مقامات الحريري/المقامة النجرانية
حكى الحارثُ بنُ همّامٍ قال: تَرامتْ بي مَرامي النّوى. ومسَاري الهَوى. إلى أن صِرْتُ ابنَ كُلّ تُربَةٍ. وأخا كُلّ غُربةٍ. إلا أني لمْ أكُنْ أقطَعُ وادِياً. ولا أشهَدُ نادِياً. إلا لاقْتِباسِ الأدَبِ المُسْلي عنِ الأشْجانِ. المُغْلي قيمَةَ الإنسانِ. حتى عُرِفَتْ لي هذه الشِّنْشِنَةُ. وتناقلَتْها عني الألسنَةُ. وصارتْ أعْلَقَ بي منَ الهوى ببَني عُذْرَةَ. والشّجاعَةِ بآلِ أبي صُفرَةَ. فلمّا ألْقَيتُ الجِرانَ بنَجْرانَ. واصطَفَيتُ بها الخُلاّنَ والجيرانَ. تخِذْتُ أندِيَتَها مُعتَمَري. وموسِمَ فُكاهَتي وسمَري. فكنْتُ أتعَهّدُها صَباحَ مساء. وأظهَرُ فيها على ما سرّ وساء. فبَينَما أنا في نادٍ محْشودٍ. ومحْفِلٍ مشْهودٍ. إذ جثَمَ لدَيْنا هِمٌّ. علَيهِ هِدْمٌ. فحَيّا تحيّةَ ملِقٍ. بلِسانٍ ذلِقٍ. ثمّ قال: يا بُدورَ المَحافِلِ. وبحورَ النّوافِلِ. قد بيّنَ الصّبْحُ لِذي عيْنَينِ. ونابَ العِيانُ مَنابَ عدْلَينِ. فماذا تَروْنَ. في ما ترَوْنَ؟ أتُحسِنونَ العَوْنَ. أم تنأوْنَ. إذْ تُدعَوْنَ؟ فقالوا: تاللهِ لقَدْ غِظْتَ. ورُمْتَ أن تُنبِطَ فغِضْتَ. فناشَدَهُمُ اللهَ عمّاذا صدّهُمْ. حتى استَوجَبَ ردَّهُمْ. فقالوا: كنّا نتَناضَلُ بالألْغازِ. كما يُتَناضَلُ يومَ البِرازِ. فما تمالَكَ أن شعّثَ منَ المَنْضولِ. وألْحَقَ هذا الفضْلَ بنمَطِ الفُضولِ. فلَسَنَتْهُ لُسْنُ القوْمِ. ووَخَزوهُ بأسنّةِ اللّوْمِ. وأخذَ هوَ يتنصّلُ من هَفوَتِهِ. ويتندّمُ على فَوْهَتِهِ. وهُمْ مُضِبّونَ على مؤاخذَتِهِ. ومُلَبّونَ داعيَ مُنابَذَتِهِ. إلى أن قالَ لهُمْ: يا قومِ إنّ الاحتِمالَ منْ كرَمِ الطّبْعِ. فعَدّوا عنِ اللّذْعِ والقَذْعِ. ثمّ هلُمّ إلى أن نُلغِزَ. ونُحكّمَ المُبرِّزَ. فسكنَ عندَ ذلِك توقُّدُهُمْ. وانحَلّتْ عُقدُهمْ. ورَضوا بما شرَطَ عليهِمْ ولَهُمْ. واقتَرَحوا أنْ يكونَ أوّلَهُمْ. فأمْسكَ ريْثَما يُعقَدُ شِسْعٌ. أو يُشَدّ نِسْعٌ. ثمّ قال: اسمَعوا وُقيتُمُ الطّيشَ. ومُلّيتُمُ العيْشَ. وأنشدَ مُلغِزاً في مِروَحَةِ الخيْش:
وجارِيَةٍ في سيرِها مُشـمَـعِـلّةٍ *** ولكِنْ على إثْرِ المَسيرِ قُفولُهـا
لها سائِقٌ من جِنسِها يستَحثّـهـا *** على أنهُ في الإحتِثاثِ رَسيلُهـا
تُرى في أوانِ القَيظِ تنظُفُ بالنّدى *** ويَبدو إذا ولّى المَصيفُ قُحولُها
ثمّ قال: وهاكُمْ يا أولي الفضْلِ. ومَراكِزَ العقْلِ. وأنشَدَ مُلغِزاً في حابولِ النّخْلِ:
ومُنتَسِـبٍ إلى أمٍّ *** تَنَشّا أصْلُهُ منْهـا
يعانِقُها وقد كانـتْ *** نفَتْهُ بُرهَةً عنْهـا
بهِ يتوصّلُ الجانـي *** ولا يُلْحى ولا يُنْهى
ثمّ قال: ودونَكُمُ الخَفيّةَ العلَمِ. المُعتَكِرَةَ الظُلَمِ. وأنشدَ مُلغِزاً في القلَمِ:
ومأمومٍ بهِ عُـرِفَ الإمـامُ *** كما باهَتْ بصُحْبَتِهِ الكِرامُ
لهُ إذ يرتَوي طَيْشانُ صـادٍ *** ويسكُنُ حينَ يعْروهُ الأُوامُ
ويُذْري حين يُستَسْعى دُموعاً *** يرُقْنَ كما يروقُ الإبتِسـامُ
ثمّ قال: وعلَيْكُمْ بالواضِحَةِ الدّليلِ. الفاضِحَةِ ما قيلَ. وأنشدَ مُلغِزاً في المِيلِ:
وما ناكِحٌ أُختَينِ جَهْـراً وخُـفـيَةً *** وليسَ عليهِ في النّكـاحِ سَـبـيلُ
متى يغْشَ هذي يغْشَ في الحالِ هذه *** وإنْ مالَ بعْلٌ لـمْ تـجِـدْهُ يَمـيلُ
يَزيدُهُما عندَ المَشـيبِ تـعـهّـداً *** وبِرّاً وهذا في البُـعـولِ قَـلـيلُ
ثم قال: وهذِهِ يا أولي الألْبابِ. مِعْيارُ الآدابِ. وأنشَد مُلغِزاً في الدّولابِ:
وجافٍ وهْوَ موْصولٌ *** وَصولٌ ليسَ بالجافي
غَريقٌ بارِزٌ فاعْجَـبْ *** لهُ منْ راسِبٍ طافِ
يسُحّ دُموعَ مهْضـومٍ *** ويهْضِمُ هَضْمَ مِتْلافِ
وتُخْشى منهُ حِـدّتُـهُ *** ولكِنْ قلبُـهُ صـافِ
قال: فلمّا رشَقَ. بالخَمْسِ التي نسَقَ. قال: يا قوْمِ تدَبّروا هذهِ الخمْسَ. واعْقِدوا عليْها الخَمْسَ. ثمّ رأيَكُمْ وضَمّ الذّيلِ. أوِ الازدِيادَ منْ هَذا الكَيْلِ! قال: فاستَفزّتِ القوْمَ شهوَةُ الزّيادَةِ. على ما أُشرِبوا منَ البَلادَةِ. فقالوا لهُ: إنّ وُقوفَنا دونَ حدّكَ. ليُفْحِمُنا عنِ استِيراء زنْدِكَ. واستِشْفافِ فِرِنْدِكَ. فإنْ أتْمَمتَ عشْراً فمِنْ عِندِكَ. فاهتزّ اهتِزازَ منْ فلَجَ سهمُهُ. وانخَزَلَ خصْمُهُ. ثمّ افتَتَح النُطْقَ بالبَسمَلَةِ. وأنشدَ مُلغِزاً في المُزَمَّلَةِ:
ومَسْرورَةٍ مَغمومَةٍ طولَ دهـرِهـا *** وما هيَ تدري ما السُرورُ ولا الغَـمُّ
تُقرَّبُ أحـيانـاً لأجْـلِ جَـنـينِـهـا *** وكـمْ ولـدٍ لـوْلاهُ طُـلّـقَـتِ الأمُّ
وتُبعَدُ أحياناً ومـا حـالَ عـهـدُهـا *** وإبعادُ من لم يَستَحِلْ عهـدُه ظُـلـمُ
إذا قَصُرَ الليلُ استُـلِـذّ وصـالُـهـا *** وإن طالَ فالإعراضُ عن وصْلِها غُنمُ
لها ملـبَـسٌ بـادٍ أنـيقٌ مـبَـطَّـنٌ *** بما يُزْدَرى لكنْ لِما يُزْدرى الحُـكـمُ
ثم كشَرَ عن أنيابِهِ الصُفْرِ. وأنشَدَ مُلغِزاً في الظُفْرِ:
ومرهوبِ الشَّـبـا نـامٍ *** وما يرْعى ولا يشـرَبْ
يُرى في العَشْرِ دونَ النّحْـ *** ـرِ فاسمَعْ وصفَهُ واعْجَبْ
ثم تخازرَ تخازُرَ العِفْريتِ. وأنشَدَ مُلغِزاً في طاقَةِ الكِبريتِ:
وما مَحْقورَةٌ تُدْنى وتُقْصى *** وما منْها إذا فكّـرْتَ بُـدُّ
لها رأسانِ مُشتَبِهانِ جِـداً *** وكُلٌ منهُما لأخـيهِ ضِـدُّ
تعذَّبُ إن هُما خُضِبا وتُلغى *** إذا عَدِما الخِضابَ ولا تُعَدّ
ثمّ تخمّطَ تخمُّطَ القَرْمِ. وأنشدَ في حلَبِ الكَرْمِ:
وما شيءٌ إذا فسَـدا *** تحوّلَ غـيُّهُ رشَـدا
وإنْ هوَ راقَ أوصافاً *** أثارَ الشرّ حيثُ بَدا
زَكيُّ العِرقِ والِـدُهُ *** ولكِنْ بِئْسَ ما ولَـدا
ثمّ اعتَضَدَ عَصا التَّسيارِ. وأنشَدَ مُلغِزاً في الطيّارِ:
وذي طَيشَةٍ شِـقُّـهُ مـائِلٌ *** وما عابَهُ بهِمـا عـاقِـلُ
يُرى أبـداً فـوقَ عِـلّـيّةٍ *** كما يعْتَلي المَلِكُ العـادِلُ
تساوَى لدَيْهِ الحَصا والنُّضارُ *** وما يستَوي الحقُّ والباطلُ
وأعْجَبُ أوصافِهِ إنْ نظرْتَ *** كما ينظُرُ الكَيّسُ الفاضِـلُ
تَراضي الخُصومِ بهِ حاكِماً *** وقدْ عرَفـوا أنّـهُ مـائِلُ
قال: فظلّتِ الأفكارُ تَهيمُ في أوديةِ الأوْهامِ. وتَجولُ جوَلانَ المُستَهامِ. إلى أن طالَ الأمَدُ. وحصْحَصَ الكمَدُ. فلمّا رآهُمْ يزنِدونَ ولا سَنا. ويقْضونَ النّهارَ بالمُنى. قال: يا قومِ إلامَ تنظُرونَ. وحتّامَ تُنظَرونَ؟ ألَمْ يأنِ لكُمُ استِخْراجُ الخَبيّ. أو استِسلامُ الغَبيّ؟فقالوا: تاللهِ لقدْ أعْوَصْتَ. ونصَبْتَ الشَّرَكَ فقنَصْتَ. فتحَكّمْ كيفَ شيتَ. وحُزِ الغُنْمَ والصّيتَ. ففرَضَ عنْ كلّ مُعَمًى فرْضاً. واستخلَصَهُ منهُمْ نَضّاً. ثمّ فتَح الأقفالَ. ورسمَ الأغْفالَ. وحاولَ الإجْفالَ. فاعتلَقَ بهِ مِدرَهُ القومِ. وقال لهُ: لا لُبسَةَ بعْدَ اليومِ. فاستَنْسِبْ قبلَ الانطِلاقِ. وهَبْها مُتعَةَ الطّلاقِ. فأطْرَقَ حتى قُلْنا مُريبٌ. ثمّ أنشَدَ والدمعُ مُجيبٌ:
سَروجُ مطْلِعُ شمْسي *** وربْعُ لَهْوي وأُنسـي
لكِنْ حُرِمْتُ نَعيمـي *** بها ولَذةَ نـفْـسـي
واعْتَضْتُ عنها اغْتِراباً *** أمَرَّ يومي وأمْسـي
ما لي مقَـرٌّ بـأرضٍ *** ولا قَرارٌ لعَنْـسـيْ
يوماً بنَـجـدٍ ويوْمـاً *** بالشّأمِ أُضْحي وأُمسي
أُزْجي الزّمانَ بقـوتٍ *** منغّصٍ مُستَـخَـسّ
ولا أبـيتُ وعـنـدي *** فلْسٌ ومَنْ لي بفَلْـسِ
ومنْ يعِشْ مثلَ عيشي *** باعَ الحياةَ ببـخْـسِ
ثم إنّهُ اخْتَبَن خُلاصَةَ النّضّ. وندرَ ضارِباً في الأرضِ. فناشدْناهُ أن يعودَ. وأسْنَيْنا لهُ الوعودَ. فلا وأبيكَ ما رجعَ. ولا التّرغيبُ لهُ نجعَ.