انتقل إلى المحتوى

مفيد العلوم ومبيد الهموم/كتاب الغرائب/الباب الأول

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
​الباب الأول في ماهية الروح​ المؤلف أبو بكر الخوارزمي


( الباب الأول في ماهية الروح )

اعلم يا علم الرؤساء وصدر الوزراء حقيقة لا مجازًا أن هذه المسألة من مجازات العقول ضل فيها علماء ولا يعرفها إلا محقق عالم ولا يلقاها إلا ذو حظ عظيم والناس قد تكلموا فيها ذهاء خمسمائة قول وشرح ذلك يقتضي كتابا طويلًا فنقدم على ذلك سؤالًا وجوابًا أما السؤال قالوا قال الله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّ فلو كانت الروح معلومة للخلق ما قال الله ذلك وما كان لهذا الكلام معنى قلنا أجمع العلماء من أصحاب الملل والاعتقادات أن المخلوقات على نوعين لا ثالث لهما جواهر واعراض فالروح إما أن تكون من قبل الجواهر أو الأعراض لأنه يستحيل أن يرد الشرع بخلاف ما اقتضاه العقل فقوله ﴿وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا أي ما أوتيتم من العلم الذي نص عليه إلا قليلًا من كثير بحسب ما تحتاجون إليه فالروح من المنزل النص عليه لأنه أراد أن يعرفوا ذلك بالاعتبار ويتوصلوا إليه بالدلائل والاستبصار وهذا بخلاف سؤالهم عن الطاعة لأنه لا طريق للعقل إلى معرفة ذلك إلا من طريق الأخبار هذا وجه التحقيق. (جواب آخر) أن ابن عباس ترجمان القرآن قال الروح ملك عظيم على بني آدم. وقال قتادة الروح جبريل وقال علي الروح ملك له سبعون ألف وجه في كل وجه سبعون ألف لسان يسبح الله بكل لسان وهو حافظ على الملائكة كما إن الملائكة حفاظ على الخلق فإن كان معنى الروح هذا فكفى الله المؤمنين القتال وإن كان غيره فقد اختلفوا فقال قائل نعم في الجملة أن الروح موجودة عمارة البدن والجسد والانفصال عن خراب القالب ويكفي ذلك القدر من العلم وهذا العمري منهج قويم ومذهب الاستقامة وقال جمهور المحققين أن الروح هي الحياة وأن الحياة عرض يقوم بالحي فمتى وجد فيه يكون حيًا وإذا عدم فيه فقد حصل ضده وهو الموت والدليل عليه أن المحدثات على نوعين صفة وموصف باتفاق العلماء ومحال أن تكون الروح موصوفًا جسمًا له لأن الجسم والجوهر لا يصيران صفة الحي وإنما يكون مجاورًا فالمجاور لا يكتسب صفتًا ولا وصفًا لما جاوره ولا يوجب التغير والتبديل وكان يجب أن يكون القالب خاويًا كما كان إذا جاور الحي ميتًا أو جمادًا فلما كان الأمر بخلافه علمت أن الروح غير جسم والدليل عليه أن الروح لو كانت جسمًا أو جوهرًا لصح أن يكون حيًا وقابلًا لسائر الأعراض والجواهر وذلك محال في صفة الروح فإذا ثبت هذا ثبت أن الروح صفة وهذا ظاهر لا إشكال فيه فان قلت بقي أشد من أشده فقد خالفت صاحبك الأشعري الألمعي وخالفت الكتاب، فإن الله تعالى يقول ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ فلو كانت الروح صفة ما صح قبضها لأن الصفة لا تقبض وكيف ترفع في حواصل طيور خضر والجواب أن نقول عرفت شيئًا وغابت عنك أشياء أما صاحبي فما خالفته فأنه أحد قوليه المنصور في بعض كتبه وأما قبض ملك الموت فمعناه أن الله تعالى جعل إليه جذب الأنفاس والهواء الذي في مجاري العروق فعنده يخلق الموت الذي يضاد الحياة ألا ترى أن الأنفاس تتتابع عند النزع ويقع الاضطراب فيحكم فيه بالوفاة فحيث قال الله تعالى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا فمعناه يخلق الموت ويأمر به وحيث قال: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ يعني يقبض ويجذب وحيث قال: ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ فمعناه يسوقون العباد إلى القبض فانظر إلى هذا التحقيق والتدقيق الذي يتقاطر عنه ماء التوفيق ولا تلتفت إلى قول الفلاسفة الكفار واليونانية الضلال أن الروح نفس ودم وأنه قديم فإنه من ترهات الدسائس فما يوجد ويعدم ويتصل وينفصل كيف يكون قديمًا وما يتغير ويتجدد كيف ينعت بالقدم ولهم في ذلك خبط طويل ومذهب ثقيل ﴿أُولَٰئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ ۖ وَأُولَٰئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ ۖ وَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ