مغامرات حاجي بابا الإصفهاني/النص الكامل
خطأ لوا في وحدة:Header على السطر 208: attempt to concatenate a nil value.
الفصل الأول. مولد حاجي بابا ونشأته
كان والدي، حسن كربلائي، من أشهر حلاقي إصفهان. تزوج وهو في السابعة عشرة من ابنة شماعٍ كان يسكن قرب محله، ولكن الزواج لم يكن موفقاً لأن زوجته لم تنجب له أولاداً، ولذلك أهملها. ولكن براعته في الحلاقة أكسبته صيتاً طيباً وجلبت تحت يده رؤوساً كثيرة، لا سيما من التجار، وبعد عشرين سنة من العمل وجد أبي أنه يستطيع أن يتزوج ثانيةً. في تلك الفترة كان بين زبائنه صيرفي غني يحلق أبي رأسه بكل عناية ومهارة، وفي يوم من الأيام، عندما كان الصيرفي يستمتع بمرور الموس على رأسه، طلب أبي يد ابنته فقبل بكل رضا، وبعد بضعة أيام عقد القران.
قرر أبي زيارة قبر الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء المقدّسة للتخلص من لجاجة زوجته الأولى وغيرتها، وليكسب رضا حميه الجديد الذي كان يظهر التقوى رغم أن الناس لاحظوا غير مرة عادته في تقليم العملة الذهبية. أخذ أبي زوجته الجديدة معه، فولدتني أثناء هذا السفر. كان أبي معروفاً باسم حسن الحلاق قبل سفره، أما بعد عودته أخذ لقب كربلائي؛ وصار الناس يسمونني بالحاجي لأنني ولدت في الطريق إلى كربلاء، بناء على إصرار والدتي التي كانت تدللني، ولصق هذا اللقب باسمي منذ صغري وطوال حياتي، وكثيراً ما كان مصدر احترام لا أستحقه لأن هذا اللقب لا يطلق إلا على زائري الكعبة الشريفة وقبر الرسول الكريم.
بعد عودة والدي من كربلاء المقدسة عاد إلى مهنته، وجذبت سمعته سمعة المسلم التقي إلى محله رجال الدين والتجار، إذ كان رجال الدين يأملون بالحلاقة مجاناً مقابل بركاتهم له بالعودة بالسلامة، والتجار يعتقدون أنهم سينجحون أكثر في غش زبائنهم بعد أن تلمس رأسهم يدٌ لمست قبر الحسين. كان من المفترض أن أتعلم مهنة أبي، وكان تعليمي سيقتصر على ما يلزم للصلاة، لولا أن الملا الذي كان أبي يحلق رأسه كل أسبوع مجاناً، كما كان يقول: من أجل حب الله ورسوله، أراد أن يرد الجميل فصار يعلمني القراءة والكتابة في مدرسة الجامع القريب الذي كان يقوم عليها. وقد أفلحت بعنايته حتى صرت بعد سنتين أستطيع قراءة القرآن وأن أكتب بخط واضح. وفي الأوقات الباقية كنت أعمل في محل أبي الذي تعلمت فيه مبادئ المهنة؛ وفي أوقات كثرة الزبائن كان أبي يأمرني بالتمرن على رؤوس البغالين والجمالين، وبعض هؤلاء كلفتهم تجاربي الباكرة آلاماً وجروحاً لا تحصى.
وعندما بلغت السادسة عشرة كنت قد نجحت في الدراسة والحلاقة معاً. وفضلاً عن حلاقة الرأس وتنظيف الأذنين ونتف الشعر بالخيط وصبغ اللحى وتشذيبها، فقد اشتهرت أيضاً في فن الحمامات. ما كان أحد يضاهيني في فنون التدليك والتمسيد على الطريقة الهندية والكشميرية والتركية وابتدعت أسلوباً جديداً لطق المفاصل وضرب الأطراف.
تعلمت بفضل معلمي الكثير من قصائد شعرائنا، وكنت أستطيع تزيين حديثي بالاقتباسات المناسبة من سعدي وحافظ شيرازي وغيرهم من شعراء الفرس. هذا بالإضافة إلى صوتي الجميل وسرعة بديهتي مما جعل الذين كانت رؤوسهم أو أطرافهم تحت يدي يشهدون بأنني شاب محبوب، وذاع صيتي بين هواة الكيف والذوق الرفيع.
كان محل أبي يقع جنب الخان الكبير الذي يقيم فيه الكثير من التجار الفرس والأجانب. وكثيراً ما كان هؤلاء يعطونه بقشيشاً فوق الأجرة المعتادة بسبب فصاحة لسان ابنه. واحد من هؤلاء، تاجر من بغداد، أعجب بي إعجاباً كبيراً وكان يأبى أن يحلق رأسَه أحدٌ غيري. كان يطلب مني أن أحادثه بالتركية التي كنت أتكلمها قليلاً، وأثار فضولي وهو يصف جمال المدن الكثيرة التي زارها حتى صرت أتوق للسفر. كان التاجر يبحث في تلك الفترة عن محاسب، وبما أنني كنت أجيد الحلاقة والقراءة والحساب فقد عرض عليّ هذا العمل بشروط مغرية للغاية، فوافقت وأخبرت والدي فوراً بما صممت عليه. كان والدي يخشى فراقي وحاول أن يقنعني ألا أترك مهنة أكيدة من أجل أخرى محفوفة بالمخاطر والتقلبات؛ ولكنه، عندما عرف كم كانت شروط التاجر مغرية، وبعد أن فكر أن التاجر قد يموت يوماً بلا شهود فأصبح تاجراً بدلاً عنه، توقف عن إقناعي وبارك لي وأعطاني موسين جديدين.
ولكن حزن أمي على فراقي ومخاوفها على سلامتي لم تنفرج باحتمالات الغنى في المستقبل؛ كما أنها لم تتوقع أي خير من بداية العمل مع رجل من أهل السنّة. ومع ذلك، فقد أعطتني كيساً من الخبر اليابس المكسر وعلبة مرهم قالت أنه يجبر الكسور ويشفي الآلام الباطنة، ثم أمرتني أن أخرج من البيت ووجهي إلى الوراء يواجه الباب لأضمن العودة الآمنة إلى الدار من رحلة مثل هذه، تبدأ بعلامات الشؤم.
الفصل الثاني. حاجي بابا يبدأ أسفاره. لقاؤه مع التركمان وأسره
كان صاحبي الجديد عثمان آغا متّجهاً إلى مشهد ليشتري جلود الخراف ليبيعها في إسطنبول. كان رجلاً قصيراً بديناً ذا أنف ثخين بارز ولحية سوداء كثيفة. كان مسلماً صالحاً صارماً في عباداته، لا يتوانى عن نزع جوربه حتى في أبرد الليالي ليغسل قدميه قبيل صلاة الصبح كي يصحّ وضوءه. ومع ذلك كان يكره شيعة علي كرهاً شديداً، ولو أنه كان يكتم هذا ما دام في بلاد فارس. همّه الوحيد كان كسب المال، فلم يكن يخلد إلى النوم قبل أن يتأكد أن ماله مخبأ في مكان أمين. ومع ذلك كان يحب الكيف: يدخن باستمرار ويأكل أكلاً لذيذاً ويشرب الخمر سراً، أما علانيةً فينذر بالهلاك كلَّ من يشرب هذا الشراب الحرام.
تحدد موعد انطلاق القافلة في الربيع، فأجرينا التحضيرات اللازمة. اشترى عثمان آغا بغلاً قوياً لنفسه وأعطاني حصاناً تعيساً يحمل، ما عداي، النركيلة (لأن صاحبي كان يفضل التدخين على الطريقة الفارسية) والمنقل والزق والفحم وملابسي؛ أما العبد الذي كان يطبخ ويفرش ويحمّل البغال فكان يمتطي بغلاً آخر يحمل الفرش والسجاد وأواني الطبخ؛ وأخيراً، كان بغل ثالث يحمل صندوقين فيهما ملابس صاحبي وكل الأغراض الضرورية الأخرى.
في الليلة السابقة لسفرنا أخبأ عثمان آغا خمسين توماناً في الحشوة القطنية لعمامته من باب الاحتياط، ولم يُعلم بالأمر أحداً غيري. أما ماله الباقي فكان في أكياس جلدية بيضاء صغيرة وضعها في وسط الصندوقين.
كانت القافلة تتألف مما يقارب خمسمئة حصان وبغل ومئتي جمل، وكان أغلبها يحمل بضائع للبيع في شمال بلاد فارس، يرافقها نحو مئة وخمسين رجلاً من تجار وخدمهم وبغالين ومرشدين. وعدا هؤلاء انضم إلى القافلة جماعة من الحجاج المتجهين إلى مقام الإمام رضا في مشهد، ما بعث الاطمئنان في قلوب المسافرين ظناً منهم أن الناس الذين يسعون لزيارة أماكن مقدسة مدفوعين بتقواهم أو نفاقهم أو أملهم بالكسب المادي يضفون قداسة على القافلة كلها.
يكون جميع الرجال في مثل هذه المناسبات مسلحين، وصاحبي الذي كان يغمض عينيه من صوت البندقية ويصفرّ وجهُه متى رأى سيفاً مسلولاً، كان يحمل بندقية طويلة على ظهره وسيفاً معقوفاً على جنبه وطبنجتين ضخمتين في زناره، وباقي سطح جسمه مغطى بالخراطيش والمدكات وقوارير البارود وغيرها. وأنا أيضاً سلحوني من الرأس إلى القدمين وحمّلوني رمحاً طويلاً. أما العبد فكان يحمل سيفاً راح نصف نصله وبندقية بلا مغلاق.
انطلقنا عند الفجر من ضاحية إصفهان الشمالية يتصدرنا شاويشات الحجاج الذين أعلنوا انطلاقنا بصيحات عالية وقرع طبولهم النحاسية. بعد فترة وجيزة تعرفنا على رفاق السفر الذين كانوا جميعهم مسلحين، ولكن رغم شكلهم المخيف كانوا أناساً مسالمين. كان جو السفر يبهرني، فجعلت حصاني يعدو تارة ويقفز تارة أخرى، فأزعج ذلك صاحبي الذي قال لي أن الدابة لن تتحمل مشقة السفر إذا أهلكتها بتمارين الفروسية. وبعد قليل أصبحت محبوباً من الجميع وصرت أحلق رؤوس بعض المسافرين بعد انتهاء مسير اليوم. أما صاحبي، فقد كنت مصدر راحة له؛ فبعد يوم كامل من القعود على البغل كان يستسلم لي فأمارس عليه بعض الفنون التي تعلمتها في الحمّام، فأعجن جسمه عجناً وأفركه بيديّ لأعالج التيبُّس في جسمه وأطرافه.
وصلنا إلى طهران دون أية صعوبات ومكثنا فيها عشرة أيام لنريح بغالنا وحتى يزداد عددنا. الجزء الخطر من الرحلة كان أمامنا، إذ أن قبيلة من قبائل التركمان ثارت على شاهنا العظيم فصارت تقطع الطريق بين طهران ومشهد، وقد هاجموا مؤخراً قافلةً ونهبوها وأسروا أفرادها. كانت أخبار التركمان مرعبة وجعلت الكثيرين من جماعتنا يفكرون بالامتناع عن السفر إلى مشهد، وبينهم صاحبي؛ ولكن حين وصله أن أسعار جلود الخراف في إسطنبول قد ارتفعت، تغلب حب الربح على خوفه.
كان شاويشٌ يجمع الحجاج في طهران وجوارها بانتظار وصول قافلتنا، وحالما وصلنا أعلمنا أنه جاهز للانضمام إلينا مع حشد من الحجاج، وقال أن هذا من حسن حظنا باعتبار مخاطر الطريق التي تنتظرنا. كان الشاويش شخصية معروفة في الطريق بين طهران ومشهد، مشهوراً بشجاعته، وقد اكتسب هذه السمعة بعد أن قطع رأس تركماني وجده ميتاً على قارعة الطريق وأحضره إلى طهران. كان ضخم الجثة طويلاً وعريض المنكبين ذا وجه مستطيل تزينه بضعة شعرات قاسية على ذقنه الناتئ، يرتدي درع صدر من حديد وخوذة ذات سلاسل تنزل على كتفيه وسيفاً معقوفاً على جنبه وطبنجتين وراء حزامه ويحمل ترساً وراء ظهره ورمحاً طويلاً في يده، وكان مظهره كله يدل على تحدي الأخطار. كان يتفاخر بشجاعته ويتكلم عن التركمان بازدراء حتى قرر صاحبي السفر برفقته. جهزت القافلة للسفر بعد أسبوع من احتفالات رأس السنة، وبعد صلاة الجمعة في المسجد الكبير توجهنا إلى قرية الشاه عبد العظيم التي تجمَّع فيها المسافرون كلهم، ومنها بدأنا سفرنا.
كنا نتقدم ببطء عبر بلاد ظمأى كئيبة ليس فيها ما يريح العين أو يسر القلب. كلما صادفنا مسافرين أو اقتربنا من قرية كان مرشدونا يرفعون أصواتهم باسم الله ورسوله ويصيحون بأصوات عالية صاخبة ويقرعون بأحزمة جلدية على الطبول المعلقة على سروجهم. كانت أحاديثنا تدور عادةً حول التركمان، ومع أننا كنا نتفق أنهم خصومٌ أقوياء، كنا نواسي نفسنا أن كثرة عددنا وشكلنا الباسل يُرهِب أي عدو، وكنا نقول: «ما شاء الله، من هؤلاء الكلاب الذين يتجرؤون على مهاجمتنا؟» وكان كل واحد منا يتبجج بشجاعته، وعلى رأسهم صاحبي الذي كانت أسنانه تصطك رعباً كان يتباهى بما سيفعله بالتركمان لو هاجمونا؛ ولو تسمعه تتخيل أنه طوال حياته لم يعمل شيئاً سوى قاتل التركمان ونزل بهم ذبحاً. والشاويش الذي كان غيوراً على أن يحسبه الجميع الرجل الشجاع الوحيد في القافلة قال بصوت عالٍ حين سمع كلام صاحبي: «لا يتحدثْ أحدٌ عن التركمان حتى يراهم، إذ لا ينجو من براثنهم إلا آكل السباع (قالها وهو يفتل شاربيه). وحقاً قال سعدي:1
ولكن عثمان آغا كان عنده أمل بأنه في أمان أكثر من غيره لأنه مثل التركمان من أتباع عمر؛ وقد لفّ قطعة من الموصلين الأخضر حول طربوشه ليظهر أنه من الأشراف، أي من سلالة الرسول ﷺ الذي، كما يتوقع القارئ الكريم، لم يكن يقربه أكثر من البغل الذي كان يركبه.
بعد عدة أيام من المسير أخبرنا الشاويش بصوت مهيب أننا نقترب من الأماكن التي يقبع فيها التركمان بانتظار القوافل، وأمرنا أن نسير بصفوف متراصة وأن نحضِّر أنفسنا للمقاومة الشرسة في حال هوجمنا من قبل التركمان. عندما سمع عثمان آغا هذا الخبر ربط بندقيته وسيفه وطبنجتيه على ظهر البغل الذي كان يحمل حاجياته وشكا من اضطراب في بطنه، ولف نفسه في عباءته تاركاً نواياه السابقة في ذبح التركمان، وأخذ مسبحته وبدأ يكرر «استغفر الله» تسع وتسعين مرة، وسلم نفسه لقضاء الله وقدره، وعلّق آماله بالشاويش الذي عرض للجميع التعاويذ المعلقة في شتى أنحاء جسمه، والتي تحميه حتماً، كما قال، من سهام التركمان ورماحهم.
كان شاويشنا الباسل، هو واثنان من شجعان مثله، يسيرون في مقدمة القافلة، ومن وقت إلى آخر كانوا ينخسون خيلهم فيعدون جيئة وذهاباً وهم يهزّون رماحهم.
وأخيراً حدث ما كنا نخشاه: سمعنا عدة طلقات ثقبت آذاننا بعدها صرخات همجية. توقف الجميع، من بشر ودواب، فوراً وتجمّعوا كالقطيع أو مثل مجموعة فراخ هاجمها صقر. ولكن عندما رأينا جماعة من التركمان تهجم علينا تغيرت الساحة فوراً: فالبعض هرب والبعض الآخر، وبينهم صاحبي، استسلموا للخوف ووقعوا عن دوابهم على وجوههم وهم يصيحون: «يا الله! يا أئمة! يا محمد! هلكنا! سنموت! متنا!» فك البغّالون الحمول عن ظهور الدواب وركبوها فارين. أمطر التركمان علينا وابلاً من السهام فاكتمل نصرهم علينا. كان شاويشنا الباسل أول الهاربين، ولم نره أو نسمع عنه بعدها. أما المهاجمون فانشغلوا بالغنائم المتناثرة في كل مكان.
تكوّم صاحبي بين رزمتين من البضائع أملاً بأن يختبئ من التركمان، ولكن اكتشفه هناك تركماني ضخم البدن رهيب المظهر فكّره بادئ الأمر بالةً من البضاعة فقلبه فانفرد على قامته مثل حمار القبان ومدّ ذراعيه وساقيه نحو التركماني وهو يتوسَّل إليه متذلِّلاً. بدأ ينادي باسم عمر ويشتم علياً، ولكن لم يُجدِ شيء من هذا، فقد جرّده التركماني من كل ملابسه عدا عمامته احتراماً للونها ولم يترك له سوى سراويله التحتية وقميصه ولبس أمام عينيه سرواله الفخم وعباءته. أما ملابسي فلم تكن تستحق السلب لذا بقيتُ أرتديها، كما احتفظت بالموسين، وكان هذا من دواعي سروري.
بعد أن أتمّ التركمان نهب القافلة تقاسموا الأسرى. وبعد ذلك عصبوا أعيننا وأركبوا كل واحد منّا وراء ظهر واحد منهم. وبعد يوم كامل من المسير على هذه الحال توقفنا في الليل في وادٍ مهجور، وفي اليوم التالي وجدنا أنفسنا في طرقات لا يعرفها إلا التركمان.
سرنا على دروب جبلية فارغة حتى وصلنا إلى أرض سهلة واسعة لا حدود لها تبدو كأنها آخر الدنيا، تتناثر فيها خيام آسرينا السوداء وتسرح فيها قطعانهم.
الفصل الثالث. آسر حاجي بابا وقيمة الموسين
كان تقسيم الأسرى بين التركمان من حسن حظنا، إذ وقعت أنا وعثمان آغا في يد سيد واحد، وهو قاطع الطريق الرهيب الذي ذكرته آنفاً. كان اسمه أصلان سلطان، وكان زعيم قبيلة كبيرة وصلنا إلى مضاربها فور نزولنا من الجبال. كانت خيامه تتوضع على جانبي وادٍ عميق تجري في قعره ساقية تنبع من سلسلة التلال القريبة. وكانت المراعي الخضراء المليئة بالقطعان تمتد مد البصر. رفاقنا الآخرون أخذوهم إلى مناطق أبعد ووزعوهم بين قبائل التركمان الأخرى التي تقطن في هذه البلاد.
حالما وصلنا خرج سكان المخيم جميعهم ليتفرجوا علينا، وبينما كان سيدنا يتلقى التحيات، هجمت علينا مجموعة كلاب الرعي الضخمة التي اكتشفت فوراً أننا غرباء فنبحت علينا وكادت تمزقنا. كان شال عثمان آغا الأخضر يقدم له شيئاً من الحماية، ولكن كبرى زوجات الزعيم، بانو، أي السيدة، أعجبت به وأرادت الحصول عليه، فبقي عثمان آغا في عمامته المبطنة التي أخبأ ماله فيها. هذه أعجبت زوجة أخرى من زوجات أصلان سلطان التي أرادت أن تبطن بها سرج جملها الذي قرّح ظهره، فنزعوه عن رأسه ورموه مع الأمتعة الأخرى في زاوية الخيمة. حاول عثمان آغا جاهداً أن يدافع عن عمامته، لكن بلا جدوى، إذ أعطوه بدلاً عنها قبعة قديمة من جلد خروف كانت ملكاً لأسير مشؤوم مثلنا مات في الأسر من الغم والحزن والحنين.
بما أن عثمان آغا كان سميناً وبطيء الحركة فقد كلفوه برعي الإبل في الجبال لأنهم لم يكونوا يخشون فراره. أما أنا فمنعوني من مغادرة المخيم وشغلوني في خض أكياس جلدية فيها خاثر لصناعة الزبدة.
بمناسبة الحملة الناجحة دعا أصلان سلطان عشيرته كلها إلى وليمة. حضّروا قاظاناً ضخما من الرز وشووا خروفين كاملين. اجتمع الرجال، وكانوا جميعهم من أقارب أصلان سلطان، والكثير منهم شارك في الحملة، في خيمة، والنساء في خيمة أخرى. قُدِّم الأكل للرجال أولاً، وبعد أن شبعوا نقلوه إلى خيمة النساء، وبعد أن فرغن منه أعطوا الفضلات إلى الرعاة الذين لم يتركوا منه إلا العظام التي كانوا يرمونها مع فضلات الصحون لنا تارة وللكلاب تارة أخرى. ولكن عندما كنت أنتظر لقمتي بفارغ الصبر لأنني لم أكد أذوق الطعام منذ بداية الأسر، نادتني إحدى النساء سراً من وراء الخيمة، وعندما وصلت إلى هناك وجدت على الأرض صحناً من الرز مع قطعة من اللية. قالت الامرأة أن الصحن أرسلته لي إحدى زوجات الزعيم التي أشفقت على حالي، ثم أسرعت ذاهبة دون أن تنتظر كلمات شكر مني.
قضى الرجال يومهم في التدخين والتحدث عن بطولاتهم، أما النساء ففي الغناء ودق الدف، بينما بقيت أنا وعثمان آغا نتأمل أحوالنا التعيسة. جعلني صحن الرز الذي أتاني أشعر أن وضعي ليس ميئوساً منه، وكنت أحاول أن أواسي صاحبي، لكنه بقي يبكي نصيبه النحس. قلت له أن على المسلم أن يسلم بقضاء الله وقدره، والله كريم. ولكن رده كان: «ما أسهل أن تقول الله كريم ولم يكن لديك شيء تخسره! أما أنا فمفلس، مفلس للأبد!» وشرع يحسب، حتى آخر درهم، ما خسره في رأس المال والأرباح التي كان يأمل الحصول عليها بعد شراء جلود الخراف في مشهد ثم بيعها في إسطنبول.
في اليوم التالي حان موعد فراقنا، إذ أُرسل صاحبي إلى الجبال مع خمسين جملاً، مرفقة بوعيد فظيع من أصلان سلطان بقطع أذني عثمان آغا وأنفه لو ضاع أحدها، ولو مات جمل يضاف ثمنه إلى الفدية التي طلبها مقابل الإفراج عنه. ورغبةً مني في التعبير عن امتناني له أقعدته على سرج جمل في وسط المخيم وحلقت رأسه مستخدماً الماء من ساقية قريبة وقطعة من الصابون والموس الذي نجحت في المحافظة عليه. وقريباً اكتشفت أن هذا الاستعراض لمهنتي ومهارتي فيها قد تكمن فيه فائدة جمة؛ إذ فجأة تذكر كل من لديه رأس أنه يريد أن يحلقه، فوصل الخبر إلى أصلان سلطان الذي استدعاني وأمرني فوراً بحلاقة رأسه الذي لم يكن فيه موضع إصبع إلا وفيه ندبة من جرح قديم، وكان شكله يمكن أن يمثل خريطة دقيقة للصحراء الجبلية التي قطعناها منذ أيام. هذا الرجل، الذي لم يعرف نعمة أكبر من أن يجزّ رأسه أحد الحلاقين المحليين بالسكين الذي يسلخون به الخراف، شعر تحت يدي وكأنه في الجنة، فمدحني مديحاً جماً وقال أنني لم أحلق جلده بل حلقت قلبه على عمق مسير يومين تحت الجلد، ثم حلف أنه لن يقبل أية فدية مقابل الإفراج عني وأمر أن أكون حلاقه الشخصي.
أترك للقارئ الكريم أن يخمّن ما كان يختلج في صدري عندما سمعت هذا الكلام. وبينما انحنيت لسيدي الجديد وقبلت ركبته بكل شكر واحترام، عزمت الاستفادة من حرية الحركة التي قد أحصل عليها نتيجة الثقة بي لأهرب في أول فرصة. قربي من الزعيم جعلني موضع ثقة، ورغم أنني بقيت تحت المراقبة، صار لدي الوقت للتفكير بخطط النجاة من هذه العبودية الكريهة.
الفصل الرابع. إبداعه في استرجاع مال عثمان آغا من التركمان وتصميمه على الاحتفاظ به
من أولى الضرورات لتحقيق خطتي في الفرار كان الحصول على النقود المخبأة في عمامة عثمان آغا. ولكن العمامة كانت مرمية في زاوية خيمة النساء التي لم أكن أستطيع الدخول إليها، لذا كان الأمر يحتاج إلى براعة كبيرة كي أحصل عليها دون أن أثير الشبهات. ذاع صيتي كحلاق ماهر في مخيمنا ومخيمات الجيران، وكانت خدماتي مطلوبة عند الرجال دون النساء. كنت أرى أن بانو تودّ أن تتعرف علي أقرب، ولكن بما أنها لم تكن تستطيع أن تطلب خدماتي كحلاق، ولا النساء الأخريات، فقد اقتصرت علاقاتنا على تبادل النظرات وحركات لطف من جهتها وعلامات الشكر والامتنان من جهتي.
ولكن التركمان لديهم بعض العلم حول الحياة الحضارية، وكانوا يعرفون أن الحلاقين في بلاد فارس هم كذلك جراحون، وأنهم، عدا الحلاقة والتمسيد في الحمامات، يجيدون الفصادة وقلع الأضراس وجبر الكسور. وبعد مدةٍ شعرت بانو أنها تريد فصادة فأرسلت إليّ تسألني إن كنت أستطيع أن أقدم لها هذه الخدمة. كانت تلك فرصة مؤاتية لأعرف أنباء الغرض الذي كنت أصبو إليه، وربما أجد وسيلة للحصول عليه، لذا وافقت قائلاً أنني بارع في الفصادة، ولا أحتاج سوى إلى مبضع أو سكين صغير. وجدوا الأداة المطلوبة فوراً، وحدد أحد شيوخ العشيرة الذي كان يزعم معرفة علم النجوم أن اقتران الكواكب الموائم للفصادة سيحدث في الصباح التالي.
وفي الصباح المبارك أدخلوني إلى خيمة النساء. كانت بانو جالسة على سجادة على الأرض بانتظاري. لم تكن هذه السيدة ممن يمكن أن يثيروا أحاسيس عاطفية عند شخص مثلي لأنها أولاً كانت سمينة جداً ولا يشبه شكلها تلك الأشكال الرشيقة التي اعتدنا أن نعشقها في بلادنا، لذا نظرت إليها باشمئزاز؛ أما ثانياً، كنت أهاب أصلان سلطان، ولو فكرت بعطفها لبقيت أعيش في خوف مستمر على سلامة أذنيّ. حظيت باهتمام كبير من جهة بانو وساكنات الخيمة الأخريات اللاتي اعتبرنني طبيباً وطلبت كل واحدة أن أجس نبضها. كنت أفحص بنظري زوايا الخيمة، وأنا أقوم بتحضيراتي للفصادة، أملاً برؤية الغرض الذي كنت أتوق إلى الحصول عليه. وهنا خطر لي أنني يمكن أن أستخدم عملية الفصادة لخدمة غرضي فطلبت أن أفحص نبض بانو مرة أخرى، وبعد أن فحصته بتأنٍّ وتأمُّل قلت أن مرضها ليس عادياً ويتطلب فصادة خاصة نسميها الفصادة الأفلاطونية، وهي ألاّ يُفصد الدم على الأرض بل يُجمع في وعاء كي أستطيع أن أفحصه فيما بعد ثم أخلطه برماد نبتة أعرفها ثم أطمره في الأرض إلى الجنوب الشرقي من سكن بانو عندما يشرق كوكب الزهرة، على أن لا يراني أحد. أعجب الحاضرون بهذه الطريقة العلاجية الغريبة واقتنعوا بعمق معارفي واتساعها، وقالت بانو أنها لا تريد إلا الفصادة على طريقة أفلاطون وأمرت أن يُحضر وعاء مناسب لذلك.
كنت أعرف أن قلة الأواني عند الرحّل لن تسمح لهم بالاستغناء عن أي واحد منها. وبالفعل، بعد أن عدّدوا جميع الأقدار والزبادي والأباريق وجدوها إما ضرورية أو أغلى من أن يضحّى بها. كنت متردداً أأقول لهن مباشرةً عن ضالتي، وهنا تذكرتْ بانو كأسها الجلدي القديم وأمرت إحدى النساء بالبحث عنه في زاوية الخيمة، فأحضرتْه. أخذتُ الكأس وقلت: «هذا لن يجدي نفعاً، انظروا، لقد تمزق»، وأنا أشير بالسكين إلى القطَب وفي الوقت نفسه أقطعها واحدة تلو الأخرى. وهنا صاحت بانو: «أين عمامة ذاك الأمير العجوز؟» فردّت الزوجة الثانية: «إنها لي، أريدها لأصلح سرجي!» فصرخت بانو في وجهها: «لك! لا إله إلا الله! ألستُ أنا السيدة هنا؟ سآخذها!» فصاحت الثانية: «لن تأخذيها!» وتبع ذلك لغطٌ وصخبٌ حتى خشيتُ أن يصل إلى مسمع أصلان سلطان فيأتي ويحل الخلاف بأن يسلب موضوع نزاعهن منهن. ولكن لحسن حظي تدخّل المنجِّم وقال أن دم بانو سيكون في رقبة الزوجة الثانية لو أصيبت بانو بأي مكروه، فقبلتْ أن تتخلى عن العمامة. حضّرت نفسي لإجراء الفصادة، ولكن عندما شاهدت بانو السكين خافت وقالت أنها لا تريدها. خفت أنني سأخسر ضالتي المنشودة بعد كل هذا التعب فجسست نبضها وقلت لها بكل رزانة أن اعتراضاتها لن تجدي لأن الفصادة مكتوبة عليها، وما كتبه خالق الكون في اللوح المحفوظ لا يردّه مخلوق. كان هذا الردّ مفحماً، واتفق الجميع معي أن معارضة القضاء والقدر حرام، فأعطتني يدها وهي تتصنع رباطة الجأش. أجريت الفصادة بمهارة فائقة وجمعت الدم في العمامة وأخذتها معي وقلت ألا يمس العمامة أحد غيري لأن ما يحدث للمريض من خير أو شر يتوقف على ما يحدث للدم بعد فصادته وجمعه، فحملته إلى خارج المخيم.
انتظرت حتى نام الجميع ثم مزقت البطانة وأخرجت الخمسين توماناً وطمرتها في مكان أمين، وكذلك طمرت العمامة. وفي الصباح أخبرت بانو أنني قمت بكل شيء على أكمل وجه، فأرسلت لي خروفاً مشوياً محشياً بالرز والزبيب مع إبريق من العيران.
عندما حصلت على الخمسين توماناً تذكرت صاحبي المسكين الذي كان يعيش حياةً كلُّها ضجر بين الإبل في الجبال، بينما أنا أعيش في رخاء، حتى خطر على بالي أن أرد ماله له؛ لكنني ناقشت الأمر مع نفسي فقلت: «لولا بديهتي لضاع المال للأبد، فمن أحق به؟ ثم أنه لن يستفيد منه في وضعه الحالي، وعلى الأغلب سيُسلَب منه من جديد، لذا فمن الأفضل أن أحتفظ به أنا. ويبدو أنه قد كُتب عليه أن يفقد هذا المال وكُتب لي أن أكسبه.» وجدت هذه الحجج معقولة، فسكت ضميري عن تأنيبي، واعتبرت نفسي المالك الشرعي لهذه النقود. إلا أنني حاولت أن أرسل إليه بنصف الخروف الذي تلقيته، وذلك عن طريق راعٍ كان ذاهباً إلى الجبال، وحلف أنه لن يأكل من الأمانة شيئاً. ما وثقت في كلامه، ولكن ضميري طالبني أن أحاول مشاركة صاحبي شيئاً من رخائي. ولكن، واحسرتاه! حالما قطع الراعي الوادي الذي يحدّ المخيم رأيته يحمل اللحم إلى فمه، ولم أشكّ أنه لم يترك إلا العظام قبل أن يختفي عن نظري. لم أجد جدوى في اللحاق به بعد أن كان قد ابتعد، لذا رميت نحوه حجراً ودعوت باللعنة على رأسه، إلا أن أياً منهما لم يصب الهدف.
الفصل الخامس. حاجي بابا يضطر إلى قطع الطريق وغزو بلده
أمضيت بين التركمان أكثر من سنة حصلت خلالها على ثقة سيدي التامة، فصار يستشيرني في أموره الشخصية والعامة كافة. وبما أنه اعتقد أنه يمكن أن يعتمد عليّ فقد اقترح عليّ مرافقته في حملة السطو التي كان يخطط لها. قبلت ذلك بكل سرور لأنها كانت تعطيني أملاً بالفرار حالما نصل إلى فارس. حتى هذا الوقت لم يُسمح لي بالتجول خارج المعسكر والمراعي المحيطة، لذا لم يكن لي علم بطرق ودروب الصحراء الملحية التي تفصل بين التركمان وبلاد فارس، وكنت أعرف أنني لو حاولت الهرب لكان مصيري إما الموت في صحراء أجهلها أو العودة إلى التركمان ليعاملوني بمزيد من القسوة. أما الآن فصار أمامي فرصة للتعرف على البلد، وقلت لنفسي أنني إن لم أستطع الهروب أثناء هذه الحملة يمكنني أن أحاول بعد عودتنا، بعد أن أكون قد تعرفت على دروب الصحراء.
يقوم التركمان بحملاتهم الكبرى في الربيع غالباً عندما يكثر الكلأ في الجبال والسهول لخيولهم وتكثر القوافل في الطرقات لينهبوها. ومع اقتراب الموسم دعا أصلان سلطان كبار عشيرته ورؤساء العشرات ورؤساء المئات الذين كانوا جميعهم مهرة في السلب والنهب، وطرح عليهم خطة التسلل إلى قلب إيران. كان هدفه أن يصلوا إلى إصفهان ثم يدخلوها في الليل وينهبوا الخان الكبير الذي يستضيف أغنى التجار. كان أصلان سلطان سيقود الناس عبر الصحراء الملحية لأنه كان يعرفها أفضل من كل مواطنيه؛ واقترح على الجماعة أن أكون أنا دليلهم في إصفهان لأنني أعرف شوارعها وأسواقها وجاداتها، لذلك سيكون علي أن أقودهم متى دخلنا المدينة. اعترض البعض قائلين أن الثقة بغريب وعلاوة على ذلك ابن البلد الذي يريدون نهبه من التهور لأنه سيهرب لحظة وصوله إلى موطنه. وبعد جدال طويل اتفقوا أن يسير فارسان على جانبيّ، وإذا ظهرت لهم أدنى علامة على نيتي بالهرب يقتلانني فوراً.
بعد الاتفاق على موعد الحملة بدأ التركمان بتدريب خيولهم واختاروا لي حصاناً ممتازاً فاز مرتين في سباقاتهم،2 وجهزوني على عادتهم، فأعطوني قبعة كبيرة من جلد الخروف وعباءة من جلد الخروف أيضاً وسيفاً وقوساً وسهاماً ورمحاً ثقيلاً ذي سنان يمكن فكه وتركيبه عند الحاجة. كان معي كيس من الشعير لإطعام حصاني وحبال ووتد طويل لعقله أثناء الراحة، وحمل كل واحد منا بضعة أرغفة من الخبز3 وستة بيضات مسلوقة، أما احتياجاتنا الباقية فكانت تعتمد على الحظ والقدرة على تحمل الجوع. تعودت على تحمل الجوع خلال إقامتي في الأسر، أما التركمان فلا يضاهيهم في ذلك أحد.
أخرجت الخمسين توماناً وخبأتها بعناية في حزامي، ووعدت صاحبي القديم الذي هزل جسمه من الغم حتى لم يبق منه سوى العظم أنني، إذا استطعت الهروب، سأفعل ما بوسعي لإقناع أهله وأصدقائه بأن يفدوه. ولكنه أجابني: «آه يا حاجي، لن يفديني أحد. ابني سيفرح بمالي وزوجتي بزوج جديد. لا أمل عندي، سأموت في الأسر. ولا أطلب منك إلا معروفاً واحداً: أن تسأل عن سعر جلود الخراف في إسطنبول.»
وعندها دخلت في صراع جديد مع ضميري حول التومانات: هل أعيدها له؟ ألن يستفيد أكثر إذا بقيت معي؟ فقد يعتمد حظي في الفرار في هذه المرة على بضعة دنانير، وليس عند عثمان آغا فرصة نجاة إلا بواسطتي. وباعتبار كل هذه الأمور تركت النقود في حزامي.
حدد المنجّم يوم وساعة السفر فانطلقنا عند الغروب وبقينا نسير حتى الصباح. ترأس أصلان سلطان جماعتنا التي تكونت من عشرين رجلاً بما فيهم أنا كانوا جميعهم من فرسان العشائر المجاورة وكلّهم لصوص متمرّسون. كنا نركب خيولاً اشتهرت في أنحاء آسيا لسرعتها وقوة تحملها. كنا جميعاً مسلحين ومظهرنا مظهر أخطر عصابة لصوص على وجه المعمورة. كنت أشعر أن طبيعتي ليست طبيعة مقاتل ولكنني كنت ألعب دوري بكل مهارة مثلي مثل أي شخص وقع في مأزق كهذا، حتى صدّق سيدي الجديد وأصحابه أنني رستم4 بعينه، ولكنني كنت أخشى ساعة التجربة.
أدهشتني مهارة أصلان سلطان في قيادتنا عبر الغابات في الجبال التي تحد سهوب قبجاق. كانت الدروب الوعرة والهاويات ترهبني ولكن رفاقي كانوا لا يكترثون بالخطر واثقين بخطا خيولهم الثابتة. بعد نزولنا من الجبال أصبحنا في سهول بلاد فارس القاحلة، وكانت معرفة أصلان سلطان بدروبها وتلالها عظيمة وبصيرته في الاستدلال من آثار الحيوانات كانت عجيبة حقاً، إذ كان يستطيع أن يعرف نوعها ووجهتها وإن كان ركابها أصدقاء أم أعداء وإن كانت محملة أم لا وعددها، وكل هذا بدقة فائقة.
كنا نتنقل بحذر بالغ عندما وصلنا إلى المناطق المأهولة من بلاد فارس، نختبئ نهاراً ونسير بسرعة ليلاً. تزودنا بالعلف والطعام في آخر مخيمات الرحل على حدود الصحراء الملحية الكبيرة، ومتى دخلنا الصحراء مشينا بأقصى سرعة تتحملها خيولنا. وبعد نحو 120 فرسخاً5 وصلنا إلى مشارف إصفهان. اقتربت لحظة جني ثمار تعبنا واختبار شجاعتي، وقد ملأ الخوف قلبي حين سمعت خطة الهجوم التي اقترحها رفاقي.
كان مشروعهم أن يدخلوا إصفهان من أحد المداخل غير المحروسة التي كنت أعرفها جيداً وأن يتجهوا فوراً نحو الخان الملكي الكبير حيث يجتمع في هذا الموسم الكثير من التجار ومعهم أموال وفيرة جهزوها لشراء البضائع. كان علينا أن نخطف كل النقود التي نجدها، ومن يستطع عليه أن يخطف تاجراً أيضاً، وقبل أن ينتبه أهل المدينة نكون قد صرنا على طريق العودة. وجدت أن هذه الخطة خطرة جداً ولا يرجح أن تنجح وقلت ذلك ونصحتهم بالرجوع عنها. ولكن أصلان سلطان نظر إلي نظرة حازمة وقال: « يا حاجي! فتّح عينيك! الأمر ليس لعباً. وقسماً بلحية النبي، إذا رأيت منك أي بوادر تنذر بالخيانة فسأحرق أباك. نجحنا سابقاً، لم لا ننجح هذه المرة؟» ثم أمرني أن أبقى إلى جنبه وأمر حرامياً آخر أن يركب من جنبي الآخر، وحلفا أنهما سيثقبانني برمحيهما لو لاحظوا مني أي بادرة خوف أو محاولة فرار.
دخلنا إلى المدينة من منطقة الخراب الواقعة شرقيها ووصلنا إلى الشوارع المأهولة التي كانت فارغة في مثل هذه الساعة. وعندما اقتربنا من موقع الخان توقفنا تحت أقواس أحد البيوت المهجورة التي كثيراً ما تصادَف حتى في المناطق المأهولة من المدينة، وترجّلنا وربطنا خيولنا وتركناها برعاية اثنين من رجالنا، ومن باب الاحتياط حددنا مكاناً للتجمع في وادٍ يبعد خمسة فراسخ عن إصفهان لو اضطررنا إلى الفرار. ثم توجهنا إلى الخان سيراً على الأقدام بكل حذر، ونحن نتجنب الأسواق التي تحرسها دوريات شرطة، حتى وصلنا إلى بوابة الخان.
خفق قلبي وأنا أقف في مكان أعرف كل شبر فيه، جنب محل والدي. أمرت الجميع أن يتوقفوا هناك وتقدمت من باب الخان الذي كان مقفلاً وأمسكت حجراً وضربت الباب به وأنا أنادي الحارس باسمه: «افتح الباب يا محمد علي، فقد وصلت القافلة!»
فأجاب محمد علي، وهو بين اليقظة والنوم، دون أن يفتح الباب: «أي قافلة؟» فأجبته: «القافلة من بغداد.» – «من بغداد؟ قافلة بغداد وصلت البارحة. أتضحك على لحيتي؟»
رأيت أن حيلتي فشلت فاضطررت إلى الاستفادة من اسمي، فقلت: «إنها تلك القافلة التي سافر معها حاجي بابا ابن حسن كربلائي الحلاق وعثمان آغا التاجر التركي. معي أخبار طيبة، وأريد هدية!»
«ماذا؟ حاجي بابا الذي كان يحلق رأسي دائماً؟ مكانك بقي فارغاً! أهلاً وسهلاً بك!»
وبدأ يحلّ أقفال البوابة الضخمة، وعندما بدأت تنفتح ظهر وراءها رجل عجوز صغير يرتدي سروالاً داخلياً يحمل في يده مصباحاً حديدياً كان نوره كافياً لنرى أن الخان مليء بالتجار وبضائعهم.
أمسك أحد اللصوص بالحارس فوراً واندفعنا جميعاً إلى الخان وبدأنا العمل. كان التركمان يعرفون تماماً من خبرتهم في النهب الأماكن التي تخبأ فيها الأموال فاستولوا في لحظات على كل الذهب والفضة في الخان. ولكنهم أرادوا أيضاً أن يخطفوا اثنين أو ثلاثة من أغنى التجار لتكون فديتهم مصدر رزق إضافي لهم. وقبل أن ينتبه الناس قبضوا على ثلاثة رجال فكروهم غنيمة جيدة لأنهم كانوا ينامون على أسرّة فخمة تسترهم لحف من صوف رفيع ويتوسدون وسائد مطرّزة، فأوثقوا أيديهم وأرجلهم وأقعدوهم على أحسن خيولهم وراء الفارس وانطلق هؤلاء الفرسان إلى الملتقى على الفور.
ولما كنت أعرف الخان جيداً وأعرف الغرف التي يشغلها أغنى التجار عادةً فقد ذهبت خلسةً إلى واحدة من هذه الغرف، تلك التي كان ينزل فيها عثمان آغا، فوجدت فيها صندوقاً صغيراً كتلك الصناديق التي يضع التجار نقودهم فيها فأخذته وسررت كثيراً حين وجدت فيه كيساً ثقيلاً أخبأته في جيبي، مع أنني لم أستطع التأكد بسبب الظلام من نوع المعدن فيه.
عندما أشرفت عمليتنا على الانتهاء كان أهل المدينة قد استيقظوا. تجمع قاطنو الخان جميعهم، من بغالين وساسة وخدم، على سقفه، وتجمع سكان البيوت المجاورة حول الخان لا يعرفون ما العمل؛ جاء مأمور الشرطة ورجاله واعتلوا سقف الخان وزادوا من الفوضى بصيحاتهم: «امسكوهم! اضربوهم! اقتلوهم!» دون أن يفعلوا شيئاً كي يتصدوا للعدو. أُطلِقت بضعة طلقات نارية عشوائية، ولكن بفضل الظلام والفوضى العامة نجحنا في التسلل خارجاً بلا خسائر. خطر على بالي أكثر من مرة خلال هذه المعمعة أن أترك هذه العصابة التي أجبروني على الانضمام إليها وأن أختبئ في قرنةٍ وأنتظر حتى يغادروا المكان؛ ثم فكرت بيني و بين نفسي أنني لو نجحت في ما أفكر به فإن ملابسي ستكشفني وسأقع ضحية غضب الغوغاء قبل أن أخبرهم بهويتي الحقيقية، أو أن المأمور سيقطع رأسي ويرسله إلى طهران على أنه رأس تركماني كدليل على نصره الباسل على عصابة من اللصوص.
كنت واقفاً أمام محل أبي وأنا أفكر بكل هذه الأمور حين أمسكني أحدهم من يدي بقوة، وحين التفتُّ رأيت وجه أصلان سلطان الشرس الذي هددني بالقتل فوراً إن لم أكن محل ثقته بي. ولكي أثبت له بسالتي أمسكت بلحية فارسي كان يمر جنبنا ورميته أرضاً وصرخت به أنني سأقتله إذا لم يستسلم فوراً ولم يتبعني بكل هدوء وطاعة، فبدأ يتوسل إلي أن أتركه من أجل الإمام حسين ومن أجل روح أبي ومن أجل لحية عمر، فعرفت والدي من صوته، ثم من ومضة فانوس رأيت وجهه المألوف. يبدو أنه سمع الضوضاء فترك فراشه كي يتأكد من سلامة محل الحلاقة، الذي لم يكن فيه من الخيرات سوى بضعة بشاكير وعلبة أمواس وقطعة صابون وسجادة. ولحظة عرفته تركت لحيته وكدت أنحني أمامه لأقبّل يده؛ ولكن حياتي كانت في خطر لو أظهرت الخوف أو التردد، لذا تظاهرت بأنني أضربه وأنا أوجه ضرباتي لسرج بغل كان مرمياً على الأرض. وفجأة سمعته يتمتم لنفسه: «آه، لو كان حاجي بابا هنا لما سمح أن يعاملوني هكذا!» فتركته فوراً وقلت للتركمان: «لن نستفيد منه، فهو ليس سوى حلاق.» ثم ركبنا خيولنا وغادرنا المدينة دون أن يطاردنا أحد.
الفصل السادس. الأسرى الثلاثة وتقاسم الغنائم
وصلنا إلى الملتقى وترجلنا عن خيولنا لنريحها كي تستعيد قواها ونستعيد قوانا بعد أتعاب هذه الليلة. سرق أحد أفراد العصابة في طريقه خروفاً، فحضّرناه بسرعة كي نشويه: قطّعناه إلى قطع صغيرة جعلناها على أسياخ وشويناها على نار بطيئة من الحطب وروث الحيوانات ثم أكلناه بشهية ونهم.
كان همّنا التالي أن نتحقق من قيمة أسرانا. أحدهم كان رجلاً طويلاً في الخمسين، ذا نظرة ثاقبة ووجه أصفر نحيل ولحية خفيفة يلبس سروالاً داخلياً من حرير وقميصاً من صوف؛ والثاني كان رجلاً قصير القامة سميناً متورّد الوجه يرتدي بزة داكنة مزررة على صدره ويبدو أنه رجل قانون. الثالث كان رجلاً ضخماً كثير الشعر خشن المظهر ذا عضلات مفتولة وكان مقيداً أفضل من غيره بسبب مقاومته الشرسة للأسر.
بعد أن فرغنا من وجبتنا وأعطينا بقاياها للأسرى استدعيناهم واحداً واحداً لنستجوبهم كي نعرف حرفة كل واحد منهم ووضعه. استقدمنا الرجل الطويل النحيل أولاً لأن مظهره الغني جعل التركمان يعلقون أملهم عليه. وبما أنني كنت الوحيد من يجيد الفارسية، فقد توليت مهمة الترجمة.
سأله أصلان سلطان: «من أنت وما وضعك؟» فأجابه الأسير: «أحب أن أقول لفائدة حضراتكم أنني لا شيء، رجل فقير.»
«وماذا تعمل؟»
«أنا شاعر في خدمة حضرتكم. ماذا يمكن أن أكون؟»
فصاح التركماني الأكثر همجية: «شاعر! وما الفائدة منه؟»
فأجابه أصلان سلطان وهو يتوهج من الغضب: «لا فائدة منه، إنه لا يسوى عشرة تومانات! الشعراء كلهم فقراء يعيشون مما يحصلون عليه من غيرهم بالمكر والخديعة. من يفدي شاعراً؟ ولكن، إن كنت فقيراً، كيف تلبس هذه الملابس الرفيعة؟»
رد الشاعر: «شرّفني بها منذ أيام أمير شيراز مقابل قصيدة مدحته فيها.»
وعندها سلب التركمان ملابسه وأعطوه عباءة من جلد خروف بدلاً عنها وصرفوه واستدعوا الأسير التالي، الرجل قصير القامة، وسأله أصلان: «من أنت؟ وما هي حرفتك؟»
أجاب الرجل: «أنا قاضٍ فقير.»
«وكيف وجدناك نائماً على فراش فخم إن كنت فقيراً؟ يا ابن الكلب! إن كنت تكذب فسنقطع رأسك! اعترف أنك غني! القضاة جميعهم أغنياء، فهم يبيعون العدالة وضميرهم لمن يدفع ثمناً أكبر!»
فقال الأسير: «أنا قاضي غلادون، في خدمتكم. استدعاني حاكم إصفهان لأسلمه ضرائب القرية.»
فسأله أصلان: «وأين أموال الضرائب؟»
فأجاب القاضي: «حضرت كي أخبره أن القرية ليس لديها نقود لتسدد ضرائبها، إذ قضى الجراد على محصولنا ولم نر قطرة مطر في الموسم الماضي.»
سأل واحدٌ من العصابة: «وما قيمة هذا الرجل في النهاية؟»
رد أصلان سلطان: «لو صدف أنه قاضٍ عادل فقيمته عالية لأن الفلاحين سيجمعون ما في وسعهم ليفدوه كي يعود إليهم. وإن لم يكن كذلك فلا يسوى فلساً واحداً. لنحتفظ به، إذ أن فديته قد تكون أكبر من فدية تاجر. هيا نرى كم يمكن أن نستفيد من الأسير الأخير.»
فأتوا بالرجل الخشن واستجوبه أصلان سلطان بأسلوبه المعتاد: «من أنت؟» فردّ بصوت خشن: «أنا فرّاش»
فصاح الجميع: «فرّاش؟ كذّاب، كذّاب! كيف وجدناك نائماً على فراش فخم؟»
«كنت نائماً على فراش سيدي.»
فصرخ الجميع: «أنه يكذب! إنه تاجر! أنت تاجر! اعترف أنك تاجر وإلا قطّعناك إرباً!»
ونزل الكل به ضرباً حتى صاح المسكين أنه تاجر. ولكنني رأيت من مظهره أنه لا يمكن أن يكون تاجراً بل كان صادقاً حين قال أنه فرّاش، فقلت لرفاقي أنهم لن يحصلوا على فدية مقابله، ونصحتهم بإخلاء سبيله. وهنا تكالبوا كلهم علي وأمطروني بالشتائم واللعنات وقالوا لي أنني، إن تعاطفت مع أبناء بلدي، سيكون مصيري مثل مصيرهم وسأعود عبداً كما كنت، لذا فضّلت أن أسكت وأتركهم يفعلون ما يشاؤون.
بعد أن تبين لهم أن آمالهم في الأسرى كانت خائبة باتوا في مزاج سيء واختلفوا في الرأي عمّا يجب أن يفعلوا بهؤلاء المخطوفين الذين لا فائدة منهم، فرأى بعضهم الاحتفاظ بالقاضي وقتل الفرّاش والشاعر، وطرح آخرون إبقاء القاضي من أجل الفدية واستعباد الفرّاش، ولكنهم اتفقوا على أن الشاعر لا يستحق إلا القتل.
شعرت بالشفقة والعطف تجاه هذا الرجل، إذ كان يبدو من سلوكه وأخلاقه أنه رجل ذو شأن رغم أنه كان يدّعي الفقر؛ ولما رأيت أنه في خطر وشيك، قلت للعصابة: «إن قتل هذا الرجل، والله، لحماقة كبرى! أن تقتلوا شاعراً أسوأ من أن تقتلوا أوزّة تبيض ذهباً! ألا تعرفون أن بعض الشعراء أغنياء، أو يمكن أن يصبحوا أغنياء في أي وقت لو أرادوا لأنهم يحملون ثروتهم في رأسهم؟ ألم تسمعوا قصة الخليفة الذي كان يعطي الشاعر مثقال ذهب على كل بيت ينشده؟ ألا يقال أن الشاه يكرم الشعراء؟ وما أدراكم أنه ليس شاعر الشاه نفسه؟»
فقال أحد المجرمين: «إذن، فلينظم لنا أبياتاً حالاً، وإن لم نحصل على مثقال ذهب مقابل كل بيت نقتله!»
فصاح الجميع، وقد ابتهجوا بهذه الإمكانيات الباهرة لكسب المال: «هيا انشدنا فوراً وإلا قطعنا لسانك!»
وأخيراً اتفقوا على إبقاء الأسرى الثلاثة، وقرروا التوجه إلى سهول قبجاق فور الانتهاء من تقاسم الغنائم.
جمعنا أصلان سلطان معاً وأمرنا أن يعرض كل واحد ما سرقه. بعضهم جاء بأكياس ذهب، وآخرون بأكياس فضة، إلا أن اهتمامهم لم يقتصر على النقود، بل طُرحت أمامنا شكائم ذهبية للغلايين ومعطف من فرو السمور وإبريق فضي وشالات وأغراض أخرى كثيرة؛ وعندما جاء دوري طرحت كيس التومانات، وكان أكبر الأكياس وأثار استحساناً وهتافات صاخبة من جميع أفراد العصابة، وصاحوا:
«أحسنت! أحسنت يا حاجي! انظروا، أصبح تركمانياً جيداً! لقد تفوّق علينا جميعاً!»
وفرح سيدي بنجاحي أكثر من غيره ومدحني مديحاً جماً، وقال:
«يا حاجي، يا ابني، قسماً بروحي وبرأس والدي، أحسنت! سأزوجك من جارية لي وستعيش بيننا، وسيكون لك خيمة وعشرون رأساً من الغنم، ولسوف أدعو كل عشيرتي إلى حفل زفافك!»
وقع هذا الكلام عميقاً في قلبي وزاد من عزيمتي بالهروب منهم في أول فرصة؛ ولكن لحظتها انصبّ اهتمامي على تقاسم الغنائم، إذ كان أملي أن لي منها حصة جيدة. ولكن، واحسرتاه، لم يعطوني ولا فلس، وسدىً صرخت وتوسلت؛ كل ما سمعته منهم كان: «إذا قلت كلمة أخرى فسنقطع رأسك!» فاضطررت إلى أن أواسي نفسي بالخمسين توماناً التي كانت في حزامي، وأنا أراقبهم يتنازعون على حصصهم. وأخيراً تحولت الساحة إلى خصام صاخب، وكادت تنتهي بسفك الدماء لولا أنّ فكرةً خطرت على بال أحدهم فصاح: «لِمَ الخصام ومعنا قاضٍ؟ فليحكم بيننا بما أمر الله ورسوله!»
فوضع الحرامية القاضي المسكين بينهم في الحال وأمروه بالإفتاء في شأن الغنائم التي كان بعضها ملكه سابقاً، ولم يحصل على أي أجر مقابل حكمه بينهم سوى بضعة لطمات ممن اعتبروا نفسهم مظلومين.
الفصل السابع. قصة الشاعر
عدنا من الطريق الذي أتينا منه، ولكن أبطأ مما جئنا بسبب الأسرى الذين كانوا يركبون وراء الفرسان تارة ويسيرون بينهم تارة أخرى.
أثار مظهر الشاعر منذ أول لحظة فضولي لمعرفة سيرته؛ وبما أنني تعلّمت في زماني شيئاً من الآداب، كنت أشعر بشيء من التفاخر وأنا أفكر أنني أرعى أديباً وأحميه في ساعة الضيق. أخفيت شعوري نحوه واستطعت إقناع التركمان أن يكلفوني بملازمته بحجة أنني سأحمله على تأليف الشعر. وبما أننا كنا نتحادث بلغتنا بكل طلاقة دون أن يفهمنا أحد، فقد أخبرته عن قصتي وأعلمته برغبتي في الفرار، ووعدته أن أفعل كل ما في وسعي لأساعده. بدا الشاعر مسروراً لسماع الكلام اللطيف حيث لم يتوقع إلا المعاملة السيئة، وعندما نلت ثقته حكى لي عن نفسه دونما تردد. وكما توقعت، فقد كان رجلاً ذا شأن، إذ كان شاعر البلاط، وقد كرّمه الشاه بلقب ملك الشعراء. كان في طريق العودة من شيراز (حيث أرسله الشاه بمهمة) إلى طهران، وكان قد وصل إلى إصفهان في اليوم الذي وقع في أيدي التركمان. وبعد أن رويت له قصتي كي نلتهي عن ضجر الطريق عبر الصحراء الملحية، طلبت منه أن يحكي لي قصته، فقال:
«ولدت في مدينة كرمان، واسمي عسكر. بقي أبي فترة طويلة حاكم كرمان في زمان حكم الطواشي آغا محمد شاه؛ ورغم كثرة التآمر عليه والدسائس ضده، حصّنته براعته واحترام الناس له من أن يتغلب أعداؤه عليه، فحافظ على سلامة عينيه، ومن عظيم حظه أنه مات بسلام في فراشه خلال حكم الشاه الحالي الذي سمح لي بوراثة تركة أبي البالغة عشرة آلاف تومان. أوليت اهتماماً بالغاً بالتعلم، وقبل أن أبلغ السادسة عشرة من عمري اشتهرت بأدبي إذ كنت أكتب بخط جميل وأحفظ عن ظهر قلب شعر سعدي وحافظ والفردوسي، وأبرع في كتابة الشعر إلى درجة أنني في شبابي كنت لا أتكلم إلا شعراً، وتطرقت لمواضيع الشعر كافة. كتبت عن حب ليلى ومجنون؛ لم أسمع يوماً تغريد البلابل، لكنني تغنيت بحب البلبل للوردة؛ وأينما ذهبت كنت أنظم الشعر وأنشده للحضور.
في تلك الفترة كان الشاه يحارب صادق خان الذي حاول الاستيلاء على العرش فخاض الشاه معركة قادها بنفسه هزم خلالها خصمه المتمرد، فأنشدت حالاً قصيدة مديح، وفي تصويري للحرب جعلت رستم يقف على سحابة يراقب ميدان المعركة فيشكر نصيبه أنه ينظر إليها من السماء ولا يخوض فيها على الأرض، وإلا لما نجا من بسالة الشاه وبأسه. لم أتردد في المبالغة والتملق وتفوقت على كل الشعراء حين قلت أن صادق خان وجيشه ليس لديهم سبب للتذمر، إذ رفع ملجأ الكون رؤوسهم عالياً حتى السماء، وقد أشرت بذلك إلى برجٍ أمر جلالته ببنائه من رؤوس المغلوبين.
وصل كلامي إلى الشاه فشرفني باستدعائي إلى حضرته وأمر أن يُملأ فمي ذهباً أمام حشد غفير من البلاط وبعد هذا صرت أحضر إلى القصر في أي وقت وأكتب الشعر في كل المناسبات. وإظهاراً لحماسي قلت للشاه أنه كما كتب فردوسي يوماً شاه نامه، أي كتاب الملوك، يليق به، وهو أعظم ملوك بلاد فارس، أن يكون عنده شاعر يصف زمان حكمه، فطلبت منه أن يأذن لي بكتابة شاهنشاه نامه، أي كتاب ملك الملوك، فتكرم صاحب الجلالة بإعطائي إذنه اللطيف.
كان بين أعدائي في البلاط الخازن الذي فرض علي غرامة قدرها 12 ألف تومان دون أدنى سبب، إلا أن الشاه ألغاها قائلاً أنني شاعر زماني. وفي يوم من الأيام دار الحديث عن كرم الشاه محمود غزنوي الذي أعطى للفردوسي مثقال ذهب على كل بيت شعر في الشاهنامه. فقلت على أمل أن يصل كلامي إلى الشاه: «إن كرم الشاه الحاكم مثل كرم الشاه محمود، بل أكثر، لأن الشاه محمود أغدق بالنعم على أعظم شعراء الفرس، بينما صاحب الجلالة أغدق بنعمته على الشاعر المتواضع الذي يقف أمامكم.»
فسألني الحضور ما هي النعم العظيمة التي حصلت عليها، فأجبت: «أولاً، لمّا توفي والدي ترك عشرة آلاف تومان، فسمح الشاه لي أن أرثها؛ كان بإمكانه أن يأخذها لكنه تركها لي، وهذه عشرة آلاف تومان. ثم أراد الخازن أن يغرمني باثني عشر ألف تومان، فألغاها جلالته وهذه اثنا عشر ألف تومان فوق تلك. والباقي ما تكرّم علي الشاه به منذ صرت في خدمته.» ثم هتفت: «يحيا الشاه إلى الأبد! أطال الله ظله ونصره على كل أعدائه!» وكل هذا الكلام وصل إلى صاحب الجلالة، وبعد أيام وهبني حلة تكريم من معطف مزركش وشال لخصري وآخر لرأسي وعباءة مطرزة مبطنة بالفراء، كما كرمني بفرمان يسميني فيه ملك الشعراء ووضعت هذا الفرمان على عمامتي لثلاثة أيام متتالية أتلقى التهانئ من أصدقائي وأشعر أنني ذو شأن أكثر من أي وقت مضى.
كتبت قصيدة تؤدي غرضين في آن واحد: أنتقم بها من الخازن على معاملته الجائرة لي وأسترضيه في نفس الوقت لأنها كانت تحمل معنيين في كل بيت، وما اعتبره الخازن في جهله مديحاً كان في الواقع هجاء، وفكر أن كل تلك الكلمات الغريبة (وأغلبها كلمات عربية لا يفهمها) لا يمكن أن تحمل إلا إطراء، ولم يخطر على باله لحظةً أنها ليست إلا ازدراء. لقد أخفيت معاني القصيدة بحيث يستحيل على أحدٍ فهمها دون أن أشرحها له بنفسي.
إلا أن تفوقي لم يقتصر على الشعر؛ كنت أهوى الميكانيكا، وبعض اختراعاتي لاقت قبولاً في البلاط. لقد اخترعت عجلة دائمة الحركة لا تحتاج سوى إلى بضعة إضافات وتحسينات لتعمل، وصنعت أنواعاً من الورق الملوّن واخترعت محبرة جديدة، وكنت في طريقي إلى صناعة القماش، إلا أن جلالته أوقفني قائلاً: «يا عسكر، اشتغل بالشعر، فعندما أحتاج إلى قماش يحضره التجار لي من بلاد الفرنجة» فأطعته، وفي عيد رأس السنة عندما يقدم كل خدمه الهدايا للشاه قدّمت له عود أسنان ذهبياً في علبة أنيقة وأرفقته بقصيدة شبهت فيها أسنان جلالته باللؤلؤ، وعود الأسنان بصياد اللآلي، ولثتيه بالمرجان الذي يوجد اللؤلؤ بينه، ولحيته وشاربيه بأمواج البحر، فأمر الشاه كل الحضور بتقبيلي على فمي، وهنأني الجميع على فصاحتي وخيالي، وأكّدوا لي بصوت واحد أن أناشيد الفردوسي أمام قصائدي ليست إلا نهيق الحمير.
بهذا اكتسبت الرعاية الكريمة فأراد جلالته أن يعطيني فرصة لأحصل على شيء من المال عدا علامات التكريم فبعثني في مهمة حمل ثوب التكريم الذي يرسله سنوياً إلى ابنه أمير ولاية فارس. استقبلوني في شيراز بكل فخامة وقدموا لي الهدايا الثمينة، هذا عدا ما جمعته من القرى التي مررت بها في طريقي، فصار معي مبلغ كبير من المال. والليلة الماضية فقدت كل شيء، سرقوا مني كل ما أملك، وها أنت ترى أمامك أتعس الخلق. إذا لم تساعدني في النجاة سأموت في الأسر. قد يودّ الشاه أن يخلصني لكنه لن يدفع فلساً ليفديني، والخازن ليس صديقي؛ وبعد أن قلت للوزير أن كل ما لديه من الحكمة غير كافٍ حتى ليربط ساعة، ناهيك عن فهم آليتها أو إدارة شؤون البلد، أخشى أنه أيضاً لن يحزن لغيابي. أخذ هؤلاء الهمج النقود التي كان يمكن أن أفدي نفسي بها، ولا أعرف من أين أحصل على المبلغ المطلوب. هذا ما قدّر الله لي، وأنا أرضى بما كتبه علي بكل تسليم، ولكني أتوسل إليك لأنك مسلم مثلي تكره عمراً وتحب علياً، أتوسل إليك أن تعينني ما استطعت في يومي الأسود.
الفصل الثامن. حاجي بابا يفر من التركمان. المستجير من الرمضاء بالنار
حالما انتهى الشاعر من رواية قصته أكّدتُ له أنني سأبذل قصارى جهدي لخدمته، ولكنني أوصيته بالصبر لأنني لم أجد وسيلة لاسترجاع حريتي بعد، وكنت أتوقع مصاعب عظيمة في تخليصه من الأسر في الوقت نفسه. فمن المستحيل أن نحتال على تيقظ آسرينا ما دمنا في الصحراء المكشوفة: كانت خيولهم جيدة مثل حصاني ومعرفتهم بالمنطقة أفضل من معرفتي بها، فمحاولة الفرار في هذه الظروف ضرب من الجنون، لذا لم يبق لي إلا الانتظار حتى تسنح لي الفرصة المناسبة للهروب.
وصلنا إلى تخوم الصحراء الملحية فأصبحنا قرب الطريق الذي يصل طهران بمشهد على مسافة نحو عشرين فرسخاً عن دامغان، فأمر أصلان سلطان جماعته بالتوقف واقترح أن ننتظر يوماً أو يومين في وهدٍ قرب الطريق عسى أن يبعث الله لنا بعض المسافرين لنخطفهم أو قافلة تجارية لننهبها. وفي فجر اليوم التالي هرع إلينا أحد عيوننا الذي كان يقبع على تلة غير بعيدة يخبرنا أنه رأى سحابات من الغبار في الطريق من دامغان تقترب منا متّجهةً إلى مشهد.
وفي غمضة عين امتطينا خيولنا، وترك التركمان أسراهم موثقي الأيدي والأرجل في الوهد ليعودوا إليهم بعد الانتهاء من نهب القافلة، وطلعنا بكل حذر نتوخى الدم والغنائم.
سار أصلان سلطان أمام الجميع لاستطلاع الأوضاع، وناداني إليه قائلاً: «الآن يا حاجي أمامك فرصة للتميُّز والنجاح. سترافقني كي ترى الاحتياطات التي أتّخذها قبل أن أكشف كامل جماعتنا. عليك أن تتعلمها كي تستطيع قيادة حملة مماثلة في المستقبل. آخذك معي لأنني قد أحتاج إلى ترجمان، فنادراً ما يصادف في هذه القوافل أناس يتحدثون لغتنا. سوف ندنو منهم ما استطعنا وقد نحاول الدخول في مفاوضات مع مرشد القافلة، وإن لم نتوصل إلى اتفاق نهجم عليهم بكامل قوانا.»
ومع اقترابنا من المسافرين لاحظت أن أصلان سلطان ظهرت عليه علامات الارتباك، ثم قال: «أخشى أنها ليست قافلة، فصفوفهم متراصة، ولا أسمع الأجراس. الغبار كله متجمع في بقعة صغيرة. أرى الرماح! إنها فرقة فرسان كبيرة تركب جياداً نجيبة! لن نغامر بمواجهتهم.»
في هذه اللحظة رأيت بوضوح أنها ليست قافلة بل رجل رفيع الشأن، ربما أحد الولاة، يسافر برفقة حرسه وخدمه وحشمه وبكل الأبهة والفخامة المعتادة في مثل هذه المناسبات.
قفز قلبي في صدري وأنا أرى هذه الفرصة المؤاتية للفرار. لو أستطيع الاقتراب منهم حتى يأخذوني أسيراً قبل أن أثير شكوك سيدي أصلان سلطان أصل إلى بر الأمان، ومع أنني سأتلقى ضرباً من الحرس بادئ الأمر، سيكون عندي فرصة كي أكشف لهم هويتي وأروي لهم قصتي، وفصاحتي كفيلة بإقناعهم. لذا قلت لرفيقي: «هيا نقترب أكثر لنكشف أمرهم!» ثم نخست حصاني دون أن أنتظر إذنه، فتبعني فوراً ليوقفني، وحالما اجتزنا تلةً على الطريق حتى رأينا الفرقة كاملة على مبعدة مرمى سهم منا وانكشفنا لها، وفور ذلك انفصل عنها ستة أو سبعة فرسان وانطلقوا نحونا بأقصى سرعة، فقفلنا هاربين، وبينما كان أصلان سلطان ينخس حصانه كنت ألجم حصاني، وبعد لحظات لحق بي الفرسان وقبضوا عليّ، وخلال غمضة عين رموني أرضاً وجردوني من سلاحي وسلبوا مني الخمسين توماناً والموسين وكل ما أملك، ورغم أنني كنت أصرخ أنني لا أنوي الهرب وثقوا يديّ وراء ظهري بالشال الذي أخذوه من خصري وجرّوني جرّاً وهم يلطمونني كي أتحرك بسرعة إلى سيدهم الذي توقف يحيط به خدمه.
ومن علامات الطاعة والتبجيل التي كان يبديها مرافقوه أدركت أنه من الأسرة المالكة، وتأكدت من هذا عندما اقتربنا منه، إذ تلقيت بضعة ضربات على رأسي كي أفهم أن عليّ السجود أمام الشاه زاده، أي الأمير. أمرهم الشاه زاده بفك وثاقي، وحالما شعرت بالحرية أفلتُّ من أيدي الرجال من حولي ورميت نفسي نحوه فأمسكت بطرف ثوبه وصرخت: «أستجير بحماية الشاه زاده!» اندفع أحد الحرس نحوي ليعاقبني على وقاحتي، لكن الأمير أصرّ أن عرف الأجداد مقدس لا يجوز الإخلال به ووعدني أني في حمايته، وأمر خدمه ألاّ يضايقوني وطلب مني أن أروي له كيف وقعت في الورطة التي أنا فيها.
وقعت على ركبتي وقبّلت الأرض ورويت له قصتي باختصار، ثم أضفت تأكيداً لكلامي أنه لو أمر فرسانه بمهاجمة جماعة التركمان الذين لا يزالون قريبين من هنا لاستطاعوا إنقاذ شاعر الشاه ورجلين آخرين من رعاياه الذين وقعوا أسرى في أيدي التركمان، وهؤلاء سيؤكدون له كل ما قلت.
ما كدت أنتهي من كلامي حتى عاد الفرسان الذين كانوا يطاردون أصلان سلطان تظهر عليهم علامات الفزع وحلفوا بعليّ ورأس الشاه أن جيشاً ضخماً من التركمان لا يقل عن ألف مقاتل يزحف نحونا، وعلينا التحضير للقتال. سدىً وهباءً حاولت أن أشرح لهم أن عدد التركمان لا يتجاوز العشرين: لا أحد كان يصدقني بل نعتوني بالجاسوس والكذاب، وأجمعوا أنهم سيقتلونني فوراً لو هاجمهم التركمان. ثم تحرك الموكب بسرعة وحذر إلى الأمام والجميع يتلفتون يميناً ويساراً وهم يبدون علامات الرعب الذي يثيره مجرد اسم التركمان في كل أرجاء بلادنا.
بما أن حصاني سُلب مني، سمحوا لي بامتطاء بغل، وعلى ظهره وجدت الوقت الكافي لأفكر في نصيبي المشؤوم ومستقبلي البائس. بلا فلس واحد في جيبي، وبلا أصدقاء، لم أكن أرى أمامي سوى الجوع. لم تساعدني قوة إيماني على مواساة نفسي بأن هذا ما كتب الله عليّ، وكنت أبكي جهراً حماقتي التي قادتني بمحض إرادتي إلى الحال التي أصبحت فيها؛ أما حبي لأهل جلدتي الذي كان يضطرم في صدري عندما كنت أسيراً فقد تخلى عني تماماً، فبدأت أشتمهم علناً، وقلت لمن حولي:
«أنتم تسمون أنفسكم مسلمين، ولكنكم أسوأ من الكلاب! الكلاب؟ بل أنتم أسوأ من كلاب المسيحيين! حتى التركمان بشرٌ أمامكم!»
ولكن هذه الشتائم ما أثارت عند من يسمعني سوى الضحك، فبدأت أفكر كيف أستعطفهم، فقلت: «أستحلفكم بحب الإمام حسين، وبحب النبي، وبأرواح أولادكم، لماذا تعاملون غريباً هكذا؟ ألست مسلماً مثلكم؟ ماذا فعلت لكم كي تطعموني الحزن والغم؟ لجأت إليكم كما ألجأ إلى أصدقاء، فنبذتموني كأنني عدوكم.»
لكن هذا الحديث لم يجدِ أيضاً، عدا عن أن أحد البغالين، واسمه علي قاطر6، الذي كان يشعل أركيلته، مدها إلي لآخذ نفساً من الدخان قائلاً: «يا ابني، كل شيء في هذه الدنيا بيد الله.» ثم أشار إلى بغله قائلاً: «إذا خلق الله هذه الدابة بيضاء، فهل بوسع علي قاطر أن يجعلها سوداء؟ اليوم طعامها شعير، وغداً تقتات على الشوك. ما كتبه الخالق لا يغيره مخلوق. دخّن وافرح واحمد الله أنه لم يمتحنك بأسوأ مما أصابك به. قال حافظ: استفد من كل لحظة فرح واحسبها مكسباً لك، فلا يعرف أحدٌ عواقب الأمور.»
كلام البغّال أراح بالي قليلاً، وعندما وجد أنني مثله أحفظ الشعر ولا أرفض مؤاساته لي عاملني بكل لطف وتقاسم معي طعامه حتى نهاية الرحلة. أخبرني أن الأمير الذي وقعت في يده كان الابن الخامس للشاه الذي ولاه مؤخراً على خراسان، وكان الآن في طريقه إلى مشهد مقعد حكمه، ويرافقه حرس أكثر من المعتاد بسبب الوضع المزعج على الحدود التركمانية، ويقال أنه مكلف بالشروع بعمليات حاسمة ضدهم وعليه أن يبعث بأكبر عدد ممكن من رؤوسهم إلى طهران لتكويمها أمام بوابة قصر الشاه، وأضاف: «أنت محظوظ أن عنقك بقي سليماً. لو كنت أشقر ذا عينين صغيرتين وقليل الشعر، وليس أسمر، لقتلوك وملّحوا رأسك بكل عناية وأرسلوه إلى طهران على أنه رأس أمير تركماني.»
عندما وصلنا مساءً إلى مبيتنا في خان مهجور متهدم على تخوم الصحراء قررت أن أسعى إلى الوصول إلى حضرة الشاه زاده كي أحاول استرجاع نقودي وحصاني وسلاحي، ولم أتردد في اعتبارها ملكاً لي رغم أن صوتاً خافتاً في قلبي كان يهمس أن أحداً غيري له مثل حقي فيها. كنت أتصيد الفرصة المناسبة فوجدتها قبل صلاة العشاء فقدمت نفسي للأمير. كان جالساً على سجادة مفروشة على سطح الخان متّكئاً إلى وسادة، وقبل أن يرميني الحاضرون خارجاً صرخت: «عندي تظلُّم!». فأمرني الشاه زاده بالاقتراب منه وسألني عن مبتغاي، فشكوت له معاملة خدمه لي إذ سلبوني من خمسين توماناً، وتوسلت إليه أن يعاد إلي حصاني وسلاحي؛ فسأل المحيطين به عن أسماء هؤلاء الرجال، وعندما أخبروه أرسل خيّامه ليحضرهم أمامه، وحالما حضرا عرفتهما وأكّدت ذلك للشاه زاده، فقال لهم:
«يا أولاد الكلاب، أين النقود التي سرقتموها من هذا الرجل؟»
فصاحا على الفور: «لم نأخذ شيئاً!»
فأجابهما: «سنعرف ذلك حالاً. نادوا الفرّاشين، وليضربوا هذين النذلين على أقدامهما حتى يعيدا الخمسين توماناً.»
وفي نفس اللحظة أمسكوا بهما ورفعوا أقدامهما في الهواء بعد أن ربطوها بحبل، وبعد عدة ضربات اعترفا أنهما أخذا النقود، وأخرجاها من جيوبهما، فأُخِذت إلى الشاه زاده الذي عدّها بتأنٍّ ووضعها تحت الوسادة التي كان يتّكئ عليها ثم قال لي: «انصرف.» تجمدت مفتوح الفم من الدهشة إذ كنت أتوقع أن تعاد نقودي إلي، فتقدم مني حاجبه وأمسكني من كتفيّ ودفعني بقوة، وهنا صرخت: «نقودي! أين هي؟»
فقال الأمير: «ماذا يقول؟ اضربوه بالأحذية إذا تكلّم ثانيةً.» فنزع الحاجب حذاءه الأخضر وضربني على فمي بكعبه المقوّى بالحديد قائلاً: «أتتكلم مع ابن الشاه بهذه اللهجة؟ اذهب بأمان الله وفتّح عينيك وإلا قطعت أذنيك!» ثم سحبوني ودفعوني بعيداً.
عدت يائساً إلى صديقي البغال الذي لم يتفاجأ البتة بما حدث وقال: «وهل توقعت غير ذلك؟ أليس هو شاه زاده أولاً وأخيراً؟ متى استولى أي رجل ذو سلطة على غرض، أتعتقد أنك تستطيع استعادته منه؟ والله، أسهل أن تسحب عضة عشب من فم البغل من أن تحصل على نقودٍ وقعت في يد أمير.»
الفصل التاسع. حاجي بابا يصبح سقاء
وصلنا إلى مشهد في الموعد، ودخل الشاه زاده إليها في موكب مهيب بين كل الصخب والاستعراض والفوضى التي ترافق مثل هذه المناسبات. وجدت نفسي وحيداً في مدينة غريبة بعيداً عن أصدقائي وعن أي إنسان يمكن أن ألتمس عوناً منه، وليس عندي حتى موس حلاقة. وبعد أن تفقّدت ما أملك وجدت أن ممتلكاتي تقتصر على خمسة تومانات نجحتُ في نشلها من الكيس الذي سرقته في خان إصفهان وخبأتها في بطانة قبعتي، ورداء بني من الصوف وسترة من جلد الخروف وقميص وسروال وحذاء ثقيل. بقيت في ضيافة البغال ما دام يتلقى حصته اليومية من الأطعمة أثناء مرافقة الشاه زاده؛ أما الآن، بعد أن خرج هو وبغاله من خدمة الأمير، لم يعد يمكن أن أقبل ضيافته. فكرت في العودة إلى حرفتي، ولكن من يسلم رقبته لموس رجل ذي سمعة جاسوس تركماني؟ ومع أن مالي كان يكفي لشراء ما أحتاجه للحلاقة، إلا أنه غير كافٍ لأفتح محلاً، وكنت أكره أن أعمل بالمياومة.
نصحني صديقي البغال الذي كان يعرف سبل مشهد ووسائلها أن أعمل سقاء، وقال: «أنت شاب قوي البدن، صوتك جميل، وتستطيع أن تجذب الناس إليك بإنشادك. وفضلاً عن ذلك لديك موهبة في المجاملة والتملق والضحك على اللحى. يأتي إلى مشهد أفواج من زائري مرقد الإمام رضا عليه السلام، وهؤلاء يعتقدون أن الصدقة هي السبيل لمحو ذنوبهم لذا يتصدقون بسخاء على صاحب أحسن دعاء. يجب أن تبيع كل جرعة ماء باسم الإمام حسين عليه السلام. لا تطلبْ أبداً أجراً من أحد، ومتى شرب المسافر ارفع صوتك بالدعاء حتى يسمعك الجميع، وقل: «بارك الله سفركم! حماكم الإمام عليه السلام من العطش في الآخرة!» وأدعية أخرى مثلها. قل ما شئت لمن قطعوا خمسمئة فرسخ من أجل الصلاة في مشهد، فهم يصدقون أي شيء. كنتُ سقاءً في مشهد وأعرف هذه الحرفة تمام المعرفة؛ بعدها استطعت شراء خمسة بغال فأصبحت الشخص الذي تراه.»
اتبعت نصيحة صديقي، فاشتريت قربة من جلد فيها حنفية من نحاس وكوباً ملوناً مطلياً. وبعد أن ملأت القربة بالماء تركتها مدّةً من الوقت لتذهب رائحة الجلد ثم انطلقت إلى مرقد الإمام عليه السلام وباشرت مهنتي الجديدة في الحال. اخترت لنفسي صيحة «ماء! ماء! باسم الإمام عليه السلام، ماء!» وكنت أصيحها بكل قوة صدري، وبما أنني أخذت منذ يومين بضعة دروس من صديقي، كانت مهارتي مثل قدامى الممارسين. وفور ظهوري جذبت انتباه زملائي في المهنة الذين بادروني بنظرات فيها تساؤل عن حقي في منافستهم، وعندما اقتربت من الخزان لأملأ قربتي حاولوا افتعال خصام معي، وأحدهم دفعني ليوقعني في الخزان؛ ولكن لمّا رأوا تصميمي المدعوم بعضلات قوية اضطروا إلى التراجع واللجوء إلى الشتائم؛ وفي مجال الشتائم كنت معلماً بلا منازع وتفوقت فيها عليهم بكل يسرٍ فأسكتُّهم تماماً.
بدا الأمر وكأنني ولدت لأعمل سقاء: فالماء الذي أخذته من خزان قذر كان يحوّله مديحي إلى ماء زمزم وإلى ماء من أنهار الجنة، وكان الإقبال عليه يفوق كل تصوّر، وكذلك النقود التي جمعتها مقابل توزيعه مجاناً. كنت أترقب باستمرار قدوم فوج جديد من الزائرين، وقبل أن يترجلوا عن بغالهم، يغطيهم غبار الطريق وفي قلبهم ارتياح النجاة من التركمان، أدعوهم باسم النبي ﷺ إلى ماء يروي عطشهم، وأحمد الله على سلامتهم من التركمان وألمّح أن عليهم أن يكرموني على دعائي لهم، ونادراً ما تخيب أعمالي.
اقترب موعد شعائر محرّم فقررت أن أجهِّز نفسي لدور السقاء الذي يحمل الماء في تمثيلية تقدَّم في آخر أيام ذكرى محرم. تجرى التمثيلية في ميدان واسع أمام جمهور غفير وبحضور الشاه زاده، وكنت أحب أن يذيع صيتي وأكسب بعض المال بعد أن أستعرض قوتي. يتمثل دور السقاء في التمثيلية في حمل قربة ضخمة من الماء مع حركات عجيبة. كان ينافسني في هذا الدور السقاء الذي أداه بنجاح في السنة الماضية، ولكن قربتي كان فيها من الماء أكثر مما يقوى على حمله، ولم أكن أخشى أن يتغلب عليه. لكن الناس نصحوني أن أتقي شره لأنه لئيم الطبع ولن يتوانى عن إيذائي متى سنحت له الفرصة.
وعندما جاء يوم الاستعراض تجمع كل سكان المدينة في الميدان ليشاهدوا الشعائر الدينية وكان الشاه زاده جالساً وراء نافذة فوق بوابة قصره، وخرجت إلى الساحة عاري الصدر والدم يسيل من جسمي أحمل قربة هائلة من الماء. ولما وصلت إلى مقربة النافذة التي كان الأمير يجلس وراءها دعوت له بالصحة وطول العمر بأعلى صوت فرمى إلي عملة ذهبية وعبّر عن إعجابه بأدائي. تحمست لإطرائه فدعوت عدداً من الأولاد أن يتسلقوا ظهري فتكوموا على القربة مما أثار دهشة الناس وإعجابهم؛ فناديت ولداً آخر، وهنا برز غريمي من الحشد وقفز على ظهري واستقر فوق الجالسين عليه أملاً أن يسحقني سحقاً. ولكنني جمّعت كل قواي فحملت حملي بين صيحات الإعجاب. وأخيراً أنزلت عبئي عن ظهري وحييت الناس الذين صفقوا لي ورموا إلي قطعاً نقدية صغيرة.
ومع أنني لم أشعر بأي سوء وأنا أؤدي دوري بحماس أمام الحشود، بعد أن تخلصت من عبئي وعدت إلى منزلي أصابني ألم فظيع في ظهري جعلني غير مؤهل لحمل الماء في المستقبل، فبعت قربتي والأدوات الأخرى، ووجدت أنني أصبحت غنياً مقارنة بحالتي البائسة عندما جئت إلى مشهد. لم أكن أعرف ماذا أفعل في وضعي هذا لأن صديقي البغال كان قد سافر مع قافلة إلى طهران، ولم يكن عندي أحد غيره أستنصحه. فكرت أن أشكو الأذى الذي ألحقه بي غريمي وآخذه إلى القاضي، ولكن بعض من حولي قالوا أن ذلك لن يجدي لأن الشريعة الإسلامية ليس فيها حكم في رض الظهر؛ هناك حكمٌ أن العين بالعين والسن بالسن، ولا شيء عن الظهر. لو كان عندي صديقٌ ذو نفوذ ليوصي القاضي بقضيتي لكان عندي أمل أن أحصل على تعويض؛ أما رجل غريب بلا مال ولا صديق فلن يحصل على شيء، وقد يخسر بقايا ما كسبه من عرق جبينه.
الفصل العاشر. حاجي بابا يناجي نفسه ويصبح بائع دخان متجولاً
شاورت نفسي فيما يمكنني أن أعمل لأكسب رزقي، وفكرت في عدد من المسالك: التسول في إصفهان كان حرفة ممتازة، وباعتبار أنني نجحت في السقاية، كنت على الأغلب نجحت فيه أيضاً، ولأصبحت خلال فترة وجيزة من معلمي هذه المهنة. من جهة أخرى، يمكن أن أصبح بهلواناً يقدم عروضاً مع دب مروَّض. ولكن المهنة الأولى تحتاج إلى بعض الخبرة لمعرفة حيلها، والمهنة الثانية يلزمها معرفة في ترويض الدببة، لذا تركت هاتين الفكرتين. كان يمكنني أيضاً أن أعمل في حرفتي فأستأجر محل حلاقة؛ ولكنني ما أحببت فكرة الاستقرار في مشهد، لا سيما أنها بعيدة عن بلدي إصفهان. وأخيراً قررت أن أتبع ميولي، وبما أنني كنت أهوى التدخين قررت أن أصبح بائع دخان متجولاً، فاشتريت غلايين من شتى الأحجام وصينية خشبية وضعت فيها رؤوس الغلايين مثبتة إلى حزامي، ووعاءً من حديد للجمر أحمله في يدي وملقطاً حديدياً وإبريق نحاس للماء علقته على خطاف وراء ظهري وأكياساً طويلة أضع فيها أنواع التبغ. كل هذه الأدوات كانت مثبتة حول جسمي، وإذا حملتها جميعها صار شكلي يشبه القنفذ عندما تنتصب كل أشواكه. كنت أحمل ألواناً متنوعة من التبغ: الطبسي والشوشاني والشيرازي والبغدادي واللاذقاني، ولكني ما كنت ربحت شيئاً لو أعطيت كل عباد الله تبغاً صرفاً، ولكني شكلت مخزوناً كبيراً من شيء يسير من التبغ مستعيناً بألوان الروث. كنت أتعرف بالفراسة على ذواقي التبغ بين زبائني فأعطيهم تبغاً صرفاً تقريباً. كانت أرباحي تتوقف على مقدرتي على تمييز الناس، فأولئك من الطبقة المتوسطة كنت أعطيهم تبغاً نصف ممزوج، ولمن أدنى منهم مزيجاً ثلاثة أرباعه روث، أما الطبقة الدنيا فكانوا يحصلون على خليط يكاد يخلو من التبغ، وحالما أرى علامات الاستياء أستعمل كل مهارتي في مدح أنواع التبغ الموجودة عندي، فأعرض لهم عينات من أفضل ألوان التبغ وأتغنّى بنوعيتها الممتازة وأروي لهم قصة المزارع الذي أقتنيتها منها، ثم ألهيهم بقصة مسلية أحاول أن أطيل في روايتها حتى يأخذ الزبون نفسين أو ثلاثة.
بعد فترة وجيزة اشتهرت في كامل مشهد بجودة دخاني. وكان بين زبائني درويشٌ، ولكنه كان ذواقةً لدرجة أنني كنت أضطر ألا أعطيه إلا التبغ الصرف. ومع أنني لم أكن أربح منه الكثير، لا سيما أنه لم يكن يحاسبني بانتظام، إلا أن حديثه كان لطيفاً ومسلياً، كما أنه دلّ عليّ العديد من أصدقائه، ولذا سعيت أن أحافظ على صداقته.
كان الدرويش صفر رجلاً غريب المظهر: معقوف الأنف أسود العينين، نظرته ثاقبة ولحيته كثيفة، وينسدل شعره الأسود الطويل على كتفيه. كانت قبعته المخروطية مطرزة بآيات من القرآن وبالأدعية، ويحمل على ظهره جلد أيل أحمر صوفه إلى الخارج، وفي يده عصا طويلة مصفحة بالحديد يضعها عادة على كتفه، وفي يده الأخرى قرعة معلقة بثلاث سلاسل يمدها عندما يطلب صدقة من المارة، وفي حزامه مشبك من عقيق معلق به عدد من المسبحات الخشبية الثقيلة. وعندما كان يسير في الشوارع والأسواق تثير تصرفاته وكلماته الموحشة العجيبة الرهبة في الناظرين؛ وقد عرفت فيما بعد أنه كان يقصد تمثيل هذه الشخصية، لأنه عندما كان يدخن من عندي، وإذا صدف أن لا أحد كان موجوداً في الجوار، كان يتحول إلى إنسان لطيف وبسيط وصريح، وبعد قليل صارت صداقتنا حميمة، فعرّفني على مجموعة صغيرة من أصدقائه الدراويش ودعاني إلى اجتماعاتهم. ورغم أن هذا كان يتضارب مع مصلحتي التجارية، لأنهم كانوا يدخنون من تبوغي الفاخرة أكثر من باقي زبائني مجتمعين، إلا أن مجالستهم كانت ممتعة فلم أستطع الامتناع عنها.
قال الدرويش صفر لي في إحدى الليالي التي دخن فيها أكثر من المعتاد: «يا حاجي بابا، أنت أكبر من أن تبقى بائع دخان طوال عمرك، فلم لا تصبح درويشاً مثلنا؟ لحى الرجال عندنا مثل التراب، ومع أن حياتنا غير مستقرة، لكنها متنوعة وفيها الكثير من وقت الفراغ. نحن ننظر إلى البشر نظرة صيادين ونكسب رزقنا من نقائصهم وسذاجتهم؛ ومما رأيته فيك أعتقد أنك ستشرِّف مهنتنا، وقد تشتهر مع الزمن مثل الشيخ سعدي نفسه.» استحسن رفيقاه كلامه وألحّوا عليّ أن أنضم إليهم. لم أكن أمانع هذه الفكرة، ولكني اعترفت بجهلي، وقلت:
«كيف يمكن أن يكتسب إنسانٌ جاهلٌ وسطحي مثلي على الفور كل العلوم التي يحتاجها الدرويش؟ صحيح أنني أعرف القراءة والكتابة وأحفظ القرآن وشعر حافظ وسعدي عن ظهر قلب، والكثير من الشاهنامه للفردوسي، ولكنني جاهل تماماً فيما عدا ذلك.»
فردّ عليّ الدرويش صفر: «آه، يا صديقي، أنت لا تعرف إلا القليل عن الدراويش، وأقل من ذلك عن جنس البشر. ما يحتاجه الدرويش ليس التبحُّر في العلوم: أهم شيء هو الجرأة. أعِدُك، يكفي عُشر علمك مع شيء من الوقاحة، وستلعب بأكياس سامعيك وعقولهم ورؤوسهم ولحاهم كما تشاء. من لا يخجل يستطيع أن يحقق الكثير. بفضل الوقاحة كنت نبيّاً، بالوقاحة صنعت المعجزات، بالوقاحة كنت أشفي المرضى على فراش الموت وأعيدهم إلى العافية، أي بالجرأة والوقاحة كنت أعيش حياةً كلُّها رفاهٌ، ويخافني ويحترمني أولئك الذين لا يعرفون – مثلك – الدراويش على حقيقتهم. لو رأيتُ الأمر جديراً بالعناء ورضيتُ أن أواجه المصاعب والمخاطر كتلك التي واجهها محمد ﷺ لأصبحت الآن نبياً عظيماً مثله، ولما استصعبت أن أشقّ القمر كما فعل – بل أن أشق الشمس – متى كسبت ثقة من يسمعني. وبالوقاحة يمكن تحقيق هذا كله وأكثر من ذلك، إذا استخدمتها بالشكل المناسب.»
وبعد أن ختم الدرويش صفر حديثه استحسن رفيقاه كلامه؛ وحكوا لي قصصاً مسلية لا تحصى عن أفعالهم السابقة، فصرت أتوق لمعرفة المزيد عن هؤلاء الرجال الرائعين، فوعدوني أن يقصّوا علي سِيَرَهم في لقائنا القادم، وأوصوني بأن أفكر في هذه الأثناء في حياة أكثر كرامة ومتعة من بائع متجول للدخان المغشوش.
الفصل الحادي عشر. قصة الدرويش صفر والدرويشين الآخرين
عندما اجتمعنا سويةً في المرة القادمة، كل واحد يحمل غليونه في يده وسندنا ظهورنا إلى الجدار في غرفة صغيرة تطل نافذتها على باحة مربّعة صغيرة تنمو فيها الأزهار، بدأ الدرويش صفر، باعتباره رئيس حلقتنا، قصته قائلاً:
«أنا ابن "لوده باشي"، أي كبير مهرِّجي أمير شيراز، ورقّاصة شهيرة اسمها طاووس. يمكنكم أن تتصوروا تربيتي في مثل هذه الأسرة. مضت حياتي منذ نعومة أظفاري بين السعادين والدببة التي كان يملكها أبي وأصدقاؤه، وربما اكتسبت موهبتي في التشبُّه التي طالما استفدت منها في حياتي من تلك الحيل التي كان الناس يعلّمونها ومن سرعة تعلم الحيوانات لها. ولما بلغت الخامسة عشرة صرت مهرجاً محترفاً، أستطيع بلع النار ونفث الماء وأداء كل أشكال ألعاب الخفة، وكنت على الأغلب سأتقدم أكثر وأكثر في هذه المهنة لولا أن ابنة زنبوركجي باشي، أي رئيس مدفعية الإبل، وقعت في حبي بعد أن رأتني أرقص على الحبل أمام القصر في عيد رأس السنة. كان فارس شاب في مدفعية الإبل أعزّ أصدقائي، وكانت أخته تقيم في أندرون الرئيس، وهي التي أعلمته بما أثاره مظهري في قلب سيدتها. وبما أنني لم أكن أعرف الكتابة، ذهبت في الحال إلى ميرزا، أي كاتب، كان يقطن في كوخ صغير في زاوية السوق وطلبت منه أن يكتب لي رسالة حب ولا يبخل بالحبر الأحمر ويكثر ما استطاع من الاستعارات والكنايات والبلاغة، فكتب رسالة لا مثيل لها، إذ كانت تقول في مطلعها أنني ميّتٌ وسبب موتي نور عينيها الذي حرق قلبي؛ ورغم هذا الكلام قلت في خاتمتها أنني لم أر وجهها يوماً وأتمنى أن تسمح لي بمقابلتها. ومن فرحي بهذه الرسالة الرائعة أخبرت الكاتب باسم فاتنتي، وحالما أخذ الكاتب أجره مني ذهب إلى زنبوركجي باشي ليبوح له بسرّي طمعاً بأجر آخر منه. أن يجرؤ ابن لوده باشي بالنظر إلى ابنة زنبوركجي باشي جريمة لا تغتفر، وبما أن زنبوركجي باشي كان ذا نفوذ في القصر فقد استصدر أمراً بطردي من شيراز على الفور، وكان أبي يهاب غضب الأمير ويخشى أنني سأنافسه في مهنته قريباً، لذا لم يحاول أن يستبقيني.
وفي الصباح التالي، عندما كنت أودع أصدقائي السعادين والدببة وغيرهم من حيواناتنا، قال لي أبي: «يا صفر، يا ابني، إنني حزين لفراقنا. ولكن بفضل تربيتي وبفضل عيشك بجانبي وبجانب حيواناتنا، ستنجح في حياتك بالتأكيد. سأعطيك ما يضمن لك كسباً سريعاً، وهو أكبر سعاديني وأكثرها فطنةً. صادقه من أجلك واحببه كما أحببتني، وأتمنى لك أن تصل يوماً ما إلى المرتبة التي وصل إليها أبوك.» ثم وضع السعدان على كتفي، فتركت بيت والدي برفقته.
توجهت نحو إصفهان في مزاج سيء، فلم أكن أعرف أأفرح أم أحزن لهذا التغير في حياتي. حريتي والسعدان من دواعي الفرح بالتأكيد، ولكن فراقي لأصدقائي الحيوانات، وللأماكن التي كنت أحبها منذ طفولتي، وفوق كل هذا ابتعادي عن تلك الجميلة المجهولة التي صورتها في مخيلتي بجمال شيرين نفسها أثارت في قلبي ألماً لا يطاق، وعندما وصلت إلى كوخ درويش قرب وادي الله أكبر انتابني حزن شديد فجلست على صخرة ورفعت صوتي بالبكاء، والسعدان يقعد جنبي.
سمع الدرويش بكائي وظهر أمامي فجأة، فارتعبت ظناً مني أنه غول، ولكنه خاطبني بكلام لطيف وسألني عن سبب حزني ثم أخذني إلى خيمته التي كانت بين صخرتين، وفيها رأيت درويشاً آخر شكله مرعب أكثر من الأول. كان لباسه مثل لباسي الآن (في الواقع، القبعة التي أرتديها كانت له)، ولكن نظراته كانت موحشة ومرعبة إلى درجة لم أستطع إتقانها حتى الآن.
عندما رأى الدرويش رفيقي بدا وكأن فكرة ما خطرت على باله، فتكلم سراً إلى الدرويش الآخر، ثم اقترح علي مرافقتهما إلى إصفهان، ووعدني أن يكون لطيفاً معي، وإذا سلكت معه سلوكاً حسناً سيعلمني مهنة تساعدني على كسب الرزق. وافقت بكل سرور، وبعد أن أعطانا الدرويش في الكوخ غليوناً لندخنه غادرنا المكان دونما تأخر، ومشينا صامتين بعض الوقت.
في الطريق بدأ الدرويش بيدين7 يسألني بدقة عن حياتي الماضية وبدا مسروراً بإنجازاتي؛ ثم شرع يصف لي ميزات عيش الدراويش وأثبت لي أنها أفضل من حرفة المهرج الدنئية، وفي النهاية أقنعني بامتهان حرفته، قائلاً أنني، لو اتخذته معلماً، سيعلمني ما يعرف، وأكد لي أن ذلك ليس بالقليل بما أنه يُعتبَر أكثر دراويش بلاد فارس كمالاً. بدأ يحدثني عن السحر والتنجيم وأعطاني عدداً من الوصفات لصناعة التعاويذ والحجب لكل الأحوال والمناسبات، والتي يكفيني بيعها لكسب الرزق. ذنب الأرنب، إذا ما وُضع تحت وسادة طفل، يجعله ينام، ودمه، إذا ما أعطي لحصان، يجعله سريعاً لا يتعب؛ عين الذئب وعظام أصابعه إذا ثبّتّها على ولد تعطيه الشجاعة، وشحمه، إذا دهنت امرأة جسمها به، تحول حب زوجها لها إلى لامبالاة، وصفراؤه إذا ما استخدمت بالطريقة المماثلة تجلب لها الخصوبة. ولكن أغلى السلع ثمناً في الأندرونات هو كوس كفتار، أي جلد أنثى الضبع المجفَّف، والذي، إذا لبسته حول جسمك، يستميل عواطف الجميع نحوك. تحدث الدرويش مطوّلاً عن هذه المواضيع حتى أثار فضولاً وشوقاً إليها في قلبي بإمكانات الكسب الباهرة، ثم طرح اقتراحاً يمكن أن يخمن القارئ أنه كان مرفوضاً تماماً، إذ قال:
«يا صفر، أنت لا تعرف الكنز الذي بحوزتك على شكل سعدان، ولا أعني ثمنه وهو حي، إنما وهو ميت. لو كان ميتاً لاستطعت أن أستخرج منه مكونات هامة للتعاويذ التي تساوي وزنها ذهباً في حريم الشاه. اعلم أن كبد السعدان من هذا النوع تحديداً يسترجع لحاملته حبّ من تريد، وجلد أنفه، إذا لبسته حول عنقك، يحميك بالتأكيد من السموم، ورماده بعد حرقه على نار بطيئة يضفي على من يبتلعه كل خصائص السعدان، أي الدهاء والمهارة والقدرة على التشبُّه.» ثم اقترح أن نقتل السعدان.
أزعجني هذا الاقتراح كثيراً، فقد تربيت مع هذا السعدان، وتقاسمت معه أفراح الحياة وأتراحها، ولم أكن أتحمل أن أفقده بهذه الطريقة الفظيعة. كنت سأرد على الدرويش بيدين بالرفض الصريح، ولكني لاحظت كيف أن تعابير وجهه تغيرت من البشاشة إلى الغيظ، فخشيت أنه سيأخذ عنوةً ما لا طاقة لي بحمايته، فاضطررت رغم أنفي أن أوافق على تنفيذ خطته. فابتعدنا عن الطريق واختبأنا في وادٍ صغير وجمعنا حطباً وأشعلناه بالصوان الذي كان الدرويش يحمله معه. أمسك الدرويش سعداني المسكين بيديه وذبحه فوراً، ثم شرّحه، وبعد أن أخذ كبده وسلخ الجلد عن أنفه حرقه، وبعد أن احترق، جمّع رماده بكل عناية ولفه في منديله، ثم تابعنا طريقنا.
وصلنا بعد فترة إلى إصفهان، وفيها بدّلت ملابس المهرج بملابس درويش، ثم توجهنا إلى طهران. وفي طهران أحدث ظهور معلّمي ضجة كبيرة؛ فحالما انتشر خبر وصوله حتى تزاحم الناس ليطلبوا مشورته. كانت الأمهات يطلبن حمايةً لأطفالهن ضد إصابتهم بالعين، والزوجات تعاويذ ضد غيرة أزواجهن؛ والمقاتلون حجباً تحميهم من رصاص الأعداء وسيوفهم، ولكن أهم زبائنه كانت النساء من حريم الشاه، وأهم طلباتهن كانت وسيلة سحرية لاستجلاب عناية الشاه. جمّع الدرويش بيدين مجموعة متنوعة من المواد المناسبة لهذا الغرض، من شعر الوشق وفقرات البوم ودهن الدببة، يحضِّر منها خلطات متنوعة. باع لإحدى السيدات، التي كانت لحوحة أكثر من غيرها بسبب تقدمها في السن، كبد سعداني، وأكد لها أنها حالما تظهر أمام جلالته وهي تلبسه على جسمها، سيميزها عن كل منافساتها فوراً؛ وأعطى لامرأة أخرى التي شكت أن الشاه لم يلاحظها يوماً رغم كل محاولاتها للفت انتباهه أعطاها مغليّاً من رماد السعدان؛ ولثالثة، كانت تطلب دواءً ضد التجاعيد، أعطاها مرهماً يجعل وجهها أملس بشرط دهنه بالطريقة الموصوفة والامتناع عن الضحك وتحريك الوجه.
بدأ الدرويش بيدين يلقنني مبادئ هذه الأسرار وكان دوري في أحيان كثيرة يتعلق بإعانته على الاحتيال؛ كلما احتاج معلمي إلى صنع شيء خارق لدعم سمعته في حال فشلت تعاويذه. ولكن كل الأرباح، سواء من هذه الخدمات أم من بقايا سعداني، كانت تذهب إلى جيبه فقط، ولا أحصل منها على شيء.
رافقت الدرويش بيدين في رحلاته إلى بلاد كثيرة مارسنا فيها فنوننا، وفي بعضها كانوا يبجلوننا تبجيل الأولياء الأتقياء وفي بعضها الآخر يرجموننا بالحجارة. وبما أننا كنا نتنقل راجلين، كانت تلك فرصة لي كي أتعرف بالتفصيل على كل مكان. رحلنا من طهران إلى إسطنبول، ومنها إلى القاهرة، مروراً بحلب ودمشق؛ وبعد القاهرة ذهبنا إلى مكة والمدينة، ثم ركبنا سفينة في جدة ونزلنا في سورات في غوجارات، ومنها مشينا إلى لاهور وكشمير.
وفي كشمير حاول الدرويش بيدين كعادته الاحتيال على سكانها، ولكن تبين أنهم مثقفون أكثر من اللازم فاضطررنا إلى الهروب خلسةً منها. وأخيراً وصلنا إلى هرات، فعوّضنا الله على فشلنا في كشمير بسذاجة الأفغان الذين كانوا يصدقون كل ما نقوله لهم. كان الدرويش بيدين يخطط ليظهر بصفة نبي، وعندما أشرفنا على الانتهاء من التحضير لصناعة المعجزات حدث أن الدرويش بيدين الذي كان يعد الآلاف بدوام الحياة والشباب مات فجأة. منذ وصولنا اعتزل الدوريش في كوخ صغير على رأس جبل قرب هرات، وقلنا للناس أنه لا يأكل إلا مما يأتيه به الجن والغول، ولكنه في الواقع مات من التخمة بعد أن أكل أكثر مما يستوعبه كرشه من اللحم والدهن. لهذا أخبرت الناس أن الجن غاروا من جنس البشر على صحبة مثل هذا الرجل فأتخموه بأطعمة السماء حتى لم يبق في جسمه مكان للروح، فغادرته، وحملتها إلى السماء الخامسة ريح شمالية شرقية قوية أرسلها الله. هذه الريح تهب دوماً مئة وعشرين يوماً في أيام الصيف، ولولاها لما تحمل السكان الحر الفظيع؛ ولكنني استطعت إقناعهم أنها معجزة صنعها الدرويش بيدين لهم ولأحفادهم حتى الأزل كي يعتبروا. ومع أن بعض الشيوخ شككوا في هذه القصة قائلين أنهم يتذكرون هذه الريح منذ ولدوا، لم يكن لشهادتهم أي وزن أمام النفوذ الذي اكتسبناه عند الشعب. كان تشييع الدرويش في موكب مهيب، وحمل نعشه إشاق ميرزا8 أمير هرات، وبنى أكثر الأفغان ورعاً مزاراً فوق قبره صار منذ حينها مكاناً يقصده الناس من كل أنحاء البلاد.
بقيت في هرات بعد موت صاحبي لأستفيد من ميزات صحبتي وتتلمذي على يد هذا الرجل، ولم أندم على ذلك، فقد بعت تعاويذي بأسعار باهظة ثم جمعت مبلغاً من المال ببيع أشعار لحية صديقي المرحوم وقصاصات أظافره التي زعمت أنني جمعتها خلال اعتصامه على رأس الجبل، مع أنها كانت في مجملها مني أنا. وبعد أن بعت منها ما يصنع عدداً من لحى محترمة ومئات الأظافر الطويلة رأيت أن أترك المكان قبل أن يكتشف أحد الغش رغم سذاجة الأفغان العجيبة.
تنقلت بعدها في أنحاء بلاد فارس، وأخيراً نزلت بين هزارة، وهي قبيلة كبيرة تسكن الخيام وتعيش في البوادي بين كابل وقندهار. لقيت بينهم نجاحاً فاق كل توقعاتي، إذ فعلت ما لم يفعله الدرويش بيدين في هيرات فأصبحت نبياً.»
وضع الدرويش صفر يده على كتف الدرويش بجواره وتابع: «كان صديقي شريكي في هذه المغامرة، وهو يتذكر براعتنا في إقناع الهزارة بأن لدينا قدراً مليئاً بالرز المطبوخ لا يفرغ أبداً، وقد اضطر أكثرهم تشكيكاً في تصديق هذه المعجزة بعد أن أكلوا منه بنفسهم. باختصار، أنا حضرة إحسان الذي سمعتم الكثير عنه في خراسان مؤخراً. صحيح أن جيوش الشاه هزمت أتباعي، ولكن خلال زمان عملي نبياً جمعت من تعصُّب أتباعي وسذاجتهم ما يكفيني لأعيش باقي عمري في رخاء. بقينا في مشهد مدة من الزمن دون أن نلفت الأنظار، ولكن منذ أسبوع صنعنا معجزة، إذ وهبنا البصر لفتاة عمياء، فأصبح لنا عند الشعب مهابة واحترام.»
ختم الدرويش صفر قصته وطلب إلى جاره الذي شاركه في هزارة أن يحكي عن نفسه، فبدأ قصته قائلاً:
«كان والدي من أشهر علماء قم وفقهائها، وعرف بدقته في صلواته وصومه أكثر من أي رجل آخر فيها. كان زبدة الشيعة ومثالاً للمسلمين. أنجب من الأبناء الكثير وربانا تربية صارمة فيما يتعلق بشعائر ديننا، ولكن فقرنا دفعنا إلى تحصيل المال بالمكر والتظاهر والخديعة حتى استقرت هذه الصفات في طبعنا، وعندما انكشف أمرنا لصقت بنا سمعة أكبر منافقين وحرامية في بلدنا، وسمعتي صارت أسوأ من الآخرين فاضطررت أن أصبح درويشاً؛ أما سمعة الدرويش فقد اكتسبتها نتيجة حادثة حصلت معي وكانت من حسن حظي.
ما أن وصلت إلى طهران وأقمت في غرفة مقابل دكان عطار حتى جاءت إلي امرأة عجوز مسرعةً وقالت لي أن سيدها – أي العطار – مرض بعد أن أكل أكثر من المعتاد، وأن الدواء الذي تناوله لم ينفعه وأن ذويه يريدون أن يجربوا حجاباً عسى أن يشفيه، فطلبت مني أن أكتب لها حجاباً مناسباً. لم يكن عندي ورق ولا حبر ولا قلم، فطلبتُ أن أذهب إلى أندرونه، أي بيت الحريم، وأكتب الحجاب هناك، فوافقتْ. دخلت إلى باحة مربعة صغيرة ثم إلى غرفة وجدت فيها المريض طريح الفراش يحيط به من النساء ما تتسع له الغرفة، تصحن معاً: «واه، واه، إنه يموت، يموت!» كانت تتناثر حوله أدوات طبية تشير إلى أن الأقربين قد فعلوا كل شيء كي ينقذوه أو يميتوه: فكان هناك على الرف كوب كبير فيه الدواء الموصوف وفي الزاوية أنبوب من زجاج، وكان الطبيب جالساً يدخن، فبعد أن وجد أن الوسائل البشرية لم تنفع نصح باللجوء إلى الوسائل الغيبية فأوصى بكتابة حجاب كملاذ أخير، وصدف أن هذا الواجب كان من نصيبي. أثار الدرويش الجديد آمالاً جديدة لأن دخولي ترافق بحركة وضجة. طلبت ورقاً وأنا أظهر الرزانة والثقة بقواي (مع أنني لم أكتب حجاباً في حياتي)، فأعطوني قطعة ورق كبيرة تبدو وكأنها استخدمت لتغليف الدواء. وبكل ثقة غطيت الورقة بكلمات غريبة أدس بينها آيات من القرآن وأسماء الله ومحمد وعلي والحسن والحسين، وأكتب من حين إلى آخر أرقاماً بدل الحروف. ثم ناولتها للطبيب الذي طلب ماءً وغسل الحبر عن الورق في الكوب الذي فيه بقايا دوائه، بينما يدعو الحاضرون لشفاء المريض، ثم قال: «ليشربها المريض باسم الله، وإن قُدِّر له أن يعيش تعيده الأسماء المقدسة التي يشربها إلى الحياة؛ وإن كتب الله له غير ذلك فلن ينفع علمي ولا علم أي آدمي آخر.»
أعطي المريض الشراب وعيون الجميع تراقب وجهه. بقي الرجل لفترة ما لا يتحرك ولا تبدو عليه علامات الحياة؛ ثم أدهش الجميع، بما فيهم أنا والحكيم، إذ أصدر أنيناً ورفع رأسه وطلب الطشت وتقيّأ قيئاً غزيراً وطاب.
نسبت هذا التغير في قلبي إلى الدواء الذي كان ملفوفاً في الورقة، فأعطى المفعول الموصوف؛ ولكن جهراً أعلنت للجميع أن الشفاء كان نتيجة الحجاب الذي كتبته بيدي التقية، ولولا تدخلي لمات المريض.
وحاول الحكيم من جهته أن ينسب النجاح كله لنفسه، فحالما فتح المريض عينيه بدأ الطبيب يصيح: «أترون؟ ألم أقل لكم؟ انظروا ما أحسن وصفتي! لولاها ما كان الرجل نجا!»
لم أتركه يكمل حديثه فقاطعته قائلاً: «ما دمت حكيماً لماذا لم تشفه بل دعوتني إلى هنا؟ اشتغل بفصاداتك ولصاقاتك ولا تتدخل فيما لا يعنيك!»
فردّ علي: «يا درويش، لا أشك في أنك تجيد كتابة الحجب ويمكنك أن تحصل مقابلها على ثمن كبير، ولكن الكل يعرف من هم الدراويش، وإن كانت حجبهم تفيد، فذلك ليس بفضل تقواهم.»
صحت في وجهه غاضباً: «من أنت يا كلب حتى توجه إليّ مثل هذا الكلام؟ أنا عبد الله وخادم رسوله، أما أنتم الأطباء فجهلكم يضرب به المثل، تخفونه بالكلام عن القضاء والقدر: فإن طاب المريض تنسبون الفضل كله لأنفسكم، وإن مات تقولون هذا ما كتب الله له، وما كتبه الخالق لا يرده مخلوق. اذهب، اذهب من هنا، وعندما توصل مريضاً آخر إلى شفا الموت اطلبني مرة أخرى وسأغطي على جهلك السافر وأتدارك أمر المريض كما فعلت اليوم.»
«قسماً برأسي وبموتك! لن أسمح لأحد أن يسمعني مثل هذا الكلام، ولا سيما لدرويش كلب!» ثم هجم عليّ وهو يتفوه بكل الشتائم التي يعرفها.
رددت على شتائمه بشتائم خير منها، فبدأنا المشاجرة، فأمسكني من شعري وأمسكته من لحيته ونتفنا شعر بعضنا، وتضاربنا وتباصقنا وتقاتلنا بشراسة لا نأبه بالمريض ولا بصراخ النساء، وربما كنا سنسبب أذى لبعضنا لولا أن إحدى النساء هرعت إلينا تخبرنا بأن دورية الشرطة تدق على الباب وتسأل ما سبب كل هذه البلبلة.
تركنا بعضنا، فلاحظت أن الموجودين كانوا إلى جانبي، إذ أبدوا ازدراءهم بعلم الحكيم الذي لا يعرف إلا الحصول على الأجر دون أن يخدم مرضاه، واعتبروني رجلاً تقياً له القدرة على برء الأمراض بخط يده.
انسحب الطبيب محاولاً الحفاظ على ماء وجهه قدر المستطاع، وقبل أن يغادر الغرفة انحنى وجمع من الأرض شعر لحيته مضيفاً إليه بعضاً من شعري، وقال: «سنرى من يضحك أخيراً عندما تحضر أمام القاضي غداً؛ ففي طهران غرامة كل شعرة من اللحية تومان، ولن تستطيع شراء هذه الشعرات رغم كل تعويذاتك وحجبك!»
لكنني كنت واثقاً أنه لن ينفذ تهديده خوفاً على سمعته، ولم أخش الاستدعاء إلى القاضي، وقررت الاستفادة من الظرف المؤاتي. ذاع خبر العطار في كل أرجاء طهران وصرت موضع اهتمام الجميع. كنت أكتب الحجب من الصباح إلى المساء وآخذ مقابلها أجوراً تتناسب مع وضع زبائني، وخلال فترة وجيزة تجمع لدي مبلغ جيد من المال. لكني لم أكن أشفي عطاراً غنياً كل مرة، وبقيت أعيش من سمعتي المتضائلة تدريجياً؛ وأخيراً قررت مضطراً إلى الترحال في أرجاء بلاد فارس فتركت طهران. دبّرت أموري ببراعة وكانت سمعتي تسبقني إلى كل مدينة أتجه إليها. أخذت من العطار شهادة ممهورة بختمه أنه أعيد إلى الحياة بحجاب من يدي وكنت أبرزها لتأكيد صدق الأخبار عني، وأعيش حتى الآن على هذه السمعة الطيبة، وهي تدعمني جيداً في الحاضر، وحالما أجد أنها تتضاءل أترك المكان وأذهب إلى مكان آخر.»
وعندما جاء دور الدرويش الثالث، قال:
«روايتي قصيرة، مع أنني أعمل راوياً. أنا ابن معلم مدرسة، وقد لاحظ أبي قوة ذاكرتي فجعلني أقرأ القصص الكثيرة الموجودة بلغتنا وأرويها له؛ وعندما وجد أن مخزون القصص في رأسي صار كافياً أرسلني في زي درويش كي أقص الحكايات على الناس وأكسب رزقي.
كانت محاولاتي الأولى فاشلة، إذ كان الناس يسمعون الحكاية ثم يذهبون دون أن يكافئوني على أتعابي؛ وشيئاً فشيئاً اكتسبت الخبرة اللازمة، فصرت بدل أن أروي القصة من أولها إلى آخرها أتوقف في موضع شيّق منها وأخاطب السامعين أطلب منهم أن يكرموني فأجمع حفنة من العملة النحاسية. مثلاً، في قصة ملك الصين وأميرة سمرقند عندما يمسك الوحش هزرمان الملك يريد أن يأكله، والملك بين فكيه، وسط العاصفة ورعب حرسه، والأميرة ترتجف وتتوسل إلى الوحش أن يرحمه، أتوجه للحضور قائلاً: «والآن أيها الجمهور الكرام، افتحوا أكياسكم وتبرعوا بما تسخى به أنفسكم للراوي كي يحكي لكم كيف استطاع ملك الصين بأعجوبة أن يقطع رأس الوحش!» وبهذه الطريقة أكسب رزقي من فضول عباد الله؛ وعندما أستنفد قصصي في مكان أتوجه إلى مكان آخر وأبدأ عملي من جديد.»
الفصل الثاني عشر. حاجي بابا يكتشف أن الغش عليه عقاب في الدنيا قبل الآخرة، ويفكر في تغيير عمله
بعد أن انتهى الدراويش من رواية قصصهم شكرتهم على هذه السير الشيقة والعبرة والنصائح وقررت أن أتعلم منهم ما استطعت لأصبح درويشاً في حال اضطررت إلى ترك مهنتي الحالية. علمني الدرويش صفر عدداً من الحيل التي يستخدمها ليظهر للعالم رجلاً عظيم التقوى، وتعلمت من الآخر فن كتابة الحجب وعلمني الراوي عدداً من قصصه وأعارني كتبه وأعطاني القواعد العامة لاستثارة فضول الجمهور حتى يخرجوا نقودهم من جيوبهم وهم لا يشعرون.
في الوقت نفسه بقيت أبيع الدخان والغلايين؛ ولكن نتيجة معاشرتي للدراويش الذين كانوا يستهلكون كل أرباحي كنت أضطر إلى خلط تبغ زبائني الآخرين أكثر من المعتاد، لذا كانوا يستنشقون دخان الروث والقش والأوراق المتفسخة.
وفي مساء يوم من الأيام بعد العشاء عندما كان تجار الأسواق يغلقون محلاتهم أستوقفتني امرأة عجوز تلبس ملابس بالية ظهرها متقوِّس وطلبت مني أن أجهز لها غليوناً. كان حجابها يغطي وجهها تماماً وصوتها لا يكاد يُسمع. جهّزت لها واحدة من أسوأ خلطاتي، وعندما وضعَتْها في فمها بدأت تبصق وتسعل وتصيح، وفجأة ظهر ستة شباب أقوياء يحملون العصي وأمسكوني ورموني على ظهري. نزعت العجوز حجابها فرأيت أنه المحتسب بعينه.
صاح المحتسب: «أمسكت بك أخيراً أيها الإصفهاني الملعون! أنت الذي تسمم شعب مشهد بخلطاتك المقرفة! ستأكل من الضربات على عدد الفلوس التي أخذتها مقابل دخانك!» ثم قال لمأموريه: «عليكم بالفلقة، اضربوه حتى تنزل أظافره!»
ربطوا قدميّ فوراً بالعروة الفظيعة ونزلوا فيهما ضرباً حتى رأيت صور ألف محتسب تختلط مع صور عشرة آلاف عجوز شمطاء تتراقص أمام عيني وتضحك وهي تنظر كيف أتألم وأتلوى. حاولت استرحام المحتسب بروح أبيه وأمه وجده وبحياته وحياة أولاده وبحياة الشاه زاده والنبي وعلي وكل الأئمة، ولعنت الدخان والتدخين والمدخنين، وحاولت استعطاف المتفرجين وأصدقائي الدراويش الذين كانوا يقفون بينهم دون أن يحركوا ساكناً، وبقيت أصرخ وأتوسل وأتلوى حتى فقدت الحس وغبت عن الدنيا.
عندما استرجعت وعيي وجدت نفسي جالساً مسنوداً إلى الجدار على طرف الطريق يحيط بي حشد من الناس، ينظرون بفضول إلى وضعي التعيس دون أن تبدو على أحد علامات الشفقة. سلبوني من الغلايين والإبريق وكل ما كان لي، فلم يبقَ أمامي إلا أن أحبو إلى بيتي؛ الحمد لله، لم يكن بعيداً ووصلت إليه على يديّ وركبتيّ، وأنا أصدر أنّات فيها من اليأس والألم ما يفوق كل تصوّر.
بعد أن قضيت يوماً في عذاب لا يوصف، وقد تورمت قدماي حتى صارتا كتلة من اللحم والدم، زارني أحد الدراويش الذي غامر بزيارتي، كما قال لي، ولم يأت قبل هذا الوقت لأنه خشي أن يمسكوا به بتهمة أنه شريكي في الجريمة. مر هذا الدرويش في حياته بضرب مماثل، لذا كان يعرف طريقة تطبيب آثاره، وبفضله استعادت قدماي خلال فترة وجيزة شكلهما السابق.
وجدت ما يكفي من الوقت خلال نقاهتي للتفكير في وضعي، فقررت أن أترك مشهد لأنني أيقنت أنني دخلتها في ساعة نحس؛ مرةً رضضت ظهري ثم تعرضت للفلقة. نجحت في جمع مبلغ صغير من المال طمرته بعناية في قرنةٍ قرب غرفتي، ونويت أن أستخدمه لأصل إلى طهران مع أول قافلة متوجهة إليها. أخبرت الدراويش عن خطتي فاستحسنوها، وعرض الدرويش صفر أن يرافقني إلى طهران قائلاً: «بلغني أن ملالي مشهد يحسدونني على نفوذي المتزايد ويتآمرون عليّ، وبما أنني لا أقدر عليهم، يجب أن أبحث عن رزقي في مكان آخر.»
اتفقنا أن عليّ أن أرتدي زي الدراويش، وبعد أن اشتريت القبعة والمسبحة وجلد عنزة في السوق أصبحت جاهزاً للرحيل في أي لحظة.
ضاق صدرنا في مشهد حتى كدنا نقرر الرحيل بلا مرافقين أملاً بحظنا، ثم ارتأينا قراءة البخت مستعينين بسعدي قبل أن نتخذ قرارنا. وبعد أن صلى الدرويش صفر كما ينبغي فتح الكتاب وقرأ فيه: «مما يخالف رأي الصواب وينقض عهود أولي الألباب استعمال الدواء بالظنون والذهاب في طريق مجهول بلا دليل ورفقة قافلة.»9 وهذا الإنذار الرائع شرح صدورنا فقررنا العمل به.
عندما كنت أستعلم عن رحيل القوافل إلى طهران صادفت صديقي علي قاطر البغال الذي وصل تواً إلى مشهد وكان يساوم تاجراً على نقل بضاعته، وهي جلود الخراف من بخارى، إلى العاصمة. حالما رآني حياني بكل بشاشة وأشعل نركيلته ودعاني لأشاركها معه. حكيت له كل ما حدث لي منذ فراقنا، وحكى لي ما حدث له. بعد أن ترك مشهد مع قافلة تتجه إلى إصفهان، وبغاله محمَّلة بسبائك الفضة وجلود الخراف، ورغم المخاوف من التركمان، وصلوا إلى وجهتهم بسلامة. كانت المدينة لا تزال تناقش هجمة التركمان على الخان التي وصفتها سابقاً، وكانت الرواية السائدة أن الغزاة هجموا بقوّة ضخمة لا تقل عن ألف رجل، وواجههم السكان بكل بسالة وشجاعة، وأحدهم، الحلاق حسن كربلائي، ألحق بيده جرحاً بليغاً بأحد قادتهم ولم يفلت التركماني من يده إلا بأعجوبة.
لم أفصح عن هذا الجزء من سيرتي لأحد، ولكي أخفي عن البغال ارتباكي نفثت في وجهه سحابة من الدخان.
ومن إصفهان أخذ علي قاطر منسوجات قطنية وتبغاً وأواني نحاسية إلى يزد، وأقام فيها فترةً ينتظر بينما تتجمع قافلة إلى مشهد، وحمّل بغاله ببضائع من صنع يزد. وافق علي قاطر أن نرافقه أنا والدرويش صفر إلى طهران، ووعدنا بأنه سيسمح لنا بالركوب على بغاله كلما تعبنا من المشي.
الفصل الثالث عشر. حاجي بابا يغادر مشهد ويشفى من رض ظهره ويروي قصة
عندما قطعت بوابة مشهد وأصبحت خارجها هززت قبة معطفي قائلاً في قلبي: «أصابك الله بكل ألوان المصائب!» كيلا يسمعني أحد من الحجاج العائدين إلى ديارهم بعد زيارة مشهد، وفعل الدرويش صفر مثلي بعد أن التفت يميناً ويساراً، ثم شفينا غليلنا بشتم هذا المكان: أنا بسبب الضربات التي أشبعوني بها وهو بسبب مضايقة الملالي له. قال لي الدرويش صفر:
«أنت – يا صديقي – شاب، والخبرة والحكمة لا تكتسبان إلا بالألم والمعاناة. لا تتذمر من أول فلقة لأنها ستحميك من الوقوع في مثل هذه المآزق مرة أخرى، وأنت الآن ستعرف المحتسب ولو تنكر بجلد شيطان. أما أنا، في عمري، مضطر لسوء حظي إلى الهجرة – لماذا؟ بسبب معجزة تافهة صنعت من أمثالها المئات!»
فقلت له: «كان بإمكانك أن تبقى في مشهد لو شئت: لو كنت تصلي الفرض والنفل لاستطعت أن تتحدى الملالي.»
فأجابني: «هذا صحيح، ولكن الآن يقترب رمضان، ولو بقيت لراقبوني عن كثب طوال الوقت؛ وبما أنني لن أصوم (فالدخان ضرورة لي كالهواء والخمر كالخبز)، رأيت أن أرحل لينطبق علي حكم المسافر. ربما كنت أستطيع خداعهم كما فعلت مراراً، وأن أدخن وأشرب سراً؛ ولكن شخصاً مثلي يرتزق من إظهاره للتقوى سيخضع لمراقبة دقيقة، ولا يجوز أن يجازف.»
وصلنا إلى سمنان دون أن يطرأ شيء جدير بالذكر، إلا أن قبل وصولنا إليها بيومين كنت أساعد علي قاطر على تحميل أحد بغاله فرضضت ظهري في المكان نفسه. كان الألم لا يطاق فحال دون استمراري في السفر مع القافلة، فقررت أن أمكث حتى أبرأ منه، لا سيما أننا تجاوزنا المناطق التي يجتاحها التركمان فلم أعد معتمداً على مرافقة القافلة. تابع الدرويش صفر مسيره وهو يتوق إلى تذوق خمور العاصمة ومباهجها.
أويت إلى مقبرة في طرف البلدة وفرشت جلد العنزة في زاوية أحد قبورها الفخمة وأعلنت عن وصولي حسب عادة الدراويش المسافرين بالنفخ في بوقي وصيحات «هو الحق! الله أكبر!» بصوت جهوري مسموع. اتخذت مظهراً موحشاً غريباً واستعددت لتطبيق ما تعلمته من فنون الاحتيال.
زارني عدد من النساء طلباً للحُجُب، ومقابلها كنّ يجلبن لي الفاكهة واللبن والدبس وما إليه. اشتدّ عليّ ألمي فسألت إن كان في سمنان أحد يعرف المداواة. لم يكن في البلدة ممن يعرفون فن الطب إلا الحلاق والبيطار، الأول يختص في الفصادة وقلع الأضراس ورد الكسور، والثاني كثيراً ما يستشار في أمراض البشر نظراً لمعرفته بأمراض الخيل. كان عداهما عجوز شمطاء تشبه جنّيّة يعتبرونها المرجع في كل الحالات التي عجز عنها الحلاق والبيطار، تعرف الكثير من الوصفات لكل الآلام والأمراض. زارني هؤلاء بالتتالي واتفقوا أن مرضي يعود للبرد، وعكس البرد النار، لذا ينبغي تطبيق الكي حالاً على المنطقة المصابة، وكلّفوا البيطار بتنفيذه لأنه كان يتعامل مع الحديد البارد والحامي، فأحضر منقل فحم ومنفاخاً وأشياشاً، وأضرم النار ثم سخن الأشياش، وعندما احمرّت وضعوني منبطحاً على بطني ثم كووا على ظهري ثلاث عشرة علامة باسم علي والأئمة الاثني عشر عليهم السلام، ومع كل لمسة حديد كانوا يصيحون «الله الشافي». تحملت نصف العملية بصبر وجلد ثم بدأت أصرخ من الألم، لكنهم لم يتركوني حتى أكملوا كل شيء. أخذ شفاء الحروق وقتاً طويلاً، وما كانت شفيت لولا أنني بقيت في مأواي في راحة تامة؛ وفي نهاية هذه الفترة ذهب الألم تماماً وعادت القوة إلى بدني. وبطبيعة الحال، عزا الجميع شفائي لتدخل علي والأئمة الذين أشرفوا على العملية واقتنعت البلدة كلها بنجاعة الكي؛ أما أنا فاعتقدت أن الراحة الطويلة كانت خير طبيب، إلا أنني احتفظت برأيي لنفسي، فلم أكن أمانع من أن يعتقد الجميع أنني بحماية كل هؤلاء الأولياء الأفاضل.
قررت حينها أن أتابع سفري إلى طهران، ولكن قبل ذلك أردت أن أجرّب نفسي بدور درويش وأختبر موهبتي في رواية القصص أمام أهل سمنان؛ فذهبت إلى ساحة صغيرة عند مدخل السوق التي تجد فيها الناس يتسكعون عند الظهيرة، وأطلقت الصيحات المعتادة في هذه المناسبات فتجمع حولي حشد جلسوا على الأرض حول البقعة التي اتخذتها مسرحاً لي. تذكرت قصة قصيرة حول حلاّق بغداد سمعتها عندما كنت أعمل في الحلاقة؛ وفي وسط حلقة من العاطلين والأعين المحدقة بي والأفواه المفتوحة بدأت قصتي الأولى قائلاً:
«في عهد الخليفة هارون الرشيد كان في بغداد حلاق مشهور اسمه علي الصقال، اكتسب شهرته من دقة يده وبراعته في حرفته، إذ كان يستطيع أن يحلق الرأس ويشذب اللحية وهو معصوب العينين دون أن يسبب أدنى جرح أو خدش. ولم يكن في بغداد كلها رجلٌ يهتم بمظهره إلا وحلق عنده. ومع الزمن تكبر الحلاق وتغطرس فصار يأبى أن يحلق إلا من لقبه بيك أو آغا. وكان الحطب في بغداد نادراً وغالياً؛ وبما أنه كان يستهلك الكثير منه كان الحطابون يجلبون أحمالهم إلى محله قبل غيره لأنهم كانوا متأكدين أنه سيشتري منهم في أغلب الأحوال. وحصل يوماً أن أتى حطاب جديد لا يعرف أخلاق علي الصقال إلى محله وعرض عليه حملاً من الحطب أحضره من بعيد على ظهر حماره، فأعطاه علي الصقال سعراً قائلاً: «هذا مقابل كل الخشب على ظهر حمارك.» فوافق الحطاب وأنزل الحطب وطالبه بالثمن، إلا أن الحلاق قال: «لم تعطني كل الخشب بعد، يجب أن تعطيني السرج أيضاً، فهذا كان اتفاقنا.» فصاح الحطاب في دهشة عظيمة: «كيف ذلك؟ أيعقل هذا؟» وبعد جدال طويل استولى الحلاق على السرج والحطب فانصرف الفلاح المسكين مغموماً حزيناً، وذهب إلى القاضي، ولكن القاضي كان من زبائن علي الصقال فرفض أن يسمع شكوى الحطاب؛ فذهب إلى قاضٍ أعلى، إلا أن ذلك القاضي كان من أصدقاء علي الصقال فلم يكترث هو الآخر بالأمر؛ فقصد الحطاب المفتي، لكن المفتي، بعد أن فكر في الأمر ملياً، قال أنه لا يستطيع أن يفتي في القضية، إذ لم يرد شيء عنها في القرآن والسنّة، ونصح الحطاب أن يسلّم بخسارته. ولكن الحطاب لم ييأس، فطلب من كاتب أن يكتب له تظلماً لأمير المؤمنين وقدّمه بيده للخليفة قبل صلاة الجمعة.
كان أمير المؤمنين معروفاً بعدله وبأنه يقرأ التظلمات جميعها بنفسه، وبعد حين طلب الحطابَ إلى حضرته. وحين دخل الحطاب على أمير المؤمنين ركع وقبّل الأرض ثم جلس وقد غطى يديه وضمّ قدميه ينتظر الحكم. قال هارون الرشيد له: «يا صديقي، الكلام لصالح الحلاق والعدل لصالحك؛ القانون يصاغ بالكلام والاتفاق يكون بالكلام. القانون يجب أن يأخذ مجراه، وإلا فقد قيمته؛ والاتفاقات يجب الالتزام بها، وإلا فلن يعود هناك ثقة بين الرجال. إذن، وجب أن يحتفظ الحلاق بالخشب، ولكن...» وهنا اومأ أمير المؤمنين للحطاب أن يدنو منه وهمس في أذنه شيئاً لم يسمعه أحد غيره ثم صرفه وهو راضٍ.
في هذا المكان قطعت قصتي ومددت كأساً صغيراً من الصفيح كنت أحمله في يدي قائلاً: «أيها الحضور الكرام، لو تكرمتم عليّ بشيء أخبرتكم بما همس الخليفة في أذن الحطاب.» أثرت بذلك فضولاً عظيماً عند المستمعين فما بقي أحد إلا وأعطاني فلساً أو قرشاً. فتابعت القصة:
إذن، فقد همس الخليفة للحطاب كلاماً جعله يخرج وهو مسرور، وهذا ما سوف أقصه عليكم. بعد أن أبدى الحطاب للخليفة مظاهر الطاعة، عاد إلى حماره الذي كان مربوطاً على مقربة من القصر وعاد إلى بلده. وبعد أيام قدم إلى الحلاق وكأنّ شيئاً لم يحدث بينهما فقال أنه يودّ، وهو ورفيق له من بلده، الاستمتاع بمهارة يده، فاتفقا على الأجرة مقابل حلاقة كليهما. وبعد أن حلق الحلاق رأس الحطاب سأله أين رفيقه فأجابه الحلاق: «إنه ينتظر خارج المحل. سأحضره في الحال.» فخرج وعاد مع حماره قائلاً: «هذا هو رفيقي، وعليك أن تحلقه.» فصاح الحلاق: «أحلقه! ألا يكفي أنني نجّست يدي برأس واحد مثلك، فتطالبني أن أحلق حمارك! أخرج حالاً وإلا أرسلتكما معاً إلى جهنم!» ثم دفعهما من محله.
توجه الحطاب فوراً إلى الخليفة فأذن له بالدخول فوقف بين يديه وأخبره بما حدث له، فقال أمير المؤمنين لبعض حرسه: «حسناً، أحضروا علي الصقال مع أمواسه أمامي حالاً!» وبعد لحظات مثل الحلاق أمامه، فسأله الخليفة: «لماذا ترفض حلاقة رفيق هذا الرجل؟ ألم تتفقا على حلاقته؟» فأجابه علي وهو يقبّل الأرض: «صحيح يا أمير المؤمنين، هذا كان اتفاقنا؛ ولكن، هل يخطر على بال أحد أن رجلاً يرافق حماراً؟ وهل يخطر على البال أن يعامل الحمار معاملة سائر المؤمنين؟» فقال الخليفة: «كلامك صحيح؛ ولكن هل يخطر على البال أن تطالب بالسرج مع الحطب؟ يوم لك ويوم عليك. عليك بالحمار حالاً، وإلا فلا تلومن إلا نفسك!»
فاضطر الحلاق أن يحضِّر الصابون ويدهن الدابة به من رأسها إلى حوافرها ثم يحلقها أمام القصر بحضرة أمير المؤمنين والبلاط، والمارة يضحكون ويسخرون منه. وبعد أن فرغ الحلاق من الحمار، صرف الخليفة الحطاب المسكين بعد أن أعطاه ألف دينار، وبقي أهل بغداد يتناقلون القصة ويمدحون عدل أمير المؤمنين.
الفصل الرابع عشر. عن الرجل الذي صادفه وعواقب ذاك اللقاء
تركت سمنان مرتاحاً، فقد ذهب عني ألم ظهري، وكنت في ريعان شبابي وكامل صحتي، ومعي عشرون توماناً وفّرتها في مشهد، وصار لدي تجربة مع العالم والناس؛ فقررت، حالما أصل إلى طهران، أن أترك حياة الدراويش وأشتري ثياباً جيدة وأجرب حظي في مهنة أفضل وأكرم.
عندما كنت أمشي في الطريق على مبعدة يوم مسير من طهران، وأنا أغني بكل صوتي قصة الحب بين ليلى ومجنون لحق بي مراسل يركب حصاناً، فسلم علي وبدأ حديثاً معي ثم دعاني لمشاركة طعامه. كان النهار حاراً، فقبلت دعوته بامتنان. جلسنا على ضفة ساقية تجري في حقل قمح، فنزع المراسل اللجام عن حصانه وأطلقه يرعى في القمح، ثم أخرج من أعماق جيب سرواله منديلاً كان فيه بضعة كتل من الرز المطبوخ وثلاثة أو أربعة أرغفة خبز فمدّه أمامنا، ثم أضاف من كيس معلق على السرج شيئاً من اللبن الخاثر. ثم أخرج من جيب آخر في سرواله، الذي كان يحوي بين ما يحوي نعليه وزاداً من التبغ وكأساً للشرب وفرشاة وأغراضاً أخرى كثيرة، بضعة بصلات أضافها إلى الوليمة، فأكلنا بنهم وفرغنا من الوجبة في لحظات ولعقنا أصابعنا ثم غسلناها في الساقية. لم يسمح لنا الجوع قبل ذلك بالتحدث، أما الآن فقد أشعل كلٌّ منّا غليونه وبدأنا نتبادل الحديث عن السفر. رأى صاحبي من الزي الذي أرتديه أنني درويش واكتفى بهذا، من حسن حظي، لأنني كنت أكره أن أتحدث عن نفسي؛ أما هو فأخبرني أنه مراسل عند حاكم أسترآباد، وكان يحمل خبراً مبشراً عن إطلاق سراح صاحبي القديم عسكر خان شاعر الشاه من الأسر عند التركمان. فاجأني الخبر وأفرحني كثيراً، إلا أنني كتمت مشاعري كيلا يعرف المراسل مدى اهتمامي بمهمته لأن تجربتي في الحياة علمتني أن أكتم أسراري، لذا تظاهرت بأنني لم أسمع هذا الاسم من قبل.
أخبرني صاحبي أن الشاعر استطاع أن يصل إلى أسترآباد بسلامة لكنه كان معدوماً تماماً فأرسل يخبر عائلته بحاله. أراني المراسل رسالتين أخرجهما من جيب صدره، ملفوفتين في منديل، وبما أنه كان فضولياً، ولا يعرف القراءة، وضع أمله بي لأخبره بمحتواهما. كانت أولى الرسالتين موجهة إلى ملك الملوك وصف فيها ببلاغة راقية كل المصائب والآلام التي عاناها منذ وقع في يد التركمان، وأن الجوع والعطش والمعاملة الهمجية كانت كلها لا شيء أمام الحرمان من شرف المثول بين يدي درّة الملوك وياقوتة الجلالة وجوهر الكمال في الدنيا ملك الملوك العظيم! وكما تنعم أدنى المخلوقات الزاحفة بدفء الشمس ونورها، يأمل أدنى رعايا الملك العظيم أن ينعم بنور وجهه الجليل، ويدعو ألا يحرمه طول غيابه من ظل عرش الشاه العظيم، فيعود إلى منصبه الصغير قرب حضرة صاحب الجلالة ليتغنى مع البلابل بجمال الورود وكمالها.
وكانت الرسالة الثانية إلى الوزير يصف الشاعر فيها هذا الشخص سيء السمعة هزيل البدن شنيع المسلك بأنه الكوكب بين النجوم وعماد الدولة وملاذ المستضعفين ويتوسل رضاه، وكان هناك رسالة مشابهة إلى عدوه السابق الخزندار. ثم قرأت الرسائل إلى أسرته، واحدة منها إلى زوجته والأخرى إلى مدرِّس ابنه والثالثة إلى وكيله. في الرسالة إلى زوجته تحدث عن ترتيب بيت الحريم، ثم عبّر عن أمله بأنها لم تسرف في ملبسها وحافظت على الجواري، وطلب منها أن تجهز نفسها والجواري لخياطة ألبسة له إذ لم يبق لديه ولا لباس لائق.
وفي رسالته إلى المعلم أمره بالسهر على أخلاق ابنه، أملاً بأنه قد تعلم كل أشكال الإطراء والمديح، وأنه لا يترك صلواته وقد أجاد ركوب الخيل وتمارين الرمح والرمي من البندقية من على ظهر الجواد وهو يعدو.
أما الرسالة إلى وكيله فكان يعطي فيها تعليمات عامة حول تدبير الأمور: أن عليه الاقتصاد والتوفير في كل شيء؛ وأن عليه أن يمثل يومياً أمام الوزير الأول ويقف أمامه ويمتدحه حتى السماء ويتغنى بملكاته العظيمة وشمائله السامية؛ وأن يراقب جيداً النساء والجواري؛ وأن لا تخرج زوجته إلى الحمامات كثيراً، وكلما خرجت هي أو الجواري فعليه بمرافقتهن. وأعرب عن أمله بأن لا يُسمح لأي نساء مشبوهات، لا سيما اليهوديات، بالدخول إلى بيت حريمه؛ وبأنه يجب صيانة الجدران المحيطة ببيت الحريم كما ينبغي لتستره عن أنظار الجيران وتمنع الثرثرة بين النساء من على السقف. كما أمر بأن يُمنع عبده جوهر من الدخول إلى الأندرون، ولو شوهد مع أية جارية فليجلد كلاهما. وأخيراً طلب من الوكيل أن يكافئ الرسول مكافأة يستحقها على حمله مثل هذه الأخبار الطيبة إلى أسرته.
طويت الرسائل مرة أخرى وختمت تلك التي كانت مختومة وأعدتها إلى المراسل، ورأيته يتفكر في المكافأة التي سيحصل عليها على إيصال أول خبر عن سلامة الشاعر وقال لي أنه لم يتوقف لا في الليل ولا في النهار خوفاً من أن يسبقه أحد بالخبر، وأن الحصان الذي يركبه كان لفلاح، وقد أخذه منه عنوة في الطريق وترك له حصانه المنهك ليحضره وراءه إلى طهران ليعيد له حصانه.
وبعد أن تحادثنا قليلاً، بدا عليه الإرهاق فوقع في نوم عميق. نظرت إليه وقد تمدد على العشب ففكرت بأنني أستطيع أن أسبقه بسهولة، إذ كنت أعرف سيرة الشاعر كاملة، بل أنني شاركته بعض المصاعب التي وقع فيها. وفكرت بأنني أحقّ بأن أروي القصة من أي شخص آخر. وبما يخص الحصان، فلم يكن حق المراسل به أكثر من حقي، حيث أنه قد استولى عليه، وسيلحق الفلاح به قريباً بحصانه. ولذا لم أتردد أكثر، ففتحت المنديل الذي كان في حضن المراسل وأخذت منه الرسالة إلى الوكيل ثم امتطيت الحصان وغرزت الركابى في جنبه وانطلقت أعدو. وفي وقت قصير كنت قد ابتعدت عن النائم وتقدمت في طريقي نحو العاصمة.
وخلال مسيري بقيت أفكر عن أفضل سبيل للتصرف، وكيف يجب أن أقدم نفسي إلى أسرة الشاعر لتكون قصتي معقولة ومتسقة لأضمن لنفسي المكافأة المخصصة لرسول الخير. وكان تخميني أنني سبقته بيوم واحد على الأقل؛ فعندما يستيقظ سيضطر على الأغلب إلى المشي على قدميه مسافة ما قبل أن يحصل على حصان جديد، إلا إذا لحقه حصانه مع الفلاح، وهذا مستبعد. وإذا كان يمشي على قدميه فلا يحتمل أن يصدق أحد قصته، ولن يستطيع أن يستعير دابةً ليركبها. ولهذا قررت أن علي، فور وصولي إلى طهران، أن أبيع الحصان وطقمه مقابل أي ثمن يُعرض علي، ثم أتخلى عن ثوبي ثوب درويش وأرتدي ثياباً عادية، ثم آتي إلى باب بيت الشاعر وأقدم نفسي بأنني جئت تواً من السفر وأحكي خير قصة أبتدعها، ولن يكون هذا صعباً نظراً لمعرفتي الجيدة لأحداث حياته.
الفصل الخامس عشر. حاجي بابا يصل إلى طهران ويذهب إلى بيت الشاعر
دخلت إلى طهران في الصباح الباكر من باب الشاه عبد العظيم حالما فتحوه، وعلى الفور عرضت حصاني للبيع في السوق الواقع قرب الباب، والذي تجري فيه تجارة الخيل كل يوم. لقد جربته فوجدت أنه دابة جيدة نظراً للسرعة التي سار بها منذ غادرت مستعجلاً الرسول؛ إلا أن تاجر الخيل الذي عرضته عليه شرح لي فوراً أن الحصان فيه عيوب كثيرة حتى أقنعني أنني محظوظ لو حصلت مقابله على أي مبلغ. فأولاً كان في أسفل أرجل الحصان لون أبيض، وهذا مكروه، وبقع حول أنفه وعينيه، كما أنه عجوز وأسنانه مهترئة، أي باختصار، اجتمعت فيه كل الخلل التي تعيب الخيل. ولذلك فوجئت حين عرض علي بعد ذلك خمسة تومانات بشرط أن أبيعه مع سرجه ولجامه؛ وبدا لي أنه فوجئ حين قبلت ما عرضه علي. ودفع لي نصف المبلغ وعرض علي حماراً يكاد يموت جوعاً مقابل النصف الثاني، إلا أنني رفضت هذه الصفقة، فوعدني أن يسدد لي الباقي نقداً بعد أن يبيع الحصان. كنت مستعجلاً ولا وقت لدي لمساومته طويلاً، فذهبت إلى السوق واشتريت قبعة سوداء وتركت قبعة الدوريش، ولبست لتبدو عليّ علامات السفر ثم استفهمت عن الطريق إلى دار الشاعر.
كانت الدار في حي جميل تحيط بها حدائق تنمو فيها أشجار الحور والرمان، في شارع يجري على طوله جدول ماء، وبمحاذاته رتل من أشجار الدلب. ولكن البيت نفسه كان يبدو عليه غياب صاحبه، فالباب كان نصف مغلق ولم يكن حوله حركة، وعندما دخلت إلى الباحة الأولى ما كدت أرى ما يدل على أنه مسكون، ففكرت أن هذا لا يبشر بالخير فيما يتعلق بمكافأتي. وأخيراً، وفي طريقي إلى الغرفة العلوية فوق الباب رأيت رجلاً في الخمسين من عمره يجلس على سجادة لباد يدخن غليونه، فسألته وعلمت أنه الناظر، وهو من كنت أبحث عنه.
فهتفت فوراً: «بشرى سارة! الخان قادم!»
فقال: «یعنی چه؟ (أي ماذا تقصد؟) أي خان؟ أين؟ متى؟»
وعندما شرحت له الأمر وقدمت له الرسالة الموجهة إليه بدا لي أنه وقع في خليط من الفرحة المصطنعة والشجن الصادق والذهول والقلق.
ثم سألني: «ولكن، هل أنت متأكد أن الخان حي يرزق؟»
فأجبته: «بكل تأكيد، وقبل أن يمضى يومان سيأتيك رسول آخر يروي لك تفاصيل أكثر عن سلامته، ومعه رسائل إلى الشاه والوزراء وغيرهم.»
فبدأ يطلق صيحات غير مترابطة: «شيء عجيب! ما هذا التراب الذي وقع على رؤوسنا؟ أين أذهب الآن؟ ماذا أفعل الآن؟»
وبعد أن تمالك نفسه قليلاً توسلت إليه أن يشرح لي سبب انفعالاته وأن يخبرني عن دواعي قلقه وكربه الظاهر تجاه ما يفترض ألا يدعو إلا للفرح. فلم أسمع منه إلا: «يجب أن يكون قد مات؛ الكل يقول أنه ميت؛ امرأته رأت في منامها أن ضرسها الذي كان يؤلمها قد سقط، وهذا يعني أن زوجها مات؛ ثم أن الشاه أعلن موته. لا يمكن أن يكون حياً! بل لا يجوز أن يكون حياً!»
فقلت: «طيب، إن كان ميتاً فليكن؛ ولا أستطيع أن أقول إلا أنه كان بين مؤمني استرآباد منذ أقل من أسبوع، وأنه سيثبت بنفسه أنه حي حين يقدم إلى طهران في غضون أسبوع آخر.»
وبعد أن قعد الناظر وفكر ملياً فترة من الوقت قال: «لن يدهشك ارتباكي بعد أن أحكي لك وضع الأمور هنا بعد إعلان وفاة سيدي. فأولاً، صادر الشاه كل ممتلكاته: وسلّم بيته وأثاثه وحلاله، بما في ذلك جواريه الجورجيات إلى أحد أبنائه خور علي ميرزا. وقرية سيدي صارت ملكاً للوزير، ومكانته سوف يحتلها الميرزا فضل، وفوق كل هذه الأشياء، زوجته تزوجت من معلم ابنه. قل لي، أليست هذه الأمور كافية لتربكني وتذهلني؟»
فوافقته في أن الأوضاع معقدة للغاية، ومن حقه أن يقلق ويرتبك، ثم سألته: «وماذا عن مكافأتي؟»
فأجاب: «لا تتوقع شيئاً مني، إذ لم تأتني بما يسرني. يمكنك أن تطلبها من سيدي متى عاد إن أردت؛ أما أنا فليس لدي ما أعطيك إياه.»
وعندئذ تركت الناظر يفكر في أمره وودعته، ووعدته أنني سأعود في الأيام القادمة وتركت البيت.
الفصل السادس عشر. حاجي بابا يخطط للمستقبل ويتورط في خصام
قررت انتظار عودة الشاعر لأحاول بوساطته الحصول على عمل أرتزق منه رزقاً شريفاً ثم أرتقي في حياتي دون اللجوء إلى النصب والاحتيال اللذين مارستهما حتى الآن، إذ سئمت العيش مع سوقة الناس، ورأيت أمام عيني أعداداً من الرجال تبؤوا أرقى المراتب في الدنيا وكسبوا ثروةً وحظوةً، وأصلهم ليس أرقى من أصلي، فبدأت أفكر في الرقاء والرخاء حتى انغمست في تصور نفسي وقد صرت وزيراً، وكيف سأعيش وأتصرف وأنا في منصبه.
قلت لنفسي: «من هو أقرب المقربين إلى الشاه، اسماعيل بيك الملقب بالذهبي؟ ليس أكثر من فرّاش؛ وهو ليس أكثر أناقةً ولا ذكاءً ولا فصاحة مني، وأظن لو أننا تبارينا في الفروسية، فرغم سمعته أستطيع أن أعلمه ركوب الخيل بعد أن عشت بين التركمان. والخزندار الشهير الذي يملأ صناديق الشاه بالذهب ولا ينسى صناديقه هو أيضاً، من هو؟ إن ابن حلاق ليس أقل شأناً من ابن بقال، وفي حالنا ابن الحلاق أفضل منه بمراحل، إذ أنني أقرأ وأكتب، أما سعادته، كما يشاع عنه، لا يقرأ ولا يكتب، ومع ذلك يأكل ما طاب له ويلبس رداءً جديداً كل يوم ويختار – بعد الشاه – أجمل جواري بلاد فارس، وكل هذا دون أن يحظى حتى بنصف ما عندي من عقل وذكاء ومهارة: فمما تسمعه من كلام الناس تقتنع بأنه ليس أفضل من «كرّ بتشديد»، حمار ابن حمار.
بقيت مستغرقاً في هذه الأفكار وأنا جالس أسند الجدار بظهري في إحدى الجادات المكتظة المؤدية إلى قصر الشاه، فتمالكتني صور عظمتي لدرجة أنني حين نهضت لأمشي شرعت أدفع من صدف أن وقع في طريقي وكأن عليهم أن يفسحوا لي السبيل بحكم مقامي الرفيع. بعضهم حملق بي وبعضهم الآخر شتمني وآخرون ظنوا أنني مجنون. وبالفعل، عندما عدت إلى رشدي ونظرت إلى ملابسي البالية ومظهري الفقير ما استطعت إلا أن أبتسم لحماقتي ولذهولهم، فتوجهت مباشرةً إلى سوق الأقمشة والملابس وقد صممت أن أضمن لنفسي كساءً أنيقاً ليكون خطوتي الأولى في تغيير حياتي.
وعندما كنت أشق طريقي عبر الحشود توقفت بسبب خصام شديد بين ثلاثة رجال يشتمون بعضهم بعضاً بفظاظة غير معهودة. دفعني فضولي إلى الاقتراب أكثر فرأيت في وسط حلقة الناس الرسول الذي احتلتُ عليه ومعه فلاح يهاجمان تاجر الخيل بعد أن سحباه عن الحصان الذي بعته إليه؛ والفلاح يصيح:
«هذا حصاني!»
والرسول يصيح:
«هذا السرج لي!»
والتاجر يصيح:
«بل كلاهما ملكي!»
أدركت حالاً الخطر الذي وقعت فيه وهممتُ بالانسلال إلى الوراء، وفي هذه اللحظة رآني تاجر الخيل فأمسكني من نطاقي وقال: «هذا هو الرجل الذي باعني حصانه!» وحالما تعرف الرسول على وجهي تحولت وطأة الخصام إلى رأسي مثل غيمة عاصفة وكادت تغمرني وتسحقني، وانهالت الأوصاف من قبيل حرامي وحقير ومحتال على أذنيّ بلا رحمة، فصاح أولهم: «أين حصاني؟» وصرخ ثانيهم: «أعطني سرجي!» وزمجر الثالث: «أعِدْ نقودي!»، وهتف الحشد: «خذوه إلى القاضي!».
عبثاً كنت أزعق وأشتم وأجادل وأتحدى؛ وسدىً ذهبت محاولتي أن أتكلم برفق وأصالح: ففي الدقائق العشرة الأولى كان مستحيلاً أن يسمعني أحد، فكل واحد يصرخ ويصدح ويردد شكواه. كان الرسول يستشيط غضباً، والفلاح يشكو من الظلم الذي لحق به، وتاجر الخيل يشتمني بكل ما يخطر على باله من ألفاظ لأنني سرقت ماله. فحاولت إقناع أولهم وملاطفة الثاني وإخافة الثالث. فسألت الرسول: «لم تغضب؟ ها هو سرجك كما كان، ماذا تريد أكثر؟» وقلت للفلاح: «تصيح وكأن دابتك نفقت. خذها وامض بها إلى بيتك واحمد ربك على السلامة.» أما تاجر الخيل فهاجمته بمرارة من سُلِب منه حلاله بالنصب والاحتيال قائلاً: «أيحق لك أن تشكو من الغش وأنت لم تدفع لي سوى نصف ثمن الحصان وحاولت أن تغشني بحمار هزيل؟»
عرضت عليه أن أعيد له نقوده، ولكنه رفض وطالب أن أدفع له فوق ذلك تكاليف إطعام الحصان، ما أثار جدالاً جديداً بألوان من الحجج التي لم يقتنع بها أي طرف من الأطراف، ومن ثم توجهنا إلى «الداروغا»، أي مفتش الشرطة، وقد اتفقنا أن نلجأ إلى حكمه في قضيتنا.
وجدنا المفتش في مقره عند تقاطع شارعين من شوارع السوق محاطاً بعناصره يحملون عصىً طويلة وهم بكامل الاستعداد ليذيقوا أي مُخالفٍ طعم الفلقة. بدأتُ برواية القضية فوصفت كل ملابساتها، ولا سيما النية الواضحة لتاجر الخيل بالاحتيال علي. وأجاب تاجر الخيل بأن الحصان لم يكن ملكاً له بل كان مسروقاً، ولذا لا يجب عليه أن يتكلف بنفقات إطعامه.
تركت هذه القضية المعقدة المفتش حائراً في أمره حتى أنه تحفظ في الحكم وهمّ بإحالتنا إلى القاضي، حين قال له رجل عجوز كان واقفاً بين المارة: «وما الداعي إلى تعقيد مسألة واضحة؟ متى يدفع تاجر الخيل باقي الثمن إلى حاجي، يسدد الحاجي له نفقة إطعام الدابة طوال الوقت الذي كانت خلاله في عهدة التاجر.»
فصاح الجميع: «بارك الله! بارك الله!»، وبدا أن الحشد صعقتهم العدالة الظاهرة لهذا الحكم. فصرفنا المفتش وأمرنا أن نغرب عن وجهه بسلام.
وفي نفس اللحظة دفعت إلى تاجر الخيل ما قبضته منه وأخذت من يده إشعاراً بذلك. وبعد أن فرغ مني بدأ يفكر لماذا لا يحق له تعويض إطعام الدابة إلا بعد أن يدفع كامل ثمنها، وبدأ يدرك الخدعة التي وقع ضحيتها؛ ولحسن حظي، تحول استياؤه عني إلى المفتش فنعته بأنه أكثر حماقة من الحمار وأنه أقل جدارةً بأن يسمى رجل قانون من أن يسمى هو، أي تاجر الخيل، رجل صدق وأمانة.
الفصل السابع عشر. حاجي بابا يرتدي ثياباً جديدة ويذهب إلى الحمام ويظهر بصورة جديدة
وبعد أن نجوت من هذه القضية المزعجة وأدركت أنها كانت برمّتها غلطتي أنا، هنأت نفسي أن خلاصي منها كان بهذه الكلفة الزهيدة. فتوجهت من جديد إلى سوق الأقمشة والملابس، وفي المحل الأول الواقع عند باب السوق سألت عن ثمن قطعة قماش أحمر وددتُ أن أجعلها رداءً؛ فقد اعتقدتُ أن ذلك سيضفي علي الاحترام الذي كنت أشعر به دائماً تجاه من يرتدي مثل هذا الرداء. وقال صاحب المتجر بعد أن نظر إلي من رأسي إلى قدمي: «إنه رداء عظيم حقاً! ولمن تريد شراءه، ومن سيدفع ثمنه؟»
فأجبته: «أريده لي بالتأكيد.»
فقال: «ولم يطلب رجل فقير مثلك رداءً كهذا؟ هذا القماش جدير بميرزا أو خان، ولا يبدو عليك أنك واحد منهم.»
هممت بالرد عليه وقد بدأ الغيظ يخنقني حين تقدم مني «دلّال»، أي بائع متجول، يحمل على ظهره كل ألوان الأزياء المستعملة ليبيعها فالتفتُّ إليه وأدرت ظهري إلى صاحب المتجر الذي بقي يناديني وقد ندم إذ نفّر زبوناً بطول لسانه. توجهنا إلى قرنة عند مسجد قريب، حيث أنزل الدلال حمله عن ظهره ونشر بضائعه أمام عيني. أعجبتني سترة فخمة من الحرير مطرزة بخيوط ذهبية من الأمام وأزرارها بلون الذهب فسألته عن سعرها. فشرع الدلال يمدح في جمال السترة ورفعة ذوقي وحلف أنها كانت لجارية جورجية في بيت حريم الشاه ولم تلبسها إلا مرتين فقط، وأجبرني على قياسها وشرع يمشي حولي وهو يصيح: «ما شاء الله! ما شاء الله!»، وسرّني هذا فأردت أن أختار شالاً أتمنطق به يناسب السترة، فأخرج شال كشمير بالياً كله ثقوب ورتوق وأكد لي أنه كان ملكاً لإحدى حريم الشاه، وأضاف أنه سيعطيه لي مقابل ثمن معقول. ودفعني غروري إلى تفضيل هذا الشال على شال كرماني جديد لا يختلف ثمنه عن ثمن الشال الكشميري البالي. تمنطقت بالشال وضبطته لإخفاء عيوبه ولم يبق إلا أن أضع خنجراً تحت النطاق ليكتمل ثوبي، وهذا أيضاً كان موجوداً عند الدلال. وبعد أن ارتديت هذا كله أعجبني منظري فشكرت الدلال الذي لم يتوان عن أن يؤكد لي أن طهران كلها لن تجد فيها رجلاً أنيقاً ووسيماً مثلي.
وعند المحاسبة بدأ الجد. استهل الدلال كلامه بالتأكيد على أنه ليس كسائر الدلالين الذين يطلبون مئةً ثم يبيعون بخمسين، وأنه إذا قال كلمة يمكنني أن أثق بصحتها. ثم طلب مني خمس تومانات مقابل السترة وخمسة عشر مقابل الشال وأربعة مقابل الخنجر، والمجموع أربعة وعشرون توماناً.
عندما سمعت هذا زالت فرحتي إذ لم يكن في جيبي أكثر من عشرين توماناً فبدأت أخلع هذا الزي الفاخر لأعود إلى ملابسي البالية، إلا أن الدلال أوقفني وقال: «قد تعتقد أن هذا السعر باهظ، ولكن برأسي وروحك، لقد اشتريتها بهذا السعر ولا أربح منها شيئاً، فقل لي، كم تعطيني مقابلها؟» فأجبته أن لا مجال لمساومته بهذه الشروط، ولكن إن باعني هذه الأغراض بخمسة تومانات فسأشتريها. فرفض ذلك بازدراء، فخلعت الملابس وأعدتها إليه. وبعد أن وضبها كلها وبدا أن التعامل بيننا قد انتهى تماماً، قال: «أشعر بمودّة نحوك، ولذا سأفعل من أجلك ما لا أفعله من أجل أخي: سأعطيك إياها مقابل عشرة تومانات.» فرفضت مرة أخرى، فبقينا نتساوم حتى اتفقنا على أن أدفع له ستة، فسددتها فوراً فاستلمها وهو يقسم أنه خسر مثلها، وأعطاني أغراضي ثم انصرف.
أما أنا فقد جمعت ملابسي وقررت الذهاب إلى الحمام لتجهيز نفسي. وفي طريقي اشتريت حذاء أخضر ذا كعب عالٍ وقميصاً أزرق من حرير وسروالاً قرمزياً حريرياً، ثم ربطت كل هذا في صرة وتوجهت إلى الحمام.
لم ينتبه إلي أحد وأنا أدخل إلى الحمام، فمنظري الوضيع لم يكن يلفت الأنظار، وخطر على بالي أن الأمور ستتغير حالما أرتدي أزيائي الجديدة. وضعت صرتي في زاوية وخلعت ملابسي هناك لم لففت شرشفاً حول جسمي وتوجهت إلى غرفة الاستحمام.
وهنا كان جميع الناس يظهرون بالهيئة نفسها، وربما أتميز عنهم بقوة جسمي وعرض كتفي وخصري الرفيع. ناديت أحد الدلاكين ليطبق علي جميع العمليات من الفرك باليد ثم التدليك بالليفة كما طلبت منه أن يحلق رأسي ويحضر ما يلزم لصباغة لحيتي وشاربيّ وخصل شعري فضلاً عن راحة اليد وأخمص القدم، وأن يجهز أيضاً لنتف الشعر، أي أنني أعلنت نيتي بأن أرتب جسمي ترتيباً كاملاً.
وحالما بدأ الدلاك بتدليكي مدح بعرض صدري، وتصرفت كمن اعتاد على مثل هذا المديح ومثل هذه المعاملة، وأنا أفكر بالانطباع الذي تتركه الملابس الجديدة على الناظرين. وقال الدلاك أنني أتيت في ساعة سعد لأنه خدم قبلي مباشرةً خاناً أكرمه الشاه بثوب بمناسبة إحضاره باكورة محصول البطيخ من إصفهان، فنصحه المنجمون بالذهاب إلى الحمام في هذا الوقت تحديداً لأن الساعة ملائمة لارتداء ملابس جديدة.
وبعد الانتهاء من كل هذا، أحضر الدلاك بعض الشراشف الناشفة وأخذني إلى حيث تركت ملابسي. كم استمتعت بفتح الصرة وفحص لباسي الفاخر! وشعرت أنني أتجدد كلما ارتديت قطعة منها. لم ألبس الحرير سابقاً. ربطت سروالي بالطريقة العصرية، وعندما سمعت حفيف سترتي تلفتُّ حولي لأرى إن كان أحدٌ ينظر إلي. وتمنطقت بالشال على الطراز العصري، ينخفض من الأمام وينفرد من الوراء، وعندما لمع الخنجر في نطاقي شعرت ألا شيء يفوق هندامي أناقةً ورونقاً. حززت أعلى قبعتي على الطريقة القاجارية أي الملكية ووضعتها على رأسي مائلة إلى الجنب. وعندما أحضر الدلاك لي المرآة في إشارة أن علي أن أحاسبه درت أمامها وقتاً ليس بقصير لأفحص نفسي وألوي شعري وراء أذني وأفتل شاربي نحو عيني. ثم حاسبته بسخاء وتركت ملابسي القديمة له وخرجت بمشية متبخترة.
الفصل الثامن عشر. الشاعر يعود من الأسر، وما ترتّب من ذلك على حاجي بابا
سلكت طريقي نحو بيت الشاعر آملاً بأن أعرف شيئاً من أخباره. ومن رأس الشارع رأيت حشداً متجمعاً عند باب بيته، فعرفت من الناس أنه وصل بالكاد ومرّ بطقس العودة إلى البيت إذ دخل إليه من سقفه لا من بابه، كما هي العادة عندما يرجع رجل كان يعتقد أنه قد مات إلى بيته وهو حي يرزق.
انطلقت أشق سبيلي عبر الحشد وتوجهت مباشرةً إلى الغرفة التي كان الشاعر يجلس فيها، فهنأته على عودته وحمدت الله على سلامته وأنا في غاية من السرور. لم يتعرف علي، وحتى بعد أن شرحت له من أنا لم يصدق إلا بصعوبة أن هذا الرجل الوسيم هو نفس ذاك الهمجي القذر ذو الملابس البالية الذي عرفه عند التركمان.
كان الغرفة تمتلئ بكل ألوان الناس، بعضهم يفرح لعودته وبعضهم الآخر تملؤهم الخيبة والإحباط. وبين هؤلاء، ممن أكثر عليه بالإطراء والتهاني، كان الميرزا فضل الذي سماه الشاه ليحل محل الشاعر في البلاط، والذي بقي يردد «مكانك بقي خالياً، والآن اكتحلت عيوننا» ما دام جالساً في القاعة. ثم سُمِعت ضجة كبيرة وانفتحت الأبواب وأعلن عن وصول مراسل من الشاه أمره بالمثول بين يدي جلالته، فانطلق وهو بملابس وحذاء السفر والغبار يغطي رأسه.
وهنا انفضّ الحضور فغادرت المنزل مصمماً على العودة في اليوم التالي؛ وعندما كنت أجتاز الباحة صادفت الناظر مقلوب الوجه. لم يكن يبدو أنه بين الفرحين. وقلت له: «بالله عليك! أترى أن كلامي كان حقاً، والخان حي؟»
فأجابني وهو يتنهد: «الحق معك، إنه حي؛ وأطال الله في عمره! الله أكبر! وإنا لله وإنا إليه راجعون!» وأردف هذا بعبارات مماثلة ثم تركني وعلامات الهم والشقاء تبدو عليه.
قضيت ما بقي من النهار وأنا أتسكع في الشوارع وأبني قصوراً في الهواء. تجولت في الأسواق وذهبت إلى المساجد وتسكعت بين المتسكعين الذين يكثرون عند باب قصر الشاه. وكان خبر اليوم هو عودة الشاعر والاستقبال الذي لقاه عند الشاه. وقال البعض أن الشاه، عندما سمع بوصوله قضى بأن هذا مستحيل، وأنه ميت ويجب أن يبقى ميتاً، وكان البعض الآخر يقول أنه الشاه سرّه الخبر للغاية حتى أنه أمر بعشرة تومانات للبشير. أما الحقيقة فكانت كالتالي: كان الشاه مزعوجاً من قيامة الشاعر من الموتى لأنها أفسدت الترتيبات التي أمر بها فيما يتعلق ببيته وممتلكاته؛ إلا أن عسكر الذي كان يعلم مدى ولع الشاه بالشعر، ولا سيما بالمديح، حضّر نفسه للقاء فارتجل قصيدة ألفها بالفعل وهو أسير التركمان، وأنشدها في اللحظة المناسبة، وبذلك استطاع أن يعكس تيار عواطف الشاه الذي كان ضده ليصبح لصالحه تماماً، إذ أمر جلالته بأن يملأ فم الشاعر بالذهب وأنعم عليه بثوب رفيع وأعاد إليه منصبه في البلاط وممتلكاته كافة.
لم أقصِّر أبداً في العودة إلى صديقي بالتهانئ، ولم أفوِّت صباحاً إلا وحضرت الاستقبالات في مضافته. ولما رأيت أنه يعاملني بودٍّ ومحبةٍ أخبرته عن أحوالي وتوسلت إليه أن يعطيني مكاناً في بيته أو أن يزكيني لمعارفه لأخدمهم. لقد اكتشفت أن قلق الناظر من عودة سيده كان يعود إلى خوفه من انكشاف بعض المخالفات التي ارتكبها بحق أمواله، وكنت آمل أن آخذ منصبه يوماً، فأظهرت أعظم اهتمام بمصالح الشاعر وكشفت له كل ما كنت أعرفه عن آثام خادمه، ولكن جهودي لم تتكلل بالنجاح: فإما أن الشاعر كان يعرف قلوب الرجال أفضل مما توقعت، أو أن الناظر استطاع إقناعه ببراءته ويلقي الشبهات عليّ، لا أدري. ولكن الحقيقة كانت أنه بقي في منصبه، أما أنا فبقيت أحضر الاستقبالات.
وأخيراً جاء صباح ناداني عسكر إليه وقال: «يا صديقي، يا حاجي. أنت تعرف مدى الامتنان الذي كنت أكنّه دائماً لك وللطفك إلي عندما كنا سويةً في أسر التركمان، والآن سأردّ لك الجميل. لقد أوصيت بك خير وصية إلى الميرزا أحمق، وهو حكيم باشي، أي كبير أطباء الشاه، وهو بحاجة إلى خادم. ولا شك في أنه، لو نلت رضاه، سيعلمك مهنته فيصبح لديك ما تكسب رزقك منه. ليس عليك إلا أن تأتي إلى حضرته وتقول أنك جئت من عندي، فسيعطيك عملاً في الحال.»
لم يكن عندي أي ميل لمهنة الطبيب، وكنت أحتقر هذه الحرفة بعد ما سمعته عن الطب والأطباء من صاحب الدرويش صفر. ولكن حالي كان بائساً، إذ كنت قد أنفقت آخر دينار في جيبي ومن ثم لم يبق أمامي إلا أن أقبل العمل عند الطبيب. وإذن، انطلقت في الصباح التالي إلى بيته الواقع على مقربة من القصر، ودخلت باحةً مظلمة مهملة فوجدت فيها عدداً من المرضى، بعضهم يجلس القرفصاء سانداً ظهره بالجدار، وبعضهم الآخر يدعمه أصدقاؤه، وآخرون يحملون قوارير في أيديهم بانتظار أن يخرج الطبيب من بيت حريمه ويبدأ باستقبال المرضى. توجهتُ إلى نافذة مفتوحة كان يقف عندها من لا يسمح له بدخول الغرفة فوقفت معهم أنتظر حتى أنادى. وكان في الغرفة عدد من الرجال جاؤوا ليسلموا على الطبيب (فكل رجل يعمل في البلاط يفتح مضافة لاستقبال الناس)، ومن مراقبة هؤلاء أدركت أن الترقي في الحياة يتطلب استغلال كل فرصة للوصول إلى آذان أولي النفوذ. كنت أتذكر المصائب التي توالت علي حتى الآن، وحاولت تقدير الزمن الذي علي أن أمضيه في التذلل والتملق حتى أصل إلى مثل هذه المكانة بنفسي، حين شعرت من الحركة حولي أن الطبيب جلس عند النافذة وبدأ عمله اليومي.
كان الحكيم عجوزاً، غائر العيني حاد الوجنتين خفيف اللحية، وكان في ظهره حدبة، وعند الجلوس كان رأسه يغور بين كتفيه وذقنه يبرز إلى الأمام ويداه على نطاقه ومرفقاه يشكلان مثلثين على جانبيه. كان يطرح أسئلة قصيرة نزقة ويغمغم وهو يستمع إلى الجواب ويبدو عليه أنه يفكر بأي شيء عدا الشخص الماثل أمامه.
وبعد أن استمع الحكيم إلى شكاوى مراجعيه وتبادل بضع كلمات مع الحلقة الصغيرة من مجالسيه نظر إليّ، وبعد أن أخبرته أنني الشخص الذي كلمه الشاعر عنه سمّر عينيه الحادتين الصغيرتين بوجهي لحظةً أو لحظتين ثم طلب مني الانتظار لأنه أراد أن يتكلم معي على انفراد. ومن ثم، قام بعد بضعة دقائق وخرج من الغرفة، ثم دعيت لمقابلته في باحة منفصلة صغيرة محاطة بالجدران من كل جوانبها عدا الجدار الذي تطل عليه الخلوة، أي الغرفة الخاصة، التي كان الطبيب يجلس فيها.
الفصل التاسع عشر. حاجي بابا يدخل في خدمة طبيب الشاه والعمل الأول الموكل إليه
حالما عدت دعاني الطبيب إلى الغرفة وطلب مني الجلوس، فجلست وأنا أراعي كامل مراسم التواضع الذي يجب أن يظهره الأدنى للأعلى منه على مثل هذا الشرف. أعلمني أن الشاعر عندما حدثه عني أطنب في مدحي وأوصاه بي على أني الشخص الذي يمكن الاعتماد عليه، وأشار بوجه خاص إلى تعقلي وحصافتي، وإلى أنني عندي تجربة في الحياة، وإلى أنني واسع الحيلة، وفي حال كلفني بأي أمر يحتاج إلى حذر وتكتم فأنا خير من يتولاه بكل المهارة المطلوبة. انحنيت له مراراً وهو يتكلم وأبقيت يديّ مضمومتين باحترام أمامي مغطاتين بأطراف أكمامي وحرصت أن تبقى قدماي مستورتين تماماً. ثم تابع قائلاً: «عندي حاجة إلى شخص مثلك تماماً في هذه اللحظة تحديداً، وبما أنني أثق ثقة عميقة بتوصية صديقي عسكر، أنوي الاستفادة من مساعيك، وإن نجحت في تحقيق ما أتوقعه منك ثق أن ذلك سيكون خيراً لك، وأنني لن أنسى معروفك.»
ثم طلب مني أن أدنو منه أكثر وقال بصوت خافت، وهو يتلفت حول كتفيه وكأنه يخشى أن يسمعه أحد: «يا حاجي، لعلك تعلم أن سفيراً من الفرنجة قدم إلى البلاط مؤخراً، وبين حاشيته طبيب. وقد ذاع صيت هذا الكافر في بلدنا، فهو يعالج مرضاه بوسائل جديدة علينا، وجلب معه صندوقاً مليئاً بأدوية نجهل هنا، في بلاد فارس، حتى أسماءها. إنه لا يميز بين الأمراض الحارة والباردة ولا بين العلاجات الحارة والباردة كما أمرنا جالينوس وابن سينا، بل يعطي الزئبق كدواء مبرِّد ويطعن البطن بأداة حادة لعلاج الريح10، والأسوأ من كل هذا أنه يزعم أنه يستطيع الوقاية من الجدري بواسطة حقن مستخلص ما من الأبقار في الجسم، وهو اكتشاف جديد لأحد فلاسفتهم. هذا غير مقبول يا حاجي، فالجدري كان دائماً مصدراً هاماً للدخل، ولا أتحمل خسارته بسبب قدوم كافر جاء إلى بلدنا ليعاملنا معاملة البقر. لا يجوز أن ندعه يخطف الخبز من أفواهنا. ولكن ما أريدك أن تساعدني به هو شيء آخر. وقع الوزير العظيم مريضاً منذ يومين بعد أن أكل أكثر من عادته من الخس والخيار بالخل والسكر، فوصل ذلك إلى مسمع السفير الفرنجي، فهو بالفعل كان حاضراً أثناء أكل الخس فأرسل إليه طبيبه طالباً منه أن يسمح له بفحصه وعلاجه عسى أن يفرج عن ألمه. ويبدو أن الوزير العظيم والسفير لم تكن علاقاتهما على ما يرام لفترة ما لأن السفير طالب بامتيازات سياحية رفضها الوزير حرصاً منه على مصلحة فارس؛ وهنا رأى أن قبول طبيب هذا الكافر قد يكون فرصةً للمصالحة والتوصل إلى حل وسط. لو خبرتُ بالأمر في حينه لاستطعت بسهولة أن أحبط هذه المؤامرة، ولكن الطبيب الفرنجي لم يضيع لحظة فأعطاه دواءً هو عبارة عن حبة صغيرة بيضاء لا طعم لها، كما سمعت. ولسوء الحظ كان تأثيرها عجيباً حقاً، فقد ارتاح الوزير العظيم فوراً فصار لا يتحدث الآن إلا عن هذا ويقول أنه شعر كيف أن الحبة قد سحبت الرطوبة من أطراف أصابعه واكتشف في نفسه حيوية ونشاطاً من جديد حتى بات يسخر من شيخوخته بل بدأ يفكر بإكمال عدد زوجاته إلى العدد الذي يجيزه شرع الله تعالى ورسوله الكريم. ولكن النحس لم يتوقف عند ذلك الحد، إذ ذاعت أخبار الدواء والطبيب الفرنجي في البلاط، بل أول ما تحدث الشاه عنه في استقبال السلام صباح اليوم كانت الصفات العجيبة للدواء، فاستدعى الوزير العظيم ليكرر أمامه كل ما حكاه سابقاً عن الموضوع، فتحدث عن العجائب التي حدثت لشخصه والحضور يبدون إعجابهم واستحسانهم. ثم التفت جلالته إلي وطلب مني أن أشرح له كيف يمكن أن تنجم آثار بهذا الكبر عن أسباب بهذا الصغر، فاضطررت إلى ارتجال تعليل، فانحنيت انحناءة عميقة لأخفي ارتباكي ثم سجدتُ وقبّلت الأرض وقلتُ: «أفديك يا ملك الملوك! لم أر الدواء الذي أعطاه الطبيب الكافر إلى خادم جلالتك الوزير العظيم. ولكن حالما أراه سأبلغ جلالتك عن مكوناته. وأتوسل إلى جلالتك أن تضع في بالك أن القوة الفاعلة لهذا الدواء لابد وأنها روح شريرة تعادي الدين الحق لأنها أداة في يد كافر يسمي نبينا بالمحتال ولا يؤمن بالقضاء والقدر.»
وبعد أن قلت هذا لكي أطعن في سمعته المتنامية انصرفت وأنا أفكر في السبيل إلى كشف جميع أسرار هذا الكافر، ولا سيما معرفة طبيعة وصفته التي صنعت المعجزات؛ ومن حسن حظي أتيتَ أنتَ لتساعدني. وسأكلفك بأن تستشفي عقله وتنقب في علومه. ولكن بما أنني أريد عينة من نفس الدواء الذي أعطاه للوزير العظيم إذ عليّ أن أبلغ الشاه غداً عن تركيبه، عليك أن تبدأ خدمتك لي بأن تكثر من أكل الخس والخيار حتى تصيبك العلة عينها التي أصابت الوزير، ثم تراجع الفرنجي الذي سيعطيك بلا شك حبة تماثل تماماً تلك التي أعطاها للوزير فتحضرها إلي لأفحصها.»
فقلت وأنا أشعر بالخوف من هذا الطلب الغريب: ولكن، كيف أمثل أمام رجل لا أعرفه؟ ثم أنني سمعت قصصاً عجيبة كثيرة عن الفرنجة فلا أعرف كيف أتصرف معهم، فهل تعطيني بضع نصائح؟»
فأجاب الميرزا أحمق: «الحق معك، فأخلاقهم وعاداتهم تختلف تماماً عن أخلاقنا وعاداتنا، فاعلم أنهم بدل أن يحلقوا رؤوسهم ويطلقوا لحاهم يعملون العكس فلا ترى أثراً للشعر على ذقونهم، بينما شعر رأسهم كثيف وكأنهم نذروا ألا يحلقوه أبداً. كما أنهم يجلسون على منصات صغيرة، بينما نحن نتربع على الأرض، ويتناولون طعامهم بمخالب مصنوعة من حديد، بينما نأكل بأصابعنا، ويبقون ماشين جيئة وذهاباً، بينما نبقى جالسين، ويرتدون ملابس ضيقة، بينما نرتدي ملابس فضفاضة، ويكتبون من اليسار إلى اليمين بينما نكتب من اليمين إلى اليسار، ولا يصلون أبداً، بينما نحن نصلي الصلوات الخمس؛ أي باختصار الحديث عن عاداتهم لا ينتهي، ولكن ما لا شك به هو أنهم أقذر الناس في الدنيا، فهم لا يعتبرون أي شيء نجساً إذ يأكلون كل الحيوانات من الخنزير إلى السلحفاة دون أن يقرفوا ودون أن يذبحوها كما ينبغي. إنهم يشرّحون جثامين الموتى ولا يتطهرون بعد ذلك، وبعد الخروج لقضاء الحاجة لا يتشطفون بالماء ولا حتى يتيممون بالرمل.»
فسألته: «وهل يصدق الخبر أنهم سريعو الغضب، وأنّ أحدهم، إذا شككت في كلامه وقلت له أنت تكذب يبارزك حتى يقتلك أو تقتله؟»
فأجاب الطبيب: «هذا ما يقال عنهم، والله أعلم، فلم يحدث أن وصفت أحدهم بالكذاب. ولكن علي أن أحذرك من أمر: لو حدث أن أحدهم أعجب بشيء رآه عندك فإياك أن تقول لهم، كما عهدنا بين بعضنا، «مقدَّمة هدية لك، على حسابك»، لأنهم يأخذون هذه الكلمة بمعناها الحرفي فيقبلون الهدية وهي ليست كذلك ويضعونها في جيبهم، وما أكثر الجيوب في معاطفهم وسراويلهم! وعليك أن تحاول دائماً أن تقول ما تفكر به، فهذا ما يحبونه.»
فقلت: «إن كان الأمر كذلك، ألا تعتقد أن الطبيب الفرنجي سيكتشف الكذبة في فمي حين يراني أتمارض ولا مرض فيّ، وأطلب دواء لي، وهو لغيري؟»
فقال الميرزا: «لا، لا! يجب أن تكون مريضاً حقاً، ولن يكون هناك كذب. اذهب، يا حاجي، يا صديقي، كل خياراً فوراً واحضر لي الحبة بحلول المساء.» وهنا وضع يده على كتفي ودفعني برفق من الغرفة ليمنعني من التردد والاعتراض على طلبه العجيب، فتركته وأنا لا أعرف إن كان علي أن أفرح أم أبكي من هذا المنصب الذي حصلت عليه. لم أكن لأرضى بأن أوقع نفسي في مرضٍ بلا مكافأة متفق عليها، لذا رجعت وأنا أنوي مساومة سيدي على الأجر. ولكن عندما وصلت إلى الغرفة لم أجده فيها، فقد عاد على الأغلب إلى بيت الحريم؛ ولذا اضطررت إلى الذهاب لتنفيذ مهمتي التي كلفني بها.
الفصل العشرون. حاجي بابا ينجح في النصب على رجلين من النخبة فيحصل على حبة دواء من أحدهما وقطعة ذهب من الآخر
سألت عن الطريق إلى بيت السفير إذ نويت تلبية رغبات الحكيم وتحريض علة المغص في بطني؛ ولكن بعد أن فكرت في الأمر ملياً تذكرت أن المغص ليس سلعة تباع وتشترى في أي وقت، فمع أن الخس والخيار قد لا يؤاتي الوزير العجوز، من المستبعد أن يسبب عسرة الهضم عند شاب مثلي ذي عافية طيبة. فقررت الحصول على الحبة بالحيلة ما دمت لا أستطيع الحصول عليها بالطريق النزيه. تأملت الأمر فأيقنت أنني لو تمارضت سوف يكتشف الطبيب كذبتي في الغالب فيطردني من بيته. ولذا اخترت السبيل الأبسط، وهو أن أزعم أنني من خدم حريم الشاه وأبتدع قصةً ما لأحصل على غايتي المنشودة. فدخلت متجر ألبسة مستعملة في السوق واستأجرت عباءةً لنفسي كتلك التي يرتديها الكتبة، ووضعت في نطاقي لفة ورق بدل الخنجر أملاً بأن مظهري الآن سيوحي بأنني أكثر من مجرد خادم عادي. وبعد قليل وجدت السفير في مسكنه، ودنوت من باب سكن الطبيب بحذر وتردد وأنا أتذكر ما رواه لي الميرزا أحمق عن أخلاق الفرنجة. وجدت الطريق إلى الباب مزدحماً بالنساء الفقيرات تحملن أطفالهن، وقيل لي أنهن قدمن لتلقي تلك الوقاية العجيبة من الجدري التي كان الفرنجة يروجون لها، وكان يُعتقَد أن ذلك لأسباب سياسية. وبما أن الطبيب كان يقوم بالتلقيح مجاناً لم يكن عنده نقص في المرضى، ولا سيما من الطبقة الفقيرة الذين لا تتيسر لهم مراجعة طبيب فارسي إذ ليس معهم ما يمكن أن يقدموه هدية له أو يدفعوه أجراً له. عندما دخلت وجدت رجلاً يجلس وسط الغرفة أمام منصة خشبية مرتفعة تتراكم عليها العلب والكتب وشتى الأدوات والمعدات التي كنت أجهل الغرض منها. كانت ملابسه ومظهره تجعله أغرب كافر رأيته في حياتي. ذقنه وشفته العليا لم يكن عليهما أثر للشعر ما يجعله أشبه ما يمكن بالطواشي، وكان حاسر الرأس بلا أدنى حياء، ويرتدي حذاءه في الغرفة دون أن يراعي السجاد الذي يطأ عليه، وكأن قدميه في طريق السفر ورأسه في الحمّام. وكان حول عنقه رباط محكم يصل إلى خديه، وكأنه يخفي قرحاً أو مرضاً في وجهه. وكان رداؤه مفصلاً كي يلاصق جسمه، ومن تفصيله يتضح أن القماش في بلده نادر وباهظ الثمن، وكان سرواله ضيقاً بصورة مخجلة حقاً. وجدته يتكلم لغتنا، فحالما رآني حياني واستفهم عن حال خاطري الكريم ثم قال أن الطقص اليوم جميل، وبما أن كلامه كان حقاً وافقته على الفور. ثم رأيت ضرورة الإطراء عليه بالكلام الجميل، فمدحته بأفضل ما أستطيع فأخبرته عن سمعته العظيمة في أرجاء فارس وقلت له أن لقمان11 بكل حكمته لم يكن أكثر من حمار أمام علمه، وأن معاصريه من أطباء فارس لا يستحقون أن يعملوا عتالين عنده. ولم يجبني شيئاً على هذا الكلام، فأضفت أن الشاه نفسه، عندما رأى التأثيرات العجيبة لدوائه على حضرة وزيره أمر مؤرخه أن يدون هذه الحادثة في السجلات بحبر من ذهب لأنها أعجب ما وقع في عصره، وأحدثت القصة ضجة في قصر جلالته، وفي بيت حريمه شكت نساء كثيرات من المغص، وهنّ تائقات لتجربة مهارته في المداواة، وأن الجارية الجورجية المفضلة عند جلالته تتألم بشدة، فأرسلني كبير الطواشية بأمر من جلالته للحصول على دواء مماثل لذاك الذي أشفى الوزير، وختمتُ كلامي بالطلب الموجه إلى الطبيب مباشرةً بأن يعطيني بعضاً من هذا الدواء. بدا أنه شرع بالتفكير ملياً في طلبي، وبعد فترة وجيزة قال أنه من غير عادته أن يعطي مرضاه دواءً دون أن يراهم، ذلك أن ضرر مثل هذا التصرف أكثر من نفعه، وأنه إن كانت الجارية بحاجة إلى عونه فهو مستعد لعيادتها في أي وقت. فأجبته أن رؤية وجه الجارية الجورجية غير وارد بتاتاً، إذ لا يسمح ذلك لأي رجل في بلاد فارس ما خلا زوجها. قد يسمح للطبيب في حالة الضرورة القصوى أن يجس نبضها، ولكن حتى هذه العملية لا تجرى إلا والستار يغطي يدها. فرد الفرنجي: «لكي أحكم على وضع المريض لا يكفي أن أجس النبض، بل يجب كذلك أن أفحص اللسان.» فقلت: «النظر إلى اللسان لم يسمع به في فارس، وأنا واثق أنك لن ترى لسان أحد في بيت الحريم إلا بأمر خاص من الشاه نفسه، فالأحرى بالطواشي أن يقطع لسانه ولا يقبل مثل هذا العار!» فقال الطبيب: «طيب، ولكن تذكَّزْ أنني لو أعطيتك الدواء فإنني أتخلى عن أية مسؤولية عن تأثيراته؛ فالدواء قد لا يشفي بل قد يكون قاتلاً.» وبعد أن أكدت له بحرارة أنه لن يصاب بأي أذى ولا لوم فتح صندوقاً كبيراً كان مليئاً بالأدوية وأخذ منه كمية ضئيلة من مسحوق أبيض وخلطها مع شيء من الخبز وشكّل منها حبة ولفها في ورقة وأعطانيها مع توجيهات حول الطريقة السليمة للتداوي. وعندما رأيت أنه لا يخفي علمه سألته عن طبيعة هذا الدواء وخواصه وطرحت عليه أسئلة عن عمله بصورة عامة، وكان يجيبني بلا أدنى تحفظ، بخلاف أطبائنا الفرس الذين يكتفون بالتباهي بالكلام المفخم ويرجعون أي مرض إلى ما قرأوه في كتب جالينوس وأبقراط وابن سينا. وعندما عرفت منه ما استطعت تركته وأنا أعبر له عن بالغ الاحترام والمحبة والتقدير والشكر ورجعت فوراً إلى الميرزا أحمق الذي كان بلا شك ينتظرني بفارغ الصبر. خلعت العباءة التي استعرتها ولبست ملابسي وظهرت أمامه وعلى وجهي علامات توحي بأن الخس والخيار أحدثا في قلبي الاضطراب المطلوب. فمع كل كلمة كنت ألفظها تظاهرت أنني أعاني من مغص فظيع، وأديت دوري بمهارة حرّكت في نفس الميرزا أحمق الخشنة شيئاً من الشفقة على حالي. دخلت بيته وأنا أئنّ وأتاوّه وأتلوّى ألماً: «تعال وخذ ضالتك المنشودة التي كادت تقتلني! لقد نفذت أوامرك بحذافيرها وآمل أن تسخى عليّ!»
حاول الميرزا أحمق أن يأخذ الحبة من يدي ولكني كنت أمسكها بقوة، وتظاهرت بأنني أنوي ابتلاعها للتفريج عن وجعي الذي لا يطاق كي يفهم أنني أريد المكافأة أولاً. وبما أنه كان يخشى ألا يستطيع الإجابة عن سؤال الشاه حول الحبة ولذا كان يريد الحصول عليها حتماً، دس في يدي توماناً ذهبياً، فصرخت أنني لا أبيع حياتي، وسأموت إن لم أبتلع حبة الطبيب الفرنجي فأعطاني توماناً آخر. لا أعتقد أن عاشقاً بذل في إغواء عشيقته جهداً أكبر مما بذله الطبيب للحصول على الحبة. فكرت بالاستمرار في التمارض أكثر أملاً في الحصول على تومان ثالث ثم رابع، ولكني لمحت الحكيم يخلط جرعة من دوائه فأدركت الخطر الحقيقي المحدق بي فسلمته ما كان يصبو إلى الحصول عليه. ومتى صارت الحبة في يده نظر إليها بفضول وقلّبها وفحصها، وبدا عليه أن علمه بمكوناتها لم يصبح أكثر مما كان قبل أن يراها. وأخيراً، بعد أن تركته يستنفد تخميناته، قلت له أن الطبيب الفرنجي لم يخفِ أنها تتكون من الزئبق. فصاح الميرزا أحمق: «الزئبق! أكيد! وكأنني لم أعرف ذلك! وهل يجب أن أخسر سمعتي لمجرد أن هذا الكافر، هذا العيسوي12 الكلب، يريد أن يسممنا بالزئبق؟ الحمد لله، أعرف كتابة وصفات لم يعرفها لا أبوه ولا جده. وهل يصلح الزئبق دواءً؟ الزئبق بارد، والخس والخيار باردان أيضاً، فهل تستخدم الجليد لإذابة الجليد؟ إن هذا الحمار لا يعرف حتى أبسط مبادئ مهنته. لا يا حاجي، هذا لن يصلح: لا يجوز أن نسمح له بأن يضحك على لحانا بهذا الشكل!» استمر في تنديده بغريمه مدة لا بأس بها من الزمن، وكان بالتأكيد سيبقى يشتمه أطول بكثير لولا أن وصله رسول من الشاه يحمل رسالة يأمره فيها بالمثول أمام حضرته على الفور. فلبس مستعجلاً ثوب البلاط وهو يرتجف وأبدل قبعته السوداء العادية من جلد الخراف بأخرى لف عليها عمامةً، ولبس جورباً أحمر وطلب حصانه ثم غادر بسرعة وقلبه مليء بالقلق على نتيجة الاستقبال.
الفصل الحادي والعشرون. وصف لأسلوب تناول شاه بلاد فارس للدواء
كانت زيارة الطبيب إلى الشاه في وقت متأخر من المساء؛ وحالما عاد ناداني. وجدته في حالة انفعال عظيم وقلق واضح. وقال لي متى دخلت: «تعال يا حاجي، اقترب مني.» ثم صرف الجميع من الغرفة وحدثني همساً: «يجب أن نتخلص من هذا الطبيب الكافر بشكل أو بآخر. أتعرف ما حدث؟ لقد استشاره الشاه! اجتمع معه على انفراد أكثر من ساعة صباح اليوم دون أن يخطرني أحد بذلك. لقد طلبني جلالته ليحكي لي نتائج الاجتماع، وشعرت أن الفرنجي صار له عنده مكانة عظيمة. يبدو أن الشاه حكى له قصة شكاويه من الضعف ومن الربو وعسرة الهضم، وقصّ عليّ بابتهاج عن فطنة هذا الحقير وحدّة ذكائه، إذ أن هذا الكافر، ما أن نظر إلى لسان جلالته وجس نبضه، وقبل أن يعرف حالته، سأله إن كان يكثر اللجوء إلى الحمام الحار،13 وما إذا كان التدخين يحرض عنده نوبات سعال، وما إذا كان يكثر في طعامه من التوابل والحلوى ويحب أن يكون الرز طافياً في السمن. أعطاه الشاه ثلاثة أيام ليدرس حالته ويرجع إلى كتبه ويجمع رأي الحكماء الفرنجة في هذا الموضوع بالغ الأهمية لبلاد فارس ويركِّب عقاراً من شأنه أن يرمم بدن جلالته ويصفي مزاجه بالكامل. سألني صاحب الجلالة عن رأيي في طبائع وصفات الفرنجة عموماً وأدويتهم وعقاقيرهم خصوصاً، وانتهزت هذه الفرصة لأحكي ما في قلبي، وبعد ألفاظ التفخيم والتكلف المعتادة قلت: ”فيما يخص طبائعهم، فليعلم الشاه في حكمته العميقة أنهم عرق كافر نجس، ولذا يعتبرون نبينا كذاباً ويأكلون الخنزير ويشربون الخمر؛ مظهرهم كمظهر النساء وأخلاقهم كأخلاق الدببة؛ ويجب التعامل معهم بأقصى الحذر والشك لأن غايتهم – انظروا إلى ما فعلوه بالهند – هي الاستيلاء على الممالك وتسخير ملوكها خدماً لهم. أما عقاقيرهم فحماك الله وأجارك منها! فخطرها في تأثيرها كخطر الفرنجة في سياستهم: فما نعطيه نحن لتسميم المرء يزعمون هم أنه الدواء الشافي، فالمكون الأساسي لدوائهم هو الزئبق (وهنا رفعت الحبة وأريتها لهم)، ويستعملون الأدوات والأمواس حتى قيل عنهم أنهم يقطعون أوصال المرء لينقذوا حياته.“ ثم رسمت صورة مفزعة للتأثيرات المميتة التي تحملها وصفات الأجانب فوعدني الشاه أخيراً أنه لن يتناول دواءً إلا بعد أن يأخذ كل الاحتياطات التي تمليها عليه حصافته وحكمته. وحالما يرسل الفرنجي العقار الذي يحضره الآن سوف يدعوني الشاه إليه مرة أخرى.»
وأضاف الطبيب:
«إذن، يا حاجي، يجب ألا يتناول الشاه دواء الكافر، إذ لو صادف أن أحدث هذا الدواء فعلاً مفيداً سأهلك نهائياً؛ فمن سيراجع الميرزا أحمق بعد هذا؟ علينا أن نمنع ذلك، حتى لو اضطررت إلى تناول كل الأدوية بنفسي!»
افترقنا وقد وعدنا بعضنا بأن نفعل كل ما بوسعنا للتصدي للطبيب الكافر. وبعد ثلاثة أيام دعي الميرزا أحمق مرة أخرى إلى قصر الشاه ليفحص العلاج الموعود، وكان علبة من الحبوب، وبالطبع، سعى إلى إثارة الشبهات والشكوك بنجاعتها وألقى بتلميحات قاتمة حول خطر تناول أي دواء من عميل قوى أجنبية، فحمل الشاه على اتخاذ القرار بإحالة القضية على مجلس الوزراء. وفي اليوم التالي كان الشاه جالساً على عرشه يحيط به الصدر الأعظم والخزندار ووزير الداخلية وحاجبه وقيّم الاصطبل الملكي ورئيس المراسم والطبيب الملكي والكثير من كبار رجالاته، فخاطب رئيسَ الوزراء وأخبره عما جرى بينه وبين الطبيب الأجنبي الذي يقيم الآن في بلاطه، وأن في اللقاء الأول قال الطبيب المذكور، وبعد فحصٍ دقيق لشخصه، أنه اكتشف عنده أعراض الوهن. وفي الجلسة الثانية أكد للشاه أنه انشغل ثلاثة أيام بلياليها في مراجعة كتبه وسجلاته، وبعد أن جمع آراء حكماء بلاده في الموضوع قام بتوليف خواص شتى الأدوية في عقار واحد، وهذا العقار من شأنه، بعد تناوله عن طريق الفم، أن يحدث آثاراً عجيبة لا تضاهيها أية حجب أو رقع أو تمائم. ثم قال جلالته أنه دعا إلى مجلسه حكيم باشي، أي كبير أطبائه، والذي قام، مدفوعاً بحرصه على مصلحة البلاد، بالتفكير ملياً بوصفة الأجنبي، وأفصح عن عدد من التحفظات النابعة من الشكوك والمخاوف التي خطرت على باله، وهي أولاً إن كان من الحكمة تسليم التدبير الباطن لشخص الملك إلى توصيات ووصفات أجنبي، وثانياً أنه من الوارد أن العقار الموصوف قد يتصف بخصائص مؤذية خفية من شأنها أن تقوض وتضعف – وقد تدمر – شخص الملك الذي كان من المفترض أن تجدده وتقويه. وقال ملك الملوك وهو يرفع صوته:
«وفي هذه الظروف رأينا من الحصيف أن نتريث قبل المضي في هذا الأمر، وقررنا عرض القضية أمامكم كي تقوموا بحكمتكم المجتمعة بصياغة رأي يناسب عرضه على الشاه؛ ولكي يكون عندكم فكرة كافية عن القضية قررنا أن يجرب كل واحد منكم هذا الدواء لكي نستطيع أن نحكم على شتى تأثيراته سويةً، أنتم وأنا.»
ورداً على هذا الكلام الجميل صاح الوزراء والحاشية وجميع رجال البلاط: «أطال الله عمر الشاه! أدام الله ظله! نفدي الشاه بأرواحنا راضين، ناهيك عن تناول الدواء! عافى الله الملك ونصره على كل أعدائه!». فأمر الشاه رئيس حرسه بإحضار علبة الدواء من بيت الحريم فأحضرها وقدمها للشاه على صينية من ذهب. ثم أمر جلالته حكيم باشي بالتقدم منه وأعطاه العلبة وأمره بأن يطوف على جميع الموجودين ابتداءً من رئيس الوزراء ثم بباقي الرجال وفق رتبتهم ويعطي كل واحد منهم حبة.
فأخذ الحضور جميعهم جرعة العقار وتبع ذلك صمتٌ بقي الشاه خلاله يراقب قسمات وجوه المجلس ليرى التأثيرات الأولى للدواء. وبعد أن عادت تعابير الوجوه إلى طبيعتها المعتادة دار الحديث عن شؤون أوروبا، وقد طرح جلالته أسئلة عديدة في هذا الموضوع وأجاب عنها مختلف الموجودين على أفضل وجه ممكن.
بدأ الدواء يعطي مفعوله تدريجياً، وظهر أول ما ظهر على أمين الخزينة، وهو رجل ضخم غليط بقي حتى تلك اللحظة يجلس بلا حركة ويكتفي بأن يقول «نعم، نعم» لكل كلمة يتفوه بها الشاه، إذ بدت عليه علامات الارتباك بعد أن أثار ما تناوله طيفاً من الشكاوى القديمة الهاجعة سابقاً. فتوجهت عيون الجميع نحوه ما زاد من ارتباكه. ثم ظهر على الحاجب، الرجل النحيل الطويل، الشحوب وبدأ يتعرق بغزارة، وتبع ذلك وزير الداخلية الذي أرسل إلى صاحب الجلالة نظرات توسُّل أن يأذن له بمغادرة المجلس الجليل. وظهرت علامات مختلفة على جميع الحضور عدا كبير الوزراء، الرجل العجوز القصير المشهور بطبيعته الصلبة العنيدة الذي بقي جالساً وبدا أنه كان يضحك خفيةً على النحس الذي أصاب زملاءه.
وعندما وجد الشاه أن الدواء أعطى تأثيره صرف المجلس وأمر الميرزا أحمق بمتابعة مفعول كل حبة بعناية وأن يعطيه تقريراً رسمياً عن الحادثة كلها، ثم انصرف إلى بيت حريمه.
وبذلك صار غريم الطبيب العجوز الماكر تحت رحمته، فصاغ تقريره إلى الشاه بشكل ثنى جلالته عن تجربة وصفة الطبيب الأجنبي، فكان نصيبها الأهمال والنسيان. وعندما التقى بي في المرة القادمة، وبعد أن عرّفني على القصة السابقة، لم يشأ أن يخفي فرحته، فقال لي: «لقد انتصرنا يا صديقي حاجي بابا! لقد ظن الكافر أننا بلهاء، ولكننا سنلقنه درساً ليعرف قيمة الفرس. فمن هذا الكلب ليحظى بشرف وصف أدوية إلى ملك الملوك؟ إن هذا الشرف محفوظ لأمثالي أنا. ماذا تهمنا اكتشافاته الجديدة؟ عندنا علم آبائنا، ونحن راضون عن التداوي بما تداووا، فما أشفى أسلافنا يشفينا، وما وصفه لقمان وابن سينا نصفه لمرضانا بعدهما.» ثم صرفني وشرع يفكر بخطط جديدة لتقويض ما بقي من الثقة والنفوذ عند الطبيب الجديد ولحماية منصبه وسمعته هو في البلاط.
الفصل الثاني والعشرون. حاجي بابا يطلب من الطبيب أجراً، والرد على طلبه
كنت أعيش في بيت الطبيب ومكانتي أقرب إلى مكانة صديق، لا الخادم؛ إذ كان يسمح لي بالجلوس في حضرته ويطعمني معه مما يأكل بل يعطيني أركيلته لأدخنها، وفي الوقت نفسه كنت بين خدمه آكل وأشرب وأدخن معهم. ولكنني وجدت أن هذه العيشة تتعارض مع نفسيتي ومع توقعاتي. فلم أستلم خلال خدمتي عنده إلا قطعتي الذهب المذكورتين، وكان فضل ذلك لا يعود سوى إلى حيلتي، وأوحت الأيام التالية أن تانك القطعتين كانتا أول وآخر مال أقبضه منه. فقررت التفاهم مع الحكيم، واستفدت من الفرصة عندما كان مبتهجاً بانتصاره على غريمه الطبيب الأوروبي ففاتحته بما في قلبي.
كان الطبيب قد عاد من البلاط بعد مقابلة الشاه، وكانت معاملة الشاه له في غاية اللطف، إذ لم يتركه واقفاً على قدميه حافياً عند حوض النافورة سوى ساعتين وليس ست ساعات كعادته. وصاح الميرزا: «ما أحسن هذا الملك وكم هو دمث وطيب القلب! أعجز عن التعبير عن مدى لطفه إلي. فقد شتم الطبيب الأوروبي فأثلج صدري، وقال أنه لا يستحق أن يحمل حذائي، ثم أمر ساعيه بأن يأخذ إلي هدية حجلتين اصطادتهما صقور جلالته!»
فجاملته قائلاً: «كل الحق مع الشاه. فمن يضاهيك في بلاد فارس؟ وما أسعد الشاه أن يحظى بكنزٍ مثل حضرتك! من هم الفرنجة ليتكلموا عن الطب؟ إن أرادوا العلم والحكمة فليطلبوهما من الميرزا أحمق!»
وتابعت كلامي: «إن شاء الله أحظى بحصة في مجد سمعتك. ولكني لا شيء كالكلب، بل إنني أقل من قطعة تراب تأتي ريحها من مجاورة وردة طيبة.»
فسألني الطبيب: «ما هذا الكلام يا حاجي! أراك مثبط العزيمة؟»
فأجبته: «أرجو أن تحكم بنفسك، وسأحكي لك حكاية. في قديم الزمان كان هناك كلب يشبه الذئاب في مظهره وأخلاقه، فكان الذئاب يعتبرونه واحداً منهم. وكان يأكل ويشرب ويسرق الغنم معهم، أي كان ذئباً كسائر الذئاب. وفي الوقت نفسه كان يعاشر قومه الكلاب ويعيش معهم. ومع الزمن شعرت الكلاب أنه يعاشر الذئاب فنبذوه، وعرفت الذئاب أنه كلب فطردوه؛ فبات ذاك الكلب المسكين معزولاً ومشؤوماً، وضاق ذرعاً بوضعه المبهم فقرر أن يصبح إما ذئباً أو كلباً. وأنا ذلك الكلب! فأنت تسمح لي بالجلوس والتدخين معك، وأنت أعلى مني بمراتب؛ تتكلم معي وتستشيرني، بل تدعوني إلى مجالس أصدقائك؛ ولكن ماذا ينفعني لطفك؟ فأنا لا أزال خادماً دونما استفادة من موقع الخادم، إذ لا أحصل على أجر. فأتوسل إليك أن تضعني في موقعي في خدمتك وأن تحدد لي أجراً ثابتاً.»
فصاح الطبيب متعجباً: «أجر! إني لا أدفع أجوراً أبداً، وخدمي يعيشون على ما ينجحون في ابتزازه من مرضاي، وتستطيع أن تحذو حذوهم. إنهم يأكلون فضلات مائدتي وأهدي كل واحد منهم معطفاً في عيد رأس السنة (النوروز)، فماذا يريدون أكثر؟»
وفي هذه الساعة دخل ساعي الشاه يحمل في يديه صينية فضية وعليها الحجلتان اللتان أكرم جلالته بهما الميرزا أحمق، فسلمهما بكل وقار إلى يدي الحكيم الذي قام عن مقعده ورفع الصينية إلى رأسه وهتف: « بارك الله بكرم ملك الملوك وزاد ماله وأطال عمره!»
وهنا نودي ليعطي إكرامية للساعي، فأرسل إليه أولاً خمسة قروش ردّها الساعي مستنكراً؛ فأرسل إليه توماناً فردّه أيضاً؛ وفي النهاية أرسل إليه خمسة تومانات بعد تلميح إلى أن هذا هو مبلغ الإكرامية المعتاد في هذه المناسبات. وقد بددت هذه الحادثة تماماً فرحة الحكيم بالهدية عينها فلفظ كلماتٍ لو بلغت الشاه لوقع الطبيب في مصائب هائلة، إذ قال: «تباً هذه الهدية! أجارني الله من أمثالها في حياتي وبعد مماتي! هكذا ندفع أجور خدم الشاه، هذه العصابة من الأوغاد الطمّاعين لا خجل عندهم ولا ضمير! والأسوأ أن عليك أن تكرمهم بسخاء، وإلا إن قدِّر لك أن يُحكَم عليك بفلقة فلن يرحموك أبداً. وما أجمل حكمة سعدي حين قال: لا يصحُّ لك أن تعتمدَ على صداقة الملوك ولا يلزمُ أن تَغتر بحسن صوتِ الأحداث لأن ذاك يتبدَّل بخيال الأوهام وهذا يتغير عند الاحتلام.»14
وهنا شعر الطبيب بالقلق بسبب ما قاله في بداية حديثه، كما بدا أنه تقبّل بالتسليم خسارة خسمة تومانات مقارنةً بأهوال الفلقة التي لا يضمن أحد أن يسلم منها.
رأيت أن اللحظة غير مؤاتية لاستئناف الحديث عن توقعاتي فأجلته إلى فرصة أخرى قد تسنح في المستقبل؛ ولكنني سمعت ورأيت ما يكفي لأقرر أن أترك «لقمان الزمان» في أول فرصة، وأن أقبل في الحاضر بالبقاء لا كلباً ولا ذئباً.
الفصل الثالث والعشرون. حاجي بابا يستاء من وضعه ومن خموله ويقع في العشق
بقيت مستاءً من حاضري وغير واثق من مستقبلي، وكانت أيامي تمر في خمول كامل. وبما أنني لم أرغب في تعلم حرفة التطبيب التي تعلمها الكثيرون قبلي بلا أساس متين، فلم أهتم بالأمور التي كانت تشغل بال الميرزا أحمق. ربما كان علي أن أغادر بيته في الحال لولا وقوع ظرف نابع من انقطاع رزقي جعلني محتجزاً في بيته. والمشاعر التي انبثقت منه طغت على جميع الأفكار الأخرى حتى استعبدتها؛ واضطربت انفعالاتي حتى اعتقدت أن المجنون في ذروة جنونه لا يمكن أن يكون أكثر جنوناً مني. وأظن أنه غني عن الشرح أنني وقعت في العشق.
مضى الربيع وجاءت أول أيام الحر الصيفية فدفعت أغلب سكان المدينة إلى أن يفرشوا على أسطح منازلهم. وبما أنني لم أكن أحب السهر مع الخدم والفراشين والطهاة الذين كانوا يجتمعون عادةً في الغرفة العامة فرشت فراشي في زاوية الشرفة المطلّة على الباحة الداخلية لبيت الطبيب التي تحيط بها غرف الحريم. كانت الباحة مربعة تطل عليها نوافذ الغرف ومزروعة بالورد والياسمين وأشجار الحور. وفي وسطها مصطبة خشبية تفرش عليها الأسرّة لينام عليها أهل البيت في أيام الحر. رأيت عدداً من النساء تجلسن في زوايا الباحة ولكن لم يجذبني مظهر أي واحدة منهن، وحين صدف أن لمحنني تعالت أصواتهن بالشتم والسب ووُصِفتُ بكل الأنعات البذيئة التي يمكن تخيلها.
ثم في ليلة من الليالي وبعد مغيب الشمس، عندما كنت أفرش فراشي، نظرت بالصدفة من أعلى الجدار الذي كان جزء منه متهدماً فرأيت على الشرفة الملاصقة صبية تقوم بفرز ونشر أوراق التبغ. كان خمارها الأزرق مرمياً على رأسها، وعندما كانت تنحني تتدلى جديلتان طويلتان من صدغيها بصورة جذابة تكادان تلامسان الأرض وتغطيان أغلب وجهها وتكشفان منه ما يكفي ليشعل في قلبي الرغبة برؤيته كاملاً. كل ما رأيته فيها كان يوحي بالجمال. كانت يداها صغيرتين ومصبوغتين بالحناء. وكانت قدماها صغيرتين أيضاً، وكل شكلها كان يضيء فتنة وجمالاً ونضارة. وقفت أنظر إليها حتى لم أعد أستطيع احتواء عواطفي فخطوت نحوها فسمعَتْ صوت الحركة ورفعت رأسها وتلفتت حولها وهي تعدل خمارها، فرأيت وجهاً يفوق جماله كل تصور ولقيت نظرة من عينين ساحرتين فشعرت قلبي يشتعل ناراً. غطت الصبية رأسها بحركة غاضبة، وبقيت أنظر إليها حتى قالت أخيراً وهي مستمرة في عملها: «لماذا تنظر إلي؟ هذا حرام.»
فصرختُ: «من أجل الحسين سيد الشهداء، لا تديري وجهك عني! الحب ليس حراماً، فنظرة عينيك حرقت قلبي فحولته إلى شواء! من أجل أمك التي حملتك، اسمحي لي أن أرى وجهك ثانية!»
فأجابك بنبرة أكثر هدوءاً: «لماذا تطلب مني هذا؟ أنت تعرف: حرام أن تسمح المرأة لأحد برؤية وجهها، فأنت لست أبي ولا أخي ولا زوجي، بل لا أعرف من أنت. ألا تخجل أن تقول هذا الكلام لفتاة؟»
وهنا تركتْ حجابها يسقط، وكأنه بالخطأ، فسنحت لي فرصة رؤية وجهها مرة أخرى، فكان أجمل مما تصورته. كانت عيناها كبيرتين وسوداوين وأهدابهما طويلة مصبوغة بالكحل تشكلان كميناً تصوِّب منها رماحها. وكان حاجباها مقوسين يتلامسان فوق الأنف يرسمان خطاً لا يحتاج إلى تجميل يصلهما ببعضهما. وكان أنفها كأنف النسر وفمها صغيراً تعبيره أحلى ما يمكن، وفي وسط ذقنها رصعةٌ معلّمة بعناية بوشمٍ أزرق. لا شيء يضاهي جمال شعرها: كان أسود كالفحم وينزل في جدائل طويلة على طول ظهرها. سحرني جمالها، وبتأملها أدركت الكثير من الاستعارات التي قرأتها عند شعرائنا، حول أشجار السرو والشوادن الرشيقة والببغاوات آكلة السكر. شعرت أنني مستعد أن أنظر إليها إلى الأبد بلا ملل، وأحسست برغبة عارمة بالقفز فوق الجدار لألمسها. كان هواي يشتعل، وأوشكت أقترب منها حين سمعت صوتاً حاداً ينادي اسم زينب مرة تلو الأخرى بنبرة غاضبة، فتركت حبيبتي الشرفة مستعجلة وبقيت متسمراً بالمكان الذي رأيتها منه أول مرة. مكثت هناك وقتاً طويلاً أملاً بعودتها، ولكن بلا جدوى. كنت أصيخ السمع إلى كل صوت ولكني لم أسمع إلا الصوت المزعج نفسه الذي كان على ما يبدو يهاجم الجميع وكل شيء بالتتابع، ولا يمكن أن تكون صاحبته إلا زوجة الحكيم باشي التي يذاع عنها أنها امرأة عنيفة سيئة الطبع تستعبد زوجها شر الاستعباد.
تأخر الوقت وكنت أنوي الذهاب إلى الفراش واليأس يملأ قلبي، وهنا سمعت الصوت نفسه يصيح: «يا زينب، إلى أين أنت ذاهبة؟ لماذا لا تنامين؟»
سمعت صوت فاتنتي يجيبها ولكني لم أميز كلماتها، وفهمت ما قالت حين رأيتها تظهر مرة أخرى على الشرفة. كان قلبي يدق ويكاد ينفجر، واندفعت نحو الجدار الذي يفصل بيننا لأقفز فوقه، إلا أنني توقفت عندما رأيتها تأخذ السلة وتجمع أوراق التبغ فيها وتعود مستعجلة؛ وقبل أن تختفي همست بصوت خافت: «تعال إلى هنا ليلة الغد!» هزت هذه الكلمات هيكلي كله رعشةً لم أعرف لها مثيلاً في السابق فبقيت أكررها في قلبي وأفكر فيها حتى وقعت في غفلة الحمى ولم أستيقظ في الصباح التالي إلا عندما سطعت أشعة الشمس في وجهي.
الفصل الرابع والعشرون. اللقاء مع زينب الجميلة التي تحكي له عن حياتها في بيت حريم الطبيب
قلت لنفسي وأنا أفرك عيني: «إذن، الآن وقعت في العشق؟ حسناً، سنرى إلام سيفضي ذلك. سأعرف الليلة من هي وما هي، وإن كانت ملك يمين الحكيم فليخرب بيته، وسألقنه درساً كيف يحافظ على ممتلكاته. الزواج بالتأكيد غير وارد، فمن يزوجني وليس معي ما أشتري به سروالاً لنفسي، ناهيك عن تكاليف حفل الزفاف؟ إن شاء الله سأتزوج يوماً ما، متى نجحت في جمع بعض المال؛ أما الآن فسألعب بالحب، ولتقع تكاليف ذلك على الحكيم.»
وبهذه النية في قلبي نهضت ولبست بعناية أكبر من المعتاد، ومشطت شعري أكثر من عادتي، وربطت نطاقي بأناقة بالغة وارتديت قبعتي وميّلتها إلى جنب. وبعد توضيب فراشي حملته إلى قاعة الخدم وخرجت من البيت لكي أستحم وأجهز نفسي على أكمل وجه من أجل اللقاء الغرامي المرتقب. ذهبت إلى الحمام حيث قضيت أغلب الصباح وأنا أغني، وضيّعت باقي الوقت حتى ساعة اللقاء وأنا أتسكع في أرجاء المدينة بلا غاية ولا هدف.
وأخيراً اقترب المساء وبلغت لهفتي ذروتها وبقيت أنتظر بفارغ الصبر نهاية العشاء وقررت أنني بعد ذلك سأشكو من صداع وأتخذه عذراً للانصراف إلى الراحة. ومن سوء حظي تأخر الحكيم في بلاط الشاه، وبما أن الخدم يأكلون ما تبقى من عشائه بقيت مقيداً حتى وقت متأخر، وعندما حانت تلك اللحظة صرت في عرواء الانتظار: آخر ومضات النهار صبغت غرب السماء بشفق أحمر، وأشرق القمر، عندما صعدت إلى السطح وفراشي تحت إبطي. رميته أرضاً وفردته على عجل واندفعت وقلبي يدق إلى الجدار المتهدم ونظرت فوقه ببالغ الحذر. ولكن، يا خيبتي! لم يكن هناك إلا أوراق التبغ في أكوام والسلال المتناثرة هنا وهناك، وكأن عملاً بدأ ولم ينته. تلفتُّ حولي، إلا أن زينب لم تكن موجودة. سعلت مرة أو مرتين: لا جواب. وكان الصوت الوحيد الذي يصل إلى أذني هو صوت امرأة الحكيم يوبِّخ أحداً ما في البيت. ومع أن حدة صوتها كانت تثقب الجدران، لم أستطع أن أتبيّن ما كان سبب غضبها، حتى انطلقت صاحبته إلى الباحة وازداد صراخها أكثر:
«أي عمل تتحدثين عنه يا بنت الشيطان؟ من قال لك أن تذهبي إلى الحمام؟ وما شغلك في المقبرة؟ وكأنني أنا خادمتك وأنت لا عمل لك سوى التسلية والمتعة! لماذا لم تكملي عملك؟ لن تأكلي ولن تشربي ولن تنامي حتى تكمليه، فاذهبي واكمليه فوراً! وإذا عدتِ قبل أن تكمليه فوالله، بالله، وحياة النبي، سأضربك حتى تنسلخ أظافرك!»
وسمعت صوت تدافع وحركة أقدام خفيفة ورأيت عشيقة قلبي تمضي إلى الشرفة وهي تظهر الامتعاض، بعد أن كنت قد يئست من رؤية وجهها المبارك. فقلت في قلبي: «ما أعجب الحب! كيف يشحذ الذكاء وما أخصب حيله! لقد سمعت تواً كيف دبرت فاتنتي كل شيء من أجل هذا اللقاء لكي لا نخشى أن يقطعه أحد. رأتني، ولكنها لم تظهر ذلك حتى هدأت العاصفة في الأسفل؛ ثم، عندما ساد الصمت تماماً، تقدمت نحوي، والقارئ لن يخطئ إذا توقع أنني اندفعت نحوها حالاً. أنتم، يا من عرفتم العشق، يمكنكم أن تتصوروا نشوتنا، إذ أن الكلام عاجز عن وصفها.
عرفت من صديقتي الحبيبة أنها ابنة زعيم كردي وقع في الأسر مع كامل أسرته وماشيته عندما كانت طفلة صغيرة، وبعد تعاقب أحداثٍ وعدتني أن تحكيها لي لاحقاً انتهت إلى يد الطبيب فصارت جاريةً له.
وبعد أن هدأت نار انفعالاتنا المتوهجة شيئاً فشيئاً، أطلقت الفتاة العنان لمشاعر الغضب تجاه المعاملة التي تعرضت لها، وصاحت: «آه! هل سمعت كيف تسميني تلك الامرأة؟ امرأة بلا دين ولا إيمان! هذه هي معاملتها لي على الدوام: تشتمني باستمرار، وأصبحتُ أقل من كلب. الجميع يوبخني، ولا أحد يصاحبني، كبدي تحول إلى ماء وروحي ذبلت. لماذا يسمونني ابنة الشيطان؟ نعم، أنا كردية، وأنا يزيدية.15 صحيح أننا نخاف من الشيطان، ومن لا يخاف منه؟ ولكنني لست ابنته. آه، لو لاقيتها في جبالنا لأريتها ماذا يمكن أن تفعل بها فتاة كردية!»
حاولت أن أواسيها بما في وسعي وأن أقنعها أن تكظم غيظها حتى تسنح لها فرصة طيبة للانتقام. إلا أنها كانت يائسة من أن فرصة كهذه ستأتي يوماً لأن كل ما تفعله كان يخضع لمراقبة شاملة، وحتى إذا تحركت من غرفة إلى أخرى تدري سيدتها بهذا. وأخبرتني بالقصة أن الحكيم، وهو رجل من عائلة متواضعة، قد تزوج بأمر من الشاه واحدة من جواريه التي طردها من قصره بسبب خطأ ارتكبته، ولم تجلب للطبيب إلا سوء خلقها وتكبرها العظيم الآتي من ذكرياتها عن ماضيها حين كان لها نفوذ في البلاط. ولهذا تعتبر زوجها الحالي رخيصاً كالتراب تحت قدميها وتبقيه في حالة خضوع تام لها. فهو لا يجرؤ على الجلوس أمامها إلا إذا سمحت له بذلك، وهي نادراً ما تسمح. كما أن غيرتها الفائقة تجعلها تشك في جميع الجواري في بيت الحريم. والطبيب من جانبه طموح وسعيد بترقيته، إلا أنه ينقاد وراء أهوائه ويتأثر بفتنة جواريه الجميلات، وزينب نفسها، كما قالت لي، غرض اهتمامه ومن ثم هدف لغيرة زوجته التي لا تدع نظرة ولا إشارة ولا كلمة تفوتها. بيت الحريم مليء بالمؤامرات والمكايد والتجسس، وعندما تذهب السيدة نفسها إلى المسجد أو إلى الحمام تأخذ ترتيبات دقيقة لتوزيع الجواري من حيث الزمان والمكان والفرصة وكأنها تقوم بترتيب حفل زفاف.
فاجأني هذا الكلام لأنني لم أر داخل الأندرون إلا ما أتذكره منذ كنت صبياً في بيت أبي، وأثارت حكاية الجميلة زينب فضولي وازداد بزيادة التفاصيل في روايتها عن حياتها في بيت الطبيب. قالت:
«في الأندرون خمس جوارٍ ما عدا السيدة. هناك شيرين، الجارية الجورجية؛ ثم نور جهان16 الأمة الحبشية؛ وفاطمة الطباخة، وليلى العجوز الفهرمانة؛ أما أنا فخادمة الخانم، كما يخاطبون سيدتنا: أعتني بنركيلتها وأغلي لها القهوة وأقدم لها الوجبات وأذهب معها إلى الحمام وأساعدها في ارتداء ملابسها ونزعها وأحضر لباسها وأنشر وأفرك وأسحق وأنخل التبغ وأقف أمامها. شيرين الجورجية هي الصندوقدار، أي مدبِّرة المنزل، وهي تعتني بملابس سيدي وسيدتي بل ملابس الجميع؛ وتشرف على النفقات وتقوم على توفير المؤن كلها، وهي المسؤولة عن أواني الفخار والفضة وغيرها، أي تحت يدها كل ما هو ثمين أو هام للأسرة. ونور جهان السوداء مسؤولة عن الفرش، وهي تقوم بكل الأعمال الخسيسة مثل نشر السجاد وكنس الغرف ورش الماء في الباحة ومساعدة الطباخة وإيصال الرسائل والأمانات والأغراض، أي أنها تحت أمر الجميع. أما ليلى العجوز فهي الفهرمانة وتقوم على الجواري الشابات، وهي تقوم بالأعمال خارج البيت وتنفذ ما تكلفها بها الخانم في أندرونات الجيران، كما عليها أن تتجسس على ما يفعله الحكيم. ونمضي أيامنا في خصامات شرسة، وفي كل ساعة تكون كل اثنتين منا في صداقة قوية ضد الاثنتين الأخريين. وحالياً أنا في حرب ضروس مع الجورجية التي وجدتْ منذ فترة أن سعدها تركها فدبرت تميمةً من درويش، وحالما حصلت عليها أهدتها الخانم في اليوم التالي سترة جديدة، ما أثار غيرتي لدرجة أنني ذهبت إلى الدرويش فطلبت منه رقعة تضمن لي زوجاً أحسَدُ عليه، وفي المساء نفسه رأيتك على الشرفة. تصور كم كانت سعادتي! ولكن هذا أثار الحسد بيني وبين شيرين، فصار بيننا عداوة لدودة، وقد نصبح فجأة صديقتين من جديد. وأنا الآن في أعز صداقة مع نور جهان، وهي تبلغ الخانم عن أي هفوة ترتكبها غريمتي. مثلاً، وصلتنا منذ أيام بقلاوة فاخرة من إحدى جواري الشاه في البلاط هدية إلى سيدتنا؛ وأكلت الجرذان أغلبها، ولكننا قلبنا الأمر بحيث أن الجورجية هي المذنبة، فلاقت ضرباً على قدميها بأمر من الخانم ومن يد نور جهان. كسرت الفنجان المفضل لسيدتي، فوقع اللوم على شيرين، فاضطرت إلى شراء فنجان آخر بدلاً منه. أعرف أنها تتآمر علي، لأنها تتناجى باستمرار مع ليلى، وهي في هذه الأيام حبيبة سيدتنا. وأحاول ألا آكل ولا أشرب أي شيء لمسته يداها خوفاً من السم، وهي تعاملني بالمثل. لم يصل كرهنا لبعضنا إلى درجة التسميم، ولكن هذه هي ترتيبات الحذر المعتادة في جميع بيوت الحريم. لم نصل إلا مرة واحدة إلى المشاجرة حين أثارت في قلبي غضباً عارماً بأنها بصقت وقالت «اللعنة على الشيطان»، وأنت تعرف أنها أكبر شتيمة عند اليزيديين. فانقضضت عليها وأنا أسبها بكل الشتائم التي تعلمتها بالفارسية وبدأت أنتف شعر رأسها خصالاً كاملة. وفصلت بيننا ليلى التي جلبت حصتها من الشتائم وبقينا نتشاتم ونتلاعن حتى جفت حلوقنا وبحت أصواتنا. لم نتشاجر بعد ذلك، ولكن العداوة بقيت كما هي، وتسعى شيرين إلى إيذائي بكل ما تيسر لها من وسائل.»
بقيت زينب تحكي لي قصص الحريم حتى الفجر، وعندما سمعنا أصوات المؤذنين يدعون إلى صلاة الصبح من المساجد رأينا أنه من الحكمة أن نفترق بعد أن تواعدنا باللقاء مع كل الحذر والحيطة، واتفقنا أنها متى استطاعت أن تؤمن فرصة لنلتقي بأمان ستعلق حجابها على فرع الشجرة في وسط الباحة، والتي يمكن أن أراها من شرفتي؛ وإن لم أجده هناك أعرف أن لقاءنا غير ممكن.
الفصل الخامس والعشرون. العاشقان يلتقيان من جديد ويسعدان باللقاء. حاجي بابا يغني
في المساء القادم صعدت إلى السطح وفي قلبي أملٌ أن أرى علامة اللقاء، ولكن يا حسرتي لم أر أي شيء على أغصان الشجرة، فجلست خائباً يائساً. اختفى التبغ وكل المعدات، والصمت يخيم على الدار في الأسفل، وحتى صوت زوجة الطبيب كان غائباً، وبدأت أشعر أنه أجمل صوت في الكون، ولم يكن مسموعاً إلا وقع قبقاب لا يمكن أن تكون صاحبته إلا ليلى العجوز. وسمعت من بعيد أصوات الطبول والأبواق من فرقة البلاط الموسيقية تعلن غروب الشمس؛ كما سمعت أصوات المؤذنين يدعون إلى صلاة المغرب وقرع طبول الشرطة التي كانت تأمر الناس بضرورة إغلاق المتاجر والعودة إلى منازلهم. وبين حين وآخر كانت تصلني صيحات الحرس من أبراج قصر الشاه. نزل الليل، وبقي بيت حريم الحكيم صامتاً.
فتساءلت: «ترى، ما السبب؟ لو ذهبن إلى الحمامات لا يمكن أن يمكثن هناك حتى هذه الساعة؛ ثم أن الحمامات مفتوحة للنساء في ساعات الصباح فقط. إما مرض أحدهم أو هناك زفاف أو وفاة أو ولادة؛ أو ربما حكيم باشي أكل فلقة...» كدت أقتل نفسي بالتخمين حين سمعت دقاً شديداً على الباب، وعندما فُتِح سمعت وقع القباقيب وأصوات النساء يتميز بينها بوضوح صياح الخانم. وانتقلت أضواء عدة مصابيح جيئة وذهاباً فكشفت لي خيالات النساء وهن ينزعن أحجبتهن، وميزت بينها خيال زينب. فقررت المكوث والانتظار أملاً بأن يجود نصيبي علي برؤيتها، ولم يطل انتظاري حتى ظهرت على السطح. انسلت إلي بحذر بالغ لتخبرني أن الظروف لن تسمح لنا باللقاء اليوم لأن الجميع سيفتقدونها حتماً، ولكنها ستحاول أن تغتنم فرصة في أقرب وقت. وقصت علي في بضع كلمات أن سيدتها دعيت لعيادة أختها (وهي جارية في قصر الشاه) التي أصيبت بمرض مفاجئ ما طال عليها حتى ماتت (ويشتبه أن ذلك بفعل سم دسته لها إحدى غريماتها)، وأن الخانم أخذت إلى القصر جميع حريم الحكيم ليشاركن في البكاء والنواح كما هو معهود في مثل هذه المناسبات؛ وأنهن مكثن هنالك منذ الظهر تملأن الجو بالعويل وصرخات الحزن حتى بحت أصواتهن، وأن سيدتها مزقت ملابسها حسب الأعراف، وأخذت كل الاحتياطات نظراً لأنها ارتدت سترتها المفضلة، بحيث أنها لم تمزق إلا درزين أو ثلاثة ليسهل تصليحها. وبما أن الدفن سيجري غداً، من الضروري على النسوة الذهاب إلى المكان في الصباح الباكر لاستكمال العويل والرثاء، وهي تتوقع أن الخانم ستهديها خماراً أسود مقابل ذلك فضلاً عن ضيافة الحلوى. ثم تركتني حبيبة قلبي واعدةً أنها ستبذل كل ما في وسعها من أجل اللقاء في الليلة القادمة ونبهتني ألا أنسى العلامة.
عندما صحوت في الصباح فوجئت حين شاهدت العلامة ورأيت زينب وهي تومئ إلي أن آتي. لم أتردد في النزول فوراً على الدرج الذي كانت تصعد منه عادةً إلى الشرفة، فوجدت نفسي فجأة في قلب الدار. شعرت بالرجفة في بدني عندما فكرت أني في مكان مستحيل أن يدخله رجل بلا عواقب وخيمة عليه؛ ولكني تابعت المسير تشجعني حبيبتي بابتسامتها ومزاجها الطيب، إذ قالت:
«تفضل يا حاجي، ولا تخف من شيء، فلا أحد هنا عدا زينب، وإن حالفنا الحظ قد يكون النهار كله من نصيبنا.»
فصحت: «بحق الله! بأي معجزة قدرت تدبير هذا؟ أين الخانم؟ وأين النسوة؟ وحتى لو ذهبن، فكيف نأمن ألا يأتي رب البيت؟»
فكررت كلامها: «لا تخف، فقد أقفلت جميع الأبواب، وإن جاء أحد سيكون عندك ما يكفي من الوقت لتهرب قبل أن أفتحها. ولكن لا خوف من هذا، فجميع النساء ذهبن إلى الجنازة، أما الميرزا أحمق فقد احتاطت سيدتي لتبعده عن البيت بحيث لا يجرؤ على الاقتراب من داره أقرب من فرسخ، بما أنها تركتني هنا بمفردي. أراك مذهولاً؛ فاعلم أن نجمنا في صعود، والتقينا أول مرة في ساعة سعد، وكل شيء يجري لصالحنا. غريمتي الجورجية لعبت بعقل الخانم أن حضور ليلى في المأتم لا غنى عنه بسبب براعتها في العويل، فقد تعلمت هذا الفن بحذافيره منذ الطفولة، وأن عليها أن تأخذها بدلاً عني لأنني كردية ولا علم لي بتقاليد الفرس وعاداتهم؛ كل هذا طبعاً لتحرمني من الخمار الأسود والضيافة في المأتم. ولذلك تركوني في البيت، وانطلق الجميع إلى بيت المرحومة. تظاهرت بالغضب الشديد وعارضت أن تأخذ ليلى مكاني. والحمد لله، نحن هنا، فلنستفد من وقتنا على أكمل وجه!»
وهنا توجهت إلى المطبخ لتحضر صينية فطور لي وتركتني أفحص ما هو مخفي عن كل عازب، أي تفاصيل بيت الحريم.
أول مكان فحصته هو غرفة الخانم نفسها. كانت تطل على الباحة من خلال شباك واسع من الزجاج الملون، وفي قرنتها أريكة تجلس السيدة عليها عادةً من سجادة لباد ثخينة مطوية ووسادة ضخمة مغطاة بقماش ذهبي مزينة بالشرافات على طرفيها مع غطاء خارجي من الشاش. وأمام هذه الأريكة كان هناك مرآة ذات إطار جميل وصندوق فيه أدوات تثير الفضول: الكحل في مكحال للعينين، وحمرة صينية، وسواران فيهما تعاويذ وإكليل للشعر وسكين ومقص وأشياء أخرى كثيرة. وكان فراشها ملفوفاً في قرنة بعيدة ومغطىً بقماش أبيض وأزرق. وكان على الجدران عدد من الصور غير مؤطرة، وعلى رفوف الخزانة في صدر الغرفة رأيت أواني من زجاج وفخار وصواني نحاس فضلاً عن عدد من زجاجات النبيذ الشيرازي، كانت واحدة منها مسدودة بزهرة، ويظهر أن السيدة شربت منها في هذا الصباح لتقوية نفسيتها خلال مراسم الدفن.
فقلت لنفسي: «إذن، شرع الله ورسوله لا يراعى في هذا البيت. والآن أعرف كيف أنظر إلى رجل يظهر علامات البر والتقوى. طبيبنا يسمي نفسه مسلماً ثابتاً على الإيمان، وأراه يعوض شرب الماء والعصير خارج بيته بمخزون الخمر في بيته.»
وبينما أرضيت فضولي في هذه الغرفة وشاهدت الغرف الأخرى كانت زينب قد حضّرت الفطور وجلبت الصينية إلى غرفة السيدة. جلسنا جنباً إلى جنب وارتكينا إلى الوسادة الموصوفة. وكان ذاك الفطور أطيب ما ذقته في حياتي: صحن رز أبيض كالثلج وصينية قطع صغيرة من اللحم المشوي ملفوف في رغيف خبر ضخم، وبطيخة إصفهانية مقطعة قطعاً طويلة، وأجاص ومشمش وعجة مسخنة من الوجبة السابقة، والجبن والبصل والبراصية وزبدية لبن خاثر ولونان من المثلجات، فضلاً عن بعض الحلويات الشهية وزبدية عسل الموسم.
هتفتُ وأنا أتأمل كل هذه المآكل الشهية وأشد سوالفي من الدهشة: «بحياة أمك! كيف حضرت كل هذه الوجبة بهذه السرعة؟ إنه فطور الملوك!»
فأجابت: «لا تقلق بل تفضل وكل ما تشتهي. أمرت سيدتي أن يجهزوا لها فطوراً خلال الليل، ولكنها قررت في الصباح أن تأكل في بيت المرحومة فلم يبق علي إلا القليل كما ترى. كل هنيئاً وافرح.»
فجلسنا وأكلنا ولم نترك من المآكل إلا القليل لمن قد يأتي بعدنا. وبعد أن غسلنا أيدينا وضعنا النبيذ أمامنا وتناول كل واحد منا كوباً وهنأنا نفسنا بأننا أسعد مخلوقين في الدنيا كلها.
ملأ السرور قلبي فأخذت طنبوراً كان في الغرفة فنسيت كل مخاوف الحاضر وهموم المستقبل فدوزنته ليناسب صوتي وأنشدت قصيدة لحافظ الشيرازي تعلمتها في صباي عندما كنت أسلي زبائني في الحمام:
أعجبت زينب لهذه القصيدة إذ لم تسمع في حياتها شيئاً بهذا الجمال، فنسينا أننا تعيسان – هي جارية وأنا من أفقر الناس – فشعرنا وكأن كل ما حولنا لنا، وأن الخمر والحب باقيان إلى الأبد.
وبعد أن أنشدت عدة قصائد أخرى وأفرغنا عدة كؤوس من النبيذ وجدت أن قصائدي نضبت، وكذلك زجاجة النبيذ.
كان الوقت لا يزال مبكراً، ومعنا وقت طويل، فقلت: «يا زينب، لقد وعدتني أن تروي لي قصة حياتك، والوقت الآن مناسب، فلن يقاطعنا أحد، ولقاءاتنا في الليالي غير أكيدة، وخير ما نملأ به الساعة هو قصتك.» فردّت «على عيني ورأسي!»، وبدأت قصتها كما يلي.
الفصل السادس والعشرون. سيرة زينب الجارية الكردية
أنا ابنة زعيم القبيلة المشهور في كردستان باسم أوكوز آغا. لا أعرف أمي، وسمعت أني ولدت في الطقوس السرية في كرند؛18 ولكن بما أن هذه الطقوس السرية لا يحكى عنها بيننا نحن الأكراد، لم أجرؤ يوماً على الاستفهام من أحد عنها، ومن ثم لم أستطع التحقق ما إن كانت أخبار ولادتي صحيحة أم لا. المؤكد أنني لم أعتبر أحداً أمي، بل نشأت بين نسائنا، وأقدم أصدقائي كان مهرٌ يعيش معنا في بيتنا. لقد ولد في الخيمة التي كانت تسكنها نساء والدي، وكانت الفرس أمه من أصل عربي صرف، وكانت معاملتها وكأنها واحدة من أفراد الأسرة لا معاملة دابة، بل كان أبي يهتم ويعتني بها أكثر مما يهتم ويعتني بأي واحدة من زوجاته، وكان لها أدفأ مكان في الخيمة وأغطية جميلة، وفي كل سفراتنا كانت موضع الاهتمام الأكبر. وعندما ماتت الفرس عمّ الحداد المخيم كله. وكان المهر مخصصاً ليصبح جواد أبي، ولا يزال حتى أيامنا فخر كردستان. ولكن ليت ولعنا بهذه الدواب لم يكن بهذه الشدة! فلولاه لربما بقيت حرة، إذ كل المصائب التي رمانا بها القدر كانت بسبب فرس سأحكي لك عنها لاحقاً.
تعرف أن الأكراد يأبون أن يخضعوا لأية سلطة، إلا أن أسلافنا (وأبي أيضاً حتى زمن ليس ببعيد) كانوا يرعون قطعانهم وينصبون خيامهم في ذاك الجزء من جبال كردستان التي تتبع للأتراك وتخضع لحكم الباشا في بغداد. ومتى وجد الأمير أن الحرب وشيكة كان يدعو قبائلنا لنقدم له فرساناً، وفرساننا مشهورون في أرجاء آسيا بشجاعتهم وبسالتهم في ساحات القتال. وكان والدي بفضل قوته وبسالته وفروسيته من المقربين إلى الباشا فيطلبه دائماً في مثل هذه المناسبات. ومنظره مهيب عندما يمتطي حصانه، وعندما يقع على وجهه ظل قبعته تثير نظراته الرعب. لقد قتل العديد من الرجال في المعارك فمُنِح خصلة من شعر الحصان يثبتها على رمحه. ولكن أجمل منظر له حين يلبس دروعه. لن أنسى مظهره العظيم عندما رأيته في السرج بين ألف فارس يرتدون جميعهم دروعاً لامعة، وريش الطاووس يزين خوذهم، ورماحهم تلمع في نور الشمس وهم يستعدون للانضمام إلى جيوش الباشا. وبدأت بعض محننا من تلك الحملة. لقد تقدم الوهابيون نحو أراضي بغداد بل هددوا أسوار المدينة حين رأى الباشا أن الوقت قد حان لدعوة الأكراد لمساعدته.
نزل الباشا إلى الميدان بجيوش ضخمة وانطلق نحو العدو. وجاء والدي بجيشه ملتفاً على العدو في الجبال وباغتهم ليلاً، وحدث أن اشتبك والدي مع ابن الشيخ العربي نفسه الذي كان يقود جموع الوهابيين؛ فقتله أبي واغتنم درعه وسلاحه وأخذ معه الفرس التي كان يركبها عدوه. وكان يعرف تمام العلم قيمة هذه الغنيمة، فأخذ كل الاحتياطات على الفور كيلا يعلم بها زعيم الأتراك؛ فلو علم لفعل كل ما بوسعه ليستولي عليها منه. فأرسل الدابة إلى دياره وأمر رجاله بالتنقل خفيةً وأن يسكنوها في خيمة حريمه. إلا أن حيلته لم يكن منها جدوى، إذ أن بطولته وتفاصيلها باتت معروفة للجميع. ولكن بما أن الباشا كان يقدِّر أبي تقديراً عظيماً ولم يكن هناك ما يدعوه إلى الافتراض أن الفرس غير عادية فلم يسأل عنها.
ولكن بعد فترة وجيزة من انقضاء الحرب، وبعد أن تقهقر الوهابيون إلى صحرائهم وعاد الأكراد إلى جبالهم فوجئنا في صباح أحد الأيام بزيارة أحد كبار المسؤولين في قصر الباشا، وهو ميرآهور، أي قيّم الاصطبل، يرافقه قافلة من عشرة رجال مسلحين. اندفع الجميع لإكرامهم، فسيقت خيلهم إلى أقرب مرعى وفير العشب، ودعي الفرسان إلى خيمة الرجال حيث قدمت لهم القهوة والغلايين، ونصب على النار قدر ضخم من الرز واللحم، وذُبِح كبشان وجهزت النسوة المقبلات وشرعن بعجن العجين وبخبز أكوام من الخبز بهذه المناسبة، أي قمنا بكامل واجبات الكرم المفروضة على قبائل الرحل.
حالما عرف والدي بقدوم الضيوف عندما ضبطوا على مبعدة من المخيم خطر على باله هدف زيارتهم، فأمر ابنه الأكبر بأن يركب الفرس بلا تأخير وأن ينطلق بها إلى وادٍ قريب ويمكث بها هناك حتى يصله خبر. كانت خيامنا تصطف على ضفة ساقية جبلية حفرت وادياً عميقاً، لذا كان من السهل الانسلال عبر الوادي. والجبال الشاهقة حولنا، والتي نعرفها جيداً، تضمن لنا ملجأ آمناً لو وقعت أية اضطرابات.
أتذكر التفاصيل وكأن القصة حدثت بالأمس. فنحن النساء كانت خيمتنا ملاصقة لخيمة الرجال ففتحنا بأصابعنا فتحات في اللباد واسترقنا النظر منها. وكان قيم الاصطبل وتركيان آخران جالسين، والباقون واقفين عند المدخل مرتكئين على سيوفهم. كان أبي جالساً على السجادة ويداه على ركبتيه وقدماه تحته يظهر التواضع، وفي الوقت نفسه يتابع بنظرات حادة كل ما يجري حوله.
فقال أبي: «أهلاً وسهلاً بالضيوف. حلّت البركة!»
فردّ الميرآهور عليه: «البركة فيكم. اشتقنا لكم. اكتحلت عيوننا برؤيتكم!»
وبعد أن كرروا هذه التحيات وتحيات مماثلة مراراً وتكراراً صمتوا ودخنوا غلايينهم وانشغلوا بها عن الأحاديث حتى امتلأ المكان بالدخان.
ثم قال الميرآهور: «سيدنا ومولانا الباشا يبعث إليك بالسلام، وهو يحبك، وأنت أعز وأقدم أصدقائه. أنت – ما شاء الله! – رجل طيب، والأكراد جميعهم رجال طيبون، أصدقاؤهم أصدقاؤنا وأعداؤهم أعداؤنا!»
وأثنى الأتراك الواقفون على كلامه بهمهمة مبهمة، وأجاب والدي وهو يرفع كتفيه ويضغط يديه على ركبتيه: «أنا في خدمة الباشا وفي خدمتكم، شرفتموني. الحمد لله نأكل خبزنا ونرتدي قبعاتنا بالمائل دونما خوف في ظل حكم الباشا أغدق الله عليه من نعمته.»
وتابع الضيف بعد سكوت قصير: «جئنا يا أوكوز آغا بمسألة حساسة. لقد أرسل الوهابيون (اللعنة على لحاهم!) وفداً إلى الباشا يطلبون منه الفرس التي كان يركبها ابن شيخهم ساعة مقتله. ومع أنهم قالوا أن دمه على رؤوسنا ولا يفديه إلا روح الباشا أو ابنه، ولكنهم مستعدون للتنازل عن الثأر بشرط أن تعاد الفرس إليهم، فهي، كما قالوا، ذات أصل رفيع لا يضاهيه أي خيل في بلاد العرب، وأن أصلها يعود جيلاً بعد جيل إلى الفرس التي ركبها نبينا المبارك ﷺ حين هاجر من مكة إلى المدينة، وأنهم مستعدون مقابل استعادتها لسكب الذهب على أرض البلاط حتى يكتفي الباشا ويقول لهم «توقفوا!». وكل العالم يدري أنك أنت البطل الذي غلب ابن الشيخ وقتله، وأن فرسه غنيمتك. وقد رأى مولاي الباشا بعد استشارة أعيان بغداد ونبلائها أن يعيد الفرس إلى الوهابيين؛ وبما أن الأمر بات الآن قضية حكومية أرسلني لأطلب منك أن تسلمني الدابة لآخذها إلى بغداد. هذه هي غايتي، وقد بلغتك بها.»
فصاح أبي: «والله! بالله! قسماً بملح الباشا الذي آكله وبروحك وحياة أمك التي حملتك وبالنجوم والسماوات، أقسم أن الوهابي كذاب! فأين تلك الفرس الأصيلة التي يزعمون خسارتها من تلك الدابة الهزيلة التي كانت من نصيبي؟ صحيح أنني غنمت فرساً، ولكنها كانت نحيلة ورديئة فبعتها لأعرابي بعد يوم من المعركة. عندي سرجها ولجامها، إن أحببتم، أما الدابة نفسها فليست عندي.»
وهتف الميرآهور: «الله! الله! إن هذا لأمرٌ خطير. يا أوكوز آغا، أنت رجل مستقيم، وأنا كذلك. لا تضحك على لحانا ولا تصرفنا بلا عماماتنا. إذا عدنا إلى الباشا ولم نحضر الفرس معنا نخرج بسواد الوجه وباب الصداقة بينك وبين الباشا يوصد إلى الأبد. أستحلفك بروحك: أين ذهبت بالدابة؟»
فأجاب والدي: «يا صديقي، ماذا أقول لك؟ الفرس ليست هنا، والوهابيون كذابون، ولم أقل إلا الحق.» ثم دنا من الميرآهور وتحدث معه طويلاً بصوت خافت وكلام طيب وإيماءات نشيطة وقناعة قوية، وبدا في نهاية الحديث أنهما اتفقا على أمر. فقال الميرآهور جهراً:
«طيب، ما دام الأمر كذا والدابة ليست عندك فالله كريم ولا يردّ مخلوقٌ ما قدّره الخالق. نحن عائدون إلى بغداد.»
فقام أبي من مقعده ودخل خيمة الحريم تاركاً ضيوفه يدخنون ويشربون القهوة استعداداً للوليمة. وأمر زوجته، وكانت الأمينة على أمواله، بأن تحضر له كيساً من الذهب لفوه في خرق بالية ووضعوه في صندوق تركوه مع عدة حصان فاخرة وسرج فخم وأغراض ثمينة أخرى في قرنة الخيمة. وأخرج عشرين ديناراً ذهبياً وربطها في طرف منديل وأخفاها في جيبه، ثم أمر بتقديم الغداء في الحال وعاد إلى ضيوفه. وخلال المأدبة ساد الصمت باستثناء أحاديث قليلة دارت حول الخيل وكلاب الصيد والسلاح. سحب الميرآهور من حزامه فرداً طويلاً مطعماً بالفضة وعرضه للحضور قائلاً أنه فرد إنكليزي أصلي. ورجل آخر استعرض سيفه وأكد أنه نصل خراساني أسود فائق الجودة. وأبرز أبي سيفاً قائماً طويلاً ذي حدين استولى عليه من ابن شيخ الوهابيين الذي أرداه قتيلاً.
وعندما جهز الغداء مدوا مائدة جلدية مستديرة أمام الضيف نثرت عليها أرغفة الخبز الساخن، وقدموا الماء لغسل اليدين. ووضعوا في وسط المائدة صحناً خشبياً كبيراً من الشوربة، وقال والدي جهراً «بسم الله» فجلس جميع الحضور، وهم الميرآهور ومرافقوه العشرة ووالدي وثلاثة من بني قومنا، حول الصحن وقدم كل واحد منهم كتفه اليمنى وأكلوا الشوربة بملاعق خشبية. وبعد الشوربة جاء خروف مشوي كاملاً مزقوه إلى قطع خلال وقت وجيز وحظي كل واحد بأكبر قطعة استطاع اقتطاعها. وبعد ذلك جاء طبق ضخم من الرز أكله الحضور جميعهم بأصابعهم. وبعد أن شبع الجميع قاموا واغتسلوا وهم يقولون «الحمد لله» و«أدام الله نعمته عليكم». وأخيراً رفعت المائدة وأخذت إلى خارج الخيمة حيث أكمل الرعاة ما تبقى من الوليمة.
لم يكن الميرآهور يحب المبيت في الجبال، وهمّ بالرحيل، فذهبت حاشيته لتجهيز الخيل، فتركوه على انفراد مع والدي في الخيمة. وبما أنني تابعت المجريات من بدايتها أصررت على متابعة ما يجري بينهما فاستمعت إلى محادثتهما بانتباه.
قال والدي: «ما أستطيع أن أقدمه هو عشرة دنانير. إننا فقراء، فمن أين لي المال؟» فأجاب الميرآهور: «مستحيل. أنت خير من يعرف ماذا سيحدث لو لم أقبض ضعف هذا المبلغ: حالما يعرف الباشا أننا عدنا بدون الفرس سيأمرني بالعودة إليك للقبض عليك ومصادرة كل ما تملك. في الحقيقة، أمرني بأن أقبض عليك فوراً لو رفضت طلبه، ولكني لن أمسَّك بسوء إذا وافقت على شروطي، وهي عشرون دينار ذهباً. والقرار لك يا صديقي.» فأخرج والدي المنديل من جيبه وأخرج النقود منه وعدّ عشرين ديناراً في يد الميرآهور، وهذا، بعد أن تأكد من أن القطع جميعها صالحة وغير معيبة، حل عمامته ووضع الذهب في طياتها ثم لفها حول رأسه ثانيةً، وقال لأبي: «الآن بيننا خبز وملح، وإذا سعى الباشا لإيذائك سأتدخل لصالحك. ولكن عليك أن ترسل إليه هديةً وإلا فلا يستطيع أحد أن يقيك من شره.»
فأجاب والدي: «على رأسي! عندي كلب صيد شهير ذاع صيته في كل أرجاء كردستان يستطيع أن يمسك الغزال وهو يعدو؛ إنه وحش لم ير أبو شاه فارس مثله حتى في أحلامه. أيكفي هذا؟»
«هذا ممتاز، لكنه لن يكفي؛ فأنت تريد أن يرضى مولاي الباشا عنك.»
فقال أبي: «اسمع ما خطر على بالي: عندي ابنة أجمل من القمر، ورْكاءُ ممتلئةُ البدن. وقل له: مع أن اليزيديين كافرون في عينه، وأنهم كالتراب تحت قدميه، فقد يحب أن يحوز حسناء تغار من جمالها حوريات الجنة، وأنا مستعد أن أرسلها إليه.»
فصفق الميرآهور بيديه مسروراً وصاح: «أحسنت يا أوكوز آغا! هذا عظيم! سأنقل عرضك إليه ولا شك في أن هديتك ستعجبه فيصرف الوهابيين خائبين، وسيكون لك يد قوية في بيت حريم الباشا تخرجك من هذا المأزق وتحميك في المستقبل!»
وبدا أنهما اتفقا على هذا، فتركت مرصدي وأنا الضحية، لأفكر في مصيري. كنت سأبكي بادئ الأمر على ما حكم والدي علي به، ولكن بعد تفكير قلت: «يا ربي! سأكون زوجة الباشا! وسألبس أثواباً رفيعة! وسيحملونني في هودج! وأثير حسد كل بنات الجبال!»
وبعد فترة رأيت من خيمتي الميرآهور ومرافقيه يركبون خيولهم بمحاذاة سلسلة التلال قرب مخيمنا، آخذين معهم كلب الصيد لابساً أفخم عدته. ثم سمعت أبي يحمد الله على تخليصه من هؤلاء الضيوف الثقال.
وحالما اختفى زوارنا من الأنظار، أرسل أبي أحد أولاد الرعاة إلى ابنه في الجبال يأمره أن يعود بالفرس. وبعد أن وصلت الدابة إلى بر الأمان في خيمة الحريم، دعا شيوخ قبيلته من أقاربه وأقارب زوجاته الذين كانوا يخيمون في جوارنا، وشرح لهم أوضاعه، وبيّن أن الخراب سيلحق بنا جميعاً إذا مكثنا في أراضي الباشا الذي لن يقصِّر في ابتزازنا وفرض الغرامات علينا حتى يودي بنا إلى الفقر والإفلاس. كان الزعماء مجتمعين في خيمة الرجال وعددهم عشرة، وفي الصدر يجلس عم أبي أكبر شيوخ القبيلة، وهو رجل مسن لحيته البيضاء كالثلج تصل إلى نطاقه.
قال أبي: «أنتم خير من يعلم أننا يزيديون، وتعرفون حق المعرفة الحقد الذي يكنه المسلمون جميعهم لنا. لقد تظاهر الباشا بالصداقة نحوي لأنني قاتلتُ إلى جانبه في معاركه واستبسلتُ في القتال وشربتُ دم أعدائه. ولكن حبه للمال يعلو على كل شيء ولن يشبعه إلا التراب، ويحبُّ أن يراني أنا وأبي وجدي وجميع أسلافنا وأبناء جلدتنا في الجحيم. عددنا أقل من أن نقدر عليهم، مع أنني، وقسماً بتلك القوة العظيمة التي نعبدها، لولا أن عندنا زوجات وأولاد نحميهم لما خفتُ من مواجهته ممتطياً فرسي والرمح في يدي والسيف على جانبي ومن مواجهة جميع أولاد الحرام الأنذال تحت يده، وأحب أن أرى ذاك الشركجي19 الذي يجرؤ على الوقوف في وجهي. ولذا أطرح عليكم أن نترك أراضي الأتراك حالاً ونرحل إلى فارس حيث نلقى الترحيب والحماية.»
فتحرك عم والدي والجميع يصغي بإجلال إلى ما سيقوله: «يا أوكوز آغا، أنت ابن أخي، وأنت ولدي، وأنت زعيم قبيلتنا وعمادها وحافظها. لو نصحتك بأن تعيد الفرس إلى الباشا لاعتبرتني غير جدير بأن أكون كردياً ويزيدياً؛ وحتى لو حصل عليها الآن لن ننجو من شره، إذ أعرف من تجربتي مع الحكام الأتراك أنهم متى وجدوا ذريعة للظلم والاضطهاد لا يتوانون عن استغلالها. ومن ثم فإني من رأيك: لا يجوز لنا أن نبقى هنا. أنا رجل عجوز وقد اعتدت منذ طفولتي على رعي خيولنا وقطعاننا في هذه الجبال وأن أرى الشمس تشرق من وراء ذاك الجبل وتغرب في ذلك السهل البعيد، وأحب هذه البقاع التي ولد أسلافنا وولدنا وترعرعنا فيها وأكره فراقها، ولكني لن أرضى أن يقال عني أن مشاعري كانت سبباً لهلاك قبيلتنا، ولذا أدعو إلى الرحيل بلا تلكؤ، فالتأجيل خطر. فخلال يومين ستأتي جيوش الباشا وتأخذ رهائن منا، فنبقى محبوسين هنا ويدركنا الخراب. لنذهب يا أولادي، والله أكبر وهو الغفور الرحيم. وقد يأتي يوم نعود فيه إلى الترحال بين المراعي الصيفية ومضاربنا الشتوية بلا خوف ولا قلق.»
وحين أتم الشيخ كلامه تحدث راعٍ عجوز عارف بكل ما يتعلق بالمواسم وضليع بالأرض بين جبالنا وجبال فارس فقال: «إذا قررنا الرحيل فعلينا أن نرحل فوراً، فيوم تأخير قد يوقفنا. لقد بدأت الثلوج في الجبال بالذوبان وستمتلئ الوديان بالسيول في غضون أسبوع فيعجز الغنم عن عبورها. كما أن الشمس بعد ثلاثة أسابيع ستدخل في برج الحمل فتنجب نعجاتنا إن شاء الله، وينبغي أن تكون قد أتمت الرحلة وارتاحت قبل ذلك بأيام. إذن، علينا أن نعتمد ما هو المكان الذي سنمكث فيه لأن قبائل الرحل في فارس تتشبث بمراعيها، وإذا تعدينا على حقهم بلا إذن من الحكومة سيتقاتل رعاتنا مع رعاتهم ولا يعلم عواقب ذلك إلا الله.»
فردّ أبي: «كلامه صحيح والله.» ثم التفت إلى الراعي وقال: «أحسنت القول يا قره بيغ، عافاك الله! أنت خادم أمين ونصيحتك طيبة. فقبل أن نفكر بالاستقرار في فارس يجب أن يذهب أحدنا إلى كرمانشاه ويطلب إذن الأمير بأن يعين لنا مراعي كافية. ومتى أفلتنا من قبضة الباشا سأتولى الأمر وأعود إليكم فنتجنب النزاع مع قبائل الرحل الآخرين.»
أجمع الحضور على الرحيل الفوري فأعطى والدي أوامره بجمع القطعان ونزع الخيام وتحضير الثيران لتحميلها وتجهيز الإبل ليكون كل شيء معدّاً للرحيل بحلول منتصف الليل لنقطع مرحلتنا الأولى بعد نحو ساعة من مشرق الشمس. وقرر والدي أن يركب فرسه، وهي موضع اهتمامه الأول، بينما زوجته الأولى مع أولادهما كل واحد في الخروج المعلقة على جانبي الدوابّ، وكان الجمل المخصص لحملهم عليه غطاء مزركش بالخرز وقطع القماش الأحمر ومزين بشرابات على كامل محيطه.
وحالما عرفت النسوة بالأمر ملأن الجو بالعويل والبكاء، وبدت المصيبة في أعينهن أكبر مما كانت عليه، إذ اعتقدن أن جيوش الباشا ستدخل المخيم حالاً فتوقع القبيلةَ كلها في الأسر وتأخذ الناس لتبيعهم في أسواق الرقيق.
وأضافت زينب: «أما أنا فشعرت بالبؤس والشقاء لسبب آخر، فمنذ سمعت الحديث بين أبي والميرآهور لم أستطع التفكير إلا في محاسن الانضمام إلى حريم الباشا، وهنا تبدد حلمي، وبدل الثياب الفخمة والقصور المنيفة والهودج المذهب والموقع الرفيع وجدت نفسي وسط ما سئمته من تحميل الدواب وتوضيب الأغراض وخض اللبن وصناعة الزبدة.»
عمت الحركة كامل مخيمنا. كانت الجبال مليئة على مد البصر بقطعان من الماشية يسوقها رعاة قبيلتنا نحو مخيماتهم. فُكِّكت الخيم وأُعِدّت للتحميل على ظهور الدواب. وكانت النسوة، اللاتي وقع عليهن العبء الأكبر من جهود التحضير للرحيل، تسعين في كل مكان لجمع الفرش والأواني ومعدات صنع الزبدة والجميد. لُفّ السجاد وشدت رحال الإبل وجهزت البغال والثيران، ووصلت قطعان الغنم وبركت الإبل في دائرة وحمّلوها بأحمالها، وكذلك الثيران، أما البغال فربطت في سلاسل من خمسة أو سبعة حيوانات وأجراسها تصدر أصواتاً جميلة. أما الغنم والماعز فكانت قد انطلقت في مسيرها بقيادة كلاب الرعي والرعاة يمشي أحدهم في مقدمة القطيع والباقون في مؤخرته.
وفي منتصف الليل لم يبق للمخيم أثر، وبحلول الصباح كانت قافلتنا على مسافة بعيدة تلتف بين الجبال. اتخذنا سبيلاً نادراً ما يمشي الناس فيه خوفاً من أن نلتقي بأحد قد يُعلِم الباشا بوجهتنا، وبعد أيام وصلنا إلى حدود فارس بصعوبات أقل مما توقعنا. وطوال الرحلة بقي والدي ومعه كبار القوم يراقبون مؤخرتنا مستعدين لمقاومة رجال الباشا لو لحقوا بنا وحاولوا عرقلة مسيرنا. ولكن لحسن حظنا لم نصادف إلا الرعاة من قبائل كردية تقطن في البلاد التي قطعناها خلال رحلتنا.
وعندما وصلنا إلى بر الأمان انطلق والدي إلى كرمانشاه حيث يحكم أحد أبناء الشاه طلباً لحمايته والتماساً لإذن منه بالإقامة في أحد المراعي الواقعة في أراضي فارس. وكنا ننتظر عودته بفارغ الصبر إذ كنا واقفين على الحدود بين البلدين ونخشى الهجوم من الأتراك والفرس. وبما أن كلتا الدولتين انتهجتا سياسة جذب الرحل إلى أراضيهما لم نلق أية مضايقات من أمير الولاية.
وأخيراً عاد والدي ومعه مأمور من الأمير، وخصص هذا الأخير لنا مساحةً من الأرض تبعد عن حدود بلاد فارس نحو عشرة فراسخ. وكان موقعنا الشتوي في ركن آمن من الجبال فيه نبع غزير، ومراعينا الصيفية على مسافة ثلاثة أيام مسيراً تقع، كما وصفوها لنا، في أبرد مكان من الجبال المجاورة، ذات مياه غزيرة وعشب وفير، ولا خطر فيها من هجوم الأتراك.
كان والدي معروفاً في كرمانشاه، ومتى عُرِف بوصوله والغرض منه استقبله الأمير بكل رحابة واحترام وأكرمه بثوب فاخر، ولم يضع أية شروط لمكثه وأغدق عليه بوعود قاطعة بالحماية الكاملة قائلاً: «إذا طالب الباشا بك وبقومك على أنكم رعايا حكومته وطلب مني ألا أستقبلكم عندي فسأحرق أباه وأضحك من لحيته. إن أرض الله مفتوحة لكل عباده، وإذا تعرض رجل للظلم في بقعة من الأرض يرحل إلى بقعة أخرى طلباً للمعاملة الحسنة.» فاستقررنا وعدنا إلى عاداتنا وأشغالنا المعتادة.
وحصل ما توقعه الأمير. بعد وقت وجيز من وصولنا جاء رسول الباشا إلى كرمانشاه ومعه رسالة فيها طلب رسمي بأن والدي وقومه أجمعين ينبغي إعادتهم إلى أرضهم، وروى ملابسات هروبنا. وكانت الرسالة تسمي والدي لصاً سرق فرساً لا تقدر بثمن من اصطبل الباشا نفسه، وتطلب أن تعاد الدابة فوراً، وفي حال لم يعدها الأمير إلى الباشا هدده الأخير بمصادرة أملاك جميع الفرس في بغداد. علم والدي بكل هذه التفاصيل واستدعي للمثول بين يدي الأمير.
تمالكنا الذعر حالما عرفنا بالأمر، إذ أدركنا أن الباشا مصرّ على بذل قصارى جهده ليستولي على الفرس ويخرب بيت أبي، ولا شك أن قبيلة ضعيفة وفقيرة مثل قبيلتنا لا طاقة لها بمجابهة كل هذه المكايد والدسائس والمؤامرات والرشاوى من جانب رجل له مثل هذا النفوذ؛ كما أن هذه الفرس بحد ذاتها قد تكون جريمة في عين حكام فارس فيسعون للاستيلاء عليها منا عند أقرب فرصة تسنح لهم إن لم يكن اليوم. كما سينتشر الخبر بأن الكثيرين منا يزيديون، وهذا وحده يكفي لإثارة الحقد واللعنات عند أي واحد من أتباع شيعة علي، وفي الغالب سنتعرض لكل ألوان الاضطهاد متى أخذت الدسائس والمكائد مسارها، حتى لو لم يطرق موضوع الفرس الأصيلة.
وقبل أن ينطلق والدي إلى قصر الأمير أمر سراً أن تؤخذ الفرس إلى مكان آمن في حال سأله الأمير عنها واضطر إلى نفي وجودها عنده. ولكن تبين بعد عودته أن هذا الاحتياط لم يكن له ضرورة، فقد استقبله الأمير بكل حفاوة وأكد له أنه قرر رفض مطالب الباشا كلها، وألا يخاف والدي على فرسه وينعم بالأمان ما دام في أرضه، قائلاً: «لا عليك يا أوكوز آغا. ما دمت في ظلنا ضع رأسك على وسادة الراحة، فلا معنى لمزاعم الباشا بأنك وقومك من رعايا سلطانه. إن أبواب قصر والدي ملك الملوك مفتوحة للجميع، وكل غريب لمس طرف ثوبه معتصماً به ينعم بالأمان في بلاده. لقد طلبت حمايتنا، ولا نكون مسلمين لو رفضناك. عد إلى مضاربك ولا تشغل بالك واترك أمر الباشا لنا.»
ملأت هذه الأخبار قلوبنا بالغبطة، ودعا والدي زعماء القبيلة وشيوخها إلى وليمة بهذه المناسبة وتداولوا خلالها أوضاعنا وشؤوننا في الحاضر والمستقبل. ونجاح مساعينا أثار البهجة في قلوب جميع الحاضرين إلا واحداً، وهو عم والدي العجوز. كان يعرف أخلاق الفرس لأنه خدم في شبابه عند نادر شاه، ولم يكن يثق في وعود الأمير وكلامه الجميل، وقال مخاطباً الحضور: «أنتم لا تعرفون الفرس، فلم تتعاملوا معهم، لهذا تأمنون لمجاملتهم وما يظهرونه من لطف ودماثة خلق؛ ولكنني عشت بينهم ما يكفي فعرفت قيمة أقوالهم. سلاحهم غير ما اعتدتم عليه في ساحات القتال والانقضاضات الباسلة، فعوضاً عن السيف والرمح يلجؤون إلى الغدر والكيد والتدليس والمكر والنفاق والزور والافتراء، فتجد نفسك في الشرك وأنت لا تتوقع، ويأتيكم الويل والهلاك وأنتم تظنون أنفسكم على فراش من أزهار الورد. إن الكذب خلتهم والكيد شرعهم. إنهم يحلفون بعد كل كلمة يقولونها؛ وأمارة الكذب كثرة الأيمان، فما فائدة الأيمان لمن يقول الحق؟ تجد واحدهم يحلف بروحك وبرأسه وبولدك وبحياة النبي وآله وصحبه، وآخرهم يحلف بالقبلة وحياة الشاه وبلحيته، وثالثهم يحلف بموتك والخبز والملح وبموت الإمام حسين. فهل يأبهون لكل هذه الأمور؟ لا، فهم يعرفون أنهم يكذبون ومن هنا تأتي أيمانهم. فهل نحن في مأمن من الأذى، ولا نخاف على تلك الفَرَس التي جلبت على رؤوسنا كل هذه المصائب؟ إن الفُرْس مولعون بالخيل أكثر من الأتراك، والفَرَس العربية في عيونهم أغلى من الماس والياقوت. لو سمع الشاه عنها سيرسل فوراً يطلبها، فماذا يبقى لنا؟ هل نقاتل العالم كله؟ لا يا إخواني. لكم أن تصدقوا ما شئتم، ولكني أرى أن وضعنا خطر وأنصحكم ألا تضعوا ثقتكم بأي فارسي مهما كانت صفته.»
وقد تبين أن رأي العجوز صائب كل الصواب، وها أنت تراني هنا. ففي صباح باكر، وقبل ساعة من الفجر، سمعنا صخباً غير معتاد بين كلاب المخيم التي انطلقت تنبح وما كانت تسكت. لم نعرها اهتماماً بادئ الأمر لأننا اعتدنا على هجمات الذئاب التي كانت تصدّها كلابنا، ولكن بعد أن طالت الضجة نهض والدي وأبناؤه وذهبوا ليتبينوا الأمر مصطحبين بنادقهم معهم. وقبل أن يمضوا عشرين خطوة رأوا فارساً، ثم فارساً ثانياً ثم عدداً من الفرسان الآخرين، فوجدوا أن مخيمنا محاصر من كل جوانبه. فأطلق والدي نفير الإنذار فوراً، وعمت الحركة المخيم في الحال. هجم الفرسان على والدي ليقبضوا عليه، ولكنه رمى أول واحد فأرداه قتيلاً وطعن فارساً آخر بسيفه، وكان صوت الطلقة وضجة المعمعة إشارة للمعتدين بالهجوم، وفي غضون لحظات دخلوا مخيمنا من كل قرنة، وكانوا يبحثون عن تلك الفرس إذ أول ما هاجموه كانت خيمة الحريم، وفيها استولوا على ما كانوا يطلبون.
ومع بزوغ الفجر وجدنا أن المعتدين كانوا من الفرس وأنهم جاؤوا بأمر من السلطة، ووالدي قتل رئيسهم، وكان هذا سبباً كافياً ليأخذونا أسرى. تصور تعاستنا: المشهد كان مشهد خراب لن أنساه أبداً، وانهالوا على والدي بالإهانات أمام أعيننا، ونهبوا أموالنا، و...
كانت زينب ستحكي لي كيف انتهى بها المطاف جاريةً عند الميرزا أحمق حين سمعنا قرعاً شديداً على باب البيت. قفزنا واقفين في فزع، وطلبت حبيبتي مني أن أخرج بسرعة إلى السطح بينما تذهب هي لترى من الطارق. وعرفت من الصوت الذي يأمرها بفتح الباب أنه الطبيب عينه، فذهبت لتفتح له وهي تبتدع تفسيراً لمائدة الفطور التي سيراها ويسأل عنها.
ومن مكمني على السطح كنت أرى كل ما يحدث. بدا الطبيب مسروراً أن زينب كانت بمفردها وخاطبها بكلام كله حلاوة وحنان لا يترك أدنى شك برغباته ونواياه. نظر من نافذة بيت زوجته فرأى علامات الأنس فيها وبدأ يستفهم عن السبب حين دخلت الخانم نفسها مع النساء الأخريات وباغتتهما ووقفت أمامهما قبل أن يبتعد الطبيب عن جاريته. لن أنسى في حياتي نظرتها وتعابير وجهها حين رأت هذا المنظر! وصاحت بتهكم واستهزاء: «السلام عليكم! أنا خادمتكم! أرجو أن تكون سعادتكم في أتم الصحة والعافية وأنكما قضيتم وقتاً طيباً! أتوخى المعذرة من حضرتيكما على عودتي السريعة!» ثم اندفع الدم إلى وجهها وتوفقت عن المزاح وانهالت على ضحيتيها المشؤومتين باللعن والسب والشتم : «والفطور! في غرفتي أنا! ما شاء الله! ما شاء الله! إذن، أصبحت في عيونكم أقل من كلب! في بيتي، في غرفتي، فوق سجادتي، على وسادتي، ينصرف خدمي للهو واللذة! لا إله إلا الله! أنا مصعوقة! لقد هويت من السماء إلى الأرض!» ثم توجهت إلى زوجها وزعقت: «انظر في وجهي يا ميرزا أحمق وقل لي، بروحي، أأنت رجل بين الرجال؟ طبيب، لقمان الزمان، حكيم بوجه قردٍ ولحية تيسٍ وظهرٍ أحدب، يلعب دور العاشق آخ، يا لئيم يا دنيء! اللعنة على لحيتك!» ثم وضعت أصابعها الخمسة في وجهه وقالت: «تفو! أبصق في وجهك! أتفضل جارية نجسة علي أنا؟! ماذا فعلت لك لتهينني هكذا؟ عندما لم يكن بين يديك إلا وصفاتك ومساحيقك جئت أنا وجعلتك رجلاً. لم تصبح شيئاً إلا بفضلي! أنت تقف الآن بين يدي الشاه والناس تنحني إجلالاً أمامك، صرت شخصاً مرموقاً يلبس شال كشمير. فقل لي يا شقفة رجل: ما معنى كل هذا؟»
حاول الحكيم خلال هذا الهجوم الشرس أن يحلف ويقسم أنه بريء، ولكنه كان عاجزاً عن سد سيل الفصاحة من فم زوجته أو تركين غضبها. وصل حنقها إلى درجة جعلت حلقها يطفق بلعنة تتبعها لعنة وبذاءة تتبعها بذاءة في طوفان جارف عارم لا يتوقف. كانت تنتقل من سب زوجها إلى زينب ومن زينب تعود إلى زوجها حتى علت الرغوة شفتيها، ولم تكتف بالكلام وحده بل أمسكت الفتاة المسكينة من إحدى جدائلها الطويلة التي كانت تنسدل على ظهرها وسحبتها حتى جعلتها تصرخ من الألم؛ وبعد ذلك، وبمساعدة الجواري الأخريات، رموها في الحوض في وسط الباحة، وهناك استمروا بضربها ونقعها وغمرها حتى أرهق الجميع من ذلك. آه، ما أقوى كانت رغبتي أن أهرع لنجدتها! صار جسمي كله ناراً حاميةً، وكنت مستعداً أن أشرب دماء هؤلاء الحقيرات الوحشيات. ولكن لم يكن بيدي حيلة، فلو اندفعت إلى بيت الحريم لكان الموت مصيري، ولانتهيت على خازوق، دون أن يفيد هذا زينب في شيء، بل على الغالب كانت ستلقى معاملة أكثر قسوةً مما لقيته، وما كان ذلك سيخفف من غيرة سيدتها. ولهذا، متى هدأت العاصفة في الأسفل تركت مخبئي على السطح وذهبت إلى الخلاء خارج المدينة لأفكر ملياً بما علي أن أفعله الآن. فالبقاء في بيت الطبيب لم يعد وارداً، والأمل في لقاء زينب مرة أخرى كان جنوناً. نزف قلبي عندما فكرت بمصير تلك الفتاة المسكينة، فقد سمعت قصصاً يشيب لها الولدان عما يجري في بيوت الحريم من جور وغبن، ورأيت أن شيطانة مثل الخانم لن تتورع عن ارتكاب أية فظيعة بحق إنسانة واقعة تحت رحمتها.
الفصل السابع والعشرون. تحضيرات الحكيم باشي لاستضافة الشاه في بيته والنفقات العظيمة المترتبة على ذلك
خلال تجوالي في أرجاء المدينة اتخذت قراراً يكاد يكون نهائياً بأن أترك بيت الحكيم فوراً وأغادر طهران، لأن نظرتي إلى أوضاعي كانت يائسة. ولكن ولعي بزينب دفعني إلى تأجيل ذلك، فاستمررت في مكثي التعيس متطفلاً على الميرزا أحمق أملاً بأن أرى زينب مرة أخرى. لم يخطر على بال الميرزا أنني غريمه وأنني كنت سبب البلبلة التي حصلت في بيت حريمه، ولكنه أدرك أن أحدهم قد يستطيع دخوله، ولذا اتخذ تدابير احتياطية صارمة حالت دون معرفتي بحال معشوقتي وعواقب غضب الخانم. راقبت باب الأندرون كل يوم أملاً برؤية زينب في لحظة خروج سيدتها منه، ولكن بلا جدوى: لم يكن لها أي أثر، وبدأت مخيلتي تستعرض أمامي صوراً مخيفة فتصورت أنها إما محبوسة أو ماتت نتيجة كيد أعدائها في بيت الحريم. وصل توقي إلى ذروته، ثم رأيت نور جهان20 الأمة السوداء تخرج من البيت بمفردها متوجهة إلى السوق، فتبعتها وجرؤت على التحدث إليها نظراً للصداقة التي كانت بينها وبين سيدة قلبي، فقلت:
«السلام عليك يا نور جهان! إلى أين أنت ذاهبة بكل هذه العجلة؟»
فردّت: «أدام الله لطفك يا آغا حاجي21. أنا ذاهبة إلى العطار لأحضر أغراضاً لجاريتنا الكردية.»
فهتفت: «ماذا! زينب؟ ماذا بها؟ هل مرضت؟»
فأجابت السوداء الطيبة: «ما مسكينة! إنها مريضة وتعيسة. أنتم الفرس أشرار. فنحن الرقيق السود قلوبنا أكبر من قلوبكم. تتباهون بحسن ضيافتكم وإكرامكم للضيف وإحسانكم إلى الغريب، ولكن هل يجوز أن تعاملوا حيواناً، ناهيك عن إنسان، بتلك المعاملة التي عوملت بها هذه الغريبة المسكينة؟»
فقلت: «ماذا عملوا بها؟ أتوسل إليك، قولي لي بحياة الله يا نور جهان!»
لان قلبها لكلامي ولاهتمامي بما تقوله، فأخبرتني أن زينب – بسبب غيرة سيدتها – محبوسة في حجرة صغيرة لدرجة تمنعها من الحركة، وأن المعاملة التي تعرضت لها أدت إلى حمى وخيمة أوصلتها إلى شفا القبر، ولكن ساعدها شبابها وقوتها في التغلب عليها، وقد تعافت الآن، وبدأ قلب سيدتها يلين شيئاً فشيئاً فسمحت لزينب باستخدام الحناء والكحل، وأنها ذاهبة إلى العطار لتشتريهما لزينب. ولكن الخانم ما كانت لتبدي مثل هذا التسامح العجيب لولا الإشاعة بأن الشاه ينوي زيارة بيت الميرزا أحمق؛ وبما أن الشاه يحظى بحق الدخول إلى بيوت حريم رعاياه لو شاء وأن ينظر إلى نسائهم بلا حجاب، أرادت امرأة الميرزا أن تستعرض الجواري والخادمات وتحب أن يكون الاستعراض فخماً، ولهذا سمحت لزينب بالخروج من الحجرة التي كانت محبوسة فيها لتخدمها، ثم تعيدها إليها عندما لا تحتاج إلى خدماتها.
ارتحت لسماع هذه الأخبار وبدأت أفكر بالسبيل إلى لقائها، ولكني توقعت عوائق يستحيل تجاوزها، وقررت أن أبقي هادئاً خوفاً من أن أتسبب في مزيد من المصائب لها، وأن أعمل بنصيحة الشاعر وأطوي سجادة الأهواء ولا أنجرف وراء شغفي.
وفي هذه الأثناء اقترب موعد رحيل الشاه إلى مقره الصيفي، وجرت العادة أن يقضي هذه الفترة في زيارات إلى رجال بلاطه فيجمع لنفسه ولحاشيته محصولاً وفيراً من الهدايا التي يتوجب على كل من خصه ملك الملوك بمثل هذا الشرف أن يقدمها له.
كان ما أخبرتني به نور جهان صحيحاً، فقد اختار الشاه الميرزا أحمق واحداً ممن أراد أن يشرفه بزيارته، إذ أشيع عن الطبيب أنه غني، لذا خصصه الشاه من زمان فريسةً له. ومن ثم، أُعلِم الحكيم بموعد علامة رضا الشاه واستحسانه، وأنها لن تكون زيارة عادية، بل سينال الطبيب شرف استقبال جلالته واستضافته، أي أن الشاه سيشرفه بتناول طعام العشاء في بيته.
كان الحكيم من جانب مبتهجاً لعظمة الشرف الذي خصه الملك به وفي الوقت ذاته يرتجف وهو يفكر بالخراب الذي سيلحق بماله، وبدأ بتدبير جميع التحضيرات الضرورية. وأول ما يجب تقديره هو قيمة وطبيعة الپاانداز،22 لأن هذا يبقى موضوع حديث الجميع في كل أرجاء البلاد، ويعبر عن حظوته عند الشاه، ما جعل الطبيب ينتفخ من الفخر تارةً وينكمش من البخل تارةً أخرى؛ فلو استعرض غناه أكثر من اللازم ازداد احتمال زيارات مماثلة في المستقبل، وفي حال التقتير يلقى الازدراء من منافسيه. لم يتنازل إلى استشارتي من زمان، ولكن في هذه المرة تذكر نجاحي في التفاوض مع الطبيب الفرنجي فدعاني مرة أخرى إلى مجلسه وقال:
«يا حاجي، ماذا أعمل في هذا الأمر المعقد؟ لقد تلقيت تلميحاً بأن الشاه يتوقع مني پااندازاً فخماً، وجاء التلميح من الخزندار نفسه، الذي يبقى الپاانداز الذي يفرشه موضوع العجب والحديث في كامل بلاد فارس. بالطبع لا أستطيع أن أنافسه. وقد أصر أن أفرش قماشاً عريضاً من الجوخ من مدخل الشارع إلى حيث يترجل جلالته عن حصانه، وهناك يجب أن يطأ على قماش مرصع بالذهب حتى يصل إلى باب الحديقة، ومن الباب وإلى مجلسه يفرش طريقه بشالات كشمير بقيمة متزايدة وحتى الشال الذي يغطي مسنده، والذي يجب أن يكون ذا قيمة فائقة. وأنت تعرف أن أحوالي لا تسمح لي بمثل هذا البذخ، فأنا طبيب، رجل متعلم ولست من رجال البلاط، فمن أين لي ثروة كهذه؟ كما لا يخفى علي أن الخزندار عنده أقمشة يريد التخلص منها ويحب أن أشتريها من يده. مستحيل أن أقبل ما عرضه علي، فما العمل؟»
فأجبته: «صحيح أنك مجرد حكيم، ولكنك طبيب الشاه، ومنصبك رفيع. كما أنك ملزم بتقديم استقبال فخم من أجل السيدة زوجتك. فالشاه سيزعل لو استقبلته بشكل لا يبرر الثقة العالية التي خصك بها.»
فقال الميرزا: «نعم، والحق معك يا صديقي العزيز حاجي، ومع ذلك، لست سوى طبيب، ولا يمكن أن يكون بين يدي كل هذه الشالات والأقمشة.»
فأجبت: «ولكن ما البديل؟ فلا يعقل أن تفرش الطريق بالسنامكي وتغطي مسند جلالته بالضمادات؟»
فقال: «لا، ولكن يمكننا أن نفرش طريقه ورداً، وهو رخيص كما تعلم، وربما نضحي بعجل ونكسر زجاجات القطر23 أمام أرجل جواده. ألن يكفي هذا؟»
فصحتُ: «مستحيل، فلو فعلتها أعطيت الشاه وأعداءك وسيلة ليقضوا عليك. لست مضطراً لأن تأخذ بكل ما نصحك به السيد الخزندار، بل يمكنك أن تفرش قماشاً قطنياً مطبوعاً في الشارع ومخملاً حيث يترجل الشاه والشالات في الغرفة، ولن يكون ذلك أغلى من المعقول.»
قال الطبيب: «كلام جميل، وربما أستطيع تدبير هذا. يوجد في بيتي قماش مطبوع اشتريته لخياطة سراويل الحريم، سيكفينا غالباً، وأعطاني أحد المرضى منذ أيام قطعة من المخمل الإصفهاني، وأستطيع أن أبيع الثوب الذي أكرمت به لأشتري مقصباً بالذهب، وشالان أو ثلاثة من شالات زوجتي تكفي لتغطية الغرفة، ونكون قد حسمنا الأمر ببركة علي.»
فقلت: «آه، أراك نسيت حريمك! فالشاه سيذهب ليراهن. أنت تعلم أن نظرة الشاه تجلب السعد، ويجب أن تكون ملابس نسائك لائقة بهذه المناسبة.»
فقال: «لا مشكلة، فبإمكانهن استعارة كل ما يشأن من صديقاتهن: المجوهرات والسراويل والسترات والشالات: أي شيء يخطر على بالهن.»
إلا أن سيدتي الخانم نسفت كل هذه الخطط، فحالما سمعت بهذا الاتفاق عارضته ووصفت زوجها بالدنيء والواطئ والبخيل والخسيس وغير الجدير بشرف زواجها، وأصرت أن يسلك في هذه المناسبة سلوكاً يجدر بنعمة ملك الملوك عليه. ولم يكن هناك مجال لمناقشتها، فتمت جميع التحضيرات على نطاق يتجاوز بمرتبات ما أراده الحكيم، وكأن الجميع يريدونه أن ينفق كل ما ابتزه من الآخرين بلا رحمة.
الفصل الثامن والعشرون. أعراف استضافة الشاه والهدية المقدمة له والحديث الذي تبع ذلك
في صباح اليوم الذي حدده الشاه لزيارة الحكيم بعد استشارة المنجمين وإجماعهم على يوم السعد انتشرت ضجة التحضيرات في كل أرجاء بيت الميرزا أحمق. استولى خيامو الشاه وفرّاشوه على صالة الجلوس فنشروا فيها سجاجيد جديدة وحضروا المسند الملكي24 وغطوه بشال فخم، ورشوا الباحة بالماء ونصبوا النوافير وستروا الجدار الخارجي للبيت بستائر جديدة. كما جاء بساتنة الشاه وغطوا الحرم بالأزهار، وعلى سطح الحوض الذي يواجه مجلس جلالته ذروا بتلات الورد راسمين بها نقوشاً بديعة وصفوا حوله صفوفاً من أشجار البرتقال فتحولت باحة بيت الحكيم الجرداء إلى حديقة نضرة.
ثم وصل حشد من الطباخين، وكانت أكبر الجماعات وأكثرها سطوةً، وأحضروا معهم أعداداً هائلة من الأقدار والمقالي والطاسات والمجامر حتى تسائل الطبيب وقد فرغ صبره عن معنى هذا: فهل عليه إطعام سكان المدينة كلهم فضلاً عن الملك؟
فكان الجواب: «ليس كلهم، ولكنك ربما تتذكر قول سعدي:25
فاستولوا على المطبخ الذي لم يتسع حتى لربع الأواني والناس، فأنشؤوا مواقد في الباحة المجاورة حيث وضعت المجامر وطُبِخ الرز الذي يوزع في مثل هذه المناسبات إلى جميع الحضور. وعدا الطباخين جاءت جماعة من طهاة الحلوى وأخذوا إحدى الغرف وشرعوا بتحضير كل أنواع الحلويات والمثلجات والمشروبات والفواكه، وطلبوا موادّ متنوعة بكميات هائلة حتى كاد الطبيب يلقى حتفه حين قدموا القائمة له. وفضلاً عن كل هؤلاء، وصلت فرقة المطربين والموسيقيين مع كبير المهرجين (لودي باشي) ومعه عشرون مهرجاً كل واحد يحمل طبلاً معلقاً على كتفه.
وتعيّن وقت الزيارة بعد صلاة المغرب. وفي تلك الساعة، حين خفّ الحرّ قليلاً واستعد سكان طهران للاستمتاع ببرودة المساء، خرج الشاه من قصره وتوجه في موكب مهيب إلى بيت حكيم باشي. وكانت كل الشوارع قد كنست ورشت بالماء، ومع تقدم الموكب الملكي نشرت الأزهار في طريقه، وذهب الميرزا أحمق بنفسه إلى القصر ليعلن أن كل شيء جاهز وسار (بل هرول) مع الموكب جنب ركاب الشاه.
وجاء في مقدمة الموكب المنادون يحمل كل واحد منهم العصا التي ترمز إلى منصبه ورؤوسهم مزينة، يعلنون قدوم الشاه ويقودون الموكب ويفتحون الطريق له. وكانت جدران البيوت تعلوها حشود من النساء بحجاباتهن البيضاء، وفي البيوت الميسورة كانت النسوة تفتحن ثقوباً في الستائر المحيطة بالشرف والأساطيح. وبعدهم جاءت قافلة من الخيامين والفرّاشين يحملون عصياً طويلة ورفيعة في أيديهم لفتح الطريق من المارة. وبعدهم حشد من العاملين في الاصطبلات ألبستهم فاخرة يحملون زينة السروج المطرزة على أكتافهم، ثم الخدم في سترات زاهية في أيديهم أراكيل من ذهب، وحامل أحذية الشاه وأمين الأباريق والأحواض وحامل السترات وأمين علبة الأفيون وعدد من التابعين الآخرين. ولما كان الموكب يعدّ موكباً خاصاً لم يسبق الشاه خيول عسكرية تشكل عادةً مظهراً مهيباً لاستعراضاته الرسمية. وبعدهم جاءت قافلة من المراسلين الراجلين الراكضين مثنى مثنى ملابسهم بديعة بعضها مزركش بعملات ذهبية فوق ستراتهم المخملية السوداء، وغيرهم يرتدون قماش الذهب وآخرون يلبسون الحرير، وموقع هؤلاء أمام الشاه مباشرة يتبعهم بمرافقة رئيسهم، وهو رجل ذو حظوة عظيمة علامته سوط ذو مقبض مرصع بالصدف في نطاقه. وكان الشاه يمتطي حصاناً هادئاً ذا زينة غنية يسير الهوينى، أما لباس الملك نفسه فكان عادياً لا يتميز إلا بجودة الأقمشة وجمالها. وبعده، على مبعدة خمسين خطوة، جاء أبناؤه الثلاثة، ثم أمير الأمراء ورئيس المراسم والقائم على الاصطبل وملك الشعراء والكثيرون غيرهم، مع كل واحد حاشيته؛ وعندما اجتمع هؤلاء كلهم معاً لحضور حفل العشاء في بيت الميرزا أحمق وصل عددهم إلى خمسمئة شخص على أقل تقدير.
ترجل الشاه عند باب الدار إذ كان ضيقاً لا يسمح بالركوب عبره، ومشى في الدرب الأوسط في الباحة إلى المجلس المجهز له في القاعة الكبيرة. وبقي الجميع، عدا أبنائه، في الباحة، وتولى صاحب البيت دور الخادم.
وبعد أن جلس صاحب الجلالة بضع دقائق ظهر رئيس المراسم برفقة رب البيت حافياً قرب الحوض، يحمل الأخير على مستوى صدره طبقاً فضياً فيه مئة تومان من الصكة الجديدة. وهتف رئيس المراسم بصوت عال: «يعرض أحقر عبيد صاحب الجلالة بكل تواضع إلى ملك الملوك وظل الله في الأرض بأن الميرزا أحمق، كبير أطباء الشاه، يتجرأ بطلب تقبيل التراب المقدس عند قدمي جلالتك ويقدم لك مئة تومان هدية!»
فأجاب الشاه: «أهلا بك يا ميرزا أحمق. أنت – والحمد لله – خادم طيب. أحسن الشاه إليك، وابيضّ وجهك وازدادت حظوتك عنده، فاذهب واحمد الله أن الملك زار بيتك وقبل هديتك!» – فسجد الطبيب وقبّل الأرض.
التفت صاحب الجلالة إلى أمير الأمراء قائلاً: «قسماً برأسي، الميرزا أحمق رجل طيب لا مثيل له في بلاد فارس، فهو أكثر حكمة من لقمان وأكثر علماً من جالينوس.»
فأجاب أمير الأمراء: «نعم، نعم! لقمان: من هو هذا الكلب هو وجالينوس ليضاهي من خصهم الشاه بنعمته؟ إن هذا يعود على نجم السعد لملك الملوك، إذ لم تشهد فارس ملكاً مثل جلالتك سابقاً، وطبيب كهذا جدير بملك كهذا! قد يمدح الرجال أطباء أوروبا والهند، ولكن أين تجد العلم إن لم تجده في فارس؟ ومن يجرؤ على التباهي ما دامت أرض فارس ينيرها ملك الملوك وأعظم العظماء؟»
فقال الشاه: «كل هذا صحيح، فبلاد فارس هي البلد المشهور منذ نشأة الدنيا وحتى اليوم بنبوغ سكانها وحكمة ملوكها وعظمتهم. فمن أيام كيومرث أول ملوك الدنيا وحتى أيامي وأنا شاه إيران اليوم أين تجد قائمةً أكثر كمالاً؟ الهند فيها حكامها والعرب لها خلفاؤها وتركيا فيها سفاحوها والتتر لها خاناتها والصين إمبراطوراتها. أما الفرنجة الذين أتوا إلى أراضينا من مكان لا يعلمه إلا الله ليبيعوا ويشتروا ويتقدموا إلي بهدايا الإجلال فلديهم – هؤلاء الكافرين المساكين! – حشد من ملوك لم تصل أسماء البلاد التي يحكمونها إلى مسامعنا.»
فردّ أمير الأمراء: «نعم، نعم! أنا فداك. فما عدا شعبي الإنكليز والفرنسيين، الذين لهم شأن في هذا العالم بكل حال، كل من سواهم ليسوا خير من لا شيء إلا قليلاً. أما الموسكوفيون فليسوا أوروبيين، بل هم أقل من كلاب أوروبا.»
فأجاب الشاه ضاحكاً: «ها ها ها! قولك حق. تحكمهم «خورشيد كلاه»26 كما يسمونها، وصحيح أنها امرأة بديعة، وكلنا يعلم أنه متى تدخلت امرأة في أمر فالعياذ بالله. ثم جاء بعدها بولص وكان مجنوناً تماماً، فبلغ به جنونه أنه أراد إرسال جيوشه إلى الهند وكأن القزلباش27 يمكن أن يسمحوا لهم بذلك. الروسي يرتدي قبعة وسترة ضيقة وسروالاً ضيقاً ويحلق ذقنه ثم يسمي نفسه أوروبياً، وهذا كأن تربط جناحي وزة بظهرك فتسمي نفسك ملاكاً.»
هتف أمير الأمراء: «عظيم، عظيم! الشاهنشاه يتكلم كالملاك. أرنا ملكاً في أوروبا يضاهي ملكنا في فصاحة اللسان!»
فصاح كل الموجودين بصوت واحد: «نعم! نعم!»
وقال أحدهم: «أطال الله عمره ألف سنة!»
وصدح آخر: «أدام الله ظله!»
فتابع الشاه: «ولكن أغرب الأخبار نسمعها عن نسائهم. فأولاً ليس لديهم أندرون28 في بيوتهم، فالرجال والنساء يعيشون سوية، كما أن النساء لا يرتدين الحجاب ويظهرن وجوههن للناظرين مثل قبائل الرحل عندنا. أخبرني يا ميرزا أحمق بما أنك طبيب وفيلسوف كيف شاءت الأقدار أن نكون نحن المسلمين الوحيدين في هذه الدنيا نستطيع أن نثق بنسائنا ونبقيهن مطيعات لنا؟» ثم أضاف وهو يبتسم: «فأنت، كما سمعنا، أنعم الله عليك فوق العالمين بزوجة بارّة صالحة مطيعة.»
فأجاب الطبيب: «نعم لطف ملك الملوك ورعايته. لقد بوركت في كل ما يضفي السعادة على الحياة، وأنا وزوجتي وأسرتي عبيدك الوضيعون، وكل مالنا ملك لجلالتك. وإذا كان في عبدك حسنة فلا فضل له بها إذ أنها تنبعث من ملجأ الدنيا ملك الملوك، وحتى عيوبي تصبح فضائل متى أمرني الشاه. «والسراج أمام الشمس لا يضيء له ذبال، والمنارة العالية في سفح جبل ألوند تظهر كالخلال».29 وفيما تفضلت به يا صاحب الجلالة عن النساء، فيرى أدنى عبيدك أن هناك شبهاً عظيماً بين الحيوانات والفرنجة، وهذا يشير إلى أنهم دون المسلمين. فذكور الحيوانات وإناثها ترعى جنباً إلى جنب، والفرنجة مثلهم؛ والحيوانات لا تغتسل ولا تصلي الصلوات الخمس، وكذلك الفرنجة؛ الدواب تصاحب الخنازير، والفرنجة أيضاً، فبدل إبادة هذا الكائن النجس كما نفعل نحن يعتنون بتربيته، وسمعت أن كل بيت في أوروبا فيه حجرة مخصصة للخنزير. أما نساؤهم! هل تجد كلباً رأى أنثاه في الشارع لا يتقدم منها ويداعبها؟ ولا شك أن الفرنجة مثله. الزوجة في تلك البلاد النجسة كلمة بلا دلالة لأن زوجة الرجل ملك له.»
فصاح الشاه: «أحسنت القول يا حكيم! واضح أن الجميع دواب ما عدانا نحن، وهذا ما قاله لنا النبي ﷺ، فالكافرون مصيرهم جهنم خالدون فيها أبداً، والمؤمن الحق مثواه الجنة يمكث في السماء السابعة مع حور العين! ولكننا سمعنا يا حكيم أن نعيمك في الأرض، وأنك أسكنته بالحوريات، أليس كذلك؟»
فانحنى الميرزا أحمق حتى الأرض وقال: «ما ينعم الملك على عبده به من مال يبقى للملك. الساعة ستكون ساعة سعد ورأس الميرزا أحمق تصل إلى قبة السماء لحظة تخطو القدم المباركة لملك الملوك فوق عتبة أندرونه الوضيع!»
ردّ الشاه: «سنرى ذلك بعينينا، ونظرة الشاه تجلب السعد. اذهب ونبه حريمك أن الشاه قادم لزيارتهن، وإن كان بينهن مريضة أو مكروبة أو فتاة مشتاقة إلى عشيقها أو امرأة تحب أن تتخلص من زوجها فلتتقدم وتنظر إلى الشاه فتتحقق رغبتها.»
وهنا تقدم الشاعر الذي بقي صامتاً طوال الوقت غارقاً في أفكاره وهتف: «ما يطلبه الشاه ليس إلا علامة لطفه وإحسانه!» ثم أنشد:
السماء شمسها واحدة، وإيران شاهها واحد
الحياة والنور والفرح يرافقانهما أينما ظهرا
يفخر الطبيب بدوائه، لكن لا دواء كنظرة الشاه
فما الناردين والمومياي والبازهر أمام رمشة عين الملك؟
يا ميرزا أحمق يا أسعد الناس المبارك بين الأطباء
حلّ في بيتك دواء لكل داء وترياق لكل شر
أغلق جالينوس واحرق أبقراط وضع ابن سينا بعيداً إذ زارك بشخصه أبوهم جميعاً
فمن يشرب السنا والعين تشفيه ومن يدهن مرهماً والنظرة تعافيه؟
يا ميرزا أحمق يا أسعد الناس المبارك بين الأطباء
بقي الصمت مخيماً على الجمع بعد إنشاد القصيدة حتى قطعه الشاه هاتفاً: «أحسنت! أنت شاعر عظيم يا عسكر خان، جدير بحكمنا، أنت بلبل والله! من هو الفردوسي أمامك، وما إنشاده أمام شعرك إلا نهيق الحمير! ومحمود الغزنوي ليس أكثر من غبار!» ثم التفت إلى أمير الأمراء وقال له: «اذهب وقبّله على فمه واملأه بالسكاكر لكي يحلو أحلى فم تصدر منه أعذب الأصوات.»
فدنا أمير الأمراء، وهو رجل ذو لحية كثة، من الشاعر وقبله على فمه المحمي بشاربين ولحية، ثم تناول من طبق الحلوى حفنة من السكاكر وحشرها في فم الشاعر حتى امتلأ.
تضايق الشاعر من فمه المحشو، إلا أنه سعى إلى إظهار قمة السعادة والابتسام على مضض حتى فاض الدمع من عينيه واللعاب الحلو من بين شفتيه.
وعندها صرف الشاه نبلاءه وحاشيته وبدأ التحضير لتقديم العشاء الملكي.
الفصل التاسع والعشرون. وصف الاستقبال والحدث الذي دمر سعادة حاجي بابا
لم يبق في الصالة خلال عشاء الشاه إلا الخدم والأمراء الثلاثة أولاد الشاه الذين كانوا يرافقونه، وكانوا واقفين في الجانب الأبعد عن مسند الشاه وظهورهم إلى الجدار، يرتدون ملابس رسمية والسيوف على جنبهم. وبقي الميرزا أحمق واقفاً في الخارج. ونُشِر شال كشمير فخم مزركش بالذهب على السجادة أمام الشاه وجاء كبير الخدم يحمل إبريقاً وحوضاً من ذهب ليغسل الشاه يديه. ثم أُحضِر العشاء على أطباق مختومة بختم رئيس التموين قبل أن تخرج من المطبخ تحسباً لدس السم، وتم فض الأختام أمام عيني الشاه. وضم العشاء كل ألوان الطبخ الفاخر: الرز بأشكاله تتصاعد منه سحب كثيفة من البخار العطر، أولاً الرز الأبيض كالثلج، ثم الرز بلحم الضان، ورز بلحم الدجاج، وآخر ملون بالزعفران مع الحمص، وأخيراً ملك الأطباق الفارسية، نارنج بلو، وهو الرز مع قشر النارنج وشتى ألوان التوابل واللوز والسكر، والسلمون والرنكة من بحر قزوين، والترويت من نهر زنكي قرب يريفان. وفي صحون وأقدار من الخزف ألوان اليخني من الطيور البرية مع الرز والأعشاب والبصل، ومرق من عظم الغنم مع لحم، ويقطينات صغيرة محشوة باللحوم المفرومة ومقلية في الزبدة، ودجاج في صلصة الخوخ، وعجة ضخمة بثخن بوصتين، وكوب من المرق مع قطع لحم الغنم واللوز والخوخ والتمر الهندي مصبوب على الرز، وطبق من البيض المقلي في الزبدة مع السكر، وطبق من الباذنجان المقطوع بالطول والمقلي بالسمن، ولحم الغزال وغيرها من أطباق لا تعد ولا تحصى. ثم جاء الشواء. قدموا الخروف حامياً مشوياً على السيخ كاملاً واللية مفروشة على ظهره، كما أحضروا طيور الحجل المشوية، وبهذه المناسبة اقتنوا اثنتين من « کبک دره»، أي حجل الوادي الذي يعتبر في بلاد فارس صيداً نادراً وفاخراً. كما كان هناك طيور التدرج من مازندران، فضلاً عن أطيب القطع من حمار الوحش والظبي. وكان مظهر هذه الطيبات وكثرتها موضوع دهشة الجميع، وأحيط الشاه بها حتى ظهر وكأنه جزءٌ من هذه الكومة. ناهيك عن أطباق لا تحصى من المقبلات والمخللات والأجبان والسمن والزبدة والبصل والكرفص والملح والفلفل والحلويات والحوامض المتناثرة في كل أنحاء الأطباق لا أعددها خوفاً من الإطالة؛ ولكن المثلجات تستحق الذكر لأنها كانت فاخرة حقاً، إذ وضعت في الزبادي من الخزف الرقيق، وكانت تؤكل بملاعق صناعتها ماهرة دقيقة من خشب شجر الأجاص، ومنها مثلجات الليمون المصنوعة بمهارة فائقة من العصير المخلوط بالخل والسكر تتوازن فيه الحلاوة بالحموضة وتختلطان كما تختلطان في الحياة؛ ومثلجات السكر والماء مع ماء الورد لتعطيرها وحبوب حلوة لزيادة نكهتها؛ ومثلجات الرمان، كلها مبردة بكتل من الثلج.
انثنى الشاه لينحني رأسه فوق الأكل وغمس يده في الرز والأطباق الأخرى أمامه وأكل منها، بينما يقف الأمراء والخدم الآخرون أمامه وقفة كلها احترام وبلا أدنى حركة. وعندما فرغ من الأكل قام وتوجه إلى الغرفة المجاورة حيث غسل يديه وشرب قهوته ودخن أركيلته.
وخلال وجبته أمر أن يؤخذ أحد أطباق الرز التي أكل منها إلى مستضيفه الميرزا أحمق، فحمله أحد الخدم إليه. وبما أن هذا يعتبر علامة تشريف خاص، اضطر الميرزا إلى مكافأة الحامل بهدية نقدية. وحظي الشاعر بتكريم مماثل على ارتجاله وقدم هدية هو الآخر. كما أرسل جلالته طبقاً أكل منه أكثر من غيره إلى زوجة الطبيب التي كافأت حامله بسخاء. وبهذا الأسلوب استطاع الشاه أن يرضي الطرفين: أولئك من ميزهم عن الآخرين بشرف تناول الطعام معه وخدمه الذين حملوا الأطباق.
وحالما خرج الشاه من الصالة وترك الأطباق جلس أبناؤه وأكلوا حتى شبعوا، ثم قاموا، ونقلت الأطباق إلى غرفة أخرى كان يجلس فيها أمير الأمراء وأمير الشعراء وقيّم الاصطبل وجميع رجال الدولة والبلاط فأكملوا الوليمة التي بدأها الشاه وأبناؤه. وبعد ذلك أخِذ العشاء بالتتابع إلى شتى الخدم حتى أفرغت الأطباق تماماً على يد الخيامين وخدم المطبخ.
وفي هذه الأثناء كان الشاه يزور بيت الحريم برفقة صاحب البيت بشخصه. وبما أن أي واحد يضبط مسترقاً النظر إلى الحريم مصيره الموت المحتوم، انتظرت ببالغ الحذر وبفارغ الصبر لأعرف ما جرى هناك. وما أعظم كان رعبي وذعري ورهبتي عندما سمعت (حالما عاد الشاه إلى الصالة الكبيرة) أن الطبيب قدم له هديةً جاريته الكردية! ملأ هذا الخبر قلبي بالخوف: ففي حين أنه كان يدعو إلى الفرح لأنها ستترك وضعها المزري في هذا البيت، إلا أنني خفت من عواقب قد تؤثر على حياتها، فتجمد دمي عندما تخيلتها. فقد كان حبنا أقوى من رجاحة العقل، وفتح المستقبل أمامي الآن صوراً قاتمة من أفظع ما يقوى عليه الخيال.
ففكرت في قلبي: «لأحاول أن أعرف شيئاً عما وقع، وربما تمنحني الجلبة والفوضى فرصة لأرى زينب.» ومن ثم انطلقت إلى مكان لقائنا المعتاد على الشرفة. سمعت ضوضاء الأحاديث من بيت الحريم، حيث كان عدد كبير من الزائرات ما عدا نساء الطبيب؛ ولكني لم أسمع بينها صوتاً يشبه صوت من كنت أبحث عنها. انتظرت حتى هبط الليل ولم أعد أستطيع أن أعطي أي إشارة. إلا أن إيماني بالحب جعلني متيقناً بأنها ستفكر بالخطة نفسها التي خطرت على بالي كي نلتقي. كان جزء من الشرفة التي التقينا فيها يشرف على الشارع، وكانت النسوة تصعد إليها لترى ما يستحق المشاهدة خارج البيت، وتوقعت أن زينب ستصعد عند مغادرة الشاه التي اقترب موعدها الآن، فوقع حوافر الخيل وصيحات الرجال وحركة المصابيح جيئة وذهاباً، كل هذا كان يدل على قرب انتهاء الاستقبال. ويا فرحتي عندما سمعت حفيف أقدام النساء وأصواتهن على الشرفة. اختبأت وراء الجدار بحيث لا يراني إلا من يعرف تفاصيل المكان، وانتظرت أن تلتفت زينب نحوي، ولم أخطئ: كانت بين النساء على الشرفة وعرفتني. لم أكن أبتغي أكثر من ذلك وتركت لفطنتها مهمة ابتداع سبيل للتحدث إلي.
تعالت صيحة المنادين «انصراف!» تنذر بأن الشاه قد نهض ليرحل، فأخذ رجاله أماكنهم في الموكب. وكانت مراسم عودة الشاه إلى قصره مماثلة لمراسم قدومه باستثناء الفوانيس التي كان يعلن حجم كل واحد منها مرتبة من ينير طريقه. ومع ذهاب الشاه اختفى كل ما كان يضفي على المكان قبل لحظة الحيوية والنشاط.
وعندما لم يبق في الشارع ما يمكن النظر إليه غادرت النساء الشرفة. وكانت أحاديثهن خلال الزيارة تكاد تقتصر على جدالات موضوعها من نظر الشاه إليها أكثر وأعجب بها إعجاباً أكثر، وخلال نزولهن سمعت تعابير الحسد والغيرة على النصيب السعيد – في رأيهن – الذي كان من حظ زينب. فقالت إحداهن: «أعجز عن فهم ما الذي جذب الشاه فيها. فهي خالية من الجمال. هل رأيتن فماً أكبر من فمها؟ ولا ملح في وجهها30!» وقالت أخرى: «ثم أنها مقوسة الظهر.» وأردفت ثالثة: «وخصرها مثل خصر الفيل. هل رأيتم قدميها؟ إن خف الجمل أصغر منها.» وأضافت رابعتهم: «إنها يزيدية، ولا شك أنها حصلت على تعويذة من الشيطان بعينه لتفتن الشاه.» فصاحت النسوة جميعهن: «صحيح، هذا هو الحق! تواطأت مع الشيطان ليطعما الشاه قاذورات!» وبدا أن النسوة قد اتفقن على هذه النقطة فانتهى الحديث.
وبقيت واحدة من النساء على الشرفة وكأنها مشغوفة بما يجري في الشارع؛ وحالما نزل الجميع إلى الدار التفتت وتقدمت نحوي، فتيقنت من أنها زينب.
الفصل الثلاثون. حاجي بابا يصبح غريم الشاه نفسه ويفقد معشوقته
لم يشكل الجدار الذي اختبأت وراءه عائقاً بيننا، وما كدت أحكي لها عن آلامي وشقائي وتعاستي حتى نبهتني إلى الخطر المحدق بنا بسبب لقائنا، وأوضحت أن لقاءنا هذا يجب أن يكون الأخير، فبما أنها صارت من حريم الشاه سيكون الموت مصيرنا لو ضبطونا معاً. كنت أتوق إلى سماع تفاصيل زيارة الشاه لأندرون الطبيب وكيف طلبها لنفسه، وماذا سيكون مصيرها الآن، ولكن بكائي ونشيجي خنقا السؤال في حلقي. وبدا أن زينب لم تتأثر بفراقنا مثلي إما لأنها كانت مبهورة بمستقبلها في قصر الشاه أو لأنها باتت مقهورة بما عانت منه بين حريم الحكيم، فلم تستجب بقوة الانفعال التي كنت أتوقعها منها.
وحكت لي أن الشاه، حين دخل الأندرون، استقبلته جوقة من المغنيات تنشدن أغاني المديح له على وقع الدفوف، ومتى جلس في الصالة الكبيرة أكرم على الخانم بأن سمح لها بتقبيل ركبته. وفُرِش الطريق أمامه بالحرير المطرز، وحالما مرت أقدام الشاه فوقه استولى الطواشية على قطع الحرير وتقاسموا هذا البقشيش بين بعضهم. وكانت رئيسة المراسم الملكية موجودة، وقدمت للشاه هدية الخانم، وكانت على صينية من الفضة، وهي ستة غطاءات رأس طرزتها السيدة بيديها، وستة غطاءات صدر من الشال تلبس في أيام البرد فوق القميص، وسروالان من الشال الكشميري وثلاثة قمصان حرير وستة أزواج من الجوارب حاكتها نساء بيت الطبيب. قبل جلالته الهدية وفاض لسانه بالثناء والمديح بمهارة السيدة وبراعتها، واصطفت النساء في صفين على جانبيه. وقالت زينب: «أما أنا فوضعوني في النسق الأخير إمعاناً في إهانتي، حتى دون نور جهان الأمة الزنجية. وليتك ترى ما بذلته كل واحدة منا من جهد لجذب انتباه الشاه، حتى ليلى العجوز! فالبعض أظهرن الخجل والحشمة، والبعض الآخر الجرأة وبحلقن في وجه الشاه. وبعد أن تأمل كل واحدة توقف أمامي وتسمرت عيناه علي، ثم التفت إلى الطبيب وقال: ”ما هذا؟ إنها بضاعة متميزة. أقسم بتاج الشاه، إنها حيوانة لذيذة! ما شاء الله يا حكيم! ذوقك رفيع: وجه القمر وعين المها وخصر السرو، فقد اجتمعت فيها كل الخصال.“ وعندها انحنى الطبيب أعمق انحناءة قائلاً: ”حياتي فداك، مع أن الجارية لا تستأهل انتباهكم الكريم، أنا وكل أموالي في يد ملك الملوك فاسمح لي أن أطرحها تقدمةً أمام عرش جلالتك.“ فقال الملك: ”قبول!“ ثم استدعى كبير الطواشية وأمره بأن أتلقى تدريب «بازيگر»، أي فنانة رقاصة مطربة، وأن تؤمن لي ملابس وغيرها تليق بمهنتي القادمة كي أكون جاهزة للمثول أمامه بعد عودته من رحلة الصيف.»
وأضافت زينب: «آه، لن أنسى نظرات زوجة الطبيب وهي تسمع هذا الكلام. التفتت إلى الشاه وهي غاية في التواضع، وتظهر الإذعان التام لكل ما يقوله، ثم ألقت نظرات علي تعبر عن آلاف الأهواء الغاضبة التي تختلج في صدرها. أما الجورجية فكانت نظراتها زرنيخاً وخناجر، بينما وجه نور جهان البشوش يسطع بالسعادة لحسن حظي. أما أنا فارتميت على الأرض أمام الشاه الذي كان لا يزال ينظر إلي بلطف.
وحالما انصرف جلالته، ليتك ترى التغير الذي طرأ في موقف الخانم نحوي، فلم تعد تسميني ”ابنة الشيطان“ ولا ”البنت الملعونة“، بل أصبحت تناديني ”يا حبي، يا روحي، يا نور عيني، يا قلبي، يا ابنتي ويا كبدي“. وهي من كانت تمنعني من التدخين في حضرتها دعتني لأشاركها نركيلتها ووضعت قطعاً من الحلوى بيدها في فمي. أما الجورجية فلم تتحمل منظري فانسحبت إلى غرفة بعيدة لتهضم حسدها. تلقيت التهانئ من النساء الأخريات اللاتي بقين ترددن قائمة لا تنتهي من المتع التي تنتظرني: الحب والنبيذ والموسيقا والمجوهرات والملابس الرفيعة والحمامات والوقوف في حضرة الشاه، كل هذا سيكون من نصيبي قريباً. نصحتني بعضهن بأفضل التعويذات لضمان حب الملك وتدمير حظوة الأخريات؛ وبعضهن الآخر أعطينني خيرة النصائح لابتزاز الهدايا وكيفية الرد على الشاه متى بادرني بالحديث. وصارت زينب المسكينة التي كانت أحقر ما خلق الله فجأة محل انتباه الجميع وإعجابهم.»
انتهى حديث زينب، وكان الفرح الظاهر على وجهها للتغير المرتقب في وضعها عفوياً، فلم تسول لي نفسي أن أشاطرها مخاوفي حول الخطر المحدق بها. لم يكن لها علم بالعواقب الفظيعة لو تبين عندما تدعى لتمثل بين يدي الشاه أنها غير جديرة بجلالته. فمن المعروف أن في مثل هذه الحالات الموت الفظيع الرهيب يلحق بالمذنبة دونما الرجوع إلى أي قضاء أو تحكيم. ولهذا تظاهرت بأنني أشاطرها فرحها، ومع أننا كنا نشعر أننا نفترق، إلا أننا واسينا نفسنا بأن تسنح لنا فرص لنعرف عن أخبار بعضنا.
وأخبرتني أن أحد خصيان الشاه سيمر في الصباح القادم ليأخذها إلى بيت حريم القصر، وبعد الاستحمام واللباس ستنقل إلى قسم الفنانات ليبدأ تدريبها فوراً.
وهنا سمعنا صوتاً يناديها، فخافت أن تجازف بالمكوث معي، فافترقنا بعد آلاف التعابير عن الحب المتبادل ونحن نعرف أننا قد لا نلتقي بعد اليوم.
الفصل الحادي والثلاثون. أفكار الحاجي عن خسارة زينب. الطلب المفاجئ على مهنته بصفته طبيباً
حالما تركتني زينب جلست في البقعة نفسها التي كنا واقفين فيها كي أفكر في أمري. فقلت لنفسي: «إذن، أهاتان هما نواتا لوز في قلفة واحدة؟ إن كانت هذه هي الدنيا، فما أسرني في آخر شهرين لم يكن إلا حلماً. اعتقدت أنني المجنون وهي ليلى، وأن حبنا باقٍ ما بقيت الشمس والقمر، حتى تسلّ أجسامنا، نحترق كالجمر ونشوي الكباب من قلبينا. لكنني أرى الآن أنها ضحكت على لحيتي: جاء الشاه وقال كلمتين وانتهى الأمر، وفي غمضة عين نسيت زينب حاجي بابا وتحول انتماؤها نحو قصر ملك الملوك.»
قضيت ليلة عصيبة ونهضت في الصباح الباكر وفي قلبي مشاريع جديدة، فقررت أن أتمشى خارج أسوار المدينة كي أفكر في أموري على راحتي، ولكن حالما خرجت من البيت صادفت زينب تركب حصاناً يقوده واحد من خصيان الشاه برفقة حشد من الخدم يفتحون لها الطريق. تمنيت لو أنها ترفع طرف ستارها عندما تراني، ولكنها لم تحرك ساكناً فمضيت في طريقي وأنا مصمم أكثر من أي وقت مضى على محوها من قلبي. ومع أنني كنت أتوجه إلى بوابة المدينة، لم أشعر كيف تبعت الموكب حتى وجدت نفسي أمام قصر الشاه.
وعندما دخلت إلى الساحة الواسعة أمام باب القصر الرئيسي وجدتها مليئة بالفرسان في استعراض عسكري أمام الشاه بعينه، والذي كان جالساً في غرفة تعلو الشرفة فوق بوابة القصر. ضاع أثر زينب وموكبها بين الناس، إذ مرّرهم الحرس بينما منعوني من التقدم. وقطع المشهد أمامي سيل أفكاري. كان الاستعراض العسكري لسرية من الفرسان بقيادة نمارد خان31، وهو نسقچي باشي، أي رئيس الجلادين، وكان حاضراً يرتدي ملابس من قماش ذهبي اللون والزينة على رأسه مصقولة تلمع في أشعة الشمس يركب جواداً أصيلاً. كان منظر الاستعراض جديداً علي، وخطرت على بالي وأنا أنظر إلى الخيل والفرسان والرماح والبنادق أيامي التي قضيتها بين التركمان، فشعرت بالحنين إلى حياة الحركة والنشاط. وكان وزير الحرب جالساً في وسط الساحة معه ستة كتبة أمامهم سجلات مختلفة. وكان برفقتهم مناديان، يصيح أحدهما باسم الجندي، فينطلق الفارس المنادى حالاً من الصف، فيصيح المنادي الآخر: «حاضر!» ويقطع الفارس الساحة بكامل سرعته وينحني للشاه عندما يمر أمامه، ثم ينضم إلى الصف في الجانب الآخر من الساحة. كانت أشكال الفرسان متباينة، فبعضهم كان مجهزاً باللباس والسلاح ليبدو وكأنه رستم الجبار، بينما بعضهم الآخر يظهرون وكأنهم استعاروا مطاياهم من أجل الاستعراض، ودوابهم تعرج وكأنها راجعة من معركة. عرفت عدداً من أصحابي بين الفرسان ولفت انتباهي شاب وسيم ببراعته في الفروسية نخس جواده فاندفع إلى الأمام نحو عمود منصوب في وسط الساحة، وصدف أن جواده تعثر ووقع وهوى الفارس على الأرض عند العمود وبقي هامداً. رفعه الناس فوراً وحملوه عبر الحشد. وعرفني أحد الموجودين بأنني من بيت طبيب الشاه فطلب مني أن أفحص المصاب، فلم أتردد في تلبية الطلب دونما خوف من جهلي في الموضوع واتخذت دور طبيب. وجدت الشاب المسكين ممدداً على الأرض ولا تبدو عليه علامات الحياة، وكان الرجال الذين يحيطونه يحاولون إنعاشه، أحدهم يسكب الماء في حلقه «باسم الحسين عليه السلام»، وأخر ينفث دخان الغليون إلى أنفه والثالث يعجن أطرافه وبدنه لتحريك الدم. وحالما اقتربت منهم توقفت كل هذه العمليات وأفسحوا المجال لي، فجسست نبضه بكل وقار، ثم أبلغت من أحاطوا بي وعلى وجوههم أمارات الاهتمام والفضول أن الرجل أصابه القدر، وأن الحياة والموت يتصارعان الآن في بدنه على حيازته. وهكذا، وحسب ما رأيته من معلمي، حضّرت الموجودين حولي للأسوأ، وأمرت قبل كل الإجراءات الأخرى بهز بدن المريض للتحقق ما إذا كان فيه حياة. لم أر في حياتي أمراً ينفذ بهذا النشاط، إذ هزه الحضور حتى كادوا يمزقونه إرباً، ولكن هذا الإجراء لم يُجْدِ نفعاً. وكنت سآمر بإجراء آخر أقوى من الأول حين سمعنا صرخةً «افتحوا الطريق!»، ثم «أبعدوا رؤوسكم!» وظهر الطبيب الفرنجي الذي استدعاه السفير، وكان حاضراً وشهد الحادث. وصاح قبل أن يرى المريض: «افصدوه! افصدوه فوراً! لا تضيعوا لحظةً!»
شعرت أن من واجبي حماية كرامة العلم الفارسي وإثبات تفوق حكمتنا، فقلت: «الفصادة! ما هذه الحكمة؟ ألا تعلم أن الموت بارد والدم حار، وأن أول مبادئ المهنة هي علاج الأمراض الباردة بالأدوية الحارة؟ هذا ما أمر به بقراط، وهو أبو الأطباء جميعاً، ولا يجوز أن تزعم أنه يأكل التراب. لو فصدت دماً من هذا البدن قتلته. اذهب وقل للعالم أنني قلت هذا!»
فقال الفرنجي وقد فحص البدن: «لا يهم، فلا داعي لنتعب أنفسنا بشيء، إذ أنه قد مات، ولا فرق لديه بين البارد والحار.» ثم غادر المكان وتركني أنا وبقراط مرفوعي الرأس.
فأعلنت: «إذن، غلب الموت، وما قدره الخالق لا يرده مخلوق، ولا طاقة لحكمة حكيم على ما كتبه الله، وإنا لله وإنا إليه راجعون.»
وأمر شيخ كان بين الحضور بأن تدار قدما الميت نحو القبلة وأن تربطا ببعضهما وأن يلف منديل حول ذقنه ويثبت فوق رأسه، ثم كرر الجميع وراءه أدعية الميت. وفي هذه الأثناء تجمّع أقرباء الفقيد حوله وشرعوا بالمراثي المعتادة، ثم جاء بعضهم بنعش، وسُلِّم الجثمان إلى الأهل.
سألت عن الميت فعرفت أنه كان نسقجياً، أي واحداً من العناصر التابعين لرئيس الجلادين الذي كان تحت يده مئة وخمسون من أمثاله، وتتألف مهامهم من السير في مقدمة موكب الشاه في تنقلاته وتشتيت الحشود وحفظ النظام والمسؤولية عن سجناء الدولة، أي ما يناط بمأموري الشرطة. وخطر على بالي على الفور كم يناسبني الموقع الذي كان يشغله الميت، وأن أطباعي وميولي تتماشى مع هذه الوظيفة أكثر بكثير من خلط العقاقير وعيادة المرضى. وتذكرت وأنا أفكر في الأمر أن رئيس الشرطة من أصدقاء ميرزا أحمق ويدين له بمعروف، إذ أقنع الحكيمَ بأن يحلف أمام الشاه أن الخمر، وهو ممنوع في البلاط منعاً باتاً، ضروري لصحته، ومن ثم حصل على إعفاء من المفتي يسمح له بشربه فاستفاد من هذه الميزة إلى أبعد حد ممكن. فرأيت أن أطلب من الميرزا التوسط لي، عسى أن ينقلب ماء المرارة الذي يصبه نبع القضاء في كأس الميت إلى سواقي الشرابات الحلوة بالنسبة لي.
الفصل الثاني والثلاثون. تعيين حاجي موظفاً، فيصبح جلاداً
اختطفت فرصتي لأحادث الحكيم عن خططي للمستقبل قبل أن يتوجه في صباح اليوم التالي إلى القصر، وطلبت منه أن يطلب لي من رئيس الجلادين مكان النسقجي المتوفي بأسرع وقت، وأكدت عليه ضرورة الإسراع في الأمر لأن الشاه سيرحل من العاصمة إلى معسكره الصيفي في سلطانية في غضون أيام، وسيدعو الطبيب لمرافقته، ومن الواضح أنه لو لم تتأمن لي فرصة عمل فسأبقى عالةً عليه حتى الخريف.
وكان الحكيم لا يزال يحسب التكاليف التي تحملها جراء استقبال الشاه وقرر فرض تدابير تقشف في بيته، لذا لم يمانع من التخلص من متطفل جائع فوعدني بمساعدتي دونما تردد، واتفقنا أنه سيزور رئيس الجلادين وأمرني بأن ألحق به في القصر بعد انتهاء السلام الصباحي. ومع أذان الظهر انطلقت إلى القصر ووقفت خارج الحجرة التي خصصت مكتباً لرئيس الجلادين، ونافذتها مقابل الباب الرئيسي. اجتمع في الحجرة عدد من الناس، وكان صاحبها يؤدي الصلاة في زاويتها يبدو منهمكاً في عبادته بالكامل وكأنه لا يسمع الحوار بين أمير الشعراء ونائب رئيس المراسم.
وكان الأخير يصف للأول موت النسقجي المسكين ويضفي على روايته قدراً ملموساً من الخيال، حين صاح نسقجي باشي وهو في منتصف صلاته: «هذا كذب! اصبروا قليلاً أخبركم كيف كانت القصة!» ثم تابع صلاته. وبدأ روايته فور انتهائه من الصلاة حتى كاد ينقص منها، وحكاها بمبالغات أكثر بكثير مما أضافه نائب رئيس المراسم وختمها بتأكيد صريح بأن الفرنجي فصد الرجل المسكين حتى مات بعد أن أعاد طبيب فارسي الحياة إليه بهز البدن.32
وخلال حكاية رئيس الجلادين دخل الميرزا أحمق إلى الحجرة، ولم يعترض بتاتاً على ما حكاه عن الطبيبين الفارسي والفرنجي بل أكد عليه بإضافة تفاصيل جديدة تدعم الرواية بقوة، وبعد أن انتهى من كلامه أشار إلي قائلاً: «هذا هو من كاد ينقذ حياة النسقجي لو لم يُمنَع من ذلك!»، فالتفتت جميع الوجوه نحوي واستدعوني لأروي الوقائع كاملةً كما جرت، فرويتها وأنا أحاول أن تتطابق حكايتي ما أمكن مع ما قاله من رواها قبلي، ونسبت كل الفضل في علمي إلى معلمي حكيم باشي طبيب الشاه. سرّ الميرزا أحمق بمديحي ولم يقصر في مساعدتي فقدمني إلى نسقجي باشي وأوصاه بي قائلاً أنني الرجل المؤهل بملء الشاغر المتشكل بسبب موت النسقجي المرحوم وأنني أتطلع إلى هذا المنصب.
فصاح رئيس الجلادين: «كيف ذلك؟ طبيب يريد أن يصبح جلاداً؟ أيعقل هذا؟»
فأجاب الشاعر وهو ينظر إلى الطبيب من طرف عينه: «لا ضير في ذلك، فعملهما واحد. صحيح أن أحدهما يؤدي عمله بثقة أكبر من الآخر، ولكن ما الفرق بين أن يموت الإنسان تدريجياً بالعقاقير أو يموت فوراً بضربة سيف؟»
فردّ الميرزا أحمق عليه: «إن كان كذلك، فإن مهنة الشعراء مثل مهنتنا، فهم يدمرون سمعة الرجال بهجائهم؛ وسيوافقني الجميع في أن هذا القتل شر مما يفعله الطبيب (كما تفضلت) أو النسقجي.»
فهتف رئيس الجلادين: «كلامكما بديع، فالقتل وارد بأي طريقة تحبها، بشرط أن تتركوا لي سبيل الجنود. أريد القتال وأن أطعن بالرمح وأقطع بالسيف ولا أريد شيئاً سوى هذا. أحب أن أشم رائحة البارود وسأتخلى عن عطر الورد لك يا سيدي الشاعر. أعطني دوي المدافع ولن أحسدك أبداً على تغريد البلابل. كل واحد عنده أشياء يحبها، وهذا ما أحبه أنا.»
فقال رئيس المراسم مخاطباً الجمع كله: «صحيح، والجميع يشهد لك بمناقبك الجمة، وجلالة الشاه نفسه (الذي تعلم فن القتل أفضل من أي واحد من الحاضرين) عبر عن سروره مراراً لأن من يخدمونه خيرٌ ممن خدموا أياً من ملوك الفرس السابقين، ولهذا ينوي إرسال جيوشه إلى قلب جورجيا.» وأضاف مخاطباً رئيس الجلادين: «وأنا واثق أن الروس، متى سمعوا أنك آتٍ لقتالهم، سيبدؤون بتصفية حساباتهم في الدنيا تحضيراً للآخرة.»
فقال الجلاد وهو يهز كتفيه – وربما يرتعد خوفاً: «من هم الروس؟ إنهم غبار، إنهم لا شيء، واستيلاؤهم على جورجيا بالنسبة لفارس ليست أكثر من برغوثة دخلت قميصي، فقد تزعجني بين حين وآخر، ولكنني لو صممت أمسكتها وسحقتها في غضون لحظات. الروس عدم.» ثم التفت إلي وكأنه يريد تغيير موضوع الحديث وقال: «طيب، أقبلك في الخدمة شرط أن تحب رائحة البارود كما أحبها أنا. النسقجي يجب أن تكون له قوة رستم وقلب أسد وهمّة نمر.» ثم فحصني بنظرته من رأسي إلى قدمي وبدا راضياً عن مظهري فأمرني بالتوجه إلى نائبه ليزودني بمعدات منصبي ويحيطني علماً بواجباتي.
وجدت النائب في معمعة التحضير لسفر الشاه يعطي الأوامر ويستلم تقارير مرؤوسيه. وحالما أخبرته أنني تعينت مكان المأمور المرحوم سلمني حصانه مع عتاده وأوصاني أن أعتني به وأحافظ عليه ونبهني إلى أنني لا يمكن أن أستلم بدلاً عنه إلا إذا أحضرت ذيله والوسم الملكي المكوي على جنبه. راتبي ثلاثون توماناً في السنة فضلاً عن إطعامي وتأمين العلف لحصاني، وعليّ تأمين الملبس والسلاح عدا فأس صغيرة ترمز إلى منصبي أستلمها من الدولة.
وقبل أن أمضي في روايتي وجب علي أن أعرِّف القارئ على شخصية سيدي الجديد نمارد خان وطباعه. كان رجلاً طويلاً عريض المنكبين عمره نحو خمس وأربعين سنة ولا يزال مفعماً بالشباب. كانت تقاسيم وجهه حادة وعميقة وله حاجبان كثيفان ولحية سوداء وشاربان سوداوان مثلها. كانت عضلات ساعديه الضخمين مفتولة ويغطيهما شعر غزير. وكان خشن المظهر ما يفيده في حفظ النظام لأن نظرته كانت تلقي الرعب في قلوب الأشرار. وكان أشهر عربيد وشهواني في طهران يشرب الخمر بلا أدنى خجل ويشتم الملاوات بلا رادع، وهم من جانبهم توعّدوه بمكان في قعر جهنم لتجاهله لتعاليم الدين الحق. كان بيته مقراً للسهرات يصخب بأصوات الغناء ودق الطبول والدفوف من المساء وحتى الصباح. كان عنده راقصون وراقصات، وكان راعياً لكل مهرج وبهلوان مهما كانت مزحاته شنيعة وخليعة. ومع كل هذا لم يكن يتساهل ويتراخى فيما يتعلق بواجباته، ولا يندر أن يُسمَع مع ضجيج السهرة صراخ مشؤومٍ يتلوى من عذاب الفلقة على قدميه. وكان فارساً ماهراً، بارعاً في تمارين الرمح، ومع أن مظهره كله يوحي بأنه جندي شجاع ومقاتل باسل مقدام، كان جباناً رعديداً لدرجة تفوق أي تصور، وكان يخفي هذا العيب في طبيعته بالتباهي والكلام، ونجح بإقناع من لا يعرفونه على حقيقته بأن مكانته بين الفرس المعاصرين مثل مكانة سام وأفراسياب33 بين الفرس القدماء.
أما نائبه فكان قاسي الوجه وكان ضابطاً ذكياً ونشيطاً يعرف طبيعة رئيسه فيجامله قائلاً أن لا أحد في بلاد فارس – عداه وعدا الشاه – جدير بأن يسمى رجلاً. اكتشفت أن الجشع كان أهم طباعه، إذ عندما رأى أنني تعينت في منصبي دون أن أقدم له هدية نصب في طريقي كل أشكال العقبات، ولكن بفضل براعتي الفطرية في استعمال لساني أقنعته بأنه نخبة النواب وأفضل مرشح لمنصب نسقجي باشي في المستقبل وبددت ضغينته بل أنه مدحني قائلاً أنني، بإذن الله تعالى، سأصبح زينة الجلادين مع الوقت.
بقيت ساكناً في بيت الطبيب حتى موعد رحلة الشاه. وأعطاني منصب النسقجي نفوذاً في السوق فاستطعت تأمين كل ما أحتاجه بالدين. وخلال إقامتي في دار الطبيب جمعت ما أحتاجه من أغراض حصلت عليها إما هديةً من المرضى أو باللجوء إلى شتى الحيل. مثلاً، كنت بحاجة إلى فراش ولحاف ووسادة. وصدف أن مات رجل فقير كان الحكيم يقوم على تطبيبه، فأكدت لأقربائه، الذين عرفت عنهم أنهم يغالون في الدين، أن موته لم يكن بسبب خطأ منا نظراً لجودة التطبيب، إنما لأن فراشه منحوس، فأولاً اللحاف كان من حرير، وثانياً رأس الفراش لم يكن يستقبل القبلة بخلاف الأعراف، وكانت هذه الحجج كافية لتتخلى أسرة الفقيد عن الفراش، فصار لي.
كما كنت بحاجة إلى مرآة. وحدث أن أحد المرضى كان مصاباً بيرقان فنظر إلى وجهه في المرأة فأرعبه لون وجهه. فأقنعته أن لون وجهه يعود إلى لون المرآة، أما وجهه في الواقع نضر كالوردة، فرمى مرآته فأخذتها إلى بيتي.
وكان يلزمني حقيبتا سفر، وأتمنى لو أحصل على حقيبتين للطبيب مرميتين بلا استعمال في غرفة مهجورة من بيته، وكثيراً ما فكرت في السبيل إلى الاستيلاء عليهما، ولو كان عندي نصف ما عند الدرويش صفر من قدرة على الابتداع لوضعت أغراضي فيها من زمان. ثم خطرت على بالي فكرة: أنجبت كلبة شاردة، وما أكثرها في طهران، تحت قوس متهدمة قرب البيت، فنجحت في نقلها هي وجرائها سراً فوضعتها في إحدى الحقيبتين وملأت الأخرى بعظام قديمة. وعندما هموا بنقلها تحضيراً لسفر الطبيب (فهو يرافق الشاه في أسفاره دائماً) بدأت الكلبة وجراؤها بالنباح فارتبك الخادم الذي أزعج الحيوانات وركض إلى سيده ليعلمه بالخبر، فتوجه الحكيم مع كل خدمه، بما فيهم أنا، ليرى كل شيء بأم عينه ويتأكد من الرواية. وصعق الجميع بغرابة هذا الحدث واعتبروه فألاً سيئاً لا يبشر بخير للحكيم وبيته، فقال أحدهم: «هذا بسبب زواج الحكيم من الخانم، فهي ستملأ بيته بأولاد الحرام»، وقال آخر: «الجراء بعدُها عمياء، أجارنا الله من أن نصبح مثلها!» وقال الطبيب أن الحقيبتين أصبحتا نجستين وأمر بترحيلهما مع الكلبة والجراء والعظام فوراً، فاستحوذت عليهما، فأصبحت شخصاً ذا شأن لأن حيازة الحقائب توحي بأن المرء لديه أغراض يضعها فيها. ونجحت شيئاً فشيئاً بتجميع كمية لا بأس بها من الأغرض تستحق أن أسميها أمتعتي وأن أحوز شرف التجادل والتساوم مع بغّالي الشاه خلال التحضيرات للسفر حول ضرورة تخصيص بغل لحمل متاعي.
الفصل الثالث والثلاثون. حاجي يرافق الشاه إلى معسكره الصيفي ويبدأ بإدراك طبيعة وظيفته الجديدة
وأخيراً حدد المنجمون يوم السعد لسفر الشاه إلى السلطانية. غادر الشاه قصره قبل شروق الشمس بنصف ساعة في الحادي والعشرين من ربيع الأول ولم يتوقف حتى وصل إلى قصره في سليمانية الواقعة على ضفتي نهر كرج وعلى مسافة تسعة فراسخ عن طهران. وصدرت أوامر إلى شتى القطعات العسكرية للتجمع هناك في وقت محدد، بينما اقتصر موكب الشاه على حرسه ومدفعية الإبل وكتيبة من الفرسان. وغادر رجال البلاط والوزراء ورؤساء المكاتب الحكومية في الوقت نفسه تقريباً فخسرت العاصمة في غضون يوم نحو ثلثي سكانها. كان الجميع في حركة دائبة، ولو شاهد ذلك أجنبي لظن أن السكان جميعهم، وكأنهم سرب من النحل، قرروا بالإجماع ترك خليتهم الأم والبحث عن مكان آخر للسكن. كانت قوافل من البغال والإبل المحملة بالسجاد والأسرّة وأواني الطبخ والخيام وطقوم الخيل وشتى أنواع المؤن تسير في كل الشوارع والجادات مثيرةً غباراً كثيفاً، وكانت أصوات الجمالين والبغالين تختلط بأصوات الأجراس في رقاب دوابهم.
وكانت مهمتي في صباح المغادرة حفظ النظام عند باب قزوين ومنع حدوث أية عوائق أمام موكب الشاه. والفلاحون الذين ينتظرون أمام أبواب المدينة حتى تفتح ليدخلوا بضائعهم إلى أسواقها أمرناهم بالتوجه إلى باب آخر. وقام جميع سقاة المدينة بترطيب الطريق الذي سيمر الشاه منه، واتخذت كل التدابير الكفيلة بتيسير طريق سفر جلالته بحيث لا تعكره علامات النحس، وتحديداً اتخذت الاحتياطات الكفيلة بعدم ظهور أية عجوز في الطريق خوفاً من أن يلمحها الشاه فيصاب بالعين.
اكتشفت في نفسي مقدرةً وهمّةً لتبديد الناس لم أعتقد يوماً أنهما يختفيان في قلبي، فأنا أتذكر جيداً كم كنت أمقت جميع رجال الدولة عندما كنت واحداً من الغوغاء. أعملت عصاي في ضرب الرؤوس والظهور بنشاط جعل زملائي الجلادين يعجبون بي ويتساءلون عن هذا الشيطان الذي انضم إليهم. وسعيت إلى اكتساب سمعة الشجاعة أملاً بأنها تساعدني في الترقية إلى منصب أعلى.
وأخيراً تحرك الموكب. انطلقت قطعة مدفعية الإبل في المساء السابق لاستقبال الشاه في سليمانية، وسمعنا أصوات مدافع تعلن انطلاق الشاه من قصره في طهران، فسادت الجلبة والانتظار. ومر رئيس الجلادين نفسه يعدو على جواد أصيل في شوارع المدينة مستعجلاً، والفرسان يعدون جيئةً وذهاباً لتحضير الطريق. وكان في رأس الموكب المنادون، ثم الخيل المزينة بالجواهر والشالات وأقشمة ذهبية، ووراءهم يركض المراسلون، ثم الشاه بعينه، ووراءه أولاده يتبعهم الوزراء، وفي ذيل الموكب كتيبة من الفرسان.
وإذا تذكرنا أن كل رجل ذا حظوة كان يرافقه موكبه الخاص، وعند الكثيرين من الأتباع مواكبهم أيضاً، ومر كل هؤلاء السادة والخدم والطباخون والخيامون والمراسلون وساسةُ الخيلِ والخيولُ وغيرهم وعشرة آلاف أخرون من مرافقي الشاه، كلهم مروا أمامي بالتتابع وأنا أقف عند باب قزوين، يمكنكم أن تتصوروا عظمة هذا الموكب الهائل. وعندما اقترب الشاه من البوابة ولحيته الطويلة تصل إلى نطاقه وتتركز كل فظائع الاستبداد في شخصه أحسست بشعور غريب في رقبتي وانحنيت انحناءة عميقة لهذا السلطان الذي يمكنه أن يفصل رأسي عن جسمي بإيماءة خفيفة قبل أن أجد وقتاً للاعتراض.
وبعد أن اجتاز الموكب كاملاً باب المدينة تلكأت لأدخن مع الحرس المعسكرين عند الباب، وفي هذه اللحظة كانت حريم أحد الوزراء المرافقين للشاه تمر أمامنا فخطرت على بالي زينب مرة أخرى، فتنهدتُ وأنا أفكر بمصيرها البائس. سمعت من نور جهان في اليوم السابق لرحلتنا أنها أُرسِلت إلى بيت صيفي صغير يملكه الشاه يقع على سفح جبل من الجبال الشاهقة التي تحيط بطهران حيث كان عليها أن تتدرب على الغناء والرقص والموسيقا هي والكثيرات من الجواري الأخريات، وأمر الشاه أن تلم بكل هذه الأمور قبل عودته في الخريف، وعندها ستتشرف باستعراض ما تعلمته أمام جلالته. التفتُّ وأنا أمشي بحصاني في الطريق نحو ذلك البيت الذي كان يبدو نقطة سوداء على سفح الجبل. أعتقد أنني كنت في أي وقت آخر سأفعل كل ما بوسعي لألقي نظرة عليها، ولكن الآن كان علي أن أنطلق إلى رأس الموكب لأكون جاهزاً أنا وزملائي لاستقبال الشاه في سليمانية عندما يترجل عن جواده.
وبعد أن انقضى يوم المسير ومهمتي في موقعي ذهبت إلى مخيم رئيس الجلادين حيث وجدت خيمة صغيرة معدّة لي ولخمسة آخرين من زملائي النسقجية الذين قدر لهم أن يكونوا أصحابي طوال مكث الشاه في سليمانية. كنت قد تعرفت عليهم في العاصمة، ولكننا الآن حُصِرنا في مجال ضيق، إذ لم يكن طول خيمتنا يتجاوز ستة أذرع وعرضها أربعة أذرع، أي أننا كدنا نتكدس فوق بعضنا، وبطبيعة الحال كان من نصيبي أسوأ مكان في هذه الخيمة نظراً لحداثة عهدي. ولكنني لم أنزعج من ذلك وفضلت أن أتجاهل مصاعب الحاضر أملاً بمحاسن المستقبل إذ كنت واثقاً أنها ستأتي ولن أفشل في استغلالها.
وعدا نائب الرئيس كان هناك نائب آخر له دور في حكايتي، إذ بفضله لاحظني ذوو السلطة. كان اسمه شير علي، ويحمل لقب البيك، وأصله من شيراز. ورغم أننا كنا من مدينتين متنافستين تاريخياً في بلاد فارس، لم يمنع ذلك من توطد أواصر الصداقة بيننا نتيجة خدمات صغيرة تبادلناها من حين إلى آخر، ما يساهم عادةً في ظهور الصداقة وترسيخها. مرةً أعطاني قطعة بطيخ حين كنت عطشاناً، وفي مناسبة أخرى جهزت له نركيلة؛ فصدني بسكينه حين أتخمت معدتي بالرز، وشفيت حصانه من مغص بإعطائه ماء غليت فيه شيئاً من التنباك. كان أكبر مني عمراً بثلاث سنوات، طويلاً، عريض المنكبين رفيع الخصر وله أجمل لحية تحيط بذقنه وخصلتا شعر تنزلان وراء أذنيه مثل دالية عنب تنزل من على سياج الحديقة.
وكان قديماً في الخدمة فأحاط بكل تفاصيلها وحيلها، وعندما تحدثنا عن هذا الأمر فوجئت أنه ما كان يخفي شيئاً من خبرته عني وكشف أمامي ميداناً واسعاً لإعمال موهبة العقل فيه.
ومما قاله لي: «لا تفكر أن الراتب الذي يعطيه الشاه لخدمه يهمهم كثيراً، فقيمة مناصبهم تتوقف على مدى الابتزاز الذي يمكنهم ممارسته على شطارتهم في الاستفادة من ذلك. لنأخذ رئيسنا مثالاً: راتبه ألف تومان في السنة قد يتقاضاها بانتظام وقد تتأخر، ولكن هذا لا يهمه إلا قليلاً، فهو ينفق ما لا يقل عن خمسة أو ستة أمثال هذا المبلغ، ومن أين يحصل على المال ما دام لا يأتي من مساهمات مرؤوسيه؟ فرضاً، غضب الشاه من خان، فوجب عليه أكل فلقة ودفع غرامة؛ وشدة الفلقة وحجم الغرامة يتناسب عكساً مع حجم الهدية التي يقدمها المغضوب عليه لرئيسنا. أو لنقل يجب أن تفقأ عينا متمرد، وبناء على ما يتلقاه رئيسنا تتوقف طريقة تنفيذ العقوبة، أي ما إذا ستكون عملية فقء العينين خشنة باستعمال خنجر كليل أو ناعمة بمبضع صغير حاد. أو يبعثونه على رأس حملة في الجيش، وأينما ذهب تتدفق الهدايا عليه من البلدات والقرى في طريقه كيلا يحل جيشه نزلاء عليهم، وبناء على حجم الهدية يتخذ القرارات حول موقع مضارب الجيش. وأغلب أصحاب المناصب العليا يقدمون له الهدايا سنوياً تحسباً ليوم ينزل على رؤوسهم فيه غضب الشاه وأملاً بأنه سيتعامل معهم برفق حينذاك. وباختصار، أينما حصل تلويح بالعصي أو تنفيذ عقوبة يجمع النسقجي باشي أتاواته، ويفعل كل مرؤوسوه الشيء نفسه نزولاً إلى العناصر العاديين. قبل أن أصبح نائباً، وعندما يستدعونني لضرب الفلقة لمذنب ما، كثيراً ما كان ينجح في إثارة الشفقة عليه في قلبي بوعوده أن يملأ كيسي بالنقود، وعندها كنت أرحم قدميه من الضرب فأوجه ضرباتي إلى الأرض قربهما. وحدث في السنة الماضية أن حاجب الشاه أثار غضب جلالته، فأمر له بالفلقة وإكراماً له نشروا على الأرض سجادة صغيرة ليوضع عليها، وكنت أنا وزميلي مكلفين بتنفيذ العقوبة، بينما أمسك زميلان آخران الفلق. وعندما كنا ننزع عن رأسه الشال والقبعة ونطاقه وعباءته عن جسمه (فهي غنائمنا المشروعة) همس إلينا بحيث لا يسمعه الشاه (فالعقوبة كانت تجرى أمام عينيه): «بأمهاتكم اللاتي حملنكم وولدنكم، لا تقتلوني! سأعطي عشرة تومانات لكل واحد منكم إن لم تضربوني!» فطرحناه أرضاً وثبّتنا قدميه بالفلق ووضعنا ظهره على السجادة ثم بدأنا بالعمل. بطبيعة الحال، بدأنا بالضرب المبرح كيلا ينكشف أمرنا حتى يصرخ المعاقب بما يكفي، وبدأ يزيد المبلغ؛ وكانت وعوده تتناوب مع صرخاته على الشكل التالي: «آه، أمان، أمان! الرحمة وروح النبي! اثنا عشر توماناً. وعمر آبائكم وأمهاتكم! خمسة عشر توماناً. ولحية الشاه! عشرون توماناً. وحياة الأئمة والأنبياء أجمعين! ثلاثون، أربعون، خمسون، ستون، مئة، ألف تومان، حذوا كل ما تريدون!» وبقينا نضربه حتى رفعه إلى ما رأيناه مقبولاً، فتوقفنا تدريجياً عن ضرب قدميه وكسّرنا العصي بفلق الخشب الذي يمسك القدمين، ومثلنا نحن والحاجب دورنا ببراعة بحيث لم يلحظ الشاه شيئاً مريباً ولم يكتشف أن بيننا اتفاق. وعندما انتهى الأمر اكتشفنا أن سخاءه تناقص بسرعة مثلما تزايد خلال العقاب، فحاول أن يعطينا عشرة تومانات، ولكنه في النهاية دفع المبلغ الذي طلبناه منه كاملاً خوفاً من الوقوع في أيدينا مرة أخرى لو تكرر غضب الشاه عليه، إذ ما كنا لنرحمه وقتذاك لو خدعنا في هذه المرة.»
فتحت هذه الأحاديث التي سمعتها من شير علي عيني على منافع منصبي، فلم أعد أحلم بشيء سوى أن أضرب الفلقة وأحصد النقود. صرت أقضي أيامي كلها وأنا أمشي في البرية وألوح بعصاي فوق رأسي وأنزل به ضرباً على كل شيء يحمل أدنى شبه بقدم ابن آدم، ودربت يدي حتى صرت أعتقد أنني أستطيع أن أضرب كل إصبع من أصابع القدم على حدة لو أمرت بذلك. كنت أعرف أن طبعي ليس قاسياً، فالشجاعة والوحشية ليستا من صفاتي، ولذلك تساءلت كيف تحولت إلى رجل لا رحمة في قلبه. إنما مثال غيري كان له دائماً أقوى تأثير على فكري وأفعالي، وكنت أعيش الآن في جو من القسوة والعنف، وكل الأحاديث حولي تدور عن قطع الأنوف والآذان وفقء العيون والإعدام بالمدفع وشطر البدن إلى نصفين وشوي الناس في الأفران، وأنا واثق لو أن أمامي مثال مناسب لكدت أصبح مستعداً أن أخوزق أبي الذي أنجبني.
الفصل الرابع والثلاثون. حاجي بابا بصفته الرسمية يجسد الاستبداد الفارسي
مضى الشاه ببطء نحو سليمانية، وأخيراً، وبعد مسير أربعة عشر يوماً، نزل في القصر الصيفي في ساعة السعد التي حددها المنجمون لوصوله إليه، والذي بني مؤخراً لإقامته. كان القصر واقعاً في رأس تل على مقربة من آثار المدينة القديمة، يطل على السهل الذي كانت تغطيه الآن خيم المعسكر البيضاء. كان المشهد رائعاً، وشعرت بأهمية منصب النسقجي تملأ صدري حين قارنت وضعي الحالي مع حالتي البائسة التعيسة في خيم التركمان، وقلت لنفسي: «لقد أصبحت شخصية الآن، فقد كنت في السابق من المضروبين فأصبحت من الضاربين، وهذا مثال على اسم الفاعل واسم المفعول، ما حاول معلمي العجوز، الملا من إصفهان، أن يفهمني إياه وهو يحاول تعليمي بعضاً من اللغة العربية: فقد صرت اسم الفاعل، وباقي الشعب اسم المفعول أمامي، وبإذن الله سيعرف الناس قريباً حسن معاملتي لهم.»
وبينما أنا منهمك في هذه الأفكار، اقترب مني شير علي وقال: «حظنا سعيد: سترافقني في مهمة، وإن شاء الله ننفذها على أكمل وجه. اعلم أن المؤن لمعسكر الشاه تقدمها في معظمها القرى المجاورة، وتبين أن قرية كج سوار الواقعة بين سليمانية وحمدان لم ترسل حصتها بحجة أن أحد الأمراء مع حاشيته كان فيها في رحلة صيد ومكث فيها عدة أيام فأكلوا كل مؤنها، فأُمِرتُ أن أذهب إلى القرية للتحقيق في الأمر ولإحضار مختارها وأعيانها أمام رئيسنا. وبما أنك صديقي، أخذت إذناً بمرافقتك لي مع أن بعض زملائنا اشتكوا أن المهمة كانت من نصيبهم. فاستعد للرحيل معي بعد صلاة المغرب، إذ أنني أنوي الوصول إلى القرية في صباح الغد.»
سررت للغاية لسرعة تكليفي بمهمة عمل، ومع أنني لم أكن أعرف تفاصيل خطة شير علي، خمنت أن هناك ميداناً واسعاً لتطبيق بديهتنا وذكائنا حسب الظروف التي نكتشفها ونستغلها. وقلت لنفسي: «سيكون نجمنا في نحوس لو أن ذلك الأمير لم يترك لنا شيئاً نلتقطه من القرية. قال أحد الشعراء يوماً أن أسوأ بطيخة لها قشرها، وأن الحاكم المستبد، حتى لو أمر بنتف لحية أحد رعاياه يبقي له ذقنه الذي كانت تنمو عليه.» وبهذه الأفكار ذهبت إلى حصاني الذي كان مربوطاً مع خيل النسقجية الآخرين بالقرب من خيامنا وجهزته للسفر، فخطر على بالي وجه شبهه بي، فقلت وأنا أحل الحبال التي تربط رأسه وقوائمه: «الآن تستطيع أن تقفز وتلعب وتتشيطن كما شئت.» وفكرت في قلبي أن هذه هي حال الفارسي متى زال عنه الخوف من سيده.
تركنا المعسكر بعد مغيب الشمس يرافقنا ولد يجلس على بغل محمل بأفرشتنا وأغراض خيلنا. منذ أصبحت جندياً أضفت لفظة البيك إلى اسمي. ولكي أضفي مزيداً من الأهمية لنفسي في هذه الرحلة استعرت سلسلة فضية لحصاني وطبنجةً مطعمةً بالفضة من أحد زملائي ووعدته بأن أحضر له هدية في حال توفقنا في غنائمنا.
سافرنا طوال الليل وتوقفنا للنوم ساعتين فقط في قرية كانت في طريقنا ووصلنا إلى كج سوار عندما كانت النسوة تخرج الأبقار من اصطبلاتها والرجال يدخنون غلايينهم قبل الذهاب للعمل في الحقول. وحالما رأوا أننا متوجهون نحو القرية حدثت بينهم جلبة كبيرة، فسكتت النسوة وسترن وجوههن ونهض الرجال من مقاعدهم. أتمنى لو رأى القارئ وجه شير علي بيك ووضعة جسده ونحن نقترب من القوم. نفخ نفسه ليبدو وكأنه نسقجي باشي بعينه، وطلب بصوت يوحي بالسلطة مختار القرية أمامه. تقدم نحونا رجل شائب اللحية متواضع الخلقة رث الملبس وقال: «السلام عليكم يا آغا! أنا المختار، وأنا في خدمتك. أسعد الله خطاك وأطال ظلك!» ثم سمى بالله وساعدنا القوم على الترجل عن خيلنا، واحدهم يمسك رأس الحصان وآخر الركاب وثالث يضع يده تحت إبط الفارس فترجلنا ونحن نظهر قيمتنا ونفوذنا وكأننا من رجال البلاط. فرشوا لنا سجادة صغيرة عند باب بيت المختار وأجلسونا عليها يتبعنا كل رجال القرية تقريباً وبقينا جالسين هناك بينما جرى ترتيب غرفة في البيت. نزع المختار أحذيتنا بيده ونفذ كل مراسم الكياسة وحسن الأدب والضيافة المتعارف عليها عند قدوم الضيوف. وكان شير علي يتلقى كل هذا كمن يعتبر نفسه أهلاً لهذه المعاملة، وبعد أن أخذ عدة أنفاس من غليونه قال لمضيفنا: «اعلم يا مختار كج سوار أنني هنا بأمر من الشاه، وأكرر: بأمر من الشاه، وأتيت لأستفهم لماذا لم ترسل هذه القرية حصتها من المؤن لبلاط الشاه في سلطانية وفق الفرمان الصادر منذ شهرين والمبلغ إليك من قبل حاكم حمدان؟ أعطني الجواب وحافظ على بياض وجهك إن استطعت.»
فأجاب المختار: «حاضر، على عيني. سأقول لك ما قلته لمن جاؤوا قبلك، ويشهد جميع الحاضرين (وأشار إلى أبناء قريته) بأنه الحق، وأعماني الله إن كنت أكذب! اسمح لي يا نسقجي أن أقول لك أنك، والبركة بالله، رجل، أنت رجل حكيم وذكي وحاد البصر والبصيرة، وأنت مسلم تخاف الله. لن أقول إلا الحق لا أزيد عليه ولا أنقص منه شيئاً، وأحكي لك ما وقع لتحكم عليه بنفسك.»
فقال شير علي: «طيب، تابع. أنا خادم الشاه، وما يراه الشاه عليك به.»
فأجاب المختار: «أنت سيدي، وأتوسل إليك أن تعطي أذنك لما أحكيه. منذ نحو ثلاثة أشهر، حين بلغ ارتفاع القمح ذراعاً وكانت الغنم تثغو في السهول، جاءنا خادم الأمير خراب قولي ميرزا يعلن أن سيده سيحل على القرية في اليوم التالي ليصيد في الحقول المحيطة بها، فهي تزخر بالغزلان والأيائل والحجل والحبارى وغيرها من ألوان الصيد. وأمر بتجهيز أفضل البيوت لاستقباله وحاشيته وإجلاء ساكنيها وأمر بتحضير المؤن بكل أنواعها. وحالما سمعنا بذلك عم الذعر قلوبنا، وعندما رأينا أن الرسول لا يجدي معه الإقناع ولا الرشاوى لتجنب الكارثة وحمله على الذهاب إلى قرية أخرى، تركنا بيوتنا ولجأنا إلى الجبال ريثما تمضى أيام الشؤم. لو رأيتنا ونحن مجبورون على ترك كل ما نملك في هذه الدنيا لانقلب لبك وتحول كبدك إلى ماء.»
فهتف شير علي: «ماذا تقصد؟ تهجرون قرى الشاه خراباً وتريدونني أن أشفق عليكم؟ لو عرف الشاه بذلك لأمر بإعدامكم جميعاً.»
فقال العجوز: «أتوسل بالله عليك أن تسمع قصتي حتى نهايتها وأن يلين قلبك لنا. حمّلنا دوابنا في الليل بكل ما يمكن حمله وتوجهنا إلى الجبال حيث مكثنا في وادٍ قرب جدول ماء، ولم يبق في القرية إلا ثلاث عجائز والقطط.»
فقال صاحبي: «أتسمع ما يقوله يا حاجي؟ أخذوا معهم كل ما غلا ثمنه ولم يتركوا للأمير إلا الجدران الجرداء والعجائز!» ثم التفت إلى المختار وأمره بالمتابعة.
فتابع العجوز: «كنا نرسل عيوننا بين حين وآخر لنعرف ما يجري في بيوتنا، وكان مأوانا بين الأجراف والصخور في الجبال. وصل الأمير ورجاله في ظهر اليوم التالي وعندما رأوا أننا هربنا ثار غضبهم. مشى خدم الشاه من بيت إلى بيت يخلعون أبوابها، ولم يردعهم شيء إلا إحدى العجائز التي استطاعت أن تنهض من مضجعها ونزلت فيهم توبيخاً فلم يجرؤ أحد منهم على مواجهتها. أرسل الأمير إلى بلدة مجاورة لإحضار المؤن ونزل في بيتي. وأينما وجد خدمه حنطة أو شعيراً استولوا عليها، وحرقوا أدوات الفلاحة في المواقد، وبعد أن انتهت حرقوا الأبواب والشبابيك، ثم دعامات بيوتنا وعوارضها. أطلقوا خيولهم في حقول القمح وقطعوا ما بقي منه وحملوه معهم. إننا مفلسون تماماً، لم يبق لدينا نقود ولا ملابس ولا دواب ولا بيوت ولا مؤن، ولا ملجأ لنا إلا الله وأنتم.»
وهنا فقز شير علي من مقعده وأمسك القروي من لحيته وقال: «ألا تخجل يا عجوز، مع كل هذا الشيب، من هذا الكذب السافر؟ ألم تقل من لحظة أنكم حملتم إلى الجبال ما غلا ثمنه وتزعم الآن أنكم مفلسون. هذا لا يجوز! لم نسافر إلى قريتكم لتطعمنا أكاذيبك القذرة. إذا ظننت أننا أحضرنا لحانا إلى السوق لتضحك عليها فقد أخطأت التقدير. أنت لا تعرف شير علي بعد: إننا رجال ننام فنغمض عيناً ونترك عيننا الأخرى مفتوحة؛ لا يسرق ثعلب شيئاً إلا وعلمنا بذلك. إن كنت قطاً، فنحن آباء كل القطط. ولكي تخدعنا يجب أن تكون لحيتك أطول بكثير وأن ترى من الدنيا أكثر بكثير.»
فقال المختار: «حاشى الله أن أفكر بالكذب عليكم، فمن أنا لأجرؤ على ذلك؟ نحن رعايا الشاه، وكل ما نملكه فهو للشاه. ولكننا سُرِقنا وسُلِخنا من جلودنا. تفضل، اذهب إلى حقولنا وإلى مخازننا وصوامعنا: ليس عندنا قمح لا في البيوت ولا في الحقول.»
فردّ شير علي: «طيب، ليس لدينا إلا كلمة واحدة نقولها: أوامر الشاه يجب تنفيذها، سواء كنتم بجلد أو بلا جلد، أكان عندكم قمح أم لم يكن. إما تقدمون حصتكم نقداً أو عيناً أو نأخذك وأعيان القرية معنا إلى سلطانية وهناك نسلمكم للسلطات المعنية.»
بعد هذه الكلمات اجتمع المختار مع أعيان القرية في قرنة من الغرفة وشرعوا يتشاورون ويتوشوشون وتركونا جالسين ملفوفين بهيبتنا ندخن الغليون ونظهر اللامبالاة التامة.
وعندما خرجوا بنتيجة من اجتماعهم غيروا تكتيك هجومهم، فتوجه مختار القرية إليّ أملاً بأن يليّن قلبي، واقترب شيخ آخر من شير علي بيك. قاربني المختار بكل مظاهر المحبة والصداقة وبدأ، كالمتعاد، بالتملق. حسب كلامه، كنت خير مخلوقات الله وحلف أنني أثرت مشاعر المحبة في قلبه وفي قلوب سائر سكان القرية، وأنني الشخص الوحيد الذي يستطيع أن يخلصهم من مصاعبهم. وطوال حديثه لم أحرك ساكناً وبقيت أعبث بالغليون، ولكن عندما انتقل إلى التفاصيل وتحدث عما يمكن أن نحصل عليه أثار اهتمامي أكثر. قال لي أنهم تشاوروا حول ما يجب فعله وتوافقوا على أمر واحد، وهو أنه من المستحيل أن يرسلوا للشاه ما لا يملكونه وما ليس بين يديهم، فهذا أمر لا نقاش فيه؛ ولكن لو استطاعوا أن يعرضوا علينا شيئاً على أن نحمي مصالحهم فهم مستعدون لبذله.
فقلت: «كلامك جميل، ولكني لست الشخص الوحيد الذي يتوقف الأمر عليه. نحن هنا اثنان، ولكن لا تنس أن علينا أن نرضي رئيسنا أيضاً، وإن لم تبدأ به سيضيع جهدك هباء. وأقول لك أنك لو أردت تسمين يده فعليك أن تزن سمنك بالماعون34 لا بالمثقال.»
فقال المختار: «سنبذل كل ما لدينا، ولكن جباية الضرائب الأخيرة سلبتنا من كل شيء عدا نسائنا وأولادنا.»
فقلت: «أخبرك يا صديقي، إذا لم يكن عندك نقود فأي تقدمة أخرى لا تنفع. بالنقود في يدك تشتري تاج الشاه من على رأسه، أما بدونها فلا يمكن أن أعدك إلا بفلقة لا مثيل لها.»
فتنهد المختار: «آخ، النقود، النقود! من أين نحصل عليها؟ إذا صدف أن حصلت إحدى نسائنا على قطعة منها حفرت فيها ثقباً وأضافتها إلى عقدها. أما نحن، فإذا جمعنا بعد حياة كد وتعب خمسين توماناً نطمرها في الأرض ونقلق عليها أكثر من لو حصلنا على جبل النور.35 ثم اقترب ليضع فمه قرب أذني وهمس فيها بحرارة: «أنت مسلم ولست حماراً، وتدرك أننا لن نذهب إلى فم الأسد إذا استطعنا الهروب منه. قل لي (وأشار إلى صاحبي) ما هو المبلغ الذي يرضيه؟ هل أعرض عليه خمسة تومانات وسروالاً قرمزياً؟»
فأجبت: «وما أدراني ما يرضيه؟ ما أستطيع أن أقوله عنه أنه لا يوجد في قلبه حبة من العطف. اجعل الخمسة تومانات عشرة واجعل السروال معطفاً، وسأحاول إقناعه بقبولها.»
فقال العجوز: «هذا أكثر مما نتحمل، فكل قريتنا لا تسوى هذا المبلغ. دعه يرضى بخمسة تومانات والسروال، ولن نتركك إلا راضياً ونقدم لك هدية تذهلك.»
انتهت محادثاتنا عند هذه النقطة، وكنت أتوق لأعرف ماذا عرضوا على شريكي، وهو الآخر كان ينتظر بفارغ الصبر ليسمع نتيجة تهامسنا مع المختار. فتبين لنا أنا كلا الشيخين حاولا أن يعرفا من الواحد منا ثمن الآخر. أكدت لشير علي أنني وصفته لهم بأنه أكبر بوتقة في بلاد فارس وقلت أنه يستطيع أن يهضم من الذهب أكثر مما تهضمه النعامة من حديد، ولا يكترث بالآحاد بل يأبى أن يأخذ إلا بالعشرات.
فأجاب شير علي: «عافاك الله! أما أنا فقلت لمن ساومني أنك، ورغم مظهرك الهادئ وصمتك وهدوئك لا تتورع عن اقتراف أية فظيعة لو لم يدفعوا لك مبلغاً سخياً.»
وأخيراً، وبعد مضي وقت، جاء القوم ثانيةً يرأسهم المختار يحملون ضيافة من التفاح والأجاص وجرة عسل وجبناً، وطلب المختار من زميلي قبول هذه التقدمة بعبارات متعارف عليها في مثل هذه المناسبات. وبعد أن وضعت هذه الأغراض أمامنا عرض المختار بصوت خافت خمسة تومانات وسروالاً وتحدث عن شقائهم وفقرهم وبؤسهم بعبارات من شأنها أن يلين لها صدر أي إنسان عدا شير علي.
اتفقنا في الحال على رفض التقدمة وأمرنا بأن ترفع من أمامنا. أثار كلامنا رعباً في قلوب هؤلاء المساكين فانصرفوا مع صواني الفواكه وغيرها على رؤوسهم بخطوات صغيرة بطيئة.
ثم عادوا بعد نحو نصف ساعة، وقد تأكد المختار من أنهم لو عادوا ومعهم عشرة تومانات ومعطف فإننا سنقبل تقدمتهم. وبعد أن أكلنا ووضع شير علي العشرة تومانات في جيبه ولف معطفه بدأت أنتظر ما هي هديتي التي من شأنها أن تذهلني، ولكنهم لم يقدموا لي شيئاً رغم أنني غمزت المختار مراراً ورد المختار على إيماءاتي بمثلها.
وأخيراً فرغ صبري فقلت له: «أين هي؟ وما هي؟ وكم هي؟»
فأجاب: «سنحضرها حالاً، أرجو منك قليلاً من الصبر، فلم تجهز بعد.»
وفي النهاية أحضروا في موكب مهيب السروال الذي رفضه شير علي على صينية وقدموه لي لأقبله مرفقاً بسيل من الكلمات الطيبة.
فصرخت: «ما هذا؟ هل تعرفون يا قليلي الحياء أنني جلاد، وأستطيع أن أحرق آباءكم وأطعمكم من البؤس والشقاء أكثر مما ذقتم في حياتكم؟ كيف تقدمون لي هذا السروال الخسيس؟ أتجرؤون أن تقدموه لي بعد أن لبسه أسلافكم الحقراء أباً عن جد؟ أتعتقدون أنكم تمنّون عليّ به؟ إنكم حمقى إذ تظنون أنني سأذود عن مصالحكم وأناصر قضيتكم مقابل هذه الخرقة القذرة البالية! خذوه من وجهي وإلا أريتكم ما يمكن أن يفعله النسقجي!»
هموا بتنفيذ أمري فوراً فأوقفهم شير علي قائلاً: «دعوني أنظر إلى السروال.» وفحصه بوضعه بين عينيه والشمس وكأنه تاجر ملابس مستعملة وأضاف: «إنه ليس سيئاً، فلا عيب فيه. أقبله شاكراً، بارك الله بكم!»
بدا الذهول على وجوه الجميع، ولم يجرؤ أحد على الاعتراض، وهكذا خسرت حتى هذا البقشيش الهزيل الذي كان يمكن أن أحصل عليه بعد أن توقعت أن أجني منافع عظيمة، واكتسبت تجربة ثمينة في التعامل مع أبناء وطني، وعلاوة على ذلك، كيف أثق بمن يسمي نفسه صديقي.
نجم النحس ينقلب إلى نجم سعد فيرقي حاجي بابا إلى نائب رئيس الجلادين
كان خروفان سمينان حملناهما على ظهر بغلنا الهدية الوحيدة التي أحضرناها لرئيسنا. وحالما وصلنا إلى المعسكر توجهنا فوراً إلى النائب الذي أخذنا إلى الرئيس، وكان جالساً في خيمته يتحدث مع بعض أصدقائه. فقال مخاطباً شير علي:
«طيب، ماذا فعلتما؟ ماذا أحضرتم، أهي الحنطة أو المختار؟»
فأجابه شير علي: «أستأذن بالكلام لخدمتكم، لا هذا ولا ذاك. أرسل مختار كج سوار خروفين لنطرحهما عند قدميك؛ وقد رأينا بأم أعيننا أنه لم يبق لديهم شيء، ولا حتى أرواحهم، فقد نهبت كل ممتلكاتهم بالكامل. بل على العكس، إن لم ترسل إليهم معونات من الأغذية فسيأكلون بعضهم.»
فصاح الخان: «ماذا تقول! إن كان عندهم خراف، فعندهم أغنام، فكيف لم تحسب ذلك؟»
فقال شير علي: «هذا صحيح، وكل ما تقوله حق. ولكنك سألتنا عن الحنطة لا عن الأغنام.»
فسأله الرئيس: «ولماذا إذن لم تمتثل لأوامرك ولم تحضر معك المختار وأعيان القرية؟ لو كنت أنا هناك لشويت الأوغاد أحياءً وربطتهم كما يربط الجمل36 حتى يعترفوا بما يملكون. أجب، لماذا لم تحضرهم معك؟»
فردّ شير علي وهو ينظر إلي مستنجداً: «نوينا أن نحضرهم معنا. نعم، ربطناهم ووثقناهم كلهم وأردنا كثيراً أن نحضرهم معنا، كما ضربناهم وشتمناهم. حاجي بابا يعرف هذا كله، فقد قال لهم أنه لو لم يكن معهم نقود لن يلقوا أي رحمة. ولم يكن في قلوبنا أي رحمة، فهم يعرفون أن خاننا نسقجي باشي رجل مشهور بشجاعته وتصميمه، ومتى وقعوا في قبضته ينتهي أمرهم. نعم، قلنا لهم كل هذا فكادوا يغوصون في التراب.»
فقال الخان: «ماذا يقول يا حاجي بابا؟ لم أفهم لماذا لم تحضروا هؤلاء الناس إلي؟»
فأجبته بكامل التواضع: «في الحقيقة، يا خان، أنا أيضاً لا أفهم. كل الأمور كانت بيد نائبك شير علي بيك، وأنا كنت تحت أمره، فأنا لا شيء.»
وهنا استشاط الخان غضباً وأمطرنا بكل كلمات الشتم والتوبيخ التي خطرت له، وقال لأصدقائه: «واضح أن هذين النذلين يلعبان لعبة قذرة.» ثم التفت إلى شير علي وسأله: «قل لي بروحي وبملح الشاه، كم قبضت لنفسك؟» ثم خاطبني قائلاً: «وأنت يا آغا حاجي، لم يمض على تعيينك شهر، فكم أمنت لجيبك؟»
عبثاً حاولنا إثبات براءتنا وحلفنا أن هؤلاء الفقراء ليس لديهم ما يمكن أن يكسبه المرء منهم: لم يصدقنا أحد. وانتهى الأمر بأن اقتادونا من الخيمة بصحبة النائب الذي أمر بحبسنا حتى إحضار أعيان القرية للتحقيق معهم ومعنا في مجريات الأحداث.
وعندما بقينا على انفراد مع شير علي حاول على الفور تقاسم غنيمته معي وعرض علي نصفها. فأجبته: «لا يا صديقي، فقد فات الأوان. إذا شربت الخمر الذي حرمه الله واستمتعت به فأصابك منه صداع فلا شيء يدعو إلى أن تصدعني معك. تلقيت منك درساً، وهذا يكفيني ويزيد.»
فطلب عندئذ أن أعده بدعمه أثناء التحقيق وأن أحلف بصحة كل ما يقوله وتكذيب المختار، ولكني كنت أدرك جيداً عواقب مثل هذا التصرف. وقال لي أنه لو حكم عليه بالفلقة فلن يبقى بعدها حياً لأنه لم يكن يرحم أقدام الناس ولا يتوقع الآن منهم أن يرحموه إذا وقع بين أيديهم، وحلف أنه مستعد لفعل أي شيء ليتجنب الفلقة.
وعندما استدعونا مرة ثانية للمثول أمام رئيسنا لم يجدوا شير علي في أي مكان، فقد هرب. وعندما استجوبوني لم يكن لدي ما أقوله إلا أنه كان يخاف الفلقة، ولهذا أعتقد أنه قرر الفرار.
وعندما مثلت أمام رئيسي خلال التحقيق أعلن رجال كج سوار بصوت واحد أنني لم أبتزهم ولم آخذ منهم شيئاً، بل بالعكس كنت أقنعهم أن يرسلوا تقدمة سخية إلى الخان. وصبوا كل شكاويهم ضد شير علي، ووصفوه بأنه وضع اللمسة الأخيرة على بؤسهم وسلخ عنهم تلك الجلدة الرقيقة التي بدأت تغطي جراحهم القديمة.
كل هذا كان لصالحي ويمهد الطريق لترقيتي. تسربت القصة إلى المخيم وصارت حديث الناس، فأصبحتُ مثالاً للحصافة والاعتدال، فكان بعضهم يقول: «هذا لأنه كان طبيباً، فالحكمة خير من الثروة.» ويعقب آخر: «إنه يعرف عواقب الأمور، ولن يكون قدماه حيث يجب أن يكون رأسه.»
وبذلك اكتسبت سمعة رجل ذكي وحذر بفضل الظروف التي انقلبت لصالحي، ولم أخسر شيئاً من كون الناس يعتبرونني شخصاً ذا طالع جيد ونجم سعيد.
وبنتيجة هذه الجزئية من تاريخي تعينت في منصب صاحبي الفار فأصبحت نائب رئيس الجلادين في بلاد فارس، الرجل الذي كان له حظوة كبيرة مهما كان رأي القارئ الكريم بشخصه.
الفصل السادس والثلاثون. حاجي بابا يتعرف على رجل وامرأة في ضائقة فيعطف عليهما
كان الشاه في ذلك الحين في حرب مع الموسكوفيين الذين تغلغلوا في جورجيا وباتوا يهددون المقاطعات الحدودية الفارسية بين نهري كورا وآراس. وكان حاكم يريفان الذي يحمل لقب السردار، أي اللواء، ومن أفضل القادة العسكريين لدى الشاه، قد افتتح الحملة من زمان بهجمات متفرقة على المواقع الأمامية للعدو وبتدمير القرى والأرياف على طول الطرق التي يرجح أن يسلكها العدو في حال قرر التقدم نحو بلاد فارس. كما تجمّع الجيش قرب تبريز بقيادة ولي العهد وحاكم مقاطعة أذربيجان الكبرى، وكان من المفترض أن يدخل في الحرب مباشرة ويحمل العدو على التقهقر إلى تفليس إن أمكن، ووفق لهجة البلاط أن يحمل سلاحه ولو حتى أسوار موسكو.
وكان المعسكر الملكي في سليمانية باتنظار الأخبار من السردار عن الهجوم الذي أعلن نيته بشنه على القاعدة الروسية في غومشلو، وأعطيت الأوامر للتحضير للاستقبال المناسب لرؤوس العدو كما جرت العادة عند إعلان الانتصار إذ لم يكن هناك شك بأن الهجوم لا يمكن إلا أن يظفر بالنصر. وأخيراً شوهد مراسل يعدو بحصانه نحو المعسكر بالسرعة القصوى. وأحضر معه خمسة خيول محملة بالرؤوس، وهذه وُضِعت أكواماً أمام المدخل الرئيسي إلى خيم الشاه في احتفال مهيب، ولكن اتضح حدوث ظرف ما تطلّب إرسال تعزيزات عسكرية، لأن في صباح اليوم التالي تم تعيين رئيسنا نامرد خان قائداً لعشرة آلاف فارس وتلقى الأوامر بالانطلاق على الفور نحو ضفاف آراس.
شوهدت في الحال حركة في كل أرجاء المعسكر حيث كان رؤساء الآلاف ورؤساء المئات ورؤساء العشرات يستعجلون في شتى الاتجاهات ويجتمعون مع رؤسائهم ويتلقون أوامرهم. امتلأت خيمة نامرد خان بقادة الحملة يوزع عليهم توجيهاته ويعطيهم الأوامر حول ترتيب المسير ويحدد لكل قطعة محطات إقامة في القرى على طريق المسير. وكانت مهمتي أن أسبق الجيش بمسير يوم واحد ومعي تشكيل من النسقجية لترتيب إقامة العسكر في القرى، وهي مهمة تحتاج إلى جهد وهمّة ونشاط، وفي الوقت نفسه تحمل منافع من شأنها أن تملأ كيسي لو استغللتها كما يجب. ولكن المثال الحي لمصير شير علي بيك ما زال ماثلاً أمام عيني، فأخمدت الرغبات التي كادت تملأ صدري بجمع الأتاوات والرشاوى، فصممت على أن أحافظ على نظافة يدي وأن أخمد نيران الطمع بمياه رجاحة العقل.
انطلقت مع رجالي ووصلت إلى يريفان قبل الجيش ببضعة أيام، ووجدنا فيها السردار الذي انسحب بعد هجومه على غومشلو بانتظار تعزيزات الفرسان بقيادة رئيسنا. تابع الجيش بقيادة ولي العهد إلى موقع حدودي آخر ينوي مهاجمة قلعة كنجة التي استولى العدو عليها مؤخراً، فلم يستطع التخلي عن أي قوات للسرداد مما اضطره لطلب التعزيزات من الشاه.
وحالما التقى نامرد خان والسردار وتشاورا تقرر إرسال الجواسيس فوراً لاستطلاع مواقع الروس وتحركاتهم، وتعينت على رأس فصيلة من عشرين رجلاً أرسلهم نسقجي باشي، وعدد مماثلاً أرسلهم السردار ليدلونا في هذا الجزء من البلاد الذي كنت أجهله تماماً.
تجمعنا في آخر النهار وانطلقنا مع أذان المغرب، سالكين طريقنا إلى قرية آشتاراك تاركين دير إتشميادزين، وهو مقر البطريرك الأرمني، إلى يسارنا. وعند الفجر وصلنا إلى جسر آشتاراك، وكان لا يزال غارقاً في الظلام الحالك بسبب ضفاف النهر المرتفعة التي كانت تشكل جدارين على جانبيه. أما القرية الواقعة على حافة الهاوية وصلها ضوء الفجر ليمكن تمييز بيوتها عن الصخور التي شيدت بينها. وأضفى خراب مبنى شامخ ذي عمران بديع لمسة بديعة على هذا المنظر المهيب. وأخبرني رفقائي أن هذا المبنى بقايا واحدة من الكنائس الأرمنية التي تنتشر في هذا الجزء من فارس. كان النهر يتدفق في مجراه المظلم ورأينا في هذا الظلام الزبد فوق أمواجه ونحن نجتاز الجسر. أيقظ وقع حوافر خيلنا على حجارة الجسر كلاب القرية فشرعت تنبح، وتوجهت عيوننا نحو بيوت القرية، حين صاح أحدنا: «يا علي! ما هذا؟» وأشار بيده إلى الكنيسة: «ألا ترون شيئاً أبيض هناك؟»
فقال آخر: «نعم، أراه، إنه غول! لا شك أنه غول! ففي مثل هذه الساعة تخرج الغيلان بحثاً عن جثة تلتهمها. انظروا، بل أنه يأكل جثةً الآن!»
وأنا أيضاً رأيت أن هناك شيئاً، ولكني لم أتمكن من تمييز التفاصيل.
توقفنا على الجسر ونحن ننظر، وجميعنا مقتنع أننا نرى مخلوقاً غيبياً، وأحدنا يدعو علياً وآخر حسيناً وثالثنا النبي ﷺ والأئمة الاثني عشر. لم يجرؤ أحد على الاقتراب من الكائن، ولكن كل واحد اقترح طريقةً ما للوقاية منه؛ فقال عراقي عجوز: «حلوا سراويلكم، فهذا ما نفعله في الصحراء قرب إصفهان فتختفي الغيلان فوراً.»
فأجابه شاب: «هذا لا يجدي نفعاً: يجب أن تحمل معك ذيل ثعلب وألا تبدي الخوف من الغول، فلن يقدر عليك.»
وبينما نحن نتحادث بجد تارةً ونمزح تارة أخرى انبثق الصبح فرأينا أن الشبح كان في الغالب وهماً من صنع خيالنا. وبعد أن اجتزنا الجسر قال الشاب نفسه وهو يرتجف: «سأذهب لأرى الغول»، ونخس حصانه صاعداً الضفة القاسية نحو الكنيسة المتهدمة. رأيناه يعود بسرعة فأخبرنا أن ما تخيلناه غولاً كان امرأة أثار حجابها الأبيض انتباهنا، وأنها تختبئ مع رجل بين ظلال الجدران المتهدمة.
فشعرت أن الحدث يمكن أن يساعدني في جمع المعلومات المتعلقة بمهمتي وانطلقت في الحال إلى بقايا الكنيسة للتحقيق في أسباب اختباء هذين الشخصين بين أحجارها وأمرت خمسة رجال أن يتبعوني على أن يبقى الآخرون قرب الجسر.
لم نر أحداً حتى انعطفنا حول زاوية حادة في الجدار، وهناك اكتشفنا من كنا نبحث عنهم يجلسان تحت قوس. كانت الامرأة متمددة على الأرض يبدو عليها المرض ورجل يجلس إلى جنبها ويده تحت رأسها. تبين في ضوء الصباح أنهما في ريعان الشباب، وكان وجه الامرأة المغطى جزئياً بحجاب جميلاً للغاية رغم شحوبه الشديد، أما الشاب فقد اجتمعت فيه مظاهر القوة والنشاط والرجولة أكثر من أي شخص رأيته في حياتي. كان يرتدي زياً جورجياً وفوق فخذه خنجر طويل وبندقيته مسنودة إلى الجدار. وكان حجاب الامرأة الأبيض ملطخاً بالدماء ومتمزقاً في عدة مواضع. ومع أنني عشت بين رجال معتادين على مناظر البؤس والشقاء لا تدخل قلوبهم الشفقة ولا العطف، ألا أننا في هذا الظرف شعرنا بالرأفة فتوقفنا أمام أسى هذين الغريبين بوقار واحترام قبل أن نكسر الصمت السائد على لقائنا.
فسألتهم: «ماذا تفعلان هنا؟ إن كنتم مسافرين غرباء فلماذا لم تذهبوا إلى القرية؟»
فأجاب الشاب: «ساعدني، أرجوك، إن كان فيك حب الله! إذا كان السردار قد أرسلكم للقبض علي فساعدني على إنقاذ هذه الإنسانة المسكينة التي تموت بين يدي. لن أقاومكم، ولكن ساعدني على إنقاذها!»
فقلت: «من أنت؟ لم يعطنا السردار أية أوامر بخصوصك. من أين أنت وإلى أين أنت ذاهب؟»
فقال الشاب: «قصتنا طويلة وحزينة. لو ساعدتني في نقل هذه الفتاة المتألمة المسكينة إلى مكان تجد فيه من يرعاها ويعتني بها فسأحكي لك كل ما وقع لنا. قد تتعافى لو تلقت العناية اللازمة، فهي جريحة، ولكني آمل أن جراحها غير مميتة وستستعيد صحتها بالراحة. أشكر ربي أنك لست من رجال السردار. أرجو أن تصدقني، وعسى أن تحملك قصة شقائنا على حمايتنا.»
لم يكن هناك ضرورة أن يتوسل إلي ويستعطفني، فقد أثار مظهره في صدري عطفاً ومحبةً فاستجبت لطلبه في الحال وأكدت له أننا سنساعده بلا تلكؤ في نقل صديقته المصابة إلى القرية، وبعد ذلك نقرر ماذا نفعل به بعد أن نعرف قصته.
لم تلفظ المخلوقة أية كلمة واكتفت بتغطية وجهها بعناية وهي تئن من حين إلى أخر من الألم وتتنهد من شقائها وبؤسها. أمرت أحد رجالي بأن يترجل عن حصانه وأركبناها عليه وتوجهنا على الفور نحو القرية حيث فحصت عدة بيوت واخترت أفضلها ترتيباً، وقد بدت على صاحبه علامات الرفق والمسؤولية، فأنزلناها عنده وأعطيناه توجيهات بتمريضها على أكمل وجه. فأرسلوا في طلب امرأة عجوز اشتهرت في القرية بمهارتها في تطبيب الجروح والرضوح فتولت العناية بها. عرفت من الشاب أنه أرمني، وكذلك صاحبته، وبما أن سكان آشتاراك كانوا من الجنس نفسه تفاهموا بسرعة وشعرت المسكينة أنها في أيدٍ أمينة.
قصة يوسف الأرمني وزوجته مريم
كنت أنوي المضي إلى مرتفعات أبيران حيث البرد والكلأ لخيلنا وأن نتوقف هناك خلال النهار، ولكني سمعت أن قبائل الرحل التي توقعنا أن نجدها في تلك المنطقة لنستظل بخيامها ونأكل من مؤنها قد انتقلت إلى الجبال البعيدة خوفاً من الحرب والقتال، فقررتُ المكوث في آشتاراك ريثما يمضى حر النهار. نزل رجالي في بيوت القرية، وبعضهم فضل أن يرتاح تحت أقواس الجسر وربطوا جيادهم في مرج ذي عشب نضر غزير، واثنان منهما مكثا في برد الطاحونة التي تديرها مياه النهر التي تجري في قنطرة. أما أنا فمددت سجادتي في غرفة مفتوحة مشيدة على رف صخري في أعلى نقطة من الضفة تطل على الجوار كله فأستطيع مراقبة القرية وأهلها والنهر ورجالي وأي شيء قد يتوجه نحونا من الحدود الروسية.
أنعشني نوم ساعتين، وعندما استيقظت أرسلت وراء الشاب الأرمني، وبينما قدم لنا أهل القرية الطيبون فطوراً كنا بأمس الحاجة إليه طلبت منه أن يروي لي مغامراته، ولا سيما ما سبق الوضع الذي وجدته فيه. وظهرت ملامح الشاب الرجولية بكامل جمالها بعد أن ارتاح وأفطر وأضاءت الشمس البقعة التي كنا جالسين فيها. وحيوية ملامح وجهه خلال حديثه وإخلاصه في الكلام أقنعني بصورة عجيبة أنه يقول الصدق. وإليكم ما رواه لي:
أصلي أرمني، وأنا مسيحي، واسمي يوسف. أبي مختار قرية غومشلو التي يقطنها الأرمن فقط، وتقع بالقرب من نهر بمباكي الجميل. نعيش بين السهول الخضراء والمراعي البديعة والمناخ عندنا يشتهر ببرودته وهدوئه، ونحن قوم أصحاء أقوياء شجعان، ورغم ابتزاز حكامنا لنا كنا قانعين بحياتنا الفقيرة. وموقعنا بين الجبال البعيدة ينأى بنا عن الاستبداد الذي يعاني منه من يعيشون قريباً من المدن ومقرات الولاة. عاداتنا بسيطة وحياتنا تقليدية. عمي شماس يخدم البطريرك في إتشميادزين وخالي قسيس القرية، وقرر أهلي أنني يجب أن أصبح كاهناً أيضاً. كان أبي يعيش من فلاحة الأرض، ونظف قطعة أرض بور بالقرب من القرية بجهده، وبما أن لديه ابنان غيري أنا، فقد رأى أن مساعدتهما له في أعمال الحقل تكفيه، ومن ثم باركني أن أسلك سبيل اللاهوت فأرسلني إلى إتشميادزين وأنا في العاشرة من عمري لأتعلم هناك، وتعلمت القراءة والكتابة والشعائر الدينية. أحببت التعليم كثيراً وقرأت كل الكتب التي وقعت يدي عليها. توجد في الدير مكتبة غنية للغاية من الكتب الأرمنية، وسنحت لي فرصة قراءة بعضها بين الحين والآخر، ومع أن أغلبها كان دينياً، وجدت مرة كتاباً في تاريخ أرمينيا لفت انتباهي إذ عرفت منه أننا كنا في الماضي أمة لها ملوكها الذين ذاع صيتهم في أصقاع المعمورة. فكرت في حالتنا حالة الانحطاط في الحاضر وفي ماهية حكامنا، فملأت قلبي الرغبة في كسر نير العبودية، وهذه الأفكار صرفتني عن المهنة المقدسة التي نذرني أهلي لها. وفي تلك الفترة اندلعت الحرب بين فارس وروسيا؛ وبما أن قريتنا تقع في طريق مسير الجيوش، شعرت أن أسرتي تحتاج إلى حماية، وأن عودتي إلى أهلي أكثر نفعاً من بقائي في الدير. ولذلك تركت أصدقائي وأخواني في إتشميادزين قبل أيام من موعد وسمي كاهناً وعدت إلى بيت أبي، حيث رحّب بي الجميع. لقد ذاقوا تماماً أهوال الحرب، إذ كانت تهجم علينا بين الفينة والأخرى جماعات من اللصوص سواء من الجيش الفارسي أم الروسي (وكلاهما أسوأ من بعضهما) يعتدون على شعبنا الطيب المسالم في قريتنا والقرى المجاورة. لم تكن هذه المناوشات الحدودية تنفع أياً من الطرفين المتحاربين، ولكن عواقبها كانت وخيمة على سكان المناطق الحدودية. بقينا في خوف دائم من هجمات العدو الغازي ومن الابتزاز والنهب من جانب جيوش حكامنا. حرقوا محاصيلنا وسرقوا قطعاننا وكنا في خطر مستمر من الخطف والاستعباد. وتابعنا نحرث حقولنا للحفاظ على أملاكنا ولنؤمن أنفسنا من الجوع، وكنا نذهب إلى عملنا والسيف على جنبنا والبندقية المحشوة وراء ظهرنا، ومتى ظهر غرباء، مهما كانت هويتهم، نجتمع فوراً ونتصدى لهم دفاعاً عن ثرانا، وهكذا نجحنا لعدة سنوات في حصاد محاصيلنا، وبفضل الله كان عندنا ما نأكله. وهنا علي أن أبدأ بسرد التفاصيل المتعلقة بقصتي أنا.
منذ سنتين، وفي موسم الحصاد، خرجت من البيت قبل الفجر مسلحاً ومجهزاً كالعادة لأحصد القمح في أحد حقولنا البعيدة، فرأيت فارساً فارسياً يحمل على ظهر الحصان وراءه أنثى ويعدو بأقصى سرعة في وادٍ يتلوّى تحت التلة التي كنت واقفاً عليها. وكان واضحاً أنه يحمل الأنثى عنوةً، لأنها عندما رأتني مدت يديها نحوي وصرخت مستغيثةً بي. انطلقت على المنحدر الصخري للتلة فوصلت إلى الوادي لأقطع الطريق على الفارس، فأمرته أن يتوقف واستللت سيفي لتأكيد كلامي، ووقفت لأمسك لجام فرسه. والمرأة التي كانت وراء ظهره كانت تقيد حركته فلم يستطع أن يشهر سيفه ولا أن يستفيد من بندقيته، لذا نخس جواده ليصدمني به. ولكنني بقيت ثابتاً في مكاني وجرحت حصانه بسيفي فقفز جانباً فوقعت المرأة عنه. مد الفارس يده إلى بندقيته، ولكنه رأى أن بندقيتي مسددة عليه فرأى أن الأسلم له الاستمرار في طريقه بأقصى سرعة، ولم أره بعد ذلك.
ركضت لأساعد المرأة التي رأيت من ملابسها أنها أرمنية، فوجدتها فاقدة الوعي وفي جسمها رضوض، ونقابها الخارجي انفك عن وجهها، فمزقت نقابها الداخلي الذي يغطي أسفل الوجه كما هي العادة عند الأرمن، لكي تتنفس، فرأيت أجمل وجه يمكن تخيله. كان عمر هذه المخلوقة الفاتنة التي دعمت رأسها بيدي نحو خمس عشرة سنة، ولن أنسى هياج مشاعر الحب والبهجة والارتعاش التي أحسست بها وأنا أنظر إليها أول مرة. انحنيت فوقها بكامل قوة الهوى الأول وملأت قلبي أحاسيس جديدة علي فنسيت كل شيء عدا هذه الفتاة، ولو لم تفتح عينيها لبقيت في ذلك المكان إلى الأبد. تحركت الفتاة وظهرت فيها مظاهر الحياة، وسقطت كلماتها الأولى في قلبي مباشرة؛ وحين انتبهت إلى أنها في العراء وبين يدي رجل غريب بدأت تصيح وتبكي بطريقة أفزعتني. وشيئاً فشيئاً استعادت رشدها وأيقنت أنني من قومها ودينها، بل أنني منقذها، فصار في نظرتها مشاعر أخرى، وكنت آمل أنها قد لا تنزعج من العواطف التي أثارتها في نفسي. وبدأت توبخني على أنني نزعت نقابها، ولا يمكن أن يُغفر لي ذلك، فلا يجوز أبداً إلا للزوج – في بعض الأحيان – أن يمس بهذا الرمز: رمز العفة والشرف المقدس في عيني أي امرأة أرمنية، وهكذا وقفت أمامها مجرماً تجرأ على رؤية وجهها كاملاً. وعبثاً حاولت أن أبرر نفسي بأنها كانت ستختنق لو لم أبعد ضغط النقاب عن أنفها وفمها، لأنها فقدت الوعي ولو لم تستنشق هواءً لماتت: فرغم كل هذه الحجج استمرت في بكائها قائلة أنها صارت امرأة ساقطة. ولكن أخيراً اقتنعت بحجة مني، وهي أن عارها (إن شاءت أن تسميه كذا) لم يشهده أحد غيري، فحلفت بالقديس غريغوريوس وبالصليب المقدس أنه سيبقى أعمق الأسرار في قلبي ما دمت حياً، وبعد هذا هدأ بكاؤها. طلبت إليها عندذاك أن تحكي لي ما حدث لها، ومن هو ذاك الرجل الذي حررتُها من يده.
فقالت: «أما الرجل فلا أعرف عنه سوى أنه فارسي، ولم أره سابقاً، ولا أعرف ما غرضه من اختطافي سوى بيعي في سوق الرقيق. وقعت منذ أيام مناوشة بين قطعة من الفرسان الفرس والجورجيين كانت الغلبة فيها للفرس، فتقهقر الجورجيون ووقع بعضهم في الأسر، فساق الفرس أسراهم إلى يريفان. وقد احتل الفرس قريتنا قبل أيام من هجمتهم تلك، وأظن أن خاطفي قرر اختطافي حينذاك ليزعم أنني من السبايا الجورجيات من غنائم المعركة. نهضت في الصباح الباكر وذهبت إلى بئر القرية لأحضر جرة ماء إلى البيت، فاندفع من وراء جدار متهدم وهددني بسكين وأمرني أن أتبعه بلا صوت وأن أمتطي الحصان وراءه، وأطلق له العنان في حين كانت بنات القرية ذاهبات إلى البئر، وكان أملي الوحيد في النجاة أن صراخهن سينبه رجال القرية. اختفينا من الأنظار في غضون دقائق وسرنا في الوديان والتلال عبر أماكن يندر فيها المسافرون. وأخيراً، عندما رأيتك على سفح التلة تجرأت وصرخت رغم تهديدات الفارسي، وتعرف باقي القصة.»
وما كادت تنتهي من رواية قصتها حتى رأينا عدداً من الرجال، أحدهم يركب حصاناً والآخرون على أقدامهم، يتقدمون مستعجلين نحونا. وميزت محبوبتي وجوههم وصاحت بسرور:
«آه، ذاك أبي! وأخوتي! هذا أوانيس، وأكوب، وأراتون! وعمي أيضاً!»
وعندما وصلوا إلينا، اندفعت الفتاة نحوهم وعانقتهم بفرح. وكنت أراقبهم وفي قلبي خوف أن يكون بينهم شاب له مكانة في قلبها، ولكن الحضور كانوا كلهم من أسرتها. أخبروها أن خبر اختطافها انتشر في القرية فوراً بفضل صديقاتها، ولحسن الحظ لم يكن الرجال قد ذهبوا إلى الحقول بعد، وكان الحصان لا يزال في البيت، فامتطاه والدها فوراً. تقفوا آثار الخاطف ما دام يمشي على الطريق، ولاحظوا مكان انعطافه عنه إلى البرية، ولمحوهم أكثر من مرة بعد ذلك وأخيراً شاهدهما أوانيس من قمة تلة ينزلان إلى الوادي بالقرب من المكان الذي وجدوها فيه الآن.
فشكرت الفتاة الله والقديس غريغوريوس على نجاتها، ثم أشارت إلي بشيء من التردد وقالت لأهلها أنني من خلصها من الفارسي. التفت الجميع إلي، وسألني الشيخ أبوها: «ابن من أنت؟»
فأجبته: «أنا ابن كوجا بطرس مختار قرية غومشلو.»
فقال: «آه، إنه جاري وصديقي، ولكني لا أعرفك. لعلك أنت ابنه الذي كان يدرس في الكنائس الثلاث37 ليصبح كاهناً وعاد مؤخراً لمساعدة أهله ؟»
أجبته بنعم، فقال: «أهلاً وسهلاً بك، وبارك الله بعمرك! لقد أنقذت ابنتي، وندين لك بالشكر والامتنان إلى الأبد. تعال معنا لتحل ضيفاً علينا، إذ لو كان هناك مناسبة تستحق أن نذبح خروفاً ونأكله ونفرح فها هي ذي. نحن وجميع عائلاتنا نحملك على رؤوسنا ونقبِّل قدميك ونمسح على حاجبيك لأنك أنقذت مريم وخلصتها من مصير جارية عند المسلمين.»
ثم سمعت كلاماً لطيفاً من عمها وأخوتها، وجميعهم دعوني إلى قريتهم وأصروا على دعوتهم حتى لم أستطع الرفض، لا سيما أنني كنت أرغب برؤية مريم، فتوجهنا سوية نحو القرية.
كان الطريق يتلوى على سفح أحد الجبال حين رأيت قرية مريم، كما أسميها، تقع بين الأشجار محمية من الرياح من كل جوانبها عدا الشرق، حيث تكون الرياح الشرقية من بحر قزوين هادئة وباردة. ووراءها كان نهر بامبوكي يمضى في طريقه الملتوي في وادٍ جميل وافر الخضرة، وأبعد منه يشاهد بالكاد قره كليسه، أي الدير الأسود، موقع الروس في هذا الجزء من الحدود، على صخرة سوداء وعرة تشرف على المناطق الخضراء المحيطة بها.
وعندما اقتربنا من القرية وجدنا أن جميع سكانها، ولا سيما النساء والأطفال، كانوا يتابعون نزولنا على المنحدر ليعرفوا إن كانت مريم قد عادت أم لا، وعندما رأوها عم قلوب الجميع فرحٌ لا حدود له. حكى أهلها قصة اختطافها وإنقاذها، فتناقلها الناس بين بعضهم فانتشرت في أرجاء القرية، ومع كل رواية أضيفت إليها تفاصيل حتى قيل أن مريم اختطفها مارد رأسه من حديد وله مخالب وقدمان من فولاذ يركب دابةً تتفتت الصخور والأجراف تحت حوافرها، وكل ضربة حافر على الأرض صوتها كصوت المدافع، وأردفوا أن ملاكاً على هيئة شاب فلاح هبط فجأة من على رأس جبل في سحابة من نور واستل سيفاً من نار فارتعب الحصان ورمى مريم أرضاً، فضرب الملاكُ الماردَ فحوّله ومطيته إلى رماد، بدليل أنها لم تعد تراه بعد أن استعادت وعيها. وأشار الناس إلي بأنني الملاك على هيئة فلاح، وكادوا يعبدونني لولا أن الولد الذي يرعى أبقار القرية، والذي كثيراً ما كنت أصادفه في البرية، عرفني فقال: «إنه ليس ملاكاً بل يوسف بن كوجا بطرس من غومشلو.»، وهكذا عدت بشراً فانياً. ومع ذلك، أكرمني أهل القرية جميعهم وفاضت ألسنة أقرباء مريم بالثناء والمديح على ما فعلته من أجلهم. وفي هذا الوقت كان الحب يتغلغل في قلبي. بالتأكيد، لم أعد أرى وجه مريم، فقد مضت تلك اللحظة السعيدة من حياتي، ولكنها تركت بصمة لا تمحى على عمري كله، فقلت لنفسي: «لن يفصلني شيء عن هذه الفتاة الجميلة. مصيرنا من الآن فصاعداً واحد. جمعتنا السماء بأعجوبة ولن يفصلنا عن بعضنا إلا القدر، حتى لو اضطررت أن أتصرف مثل الفارسي فأخطفها عنوة.» التقينا مع مريم من حين إلى آخر، وكان الكلام بيننا قليلاً، ولكن نظراتنا كانت تعبر عما يعجز الكلام عن الإفصاح به، وتيقنت من أنها تبادلني الشعور. كم تمنيت أن أواجه وأقاتل عشرين فارسياً آخر لأبرهن مدى حبي! ولكني تذكرت أني لست سوى أرمني فقير ينتمي إلى شعب مسكين مهان منحط، وأعظم بطولة قد تكون من نصيبي هي حماية قطعان أبي من الذئاب وصد السارقين عن حقولنا.
مكثت طوال ذلك اليوم في غوكلو (اسم قرية مريم)، وذبحوا الخروف المنذور وطبخوا قدراً ضخماً من الرز. وعدت إلى قريتي في اليوم التالي، حيث كان والداي قلقين بسبب غيابي، واستمعوا إلى ما حدث لي بكل جد واهتمام.
استولى الحب علي فلم أستطع أن أفكر بأي شيء آخر، فرأيت أن أخبر والديّ بمشاعري، فقلت لهما: «لقد بلغت الرشد لأتصرف وأقرر مصيري وفق ما أراه، وبفضل الله وفضلكما ساعداي قويان وأستطيع أن أكسب خبزي. أريد أن أتزوج، وقدّمَتِ الأقدار لي سبيلاً إلى ذلك.»
ثم ناشدتهما أن يطلبا مريم من أبيها زوجةً لي، وقبلت يد والدي وعانقت والدتي.
فأجاباني: «الزواج في مثل هذا الوقت العصيب قرار صعب، وأسرتنا أفقر من أن تتحمل تكاليف الزفاف. فمن الضروري شراء الملابس والخواتم والشموع والحلويات وستار قرمزي وسرير وشراشف ودفع أجور المغنين والعازفين وتجهيز وليمة؛ ومن أين لنا النقود لتغطية كل هذه التكاليف؟»
فقلت: «صحيح أن النقود ضرورية ولا يمكن الزواج بدونها، سواء من أجل شرف أسرتنا أم لأبين حبي لزوجتي؛ ولكني أستطيع أن أستدين، فعندي أصدقاء في يريفان وفي الكنائس الثلاث، ويمكنني أن أستدين منهم مبالغ تكفي لترتيبات الزفاف؛ ومن أجل تسديد ديوني سأعمل بجد ونشاط وأقتصد في حياتي ما استطعت، فأسدد ما علي شيئاً فشيئاً. كما يمكنني أن أعمل خادماً عند تاجر يحاسبني بنسبة من أرباحه، وعندها قد أكسب من رحلة واحدة إلى القسطنطينية أو أستراخان ما يكفيني لتسديد ديوني مع فوائدها.»
وبالنتيجة أكثرت الكلام فاقتنع والداي بالتقدم إلى والدي مريم، وتقرر أن يزور والدي وعمي القسيس وأحد أعيان قريتنا غوكلو ليطلبوا مريم زوجة لي. وكنت أجد حجة لأذهب إلى تلك القرية كل يوم تقريباً، وكان عندي أكثر من فرصة لإعلام مريم وأهلها بما أنويه كيلا تأتيهم زيارة أهلي مباغتة.
استقبل أهل مريم أبي ورفقاءه بكل حفاوة، وتحدثوا في الموضوع واستغلوا هذه الفرصة ليشربوا عدداً أكبر من المعتاد من كؤوس العرق، واتفقوا على عقد القران في أسرع وقت، حالماً يتم الاتفاق على تفاصيل الحفل وما يجب تأمينه للزواج وبعد مراسم الخطبة.
وبعد ثلاثة أيام ذهبت أمي، ومعها امرأتان من عجائز القرية وعمي القسيس وأنا، إلى غوكلو من أجل الخطبة والاتفاق على شروط الزفاف. وكان استقبال النساء أكثر رسميةً من استقبال الرجال، والتقت نساء تلك القرية بنساء قريتنا وبدأن بالتفاوض.
وعرضت أمي باسمي أن عليّ تأمين طقمي ملابس كاملين لخطيبتي، أحدهما من الحرير القرمزي والآخر من القطن الأزرق، وسروالين، أحدهما حرير والآخر قطن مقلّم، وجبتين، أي ثوبين، من القطن المطبوع، ونقابين، أحدهما من القطن الأبيض والآخر ملون بمربعات؛ وزوجين من الأحذية، أحدهما من جلد أخضر بكعب عال والآخر من جلد بني بكعب عظمي منخفض مع نعل حديد، كما كان علي أن أضيف على ذلك منديلاً من الموسلين المطبوع ومجموعة من النطاقات وأغطية الرأس، كما عرضت خمسين قرشاً فضياً للنفقات الصغرى وسلسلة للرقبة معلق عليها تومان فارسي من ذهب.
وتم الاتفاق على هذه البنود بعد نقاشات طويلة، إلا أن إحدى العجائز التي عملت خادمة في بيت فارسي أثارت جدالاً جديداً حين طالبت بإضافة شيء يسمى «شير بها» أي ثمن الحليب، كما هو معتاد في فارس. فأجابت نساؤنا أن ذلك ليس من عادات الأرمن، فأكدت نساء غوكلو أنها عادة، فتعالى الصراخ وكادت النسوة تتخاصم، وكنت قد طلبت من أمي عدم الإصرار بل التساهل في المساومة، فعرضَتْ عشرة قروش أخرى فنال عرضها رضا الجميع.
كانت كل هذه النقاشات تدور بين النساء حصراً، وعندما حصل الاتفاق دعتنا النساء إلى الدخول، فدخلت مع عمي، من أجل الخطبة، ونبهوني ألا أضحك ولا أبتسم طوال المراسم لأن ذلك علامة سوء كفيلة بإفساد الحياة الزوجية.
رأيت أمي جالسة على الأرض بين العجائز مقابل والدة خطيبتي مع عجائزها، ودخلت مريم في اللحظة نفسها، فقدمت أمي لها خاتماً (نحاسياً للأسف) مني فلبسته في إصبعها، ثم قدموا النبيذ للقسيس، فأخذ منه جرعة كبيرة ثم أعلن أننا مخطوبان وصرنا زوجاً وزوجة وتلقينا تهانئ الموجودين. كنت فرحاً، رغم أن التحادث مع خطيبتي كان ممنوعاً، فتبادلنا القبلات مع جميع الحضور وتلقينا مباركات أكثر من أي زوجين في العالم على ما أعتقد.
عادت أمي وصاحباتها إلى قريتنا، وذهبت معهن لترتيب الزفاف ليكون على أكمل وجه. وعندما جلسنا لنحسب النقود المطلوبة وسبل الحصول عليها دخل أبي إلى الغرفة التي كنا مجتمعين فيها وفي يده كيس، فقال لي: «هذه هي النقود، فمختار غومشلو قادر على تأمين زفاف ابنه مثله مثل خيرة رجال هذا البلد. خذ هذه العشرة تومانات يا بني لتشتري بها ملابس زوجتك.»
فركعت أمامه وقبّلت يده وطلبت منه أن يباركني.
وقال عمي القسيس وقد أعجب بسخاء أبي: «يا ابن أخي، الكنيسة فقيرة وخدمها أفقر، ولكن خذ مني عشرين عباسياً38 فضياً لتشتري بها شموعاً لزفافك.» وأضاف كل واحد من الموجودين ما استطاع من النقود، فوجدت نفسي قادراً على شراء المطلوب بلا الحاجة إلى الاستدانة من أصدقائي. شكرت الجميع بأطيب الكلمات، ولم أعرف كيف أتصرف، إذ لم يكن عندي في حياتي مثل هذا المبلغ. وكنت متلهفاً للذهاب إلى يريفان لشراء الملابس، إذ كانت أقرب مدينة فيها سوق. وبما أنني كنت غشيماً في فنون الشراء ولا أفقه شيئاً في ملابس النساء قررنا أن ترافقني والدتي على ظهر الحمار وأمشي معها راجلاً. وكان عندها صديقة أرمنية في يريفان تستطيع إيواءنا ليلة أو ليلتين، أما في الطريق فأوينا في خيام قبائل الرحل الذين توجبهم أخلاقهم باستضافة المسافرين.
غادرنا القرية، أمي على ظهر الحمار وأنا أمشي إلى جانبها وسيفي على جنبي وبندقيتي وراء ظهري يودعنا نصف سكان القرية يدعون لنا بالسلامة والتوفيق.
وعندما وصلنا إلى مرتفعات أبيران اكتشفنا معسكراً عظيماً من خيم بيضاء، وكانت أضخمها خيمة القائد. وأخبرنا فارس صادفناه في طريقنا أن سردار يريفان عسكر هنا مع قطعة كبيرة من الفرسان لمراقبة تحركات الروس والجورجيين لتوقعه أن ينقلوا قواتهم للهجوم على بلاد فارس.
أقلقنا هذا الخبر، ورأت أمي أن نرجع فوراً ونؤجل الزفاف؛ إلا أن عشقي منعني من الاستماع إلى كلامها فتوسلت إليها أن نمضي في طريقنا بسرعة لنعود في أقرب وقت أيضاً. وقطعنا في اليوم الأول مسافة طويلة حتى رأينا دخان يريفان من بعيد. أمضينا الليلة تحت صخرة كبيرة تطل على جبل أرارات، ورسمنا الصليب عندما رأيناه، ثم أوكلنا أنفسنا للقديس غريغوريوس قبل أن نخلد إلى النوم. كانت قبائل الرحل قد انتقلت بعيداً فلم يعد لنا أمل الإيواء إلى خيمهم، ولكننا ارتحنا جيداً خلال الليل فمضينا إلى يريفان في الصباح الباكر ووصلنا إليها بسلامة.
استقبلت صديقة أمي ضيوفها بحفاوة، وذهبتا في اليوم التالي إلى السوق لشراء ملابس الزفاف، بينما تسكعت في أرجاء السوق والمدينة أستمع إلى الأقوال والشائعات، وأغلبها كان حول نوايا السردار في محاربة العدو. كان واضحاً أن شيئاً سيحدث قريباً، وتوقع الناس هجوماً كبيراً لأن العاملين في دار الصناعة ومصانع البارود ازداد الطلب على عملهم في إنتاج أدوات القتل والإبادة لم يشهد لها مثيل في بلاد فارس،39 وقيل أن هذه الصناعة أنشأها منشقون روس. ولكن شؤوني غلبت علي فما أعرت اهتماماً لهذه الأخبار، وقد خطر على بالي أننا يمكن أن نحاول طلب الحماية من السردار بوساطة رئيسنا في الكنائس الثلاث في حال صارت قريتنا ومحيطها مسرح أعمال قتالية، ولكن عندما حسبت الوقت الضروري للسفر إلى إتشميادزين تركت الفكرة وتوكلت على سيفي وبندقيتي معتبراً إياهما حماية كافية من جميع الغزاة.
عدت مع أمي إلى القرية من الطريق الذي جئنا به، إلا أن مسيرنا كان أبطأ لأن الحمار كان محملاً بما اشتريناه، كما حملت أنا جزءاً من الأغراض فضلاً عن أسلحتي. كان مخيم السردار لا يزال في المكان نفسه وتجاوزناه بلا عراقيل تذكر حتى وصلنا إلى المرتفعات المطلة على غومشلو.
رأت أمي خيمة فتوقفت مصعوقة وصاحت: «ما هذا يا يوسف؟ أترى الخيمة؟»
فأجبتها، ورأسي لا يتسع لأية أفكار إلا ما ارتبط بزفافي: «أجل، أراها. لعلهم يحضرون استقبالاً لنا.»
فصرخت أمي: «ولحية زوجي، أي استقبال؟ ماذا حدث لعقلك؟ إنهم إما الروس أو الفرس، وأنا متأكدة من ذلك مثلما أنا متأكدة من أنني مسيحية! ولا خير في كلتا الحالتين.»
اندفعنا إلى بيتنا في قلق، وعندما وصلنا تبين أن أمي كانت على صواب، فقد احتلت القرية قطعة صغيرة من المشاة الروس تتألف من خمسين رجلاً يرأسهم «پنجاه باشي»، أي رئيس الخمسين، يسمونه «الكابتن»، وهي طليعة الجيش الروسي الموجود على مسافة مسير يوم عن قريتنا. وتم إيواء العساكر في بيوت القرية، وسكن الكابتن في بيتنا لأنه بيت المختار وأفضل بيوتها.
تصور رعبنا عندما عرفنا الوضع، وتصور تعاستي بسبب ضرورة إرجاء زفافي إلى أجل غير مسمى، وربما يلحق بنا الدمار والخراب فنبقى عراة معدمين مشردين. راعتني هذه الصورة فاستعجلت إلى أصدقائي في غوكلو للترويح عن نفسي عسى أن يؤاسوني. تقع قريتهم بعيداً عن طريق مسير الجيوش، ولم تظهر أية قطعات عسكرية بالقرب منها ولا فيها، ولكن عندما سمعوا أخبار قريتنا شاطرونا مخاوفنا. رأيت مريم العزيزة، ولا تسمح لنا عادات بلدنا بالتحدث صراحة، ولكن الحب بارع في ابتداع الوسائل، فتبادلنا كلمات الوفاء الأبدي وحلفنا على الصليب المقدس لديننا أننا سنبقى معاً مهما حدث.
تكررت لقاءاتنا وكدت أفقد صوابي من قوة رغبتي وخيبة أملي من تعذر زواجنا. كان واضحاً أن الكارثة محدقة، فالجيوش يمكن أن تتحرك في أي يوم، ومتى بدأ القتال فماذا يبقى من أفراح عرسنا؟ إن الإقدام على مثل هذه الخطوة الهامة في مثل هذه الظروف ليس إلا استهزاءً بالأقدار وتحضيراً لمستقبل كله تعاسة ونحس. ولكن حبي كان يدفعني إلى الزواج، وحاولت أن أتحمل ما لا طاقة لي به.
ولكن، مضى أسبوعان على عودتنا ولم يحصل شيء. كانت علاقاتنا مع ضيوفنا الروس طيبة، إذ كانوا هادئين ومنضبطين بخلاف الفرس في مثل هذه الحالات، فأصبحنا أصدقاء. فالروس مسيحيون مثلنا، يرسمون الصليب ويصلون في كنيستنا ويأكلون الخنزير ويشربون النبيذ، وكل هذا كان من شأنه توطيد أواصر الصداقة بيننا. وكان قائدهم الكابتن رجلاً محترماً للغاية ومتواضعاً أحبه الجميع، يحافظ على كامل الانضباط بين جنوده ويضرب بسلوكه مثلاً يحتذى به. كان شغوفاً بمعرفة عاداتنا وتقاليدنا وطلب منا أن نحدثه عن كل ما يهمنا. وهكذا علم عن زواجي، واستمع إلى قصتي باهتمام حار جعلني أشعر أنه من أعز أصدقائي.
وقال: «وماذا يمنعكم من تنظيم حفل الزفاف الآن؟ نحن نحميكم، وإذا احتجت إلى أي شيء مما أستطيع أن أعطيك أو أعيرك إياه فلن أقصّر في ذلك أبداً. فالفرس على ما يبدو لا يتحركون، وجيشنا ينتظر وصول تعزيزات من تفليس قبل أن يتقدم. إذن، عندك الوقت الضروري لتحضر كل شيء وأن نحتفل بزفافك، وقد يكون أكثر فخامة مما لو لم نكن قد نزلنا عندكم.»
وعلاوة على ذلك وعد أن يهدي العروس أربطة ذهبية جورجية وأن يعيرني حصانه القرداغي الأصيل لأركبه بهذه المناسبة. وبحديثه أقنع أقاربي وأقارب خطيبتي بعدم تأجيل الزفاف، فحددنا موعده. لو سعى أي رجل آخر إلى تعجيل الأمور، ولو أبدى كل هذا الاهتمام بها، لأثار شكوكي حول نقاوة نواياه وربما أثار غيرتي؛ ولكن الكابتن كان بشع المظهر، وبالأحرى، مختلفاً عما يعتبره شعبنا جميلاً، لدرجة أنني لم أشعر أنه يمكن أن ينافسني في حبي إلى مريم، فلو عشقته لاستطاعت أن تعشق قرداً. فوجهه كان شاحباً ذا جلد خشن، يعلو رأسه شعر أشبه بالريش بلون القش، وعيناه مثل ثقبين عميقين مخفيين وراء وجنتين صغيرتين وأنفه كقطعة لحم صغيرة تحتها ثقبان وكأنها مفتوحان بمخرز، وذقنه أجرد تماماً لا يظهر فيه ولا شعرة. وعلى شفته العليا شاربان بارزان وطويلان حتى يظهر أنهما أكبر من صاحبهما، وهذه الإشارة إلى رجولته يعلوها من الصباغ والزيت ما يكفي لدهن جزمته التي لا تفارق قدميه.
فقلت لنفسي: «لا، فالأحرى بمريم أن تعشق ذاك المارد الفارسي، ولو قارنته بخطيبها (وهنا نظرت إلى نفسي بشيء من التباهي) فلن تترك مكاناً لغيرتي ومخاوفي.»
وهكذا تقرر زواجي. وفي المساء السابق ليوم الزفاف أرسلت الألبسة وغيرها من الأغراض على صوانٍ محمولة على رؤوس الرجال إلى خطيبتي، ويرافقهم المغنون والعازفون الذين تجدهم في كل قرية. وتألفت فرقتي من رجل يعزف على الزرنة وآخر يضرب الدف ومغنيين اثنين؛ كما أعطانا الروس طبلهم حمله أحد رعاتنا وملأ صوته المنطقة كلها. وتبعتُ هديتي بعد بضع ساعات لأستلم الهدية من خطيبتي كما هو متعارف عليه، وتألفت من طبنجتين ملبستين بالنحاس مصنوعتين في القوقاز كانتا ملكاً لعم أبيها الذي خدم في جيش والي جورجيا قبل أن يستولي الروس على ذلك البلد.
وفي اليوم التالي، يوم سعادتي المنتظر، نهضنا جميعنا في الصباح الباكر. كان الطقس هادئاً وحاراً ينذر بعاصفة، والغيوم معلقة في السماء برؤوسها البيضاء فوق الأفق. ولكن الطبيعة كانت جميلة نضرة بعد مطر هطل في الليل. أعطاني صديقي الكابتن جواده، وزينته بأجمل عدة أمنتها لهذه المناسبة، وارتديت طقماً جديداً من الملابس من رأسي إلى قدمي ولبست فوقها أحزمة من فضة وخناجر وعلب الخراطيش وغيرها استعرتها من جورجي يخدم عند الروس، وكان مظهري وسيماً كما قال لي من رآني، وأظن أنهم كانوا صادقين في ذلك. وانطلقنا إلى غوكلو أنا وأقاربي الرجال والكابتن الروسي وكل رجاله الذين استطاع إعفاءهم من الخدمة في ذلك اليوم، ومضينا في موكب تسبقنا الموسيقا والأغاني والصيحات. ترجلنا عند بيت خطيبتي حيث تناولنا المرطبات وتلقينا التهانئ من أهل القرية جميعهم. وعندما جهز كل شيء لعودتنا إلى غومشلو – حيث كان عمي بانتظارنا لإجراء التكليل – ركبنا الخيل مرة أخرى، وكانت خطيبتي مغطاة بستار قرمزي من رأسها إلى قدميها وعلى رأسها صفيحة مستديرة لتثبيت الستار، وركبتْ على جواد أبيها يسوقه أخواها من جانبيه. ومن عادات بلدنا أن يمسك العريس بيده نطاقاً أو وشاحاً تمسك العروس طرفه الآخر وهما في طريقهما إلى الكنيسة. ورافق الموكب جميع أصدقائنا وأقربائنا وكل شباب القريتين، بعضهم على أقدامهم وبعضهم الآخر على الحمير والبعض على الخيل، وهم يصيحون ويعبرون عن بهجتهم بكل أشكال الألعاب والتسالي طوال الطريق. وعندما وصلنا إلى تلة صغيرة تشرف على قريتي استلم كل المشاركين في المراسم شمعة صغيرة أشعلها فوراً. ثم تقدم الموكب ببطء ورصانة يرأسه عمي وهو ينشد مع عمي الآخر من الكنائس الثلاثة المزامير وسط الضجة التي تصدر عن المشاهدين. وقد أمر الكابتن رجاله بارتداء بزة المناسبات، وساروا جميعهم إلى الكنيسة معنا، فكان موكباً مهيباً حقاً.
وأخيراً ترجلنا عند باب الكنيسة، ونحن نمسك كل واحد بطرف الوشاح، ومشينا أنا وخطيبتي إلى المذبح الذي كان مزيناً على غير العادة بالزهور والشرائط والمرايا. ثم أوقفونا وجبيني يلامس جبين مريم ووضع الكتاب المقدس فوق رأسينا مفتوحاً، ووضعوا يدها في يدي. ثم سألونا إن كان كل واحد منا يقبل الآخر زوجاً له، وبعد أن أومأنا برأسينا بالإيجاب قرئت التراتيل المناسبة، ثم انتهى التكليل وأعلن للعالم أننا أصبحنا زوجاً وزوجة بصيحات الحشد وأصوات الطبول والأبواق والدفوف.
وفي هذه الأثناء اختفى ضوء النهار وتغطت السماء بغيوم داكنة تنذر بعاصفة، وبعد فترة هطل المطر وسمعت أصوات الرعد، ولهذا انتهت الوليمة في وقت أبكر مما لو بقي الطقس صافياً، وبعد أن تفرق المدعوون اقتربت الساعة التي تجعلني أسعد الرجال.
فهل أتوقف هنا لأتذكر كل فظائع تلك الليلة أم أتجاوزها لكي لا أزعجك بهذه الرواية. تصور خطيبتي الجميلة كنجم الصباح البريئة كالملاك المرتبطة بي بأنقى مشاعر الحب، يمكنك أن تدرك ما شعرت به في تلك اللحظة، وقد كنت أتصور أن اتحادنا مستحيل وفكرت بسعادتي المرتقبة وكأنها نور وجودي كله يبرق أمامي ولا أصل إليه.
ولكن لكي تفهم المشهد الذي سوف أصفه لك الآن، يجب أن تعرف أن القرى في جورجيا وفي ذلك الجزء من أرمينيا الذي نقطن فيه تبنى جزئياً تحت الأرض، فيجد الغريب نفسه ماشياً على سقف بيت وهو يظن أنه يسير على الأرض، وأغلب البيوت تنار بفتحات في سقوفها. وهكذا كان بيت أسرتي، ذلك البيت الذي احتفلنا فيه بزفافي. وكان في حجرتي الزوجية واحدة من هذه الفتحات، وقد أغلقت بهذه المناسبة، وبابها يطل على الشارع مباشرة.
من عادات الأرمن أن يذهب العريس إلى الغرفة أولاً، ثم تلحق العروس به فتخلع حذاءه وجوربه، ثم تطفئ النور وتخلع ستارها. كانت العاصفة قد بدأت، والرعد يدوي فوق رؤوسنا والأبراق تومض وسيول من المطر تنهمر بصوت رهيب وكأن عناصر الطبيعة كلها اضطربت عندما أطفأت مريم الشمعة ونزعت حجابها. وما كادت تضطجع في الفراش حتى سمعنا ضجيجاً شديداً غريباً على سقف البيت: أصوات الرجال تختلط بوقع حوافر الخيل ودوي الرعد، ثم سمعنا شيئاً يقع في غرفتنا فشاهدنا ومضة وشممنا رائحة الكبريت.
فصرخت: «إنه البرق وحق القديسين! حمانا الله! اهربي يا روحي، يا حبيبتي، استعجلي!»
وما كادت زوجتي رمت ستارها على رأسها وخرجت من باب البيت حتى وقع انفجارٌ في الغرفة مباشرة وجعلتني شدته أشعر وكأنني انتقلت في لحظة إلى نار جهنم. فقدت وعي بين الأحجار وقطع الأثاث المتساقطة، ولا أذكر إلا بريق النار ورائحة الكبريت ثم الصمت الفظيع.
مكثت في المكان فترة وأنا لا أدرك ما يجري حولي، ثم استعدت وعيي شيئاً فشيئاً فوجدت أنني أستطيع أن أحرك يدي ورجلي، وليس فيّ إصابات بليغة، فبدأت أتذكر ما حدث. بدا لي أن زفافي لم يكن إلا حلماً، فلم أسمع حولي إلا ضرب البنادق والانفجارات الكثيرة الشديدة وصرخات وصيحات الرجال، الجرحى منهم والمهاجمين الذين يقتلون رجالاً آخرين، ووقع الخيل وتصادم السيوف. فتساءلت: «ما هذا بحق السماء؟» وما زلت مربكاً ومصعوقاً أشعر أنني في كوكب آخر حين سمعت صرخة امرأة. «إنها مريم! قسماً بالقديسين، إنها هي! أين بحق الله أجدها؟» فخلصت نفسي من الحطام المتراكم فوق جسمي ونهضت وانطلقت أبحث عنها. إن المشهد الذي رأيته أفظع من أن يوصف، فأول ما رأيته كان فارسي يندفع نحوي وفي يده سيف وفي يده الأخرى رأس مقطوع يقطر الدم منه. كان سواد الليل يضاء بومضات برق تكشف لي المأساة الرهيبة ثم تخفيها في الظلام ليتولى الخيال رسم الباقي. وفي ومضة أخرى رأيت الفرس يهاجمون الروس العزّل الذين قاموا من الفراش، وفي ومضة أخرى رأيت أهل القرية يهربون في فزع من بيوتهم التي يتصاعد الدخان منها. ثم دوى انفجار عظيم هز كل شيء حولنا.40 وتراكضت الدواب بعد أن أفلتت من حظائرها في كل اتجاه تختلط بأهوال تلك الليلة. لا يسعفني الكلام في وصف مشهد الخراب الذي شهدته، وبوركت يد القدير الذي نجاني من الموت في تلك الليلة الفظيعة.
ما عرفت أين أتوجه بحثاً عن زوجتي. لقد سمعت صرخاتها، وهنا هزني اليأس حين فكرت أن ما سمعته كان صرخة الموت. رميت بنفسي في وسط المعركة وفي يدي قطعة حطب مشتعلة سحبتها من المدفأة في غرفتي وفتحت طريقي بين المتقاتلين أشبه بمجنون في نوبة سعر وليس برجل في ليلة زفافه. وعندما وصلت إلى أطراف القرية خيل إلي أني سمعت صرخات حبيبتي مرة أخرى، فركضت مسترشداً بسمعي باتجاهها. وفي ومضة برق رأيت في رأس تلة قريبة فارسين يهربان مع امرأة ستارها الأبيض واضح جلي تركب وراء ظهر أحدهما. تبعتهما برشاقة الوعل الجبلي، ولكن مع انحسار العاصفة قلت ومضات البرق فوجدت نفسي في النهاية على رأس تلة في ظلام دامس، لا أعرف الطريق الذي أمضى فيه. كنت عرياناً تقريباً، وجسمي كله رضوض. وقدماي المعتادان على السير حافياً، مجروحان بالحجارة بسبب المطاردة، والأسى يغلب عليّ وقلبي يتحطم، فوقعت على الأرض في يأس تبعته بلادة المشاعر كلها وبقيت مستلقياً حتى لمست أشعة الصباح الأولى عيني فاستعدت تدريجياً إدراكي.
تساءلت: «ماذا حدث؟ أين أنا؟ كيف جئت إلى هنا؟ هل الشياطين جاءت إلى هنا الليلة الماضية؟ أيعقل أن أرى هذه الشمس وأسمع تغريد الطيور في السماء الزرقاء وألمس هدوء الطبيعة ونضارة الصباح وخوار الأبقار، وهل يمكن ألا تكون المشاهد التي تجول في ذاكرتي أكثر من نتاج خيالي المعتلّ؟ أيعقل أنني رأيت هنا، في هذه البقعة المباركة من الأرض، إنساناً يقتل أخاه الإنسان والبيوت المحترقة والجثث المشوهة والرؤوس المضرجة؟ أيعقل أنني فقدت زوجتي البريئة الغالية المحبوبة؟» وعندها عاد إلي إدراكي لما وقع الليلة، ما كنت أرفض تصديقه، فأنجدتني الدموع التي بردت رأسي وشرحت صدري الذي كاد يختنق. فنهضت واتجهت ببطء نحو القرية. كان كل شيء هادئاً، ويرى دخان يتصاعد هنا وهناك، والأبقار الشاردة ترعى على مشارف القرية، وبعض الفرسان الغرباء يقومون بتحضيرات ما، والفلاحون متجمعون وهم لا يزالون مربكين بأحداث الليلة لا يعرفون ما تخبئه الأقدار لهم. أما أنا، فالمصيبة التي منيت بها جعلتي أتوقع أسوأ الكوارث، فتوقعت أن أجد أقاربي كلهم موتى وبيتي مدمراً فأبقى خالياً وحيداً على وجه الأرض بلا زوجة ولا بيت ولا أهل ولا أصدقاء. ولكن توقعاتي السوداوية كانت أشد من الواقع، فأول من صادفته وأنا أدخل القرية كانت أمي المسكينة التي بذلت كل الجهد لتأمين سعادتي. وحالما رأتني اندفعت نحوي والدموع تسيل من عينيها. وبعد أن هدأت قليلاً أخبرتني أن أبي أصيب ببعض الرضوض ولكن سائر العائلة بخير؛ وأن بيتنا قد تضرر وتعرض للنهب من حلفائنا الفرس، وأن غرفتي تحديداً قد تدمرت تماماً. وحكت لي أن الكابتن الروسي وقع أول ضحية للفرس، إذ اندفع إلى خارج البيت ليعرف ما يحدث متى سمع الانفجار في غرفتي، فهاجمه فارسيان اثنان أمسكه أحدهما وقطع ثانيهما رأسه، وهذا الرأس رأيته حين اندفعت من غرفتي. ثم أخذتني إلى ملجأ وألبستني بما وجدته من ملابس.
ترك الفرس القرية بعد أن انتهوا من ارتكاب فظائعهم ليبقى لأهل القرية مهمة دفن أجساد ثلاثين روسياً وقعوا ضحية لهجمتهم الغادرة والذين أخذ الفرس رؤوسهم معهم غنائم.
بعد أن رأيت أبي واطمأننت على صحته قررت أن أبدأ فوراً البحث عن زوجتي. كان واضحاً أن خاطفيها كانوا من بين مهاجمي القرية وأنهم أخذوها إلى يريفان موقع أقرب سوق رقيق، إذ لا ريب في غرضهم من خطفها. وجدت سيفي وبندقيتي وطبنجاتي مطمورة تحت حطام غرفتي، فأخذتها فضلاً عن بضع قطع من نقود فضية وغادرت غومشلو وقد أقسمت ألا أعود إليها حتى أجد مريم.
مشيت على عجل وأخذت الدروب المختصرة عبر الجبال لأصل إلى يريفان في أسرع وقت. وعندما قطعت طريقاً عاماً وجدت فارسين مسلحين أوقفاني وسألاني عن هويتي ووجهتي.
ما ترددت أن أروي لهم قصتي البائسة أملاً بأن يكون لديهما أي علم بما وقع لزوجتي، فأجاباني بطريقة فظة وأثار كلامهم أفظع المخاوف في قلبي وكاد يقنعني بأن زوجتي الطاهرة المسكينة قد وقعت في يد ذاك الطاغية الفاجر.
فقلت: «أيعقل أن يهبط السردار إلى دناءة سرقة زوجة أحد رعايا الشاه؟ أعرف أن المسلمين يعاملون النساء وكأنهم مجرد سلع تباع وتشترى، ولكنهن مخلوقات الله أيضاً خلقهن الله عوناً لنا في حياتنا.»
فضحك الرجلان لأقوالي وأردفا أنني، لو كنت أبحث عن امرأة وقعت في بيت حريم السردار فالأحرى بي أن أعود من حيث جئت لأن جهودي كلها ستكون هباء.
لم أكترث لأقوالهما واستعجلت في طريقي دون أن أعرف وجهتي ولا هدفي، وكان يدفعني شعور بأن الرب القدير لا يمكن أن يرمي مصائب فوق رأس خطاء مسكين مثلي بلا أن يواسيني بجزاء يوازنها.
وصلت إلى المخيم في أبيران حيث كان مقر السردار فتوجهت نحوه أملاً بأن أعرف شيئاً يفيدني. هز مشاعري وصول فرقة الفرس الذين هاجموا قريتنا وقدموا أدلة على نجاح حملتهم باستعراض رؤوس الروس التي وضعوها في أكوام أمام خيمة السردار. ومن الفرح والصيحات والتباهي يعتقد المرء أنهم حققوا نصراً عظيماً. وتم تمليح هذه الغنائم الفظيعة وإرسالها إلى شاه إيران الذي لا يصدق خبراً عن انتصار إلا إذا حصل على أدلة ملموسة عليه. ولكن في وسط هذه الأفراح وصل رسول مستعجلاً من الحدود الروسية، وأثار خبره تغيراً في مشهد المخيم، إذ أعلن أن الجيش الروسي بعد أن عرف بالهجوم على مخفرهم في غومشلو انطلق في حملة ضد السردار، ويتقدم بسرعة كبيرة ومن المتوقع أن يصل إلى المخيم قبل مجيء الليل. وما حدث بعد ذلك لا يوصف: حيث أمر السردار فوراً برفع المخيم والتراجع إلى يريفان؛ الخيم تتهاوى والبغال تحمَّل والرجال تصرخ؛ الخيل والإبل والرجال والمدافع، كل شيء يتحرك. وقبل مضي ساعتين اختفى المخيم تماماً وانطلق الجيش متراجعاً نحو يريفان.
لم أعرف شيئاً عن مريم، وبالتأكيد لو كانت في يد السردار فهي في قصره في يريفان، فتوجهت إلى هناك أملاً بأن فرصة ما يمكن أن تسنح لي وسط كل هذه الفوضى.
وعندما وصلت إلى المدينة اتخذت لي موقعاً على جسر فوق نهر رازدان، فهو نقطة جيدة لمراقبة ذاك الجزء من قصر السردار الذي يؤوي حريمه. وبما أن العسكر كانوا يعبرون الجسر باستمرار لم يلاحظني أحد حيث كنت أبدو واحداً من المعسكر. يقع القصر على حافة هاوية من الصخر الأسود على ضفة نهر رازدان، وهو نهر سريع وغزير يجري في واد تثير صخوره رغوة بيضاء على أمواجه وتسرع جريانه. وقد بني جسر فوقه في هذا المكان يتألف من ثلاثة أقواس، وهو جزء من الطريق إلى جورجيا وتركيا. وكانت القاعة الرئيسية للقصر التي يتخذ السردار مجلسه في زاوية منها تنفتح على النهر بشرفة واسعة وتطل على المناظر الجبلية. وعلى مبعدة من الشرفة، وعلى الجدار نفسه، تقع نوافذ جناح الحريم المتميزة بشبكاتها ووسائل الستر الأخرى. لاحظت أن النوافذ تسمح لساكنات الجناح برؤية الجسر ومن يمر عليه، فتصورت أن مريم، لو أنها محبوسة هناك، قد تراني وتتعرف علي لو نظرت من النافذة بالصدفة، فقلت لنفسي يائساً: «وماذا لو رأتني؟ هذا من شأنه أن يزيد من شقائها ومن يأسي!» إن الهروب من مثل هذا الارتفاع يبدو مستحيلاً لأن القفز منه يعني الموت المحتوم، فلا شيء يحمي من الصخور سوى شجرة صفصاف وحيدة تنمو بين الأجراف تحت إحدى النوافذ. رأيت أن مكثي في نقطة واحدة لمدة طويلة قد يثير الشبهات، فتركت موقعي وقد قررت العودة إليه مساءً بل في أية ساعة يمكنني أن أظهر فيها دون أن أثير الشبهات.
بقيت أراقب نوافذ جناح الحريم بهذا الشكل لأكثر من أسبوعين وأنا أمشي على الجسر جيئة وذهاباً ثلاث مرات يومياً على الأقل؛ وفي أحد الأيام، وبعد مغيب الشمس، رأيت شبك النافذة فوق شجرة الصفصاف ينفتح وتطل منه امرأة. نظرت إليها فانقطع نفسي من العواطف المختلجة في صدري. بدا لي أنها عرفتني فمددت يدي نحوها فمدت يديها، فقلت: «إنها هي! هي بالتأكيد! إنها زوجتي مريم!» فاندفعت إلى النهر وقطعته بلا تردد وبلا تفكير في العواقب حتى وقفت في أسفل الهاوية تحت النافذة مباشرة. مدت يديها إلي عدة مرات وكأنها تريد أن ترتمي في حضني، فكدت أصرخ رعباً، وأنا أشعر في الوقت نفسه بلهفة أن أضمها إلى قلبي. وقفنا ونحن ننظر إلى بعضنا ونخاف أن نتكلم ونصبو إلى اللقاء. وفجأة أغلقت الشباك وتركتني واقفاً والمخاوف تملأ صدري. بقيت في موقعي مدةً دون أن أراها، ثم انفتح الشباك مرة أخرى وظهرت مريم ونظراتها تكشف أقصى درجات اليأس والتصميم. لم أعرف ما سيحدث، فانتظرت في قلق رهيب حتى رأيتها تميل إلى الأمام أكثر فأكثر، ثم ترجع وتعود باندفاع جديد حتى رأيت حبيبتي تهوى من النافذة من ارتفاع شاهق.41 شعرت أن قدمي لا تطاوعانني وعيني يمتلئان بالدموع فلا أرى شيئاً وكدت أغشى من ثوران مشاعري حتى رأيتها على فرع شجرة الصفصاف معلقة عليه تكاد تقع، فوثبت وتسلقت الشجرة في لحظة عين وحملتها فاقدة الوعي، وامتلأ جسمي بالقوة والنشاط، فنزلت عن الشجرة وقطعت النهر عائداً وركضت مع حملي الغالي من الضواحي المسكونة إلى البرية في غمضة عين. كنت كالسكران من انفعالاتي، ومع أنني تصرفت بلا شعور، كل ما فعلته كان ما ينبغي أن أفعله. كانت الغرائز تقودني، وتصرفت مثل حيوان يتصرف بفعل غريزته. أنقذت أغلى ما عندي في هذه الدنيا.
وعندما شعرت بالتعب ووجدت أن مريم بدأت تبدي علامات الحياة توقفت ووضعتها بعناية خلف جدران متهدمة. كان جسمها مليئاً بالرضوض الفظيعة، ولكن عظامها كلها كانت سليمة، وجرحتها أغصان شجرة الصفصاف التي وقعت عليها في عدة مواضع، وكانت تنزف بغزارة. ولكنها كانت حية تتنفس، ثم فتحت عينيها ودعتني باسمي، ما ملأ قلبي بالفرح الغامر فعانقتها كالمجنون. وبعد أن ارتاحت قليلاً حملتها من جديد وقررت التوجه بها إلى الجبال فوراً؛ ثم تذكرت أن علي أن أعبر نهر أشتاراك، ولا يمكن عبوره إلى من الجسر، فتوجهت إلى هناك.
كنا نرتاح عند الجسر عندما سمعت وقع حوافر خيولكم. ومع أنني كنت مرهقاً برحلتي الشاقة، وجدت في نفسي القوة للتسلق على الضفة لكي نختبئ في الكنيسة المتهدمة حيث وجدتمونا؛ ومن هناك كنت أتابع تحركاتكم ببالغ القلق ظناً مني أنكم تطاردوننا بأمر من السردار. فلو حميتنا تنل عرفان قلبين محبين وبركات العديد من أناسٍ قلوبهم مليئة بالحزن الآن، وستمتلئ بالفرح عندما نعود. فكائناً من تكون، ومهما كانت مهمتك، لابد أن قلبك قلب إنسان. جازاك الله على لطفك ألف مثل؛ ومع أننا لسنا من قومك ولا من دينك، دعاؤنا إلى الله يصل إن كان صادراً من قلوبنا.
الفصل الثامن والثلاثون. تتمة القصة السابقة وقرار حاجي بابا بهذا الشأن
اختتم الشاب الأرمني روايته التي غمرتني أحداثها بالإعجاب والذهول، ثم استأذن مني أن يتركني ليزور زوجته ووعدني أن يعود حالما عرف أخبارها وحالتها بعد أن ارتاحت قليلاً.
فقلت لنفسي: «مستحيل أن يكون قد ابتدع الأكاذيب أمام وجهي طوال هذا الوقت، فهذه المرأة الجريحة دليل على صدقه. ولكن لو تركته يمضي في طريقه ولو عرف السردار بذلك، فماذا سيحدث لي؟ سأفقد وظيفتي، وربما أذنيّ أيضاً. لا، العطف والشفقة لا يليقان بي، فالمتعاطف لا يجوز أن يبقى نسقجياً. سأتبع ما قاله لقمان الحكيم في موضوع قريب، وما معناه: «لو كنت نمراً فكن نمراً في كل شيء لتعرف سائر الحيوانات كيف تتعامل معك؛ ولكن لو لبست جلد نمر واكتشفت الحيوانات أذنيك الطويلتين فستعاملك أسوأ من معاملة حمار غير متنكر.»»
بقيت أدخن وأنا أقلب في ذهني ما إذا كان علي أن أخلي سبيله أم لا، وأتذبذب في حيرة بين الحمار والنمر، حتى عاد يوسف وأخبرني أن مريم تحسنت كثيراً بفضل الراحة والعناية، لكنها ضعيفة نتيجة النزف ولا تزال تتألم من رضوضها، ولا سيما في إحدى رجليها، لذا لن تستطيع المشي قبل مضي عدة أيام. وأضاف: «طبعاً، لو كان السردار يطاردنا لما أوقفنا شيء عن التقدم إلا قوة السلاح.» كما أبلغني أن مريم استعادت ما يكفي من قواها لتروي له ما حدث لها منذ اللحظة التي تركته فيها في غومشلو.
عندما اندفعت مريم من الغرفة لا يغطي جسمها إلا ستارها لمحها فارسي في ضوء البرق فرأى أنها شابة جميلة فخطفها وذهب بها على مبعدة من القرية حتى استعان بصديق له ليركبوها عنوةً وراءه على الحصان. أخذها الرجلان مباشرةً إلى معسكر أبيران وعرضاها للبيع على السردار، فقبل وأمر بنقلها إلى قصره في يريفان ووضعها في الخدمة. وكان أملها أن شكلها الفظيع ومظهرها المرهق وظهرها المنحني من التعب سيصرف أنظار السردار عنها، لا سيما بعد أن سمعت عن مدى قسوته وتعذيبه لضحايا أنانيته. وقالت مريم: «كنت أقدم نفسي باسم زوجي قبل اسمي أملاً بشيء من الاحترام في بيت السردار وليقل اهتمامه بي، ونجحت في ذلك بادئ الأمر حيث لم يعرني أحد اهتماماً، واختلطت مع جواريه الأخريات ونفذت المهام الموكلة إلي. ولكن للأسف لم ألتزم بالعهد الذي قطعته على نفسي وأفشيت سري إلى جارية فارسية ادعت أنها صديقتي سعياً لاستعطافها عسى أن تساعدني في استرجاع حريتي. ولكنها خذلتني وحكت قصتي إلى السردار التماساً لاستحسانه، فاستدعاني وأصر على أن يتأكد من الخبر من فمي، وهذه كانت عاقبة عدم تعقلي في الكلام. فأمرني بتجهيز نفسي لاستقباله. تصور هول الوضع الذي وقعت فيه! فكرت في كل وسائل النجاة، ولكن كل المخارج كانت مغلقة. لم يخطر على بالي أن أنظر إلى الهاوية التي تطل عليها نوافذ جناحنا، ولكن الآن بدأت أفكر بجد في الإلقاء بنفسي على الصخور لأنجو من الطاغية. ثم رأيتك على الجسر، وبعد ساعات من ذلك أمروني بتحضير نفسي لاستقبال السردار، فقررت في قلبي أن أرمي بنفسي من النافذة لأعود إليك مرة أخرى أو أموت. وقد أغلقت الشباك على عجل حينها لأن عدداً من النساء دخلن الغرفة على حين غرة لاصطحابي إلى الحمام ثم تلبيسي بالملابس المناسبة، فاخترعت حجةً لتأجيل الأمر قليلاً وصرفتهن من الغرفة، ثم فتحت الشباك مرة أخرى ونفذت ما صممت عليه.»
بعد أن فرغ يوسف من رواية ما حدث له ولزوجته كان تواقاً ليعرف كيف سأتصرف، وتوسل إلي أن أنصحه وأساعده. كان الوقت يقترب من الظهيرة، وامتطى رجالي خيولهم وكان حصاني مجهزاً بانتظاري، حين خطرت في قلبي فكرة من شأنها ترتيب كل المصاعب المرتبطة بالأرمني الشاب وزوجته.
استدعيته وقلت له: «بعد ما حكيته لي، يستحيل علي أن أطلق سراحك، فقد اعترفت بأنك هربت مع امرأة من حريم السردار، وقد لا تدري أن هذا يعتبر عند المسلمين جريمة يعاقب عليها بالقتل لحرمة النساء عندنا. ولو تصرفت وفق ما يمليه الواجب علي لأرسلتك مباشرةً إلى يريفان؛ ولكني لن أفعل بشرط أن تنضم إلينا في جولتنا الاستطلاعية وتكون دليلنا في هذه البلاد التي تعرفها جيداً.» ثم شرحت له مهامنا والغرض من جولتنا، وأضفت:
«إن كنت جاداً في مساعدتنا فستؤدي خدمة تؤهلك لمكافأة، وعندها أستطيع أن أتكلم بما في صالحك أمام السردار ورئيسي وأن أضمن إطلاق سراحك بإذن الله. وستبقى زوجتك في هذه الأثناء هنا برعاية أهل القرية الطيبين في كل أمان، وآمل أنها ستتعافى تماماً عندما تعود في المرة القادمة.»
عندما سمع الشاب كلامي أمسك بيدي وقبلها ورضي بكل شروطي، فتمنطق بحزامه وأسلحته واستعد لمرافقتنا. سمحت له بزيارة زوجته ليحكي لها عن اتفاقنا وليؤكد لها أنهما سيلتقيان قريباً. فشكرني ثانيةً وانطلق بسرعة الغزال حتى بلغ رأس تلة قبل أن نصل إلى مشارفها.
الفصل التاسع والثلاثون. يوسف الأرمني يثبت جدارته بالثقة
مضينا نحو الحدود الجورجية متخذين مسالك في الجبال بمساعدة يوسف الذي كان يعرف كل بقعة من البلاد وجميع الاتجاهات بدقة أذهلتنا حقاً. ما بدا تواقاً لزيارة قريته بل أكد لي أنه لا يستطيع ذلك حتى لو أذنت له لأنه أقسم ساعة غادرها ألا يعود إليها إلا مع زوجته مريم.
تبين أن الخبر المبلغ إلى السردار عن تقدم الموسكوفيين كاذب، إذ وجدناهم معسكرين على ضفاف نهر بمباكي يحتلون قرية حماملو ويبنون التحصينات في قره كليسه. كنا قريبين من حماملو، ومع تقدمنا نحوها أحببت أن أجمع معلومات عن أعداد العدو ومواقعه، فخطرت لي فكرة عن صاحبي الأرمني، فقلت لنفسي: «إما أكسبه أو أخسره، ولكنه خير فرصة لنا. فليذهب إلى حماملو؛ فإذا أحضر لي المعلومات التي أبتغيها لن يمنعني شيء من التوسط بالعفو له ولزوجته، وإذا ثبت أنه خائن أتخلص منه وأطلب مكافأة من السردار على إعادة جاريته الهاربة. والله يا حاجي بابا، أنت جدير بموطنك إصفهان!»
فاستدعيته وشرحت له المطلوب، ففهم فوراً كل تفاصيل القضية وأبدى بلا تردد استعداده لتنفيذ المهمة. فأعاد ربط نطاقه ودس أطراف ردائه تحته وضبط قبعته وعلق بندقيته الطويلة على ظهره وانطلق نازلاً سفح الجبل حتى اختفى بين الأشجار.
فقال الشاب: «لقد ذهب إلى غير رجعة، ولن نراه ثانيةً.»
فأجبته: «ولم لا يعود؟ أليس لدينا رهينة؟ فمع أنه أرمني، لن يترك زوجته.»
فقال: «صحيح أنه أرمني، ولكنه عيسوي (أي مسيحي) أيضاً، والروس مسيحيون كذلك، ونعرف أن هؤلاء الكافرين متى اجتمعوا يموتون ولا يعودون إلى أهل الإسلام. والله لو كان يوسفاً عليه السلام وكانت هي زليخة بعينها، أراهن بحصاني أننا لن نراه بعد اليوم.»
فأجابه فارسٌ مسن مفتول العضلات ذو وجه سفعته الشمس كله تجاعيد مؤطر بلحية شعثاء وشارب كث وحاجبين كثيفين: «لا تلفظ الأكاذيب يا ولد ولا تأكل القاذورات! هذا الحصان للشاه وليس لك، فكيف تراهن عليه؟»
فرد الشاب: «ما للشاه فهو لي، وما هو لي فليس للشاه.»
تراشقنا لفترة من الزمان مثل هذا الكلام الفارغ ثم قررنا الاستقرار، فوجدنا بقعة خضراء توجهنا إليها وترجلنا عن خيولنا وأطلقناها ترعى، وانتشرنا في المرج وفرشنا على الأرض معاطفنا وأغطية الخيل. أعلنت نيتي بالمكث هنا حتى الصباح في حال لم يرجع يوسف طوال الليل، ومن ثم انطلق اثنان من خيرة سارقينا بحثاً عن غنم أو دجاج أو أي شيء نصنع منه وجبة عشاء، وبعد ساعة عادا ومعهما نعجة خطفاها من قطيع يرعى قرب النهر، فذبحناها وبدأنا بالتحضير لصنع الشواء. قطعنا غصنين متفرعين من الغابة وغرزناهما في الأرض، وعلقنا النعجة على غصن مستقيم ثبتناه بالعرض على الغصنين المغروزين وأضرمنا النار تحتها، وبقي أحد الرجال مناوباً ليفتلها حتى تستوي. ولم يمض وقت طويل حتى جهز العشاء. واقتُطِعت بعض أفضل القطع مع اللية وشُوِيت على مدك بندقية، وقدموها لي بصفتي رئيسهم، وهجمنا على اللحم بنهم وأكلنا حتى شبعنا.
في هذه الأثناء هبط الليل ولم يظهر يوسف، فحضّرنا للنوم وتركنا رجلين للحراسة والانتباه على الخيول. وبعد أن مضت ساعة بعد منتصف الليل وبدأ القمر يهبط نحو المغرب سمعنا صيحة بعيدة، ثم أخرى، فنهضنا فوراً. ومع تكرر الصيحات واقترابها تأكدنا أنه الأرمني فأجبناه وبعد قليل مثل أمامنا. كان مرهقاً تماماً، ولكنه استطاع أن يحكي لنا ما حدث له منذ افترقنا.
أخبرني أنه عندما وصل إلى حماملو عرفه بعض الجنود الروس الذين نجوا من هجوم الفرس على قريته، فعاملوه بلطف بالغ وعرّفوه على المعسكر وأخذوه إلى آمرهم الذي استجوبه بدقة حول الغرض من زيارته، فكان في جعبته حجة أنه يبحث عن زوجته، واقتنع الآمر بها. وفضلاً عن ذلك، قدمت أخبار الهجوم والخراب الذي لحق بقريته والأضرار بأملاك عائلته موضوعاً للأحاديث بلا إثارة أية شبهات. وقد سمحوا له بالتجول في أرجاء المعسكر المحصن وأن يطرح أسئلته بحذر وأن يلاحظ التفاصيل ما سمح له بتجميع المعلومات التي كنت أحتاجها عن قوة العدو ومواقعه وترتيباته للعمليات المحتملة. ثم استطاع أن ينسل من الحصن قبل إغلاق أبوابه ووصل إلى الجبال بلا أية صعوبات أو عراقيل.
أطعمنا يوسفاً وتركناه يأخذ قسطاً من الراحة، وبعد أن تأكدنا من أن قصته صادقة وأنه أهل للثقة أمرت رجالي بالتحضير للعودة إلى يريفان. وكان يوسف يمشي راجلاً، ومتى تعب كنا نركبه وراء ظهر واحد منا. وقريباً وصلنا من أقرب الطرق إلى قرية أشتاراك توقفنا فيها لنرتاح ونريح خيولنا ولنعرف تحركات السردار ورئيس الجلادين، وسمحت للشاب بزيارة زوجته، فعاد فرحاً إذ وجدها قد تعافت تقريباً من رضوضها ولا تكف عن شكر أهل القرية على لطفهم وحسن ضيافتهم.
تحرك السردار ونسقجي باشي من يريفان وتعسكرا قرب مقر البطريرك الأرمني، وإلى هناك توجهنا برفقة يوسف.
الفصل الأربعون. حاجي بابا يقدم تقريراً عن مهمته لرؤسائه ويتولى إغاثة الملهوف
يقع دير إتشميادزين كما يسميه الأرمن، أو أوتش كليسه، أي الكنائس الثلاث، كما يسميه الأتراك والفرس، في سهل واسع مستصلح يرويه نهر آراس والعديد من أنهار أصغر. ويقف الدير عند سفح جبل أغري داغ42 المقدس عند المسيحيين، ولا سيما الأرمن، ذلك أن (حسب ما أخبرني يوسف به) على قمته المغطاة بالثلوج استقرت سفينة نوح بعد الطوفان. وقد أحيط الدير والكنائس الشهيرة في كل أرجاء آسيا بسبب ثروتها بجدران عالية لها أبواب ثقيلة متينة. وفيه المقر الدائم لبطريرك الكنيسة الأرمنية مع حشد هائل من الأساقفة والقساوسة والشماسين الذين يمدون برجال الدين أغلب الكنائس الأرمنية في آسيا. ويشار إلى البطريرك في بلاد فارس بلقب الخليفة لأنه يجمع في يده السلطة الدينية والدنيوية، وقد أطلق المسلمون هذا اللقب سابقاً على ملوكهم الذين حكموا في بغداد ودمشق. أما المسيحيون فيسمونه البطريرك، وكنيسته محج الأرمن الذين يتوافدون إليها في مناسبات مختلفة بأعداد هائلة من شتى أنحاء العالم.
وإلى هناك توجهنا، واكتشفنا المعسكر الموحد للسردار ورئيس الجلادين ينتشر بخيامه البيضاء حول الدير، وسمعنا أن الرئيسين قد حلا في ضيافة الخليفة وسكنا في الدير.
فقال الشاب الفارسي: «سنحرق آباء هؤلاء الكفار ونعوض عن تعبنا بشرب نبيذهم.»
فقلت: «أنت مسلم وتتحدث عن شرب الخمر، فأنت كافر أيضاً.»
فأجاب: «السردار يشرب الخمر أكثر من أي مسيحي، فما الذي يمنعني من هذا؟»
ومع اقترابنا من الدير أومأت ليوسف أن يقترب مني وقلت له أن يستعد لتأكيد أية مزاعم أعتبرها في مصلحته، وأوصيته تحديداً أن يبالغ في خدمات الاستطلاع التي أداها لجماعتنا وأن يسرد كل المخاطر التي تعرض لها أو لم يتعرض، وبشكل خاص المبالغ التي أنفقها لمصلحة السردار وحكومة الشاه. وقلت: «آمل أن في هذه الحالة قد تغلق حساباتك بإعادة زوجتك إليك، ومقابل ذلك يمكنك أن توافق بعد مساومة على تقديم كشف حساب يشمل كل مطالبك المالية وتصرح باستلامها.»
وبعد أن اتفقنا على كل شيء مررنا بقوس ضخمة مؤدية إلى باحة الدير الأولى فوجدناها مليئة بخدم السردار ورئيس الجلادين وحاشيتهما وخيولهما المربوطة في كل مكان، والخدم يتوزعون في كل القرن بين السروج وعدد الخيل، وإحدى الزوايا تحتلها البغال يميزها الرنين المستمر لأجراسها والمشاحنات المستمرة بين سائقيها.
وفي الباحة الثانية كانت خيول كبار الخدم الذين سكنوا في الصوامع على جانبي الباحة.
ترجلنا في الباحة الأولى واستفهمت فوراً عن مسكن سيدي رئيس الجلادين. كان الوقت ظهراً وقالوا لي أنه مع السردار فأخذوني إليه معفراً بالغبار بملابس وحذاء السفر.
بدا وكأن الرجلين احتلا المعبد الأرمني بالكامل ونزعوا عن الخليفة مكانته وسلطته، إذ كانا جالسين في قاعته والقساوسة المساكين يتسللون في طريقهم بتواضع وكأنهم يخجلون من كونهم المالكين الشرعيين لهذا الدير ومن وجودهم فيه. وكانت جياد الرئيسين الفارسيين مربوطة قرب جدران الكنيسة بصورة توحي أن راحتها أهم من راحة الأرمن.
صار القارئ يعرف شخصية وطباع رئيس الجلادين، وقبل أن أمضي في روايتي عليّ أن أعرّفه على السردار. لا يوجد على ظهر الأرض أحد مظهره يوحي بالشر أكثر من السردار. كانت عيناه بحالتهما العادية تشبهان قطعتين من الزجاج العكر، ولكنهما تتقدان شرراً متى غضب وتكادان تثبان من موضعيهما الغائرين، ولوحظ أنه يفتح فمه في ابتسامة حتى قال شاعر الشاه أن وجه حسن خان يشبه أغري داغ، الجبل الذي يعيش بالقرب منه: فإذا تلبدت قمته بالغيوم وكانت الشمس ساطعة على سفوحه فهذا ينذر بعاصفة. حفر الزمان جعدتين عميقتين في خديه لا تخفيهما لحيته الهزيلة رغم كل جهوده لجعلها أكثف؛ والعدو نفسه سلبه من كل أسنانه عدا واحداً كان ناتئاً من فمه، وتتوزع الأشعار النادرة على ذقنه كالقش المحروق على جانبي الوادي. وعموماً، يصعب أن تعرف ما الذي يغلب فيه، أهو التيس أم النمر، ولكن الأكيد أن الهيئة البشرية لم تقترب قط من البهيمة أكثر مما اقتربت في هذا المخلوق. وكان طبعه مثل نظراته، إذ لا يمكن أن يقف شرع بشري أو رباني في طريق شهواته، وإذا ثارت فلا حدود لعنفه وقسوته. ومع هذا كله كان له عدة طباع تجذب أتباعه إليه، إذ كان سخياً ومقداماً وسريع البديهة وذكياً، وكانت تصرفاته نحو الشاه وبلاطه فيها من الدهاء ما جعلهم يعاملونه دائماً بكل ثقة وتقدير. عاش حياة الأمراء وذاع صيت كرمه ولم يكن يخفي ما يشذ به عن التقوى، وكان صريحاً ومباشراً في تصرفاته، دمثاً مع مرؤوسيه، وخير نديم لمن يشاركه سهراته الفاسقة. وكان يشرب الخمر بلا تستر ولا ينافسه في فجوره هذا إلا نديمه الحالي رئيس الجلادين الذي أقر معاهدة تحالف أزلي مع كل جرة نبيذ تصل يده إليها ما دام ذلك لا يثير غضب الشاه.
إذن، أحضروني أمام هذين الرجلين التقيين ومعي اثنان أو ثلاثة من رفاقي، ووقفنا في آخر الحجرة حتى بادر رئيس الجلادين بمخاطبتي قائلاً: «أهلاً وسهلاً بك يا حاجي، يا روحي! أخبرني كم روسياً قتلت؟ هل أحضرت معك رأساً؟ دعني أره!»
وتابع السردار: «ماذا أنجزت؟ كم عدد الروس على الحدود؟ ومتى نهاجمهم؟»
فأجبت عن كل هذه الأسئلة بعد الخطاب التمهيدي المعتاد: «نعم، يا حضرات الآغاوات، لقد فعلت كل ما في وسعي. انطلقنا في ساعة سعد بالتأكيد، وأستطيع أن أجيب عن أية أسئلة كانت. ويبدو أن بخت السردار وسيدي في سعود ما دام خادم حقير مثلي استطاع أن يفيدهم.»
فقال السردار وهو ينظر إلى رئيس الجلادين مبتسماً: «الحق معك، الحظ الجيد أمر طيب، ولكننا نثق بسيوفنا أكثر.»
فقال جليسه: «نعم، نعم، السيوف والبارود والرماح والفرود خير منجمين عندنا. أية ساعة ستكون ساعة سعد إذا صدف فيها أن كنت على مسافة سيف من رقبة كافر. نعم، أنا قزلباش، أي ذو الرأس الأحمر، ولا أتمنى مصيراً آخر. جواد وسيف حاد ورمح في يدي وميدان واسع أمامي كله موسكوفيون: هذا كل ما أتمناه.»
فسأله السردار: «وما قولك في النبيذ الجيد؟ ألا يسوى أياً مما ذكرته؟ سنستدعي الخليفة ليقدم لحاجي كوباً من أحسن نبيذ عنده.» ثم التفت إلي قائلاً: «ماذا رأيت وفعلت؟ أين يعسكر الروس؟ كم عددهم؟ ما تسليحهم؟ من يترأسهم؟ أين القوزاق؟ هل سمعت شيئاً عن الجورجيين؟ أين قائدهم الأعلى؟ ما أخبار اللزغين؟ أين الخائن إسماعيل خان؟ هيا أخبرنا، وأنت يا ميرزا (مخاطباً كاتبه) عليك بتدوين كل ما يقوله.»
فجهزت نفسي وقلت الكلام التالي:
«بروح السردار وبملح رئيس الجلادين! الموسكوفيون لا شيء، عدم، فهم ليسوا إلا كلاباً أمام الفرس. رأيتهم بأم عيني وأقول لكم أن فارسياً واحداً معه رمح يقتل عشرة من هؤلاء الأوغاد التعيسين ذوي الذقون الجرداء.»
فصاح رئيسي: «والله أنك سبعٌ! كنت دائماً أثق بك وبأنك ستصبح رجلاً ذا مقام. اترك الاصفهاني يعمل عمله يكمله على أحسن وجه.»
فتابعت: «الموسكوفيون على الحدود قلة: خمس أو ست أو سبع أو ثمان مئة، وقد يصل عددهم إلى ألف أو ألفين، لكنه لا يتجاوز الثلاثة آلاف. معهم عشرة أو عشرون أو ثلاثون أو أربعون مدفعاً. أما بخصوص القوزاق فهم هباء. من المزعج أنهم يظهرون دائماً حيث لا تتوقعهم مع رماحهم الثخينة تلك التي تشبه مناخس الثيران أكثر من سلاح، ولكنها تقتل، هذا صحيح. ولكن خيولهم تعيسة لا تقارن بخيولنا التي تسوى ثلاثين وأربعين وخمسين توماناً وتختفي من الأنظار قبل أن تنطلق خيول القوزاق.»
فقال رئيس الجلادين: «لماذا تضيع وقتك في الحكي عن القوزاق وخيولهم؟ الأحرى بك أن تحكي عن القردة على ظهر الدببة. من قائد الكفرة؟»
«يلقبونه دلي مايور، أي الرائد المجنون، لأنه لا يهرب أبداً، وتروى عنه قصص لا تحصى، وبينها أن عنده مصحف جيب سعادة السردار ويتباهى به أمام الجميع على أنه غنيمة عظيمة.»
فهتف السردار: «آه، هذا صحيح. لقد باغتنا هؤلاء الكلاب المفلسون السنة الماضية حين عسكرنا على مسافة خمسة فراسخ من هنا، وبالكاد نجوت بنفسي وقميصي وسروالي على ظهر حصان بلا سرج. وطبعاً نهبوا خيمتي وسرقوا بين ما سرقوه مصحفي. لكننا سنتحاسب: لقد أريتهم ما أقدر عليه في غومشلو، وسأمضى قدماً حتى أنجِّس قبور أسلافهم. كم قلت لديهم من المدافع؟»
فأجبته: «أربعة أو خمسة أو ستة.»
فتدخل الميرزا: «لقد سجلت تواً عشرين أو ثلاثين، فأي العددين صحيح؟»
فصرخ السردار وعيناه تومضان ناراً وهو يتكلم: «لماذا تكذب علينا؟ إذا وجدنا أن أي شيء قلته لنا كذب فقسماً برأس علي، سترى أن لحانا ليست لتضحك عليها بلا طائل!»
فقلت: «الحقيقة أن هذه المعلومات ليست من عندي، فبفضل الحظ الطيب لسعادة السردار وسيدي الآغا وجدت وسيلة ممتازة للحصول على أدق المعلومات من خلال أرمني شاب خاطر بحياته من أجلنا بعد أن وعدته بمكافأة سخية من السردار.»
فهتف السردار: «مكافأة باسمي؟ ومن هذا الأرمني؟ وهل هناك أصلاً أرمن يستحقون المكافأة؟»
وهنا رويت قصة يوسف كاملة من بدايتها إلى نهايتها، وكان أملي أن عرض مطلب يوسف أمام الناس يجعل السردار عاجزاً عن رفض المطلب العادل، فيعترف في حقه الكامل بزوجته ويريحه من خوف غضبه.
وبعد أن فرغت من الرواية لم يتكلم أحد، ولم تسمع إلا عبارة لا إله إلا الله من هذه الزاوية أو تلك. أما السردار فأدار عينيه يميناً ويساراً وقلب فمه بشتى الأشكال ثم همهم: «هذا الأرمني صنع العجائب!» ثم أمر خدمه أن يحضروا له غليونه.
وبعد أن سحب سحبتين أو ثلاث سحبات قال: «أين الأرمني؟ وَأْمُروا الخليفة أن يمثل بين يدينا أيضاً.»
فأدخلوا يوسف بالطريقة الخشنة المعتادة عند إدخال رجل فقير من قومه إلى حضرة كبار الفرس، فوقف أمام الجمع مثالاً على جمال الرجولة، وترك مظهره الباسل انطباعاً حسناً عند جميع الحضور. السردار تحديداً حفره بنظرته مختبراً إياه، ثم التفت إلى رئيس الجلادين وأومأ له بإشارات يفهمها جميع الفرس معبراً عن بالغ إعجابه.
وبعد قليل دخل الخليفة، وكان رجلاً ضخماً خشن البنيان وجهه باسم مرح يرتدي قبعة سوداء يلبسها رجال الدين الأرمن متبوعاً باثنين أو ثلاثة من قساوسته. وبعد أن وقف لحظة أمام السردار وجليسه دعوه للجلوس فجلس وهو يلفظ جميع ألفاظ الشكر واللباقة المتعارف عليها، وغطى قدميه ويديه كما يتوجب في مثل هذه المناسبات.
فقال السردار مخاطباً الخليفة: «من الواضح أننا المسلمين أصبحنا في أرض فارس أقل من كلاب. الأرمن يدخلون بيوت حريمنا ويسرقون زوجاتنا وجوارينا أمام وجوهنا ويدعون الناس إلى تنجيس قبور آبائنا. فما هذا أيها الخليفة؟ أهذا بأمر الله أم بأمرك؟»
أخذت هذه التهمة الخليفة على حين غرة، فارتبك وندي جبينه العالي. كان يعرف من خبرته أن مثل هذه الاتهامات كان الغرض منها فرض غرامة ما فاستعد للدفاع عن أمواله، فأجاب: «ما هذا الكلام؟ هل نحن كلاب ليخطر على بالنا مثل هذا الفعل الشرير الذي تتحدث سعادتك عنه؟ نحن رعايا الشاه وأنت حامينا، ونحن الأرمن نعيش في ظلك عيشة أمان وسلام. فمن هذا الرجل الذي ذر الرماد على رؤوسنا؟»
فأشار السردار إلى يوسف قائلاً: «ها هو ذا. اعترف يا صاحبي، هل سرقت جاريتي أم لم تسرقها؟»
فردّ الشاب: «إن ثبت ذنبي في أنني أخذت من أي شخص شيئاً ليس لي فليعاقبوني ولو بالقتل. إن من رَمَتْ نفسها من نافذة قصرك في ذراعيّ هي زوجتي قبل أن تصبح جاريتك. كلانا من رعايا الشاه، وأنت أدرى مني إن كان يحق لك استرقاقها أم لا. إننا أرمن، ولكن نحن أيضاً عندنا نخوة الرجال. ومن المعروف في كل أرجاء فارس أن شاهنا العظيم لا ينتهك أبداً حريم حتى أحقر رعاياه، فهل يعقل أننا لا نحظى بالحماية نفسها في ظل حكمك لنا؟ لقد كذبوا عليك بالتأكيد حين قالوا لك أنها سبية جورجية، وأنا واثق أنك لو عرفت أنها زوجة أحد فلاحيك لما استعبدتها.»
حاول الخليفة إسكات الشاب بصيحات عالية وقد أرعبته لهجته، أما السردار الذي صعقه كلام لم تعهده أذناه فلم يغضب بل بدا مسروراً (هذا إن كان وجهه يستطيع أساساً أن يعبر عن السرور) ينظر إلى الشاب مشدوهاً وكأنه نسي سبب استدعائه. وفجأة هز رأسه وكأنه يطرد بقايا الغضب وأوقف الكلام قائلاً: «يكفي، يكفي. خذ زوجتك ولا تقل شيئاً. وبما أنك أديت لنا خدمة في حماملو ستبقى خادمي لتخدمني شخصياً. اذهب إلى رئيس خدمي ليعرّفك على واجباتك. وبعد أن تلبس بما يناسب مقامك عد إلى حضرتنا. انصرف ولا تنس أنّ تسامحي معك مرهونٌ بتصرفاتك القادمة.» وهنا اندفع يوسف نحوه وهوى على ركبتيه وقبل حاشية ثوبه عاجزاً عن الكلام بعد هذا الحظ غير المتوقع.
بدا الجميع مذهولين لما سمعوه. هز رئيس الجلادين كتفيه وتثاءب، والخليفة فرد أطرافه وكأنه ارتاح من عبء ثقيل ونشفت قطرات العرق التي كانت تلمع على حاجبيه، وعاد وجهه إلى البشاشة. بارك الجميع السردار على طيب قلبه وقارنوه مع الملك أنوشيروان العادل، وتكررت صيحات «بارك الله» و«ما شاء الله» وتناقلتها الأفواه وانتشرت قصة شهامته في البلاد وصارت موضوع حديث الجميع في المعسكر. ولا أعرف شعور السردار الحقيقي، ولكن من يعرفونه أجمعوا على أن دوافعه لا يمكن أن تكون كريمة.
الفصل الحادي والأربعون. وصف صادق للحملة ضد الروس ولشجاعة الفرس
بعد أن حصل رئيسي والسردار على كل المعلومات مني ومن يوسف حول قوة الموسكوفيين ومواقعهم قرروا الشروع بالهجوم فوراً فصدر أمر إلى الجيش بالمسير إلى حماملو.
دبت الحركة في كل شيء: بدأت المدفعية مسيرها الصعب البطئ عبر الجبال، ومضى المشاة في طريقهم وتحرك الفرسان في مجموعات منفصلة على كامل السهل. وقبل المسير زارني الأرمني، ولم يعد مظهره المظهر الخشن لأهل الجبال بقبعته الضخمة من جلد الخراف وسترته الجورجية القصيرة والخفين على قدميه والخنجر الطويل على جنبه وبندقيته المعلقة بشكل مائل وراء ظهره، بل صار يلبس معطفاً طويلاً من المخمل القرمزي بشرائط وأزرار ذهبية اللون وشال كشمير جميل حول خصره وقبعة صغيرة من جلد الخراف البخارية على رأسه، وخصلتا شعر وراء أذنيه ممشطتان بكل عناية، وكل مظهره أشبه بمظهر فتاة إذ كانت ملابسه تستر أطرافه. وعندما تقدم مني بدا عليه الخجل على هذا التغير العجيب. شكرني بتعابير الامتنان وأكد لي أنه لم يتوقع هذه النتيجة من مقابلة السردار، بل قرر أن يخاطبه بشجاعة من ينتظر موته ما دام سيخسر حياته وزوجته. وأضاف: «ورغم هذا التغير الكبير في أوضاعي لا أحب ما صرت إليه، فلا أقبل أن أكون مجرد أحد ذيول السردار لا عمل لي ولا فائدة مني، وأرجو ألا تزعل إن تسرحت بعد حين من هذا المنصب المشرف. سأقبل بكل شيء حتى أضمن وصول زوجتي إلى مكان آمن، ومتى ضمنت ذلك سأترك الخدمة؛ فأشرف لي أن أرعى الخنازير في جبال جورجيا عارياً متشرداً وأكسب قوت يومي بجهدي الشريف من حياة متطفل يلبس المخمل والحرير، ولو كان ذلك في أفخم قصور فارس.»
ومع أنني استحسنت مشاعره، كنت أفضّل ألا يفصح لي عنها، لأنه لو فرّ من الخدمة سأكون بشكل أو بآخر مسؤولاً عن ذلك.
وفي هذه الأثناء مضى الجيش في طريقه. وعند مرورنا بأشتاراك حصل يوسف على إذن باصطحاب زوجته، وحظيت بكل الاعتبار والاحترام بصفتها زوجة أحد الخدم المفضلين للسردار، وتابعت طريقها ممتطية حصاناً وسط قافلة الخدم التي ترافق أي جيش فارسي.
عسكر الجيش بين غومشلو وأبيران وتقرر أن يمكث فيه جميع من لا يشاركون في المعارك، وتقرر أن تتشكل القوة المهاجمة من السردار ونسقجي باشي، كل على رأس رجاله، على أن ينطلقوا في المساء.
ومع اقترابنا من مواقع الجيش الروسي بدت على السردار علامات الضيق من التأخر، إذ كان يحتقر سلاح المشاة ورغب بمهاجمة العدو بقوات الفرسان وحدها. ولم أشهد مثل هذا الاندفاع عند رئيسي. صحيح أنه بقي يتباهى طوال الوقت ليقنع الكل بأن العدو، متى رآه، سيصاب بالذعر من منظره وحده، ولكنه وافق في النهاية على طلب السردار بأن يبقى في المؤخرة، بينما يغير السردار على حماملو على رأس القوة الأساسية من الفرسان. وطبعاً، بقيت في المؤخرة تحت تصرف رئيسي.
كان السردار ينوي بلوغ حماملو قبل الفجر ليباغت حرس أبوابها، فانحرف عن الطريق ليعبر نهر بمباكي، وتابعنا طريقنا لكي ندعم السردار في حال صد الروس هجومه.
وصلنا إلى ضفة النهر عند الفجر، وكان مع نسقجي باشي نحو خمس مئة فارس، وكان من المفترض أن يلحق المشاة بنا متى تيسر لهم ذلك. أوشكنا أن نشرع بعبور النهر حين سمعنا صوتاً من الضفة الأخرى صاح بضع كلمات غريبة بلغة لا نعرفها ثم شرح لنا معناها بطلقة من البندقية، ما أوقف تقدمنا واسترعى انتباه رئيسنا وقد اصفرّ وجهه وشحب. فهتف: «ما هذا؟ ماذا نفعل؟ أين نذهب؟ من أطلق النار؟ هل أطلقت النار يا حاجي بابا؟»
فقلت وأنا أشعر بالخوف مثله: «لا، لم أطلق النار. ربما يوجد هنا غيلان بين الموسكوفيين مثل غيلان أشتاريك بين الأرمن.»
وبعد دقيقة سمعنا صيحات أخرى وانطلقت طلقة ثانية. وقد بزغ الفجر فرأينا رجلين على الضفة المقابلة في بزة الجنود الروس. وعندما رأى رئيسنا حجم الخطر وعدد قوات العدو التي تواجهنا راقت تعابير وجهه ثم بدا عليه أقصى درجات التصميم والشدة، فصاح لمن يحيطون به: «هيا، انطلقوا واطعنوا واقتلوا! أحضروا لي رأسيهما على الفور!»
انطلق عدد من الرجال في الحال لعبور النهر وسيوفهم فوق رؤوسهم، بينما تراجع الجنديان إلى تلة صغيرة تشرف على المعبر وبدآ بالرمي بالتناوب من بنادقهم على المهاجمين بثبات فاجأنا وأذهلنا. فقتلا اثنين من رجالنا فتقهقر الآخرون إلى ضفتنا، ولم يظهر عند أحدٍ منّا رغبة في تكرار الهجوم، ولم تنفع شتائم رئيسنا ولا توسلاته ولا عرضه مكافأة مالية مقابل رؤوس الأعداء، إذ لم يقبل أحد من رجاله أن يتقدم. وأخيراً صاح بصوت عال: «إذن، سأذهب أنا! ألا يتبعني أحد؟» ثم توقف وخاطبني قائلاً: «يا حاجي، يا روحي، ألن تذهب لتقطع رأسيهما؟ وسأعطيك كل ما تطلبه لو فعلت!» ثم لف يده حول عنقي وقال: «هيا، اذهب، فأنا واثق أنك ستعود برأسيهما.»
وبينما نحن نتفاوض بهذا الشكل ضربت رصاصة من بندقية أحد الجنديين الروسيين ركاب نسقجي باشي فدفعه رعبه إلى التفوه بأبذأ الشتائم الرذيلة وهو ينادي رجاله ويأمرهم بالتراجع ويسبقهم في هذا، إذ صاح: «اللعنة على لحاهم! اللعنة على آبائهم وعلى أمهاتهم وعلى أسلافهم وعلى أخلافهم! أهكذا يحارب الناس؟ القتل، القتل، وكأننا خنازير. انظروا إلى هؤلاء الوحوش! لا يهربون مهما فعلت. بل هم أسوأ من البهائم، فالبهائم عندها شعور، وهؤلاء لا شعور عندهم. يا الله، يا الله، لو لم يكن في الأمر موت لأريتهم كيف يحارب الفرس!»
قطعنا خلال هذا الوقت مسافة ثم توقفنا. كان رئيسنا يتوقع أن يجد الروس وراء كل شجرة، فاحتار في ما عليه أن يفعل الآن، حين جاء القرار من تلقاء نفسه عندما رأينا السردار على رأس فرسانه يتقهقر بكل عجلة من العدو. اتضح أن الحملة أخفقت بالكامل ولم يبق للجيش إلا أن يعود من حيث أتى.
لن أحاول أن أصف الصورة البائسة لقوات السردار، فقد بدا رجاله مرهقين ومنهكين بالتعب فيتحركون جميعهم ببطء نحو المعسكر دون أن يلتفت أحدهم وراءه، وكأنهم اتفقوا على ذلك. وبقدر ما كانت معنوياتهم محطمة ارتفعت معنويات رئيسي وقد رأى أنه ليس المهزوم الوحيد. بقي يتحدث عن بسالته والجرح الذي أصيب به والبطولات التي ينوي القيام بها، فتحمس لدرجة أنه رفع رمحه ونخس حصانه وطعن به طباخه الذي كان يعتني بأقداره فثقب الشال الذي كان يتمنطق به.
هكذا انتهت الحملة التي توقع السردار منها أن يحصد المجد ورؤوس الموسكوفيين والتي أعطت لرئيسي سبباً يتباهى به حتى نهاية عمره. فرغم الفشل الذريع وجد نسقجي باشا ما يتفاخر به.
وكان يسرد بطولاته العظيمة في وسط حلقة من مرؤوسيه، وأنا بينهم، حين جاءني أمر من السردار يطلب حاجي بابا إلى حضرته. عدت مع الرسول، وأول ما سألني السردار حالما رآني كان: «أين يوسف؟ وأين زوجته؟»
أدركت في الحال أنهما هربا، فنظرت إليه نظرة كلها براءة ونفيت أية معرفة بهما.
بدأت عينا السردار تشتعلان غضباً وفمه ينقلب ويفتل، ثم انفجر غيظه بأفظع التعابير، وأقسم بالانتقام منه وقريته وقومه وكل من له أدنى علاقة به، وقال أنه لا يصدقني، وإن تبين له أني تواطأت مع الأرمني فسوف يمحو شخصي الحقير عن وجه الأرض.
عرفت لاحقاً أن السردار أرسل جماعة من الرجال إلى غومشلو وأمرهم بالقبض على يوسف وجميع أقاربه وكل ما يملكون وأن يحرقوا كل ما لا يستطيعون أن يحملوه معهم. إلا أن الشاب الفطن قد توقع هذا واتخذ تدابيره بسرعة وحكمة بالغتين أذهلتا السردار، حيث نفذ مع زوجته وأهلها وأهله هو خطة الهجرة إلى الأراضي الروسية مع كل ما يملكون ولم يتركوا إلا حقولهم المحروثة. وسمعت بعد حين أن خطته نجحت، ولقوا في روسيا استقبالاً طيباً من الحكومة ومن الأرمن هناك، وخصصوا لهم أرضاً يفلحونها وقدموا لهم كل ما يحتاجونه ليستقرّوا في وطنهم الجديد.
هوامش
- ↑ مصدر الترجمة: «گلستان روضة الورد»، تأليف سعدي الشيرازي، ترجمة محمد الفراتي. منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب، وزارة الثقافة، دمشق، 2012. (ملاحظة المترجم)
- ↑ السباقات عند التركمان والفرس تختبر قدرة الخيل على التحمل لا سرعتها الفعلية.
- ↑ الخبز المذكور هنا يُخبَز على صفائح معدنية محدبة، وهو بثخن رقعة ورق بني.
- ↑ رستم هو بطل أسطوري من تاريخ الفرس، وهو من أبطال الشاه نامه كمثال على القوة والشجاعة. ومعركته مع اسفنديار التي استمرت يومين كاملين موضوع القصائد الفارسية.
- ↑ الفرسخ يعادل ثلاثة أميال ونصف.
- ↑ قاطر (فارسية): بغل. (ملاحظة المترجم)
- ↑ بيدين (فارسية): بلا دين، كافر. (ملاحظة المترجم)
- ↑ إشاق: حمار. (ملاحظة المترجم)
- ↑ مصدر الترجمة: «گلستان روضة الورد»، تأليف سعدي الشيرازي، ترجمة محمد الفراتي. منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب، وزارة الثقافة، دمشق، 2012. (ملاحظة المترجم)
- ↑ المقصود هنا نزح استسقاء البطن ببزله، وهذه العملية لم يكن عند الأطباء الفرس علمٌ بها حتى تعلموها من الجراحين الأوروبيين.
- ↑ لقمان أعظم الحكماء الشرقيين شأناً، ويعتقد البعض أنه نفس إيسوب. وكثيراً ما يلقب الطبيب في فارس «لقمان الزمان».
- ↑ المسيحي.
- ↑ إنها الطريقة المؤدبة بين المثقفين الفرس للإشارة إلى ما يرتبط بالعلاقات مع النساء.
- ↑ مصدر الترجمة: «گلستان روضة الورد»، تأليف سعدي الشيرازي، ترجمة محمد الفراتي. منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب، وزارة الثقافة، دمشق، 2012، ص. 260. (ملاحظة المترجم)
- ↑ اليزيدية جماعة من الأكراد يذاع عنهم أنهم يعبدون الشيطان.
- ↑ الفرس يمنحون إماءهم الزنجيات أجمل الأسماء. فمثلاً نور جهان تعني «نور العالم».
- ↑ ترجمة إبراهيم أمين الشواربي. (ملاحظة المترجم)
- ↑ هذا يتعلق بلا شك بتلك العادات الغامضة الفاحشة التي يشاع أنها تمارس بين اليزيديين في قرية كرند في كردستان، وتحديداً قبيلة نصيري الذين كثيراً ما يسمونهم «سراج كش»، أي مطفئو المصابيح. ويزعم المؤرخون أن هذه الطقوس تشبه طقوس عبادة فينوس عند البابليين، كما هي موصوفة عند هيرودوت، الكتاب الأول الفصل 199.
- ↑ الشركجية في الجيوش الشرقية فرق انقضاض تنفصل عن الجيش الرئيسي فتنخرط في القتال في الطليعة، وغالباً ما تتألف من أقوى الجنود وخيرة الفرسان.
- ↑ أي نور العالم. غالباً ما يعطي الفرس أسماءً عذبة لجواريهم، وتحديداً للقائمات على نسائهم.
- ↑ لفظة آغا مستخدمة هنا بمعنى «السيد».
- ↑ پاانداز (فارسية) هو الأقمشة الفخمة التي تفرش أمام الشاه ليمشي عليها.
- ↑ إنها عادة فارسية قديمة لضمان حسن الطالع، حيث أن الحلو، أي السكر، يعتبر رمز الهناء.
- ↑ المسند في بلاد الشرق يعني العرش عموماً، ولكن في المناسبات كالموصوفة هنا المسند عبارة عن سجادة مثنية بشكل لا يدع مجالاً لجلوس إلا شخص واحد عليها.
- ↑ مصدر الترجمة: «ترجمة الجلستان الفارسي العباره المشير إلى محاسن الآداب بألطف إشاره» تعريب جبرائيل المخلع، طنطا، 1921.
- ↑ هذا هو لقب كاترين الثانية عند الفرس، ويعني «المكللة بالشمس».
- ↑ قزلباش، أي الرأس الأحمر، هو لقب الفرس من قديم الزمان.
- ↑ الأندرون هو البيت الداخلي، أي بيت الحريم.
- ↑ من «روضة الورد» لسعدي الشيرازي. ترجمة محمد الفراتي. (ملاحظة المترجم)
- ↑ تعبير فارسي يشير إلى جمال السمراوات.
- ↑ نمارد (بالفارسية): جبان (ملاحظة المترجم).
- ↑ إن وصف هذا الشخص قد يعيد إلى ذهن من كانوا في بلاد فارس في السنتين 1813 و1814 صاحب منصب نسقجي باشي في تلك الحقبة.
- ↑ من أهم أبطال الشاهنامه، الكتاب الذي يعتقد الفرس أنه يروي تاريخهم القديم.
- ↑ الماعون سبعة ونصف ليبرة، والمثقال أربع وعشرون حبة.
- ↑ أكبر ماسة يملكها الشاه ويلبسها على أحد ذراعيه اسمها «كوه نور»، أي جبل النور.
- ↑ يربط الجمل بثني إحدى قائمتيه الأماميتين وتثبيتها كيلا يستطيع الابتعاد عن مرتعه.
- ↑ أوجكيليسا، أي الكنائس الثلاث، أحد الأسماء التاريخية لمدينة إتشميادزين باللغة التركمانية. (ملاحظة المترجم)
- ↑ العباسي عملة فضية أدخلها الشاه عباس الصفوي، وكانت تساوي جزءاً من خمسين من التومان. (ملاحظة المترجم)
- ↑ أدوات القتل المقصودة هنا هي في الغالب الرمانات اليدوية.
- ↑ قيل أن حسن خان سردار، والي يريفان، هاجم القرى الأرمنية كما هو موصوف هنا، إذ كان يرمي الرمانات في البيوت من الفتحات في سقوفها.
- ↑ يروى أن مثل هذا الحادث قد وقع فعلاً.
- ↑ جبل أرارات في أرمينيا. (ملاحظة المترجم)
لأن مؤلفه مات منذ أكثر من مئة سنة.
هذه الترجمة متاحة تحت رخصة المشاع الإبداعي - النسبة والترخيص بالمثل CC-BY-SA 3.0.
|