الموسيقارية وهي صحيحة لأن الموسيقى بكسر القاف بين التحتيتين اسم للنغم والألحان وتوقيعها ويقال فيها موسيقير ويقال لضارب الآلة موسيقار انظر أول سفينة الشيخ محمد شهاب.
- ↑ أي سمنت والبدن: عظم بدنه بكثرة لحمه، أصبح جسيما (قاموس)
- ↑ أي يهجمون على المقوقس.
- ↑ وكانت الدنانير تسمى بالهبيرية نسبة إلى ابن هبيرة. واشتهرت بجودتها.
- ↑ مقتضى السياق «وقارن ذلك عبد الملك ... » .
- ↑ نسبة إلى آصف، كاتب النبي سليمان عليه السلام.
- ↑ مظلة بعامودين.
- ↑ من البداوة.
- ↑ القوراء: الواسعة.
- ↑ القياطين: المخادع.
- ↑ ألوان الحضارة.
- ↑ نكراء الدهر: شدّته، النكر بفتح النون وضمها: الدهاء والفطنة. (المنجد) .
- ↑ الحلة: ج حلل وحلال: كل ثوب جديد أو عموما الثوب الساتر لجميع البدن والحلّة: الزنبيل الكبير من القصب. والحلّة من الشيء جهته (المنجد) .
- ↑ أحجمت.
- ↑ هو قائد الجيوش الفارسية في معركة القادسية.
- ↑ قوله للاثقال والأبنية مراده بالأبنية الخيام كما يدل عليه قوله في فصل الخندق الآتي قريبا إذا نزلوا وضربوا أبنيتهم 1 هـ-.
- ↑ الأصوات المخيفة.
- ↑ خيامهم.
- ↑ المكيث: الرزين المتأني (المنجد) .
- ↑ كلمة البيان ليس لها معنى في هذه الجملة ولعلها محرفة من كلمة بيات كما يقتضيه سياق المعنى.
- ↑ يقال: الحافر بلغ الكدية فلا يمكنه أن يحفر، حفر فأكدى أي بلغ الصلب والكدى الأرض الصلبة. (المنجد) .
- ↑ وفي نسخة أخرى شرّ ولعلها محرفة من كلمة أثر كما يقتضي معنى السياق.
- ↑ ج العضّ: الشديد القوي (المنجد) .
- ↑ الأكرة ج أكار وأكارون: الحراث (المنجد) .
- ↑ سورة يس من الآية الأخيرة.
- ↑ متك الشيء حطّمه وكسّره والمعنى هنا مجاز.
- ↑ قلة.
- ↑ ناض: الدرهم والدينار ويقال استخلصه منه نضا أي نقدا (المنجد) .
- ↑ علق الدكتور علي عبد الواحد وافي على ذلك في نسخة لجنة البيان العربيّ فيقول: (يتفق ما يراه ابن خلدون في صدد الأضرار المترتبة على دخول الحكومة مشترية في السوق وعلى اشتغالها بالتجارة أو احتكارها لبعض الأصناف واعتبار ذلك ضرائب غير مباشرة على المستهلكين ... يتفق ذلك مع ما يراه كثير من المحدثين من علماء الاقتصاد السياسي. انظر كتابنا في «الاقتصاد السياسي» فصل «المنافسة الحرة» . ص 194- 200 في الطبعة الخامسة) .
- ↑ طيّر واطار المال: قسّمه.
- ↑ تأثل المال: اكتسبه وثمّره.
- ↑ الأموال النقدية.
- ↑ بمعنى تفرق.
- ↑ وفي بعض النسخ: التراخي والتأجيل.
- ↑ علق الدكتور علي عبد الواحد وافي على هذه العبارة في نسخة لجنة البيان العربيّ» فقال: (هكذا وردت العبارة في جميع النسخ ولا بد أن يكون قد حدث فيها حذف وتكرار والوضع الصحيح للعبارة هو ما يلي «فصار لهم حجاب آخر أخص من الحجاب الأول يفضي إليهم منه خواصّهم من الأولياء، ويحجب دونه من سواهم من الخاصة والعامة، بينما كان الحجاب الأول يفضي إليهم منه الخاصة ويحجب دونه من سواهم من العامة والحجاب الأول يكون في أول الدولة كما ذكرنا ... » ) وقد سهّل هذا السقط وهذه الزيادة وجود كلمة «سواهم» في الجملتين.
- ↑ علق الدكتور علي عبد الواحد وافي على هذه العبارة في نسخة لجنة البيان العربيّ» فقال: (هكذا وردت العبارة في جميع النسخ ولا بد أن يكون قد حدث فيها حذف وتكرار والوضع الصحيح للعبارة هو ما يلي «فصار لهم حجاب آخر أخص من الحجاب الأول يفضي إليهم منه خواصّهم من الأولياء، ويحجب دونه من سواهم من الخاصة والعامة، بينما كان الحجاب الأول يفضي إليهم منه الخاصة ويحجب دونه من سواهم من العامة والحجاب الأول يكون في أول الدولة كما ذكرنا ... » ) وقد سهّل هذا السقط وهذه الزيادة وجود كلمة «سواهم» في الجملتين.
- ↑ أي صاحب الدولة.
- ↑ تمّ نقل هذا الفصل عن نسخة (لجنة البيان العربيّ) وقد علق الدكتور علي عبد الواحد وافي على هذا الفصل بقوله: «هذا الفصل هو أحد الفصول التي تزيد بها طبعة باريس عن الطبعات المتداولة في العالم العربيّ. وقد وضع هذا الفصل في طبعة باريس بعد الفصل السابع والأربعين من هذا الباب» وقد نقلنا هذا الفصل حرصا على أن لا نترك من المقدمة فصلا لم يذكر برمته، فيحرم قراؤنا من فائدته.
- ↑ قايس بين الأمرين: قدّر وازنه: عادله وقابله (قاموس)
- ↑ من آية 88 من سورة القصص.
- ↑ قوله ويزنون وفي نسخة ويرفون من الرفو بالراء والفاء. أهـ
- ↑ الأصح كفء أو كفيء أو كفؤ وقد ورد في لسان العرب: «وتقول: الأكفاء له، بالكسر، وهو في الأصل مصدر، أي لا نظير له» .
- ↑ في بعض النسخ «كثيرة الترف» .
- ↑ الفقر وسوء الحال
- ↑ قوله غرة بكسر الغين أي غفلة.
- ↑ يجبنون.
- ↑ كذا في الأصل والواضح من المراجع التاريخية ومنها تاريخ ابن خلدون نفسه ان المدة هي ستون سنة وان ثلاثين خطأ.
- ↑ بمعنى ملكها.
- ↑ الفقر وسوء الحال (المنجد) .
- ↑ بعد الدراسات الحديثة المتعلقة بحياة الإنسان في المدينة والريف، حيث أن متوسط عمر الإنسان في الريف يزيد عن مثله في المدينة كثيرا، وهذا يؤكد نظرية ابن خلدون من هذه الناحية، لان مناخ المدينة المشبع بدخان المصانع والمعامل والسيارات وغيرها غير مناخ الريف النظيف النقي.
- ↑ مزايلة: بمعنى الابتعاد عن.
- ↑ ملاك: ملاك الأمر: قوامه (المنجد) .
- ↑ صحيح العبارة ومقتضى سياق الجملة: «وآثر الفقه وأهله. والدين والعاملين به، وكتاب الله عز وجل وحملته» .
- ↑ وصولا.
- ↑ وفي بعض النسخ وردت هذه العبارة: «ولا تتخذن عدو الله الشيطان في أمرك معمدا» .
- ↑ وفي بعض النسخ طريقه الأهدى.
- ↑ وفي بعض النسخ وأعن الضعفاء.
- ↑ وفي بعض النسخ وأنعم بالعدل سياستهم.
- ↑ وفي بعض النسخ وقلة اليقين للَّه.
- ↑ وفي بعض النسخ جهلة النعمة.
- ↑ وفي بعض النسخ قرت النعمة بك.
- ↑ وفي نسخة أخرى: وكنت بذلك على جباية أموال رعيتك وخراجك أقدر.
- ↑ وفي نسخة أخرى: وطب نفسا بكل ما أردت.
- ↑ وفي نسخة أخرى منه.
- ↑ وفي نسخة أخرى ترفض.
- ↑ وفي نسخة أخرى لم يستقم أمرك.
- ↑ وفي نسخة أخرى ووال.
- ↑ وفي نسخة أخرى الخزي.
- ↑ آخر آية 16 من سورة التغابن.
- ↑ وفي نسخة أخرى «في فيئك» .
- ↑ وفي نسخة أخرى مكاتبهم
- ↑ وفي نسخة أخرى وعطيته.
- ↑ وفي نسخة أخرى فضل.
- ↑ النطف: التلطخ بالعيب.
- ↑ وفي نسخة أخرى «وأقلل» .
- ↑ في بعض النسخ لم ترد هذه الكلمة.
- ↑ في بعض النسخ «لألفتهم» .
- ↑ في بعض النسخ «والعدل» .
- ↑ في بعض النسخ «فتنافس» .
- ↑ في بعض النسخ «خبر» .
- ↑ في بعض النسخ «وقدّره وأثاه على ما يهوى» .
- ↑ في بعض النسخ «الغير» .
- ↑ في بعض النسخ «فيشغلك» .
- ↑ في بعض النسخ «منافرا» بمعنى مفاخرا.
- ↑ في بعض النسخ «بالنظر» .
- ↑ في بعض النسخ «وخلالهم» .
- ↑ في بعض النسخ «ويتماهم» .
- ↑ في بعض النسخ «مسرف» .
- ↑ في بعض النسخ «بهم» .
- ↑ في بعض النسخ «ويشغل ذكره وفكره منها» .
- ↑ في بعض النسخ «يستقل ما يقرّبه من الله تعالى، وتلتمس به رحمته.
- ↑ في بعض النسخ «وأرهم» .
- ↑ في بعض النسخ «في ستر، وإعلامك ... »
- ↑ في بعض النسخ «ومظاهريك» .
- ↑ لم ترد هذه الكلمة في بعض النسخ.
- ↑ الملة: الإسلام، وأهل الذمة: أهل الكتاب من يهود ونصارى وقد دخلوا في ذمة الإسلام وحمايتهم.
- ↑ علامات.
- ↑ في بعض النسخ «فقد كفر» .
- ↑ وفي نسخ نسخة أخرى فطر بن خليفة.
- ↑ وردت هذه الجملة في نسخة أخرى كما يلي: «وخرّج أبو داود أيضا عن أم سلمة وكذا ابن ماجة والحاكم في المستدرك ... »
- ↑ وفي نسخة أخرى صالح بن الخليل.
- ↑ الابدال: الأولياء.
- ↑ اجلى الجبهة: واسع الجبهة. اقنى الأنف: مرتفع أعلاه. محدوب في الوسط.
- ↑ وفي نسخة أخرى: «وعقد ثلاثة» .
- ↑ نسبة إلى حروراء بلدة قرب الكوفة والحرورية فرقة من الخوارج.
- ↑ في نسخة أخرى: قسامة.
- ↑ الأولياء.
- ↑ هذه الكلمة كانت كلمة السر بين أفراد المسلمين في غزوة بدر.
- ↑ في نسخة أخرى: «رايتهم» .
- ↑ أي أفواجا.
- ↑ «الجبلان المطيفان بمكة وهما: أبو قبيس والأحمر، وهو جبل مشرف وجهه على قعيقان» .
- ↑ وفي نسخة أخرى «عمّارا الدّهني» .
- ↑ وفي نسخة أخرى «علي بن المديني» .
- ↑ وفي نسخة أخرى «سعد بن عبد الحميد» .
- ↑ وفي نسخة أخرى «لم يحجّ» .
- ↑ وفي نسخة أخرى «كنزكم» .
- ↑ وفي نسخة أخرى: «إلا أن فيه رجاء» .
- ↑ وفي نسخة أخرى: داود بن المجبّر بن قحدم.
- ↑ وفي نسخة أخرى: يروى.
- ↑ وفي نسخة أخرى: يروى.
- ↑ وفي نسخة أخرى: يفهم منها ومن غيرها مما تقدم دخولهم.
- ↑ وفي نسخة أخرى: ابن أبي واطيل.
- ↑ وفي نسخة أخرى: لم يغب.
- ↑ وفي نسخة أخرى: الشارع.
- ↑ نسبة إلى دجال.
- ↑ وفي نسخة أخرى: ثم يبقى.
- ↑ الضاد عند المغاربة بتسعين والصاد بستين. 1 هـ-. قاله نصر.
- ↑ وفي نسخة أخرى: ولا علم يقيده، فيتحينون.
- ↑ وفي نسخة أخرى: يتحينون.
- ↑ كذا في جميع النسخ وهو تحريف ولا معنى لكلمة يميه، ومقتضى السياق أن تكون العبارة: «بدعوة يكون تمامها وسواسا وحمقا» وفي نسخة لجنة البيان العربيّ «بدعوة تمنيه النفس تمامها» .
- ↑ الأصح أن يقول: وأكثر من يعتني.
- ↑ هذا العدد غير مطابق كما أن المترجم التركي لم يطابق في قوله 930 وإنما المطابق للحروف المذكورة 692
- ↑ وفي نسخة أخرى: جراس.
- ↑ قوله فإما رأيت أصله فان رأيت زيدت ما وأدغمت في إن الشرطية المحذوف نونها خطأ وفي نسخة فلما رأيت والأولى هي الموجودة في النسخة التونسية. 1 هـ-. قاله نصر.
- ↑ وفي نسخة أخرى الهوشنى.
- ↑ وفي نسخة أخرى: الدنيالي.