انتقل إلى المحتوى

معركة الإسلام والرأسمالية (1952)/في الإسلام الخلاص/سوء توزيع الملكيات والثروات

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


سوء توزيع الملكيات والثروات

لم يعد أحد يجادل فى أن توزيع الملكيات الزراعية فى المجتمع المصري توزيع سيئ مختل، يجب العمل على تعديله فوراً. وليس الاختلاف اليوم على صحة هذه الحقيقة، إنما الاختلاف على الطريقة التى يعالج بها وضع لا يقبل البقاء.

وحين يصل الأمر إلى أن يملك ألف ومئتان وأربعة وتسعون فردا، مليونين من الأفدنة الصالحة للزراعة فى بلد يصل تعداده إلى عشرين مليوناً؛ ولا تزيد المساحة المنزرعة فيه على ستة ملايين من الأفدنة فإنه لا يبقى مجال للاختلاف على سوء التوزيع، واختلاله، وفساده.

والأمر فى الثروات المنقولة أشد سوءاً، فإن من لا يزيدون على ألفين يملكون أكثر من ثلث الثروة الممثلة في البنوك والشركات!

تختلف الآراء إذن فى طريقة العلاج، لا فى حقيقة الداء. فرجل مثل محمد بك خطاب، يفكر تفكيراً رأسمالياً واعيا؛ ويحس أن أوضاع الملكيات الزراعية يجب أن تتغير، اتقاء لما تثيره من عواصف مرتقبة فى الأفق القريب.. يقدم مشروع تحديد الملكيات الزراعية بحيث لا تزيد على حد معين، وبحيث تشترى الدولة ما يزيد، وتكون به ملكيات صغيرة.

هو تفكير رأسمالى بحت، لأنه لا يزيد على أن يحول الثروة العقارية المتضخمة إلى ثروة منقولة متضخمة كذلك، وكل ما يتقيه هو المظهر الفاحش البارز للإقطاع. ولكن الرأسمالية الغربية فى مصر لا تدرك مرماه، فتثور عليه، وتتهمه بالشيوعية، وتطارده فى البرلمان!

أم لعلنا نحن الأغبياء، والرأسمالية هى الذكية الواعية؟! نعم! فالإقطاعيون يعلمون أن رقيق الأرض حطام آدمى، لا خوف منه ولا خطر. حطام قد أحاله الجوع والمرض مخلوقات ضعيفة هزيلة لا تحس لنفسها وجوداً ولا كرامة؛ ولا تفكر فى عدل ولا نَصَفة. فمن الخير أن تبقى أموالهم مستغلة فى الأرض مع هذا الحطام الذى لا يؤذى، من أن يضطروا لاستخدامها فى الصناعة، حيث يتكتل العمال، وينمو بينهم الوعى، ويطالبون بحقوق الإنسان فى يوم من الأيام!

فأما الدولة فقد حاولت فى هذه السنوات الأخيرة أن تصنع شيئاً – فى حدود العقلية الرأسمالية بالطبع وفى حدود رعاية مصالح من تمثلهم من الملاك وأصحاب رؤوس الأموال – سنت ضريبة التركات، وضريبة الدخل العام، وأخذت بمبدأ الضريبة التصاعدية، وأعفت صغار الملاك من الضريبة ... وهى خطوات هزيلة لا يبدو لها أثر، لأن الأوضاع القائمة قد بلغت من الفحش والسوء مبلغاً لا تعالجه هذه اللمسات الناعمة بقفازات الحرير اللطيفة!

لذلك ندعو الشيوعية دعوتها: أن لا علاج ولا خلاص إلا من ذلك الطريق المرسوم! فما رأى الإسلام يا ترى إلى جانب تلك الآراء؟ وما خطته وطريقته؟

إن الإسلام يقرّ «مبدأ الملكية الفردية» وهذا ما لا شك فيه، ويخالف النظرية الأساسية للشيوعية فى هذا الاتجاه.

ولكن أية ملكية فردية هى التى يقرّها الإسلام، ويكفل لها الضمانات؟

إنها الملكية التى تنشأ من أصل صحيح للتملك، بوسائل صحيحة يعترف بها الإسلام.

والإسلام يعد العمل هو السبب الوحيد الملكية والكسب. العمل بكل أنواعه. عمل الجسم وعمل الفكر سواء. وعلى هذا الأساس يحرم الربا، لأن الزيادة التي ترد مع المال المقترض لم تنتج من عمل، إنما نتجت عن راس المال. ورأس المال فى ذاته ليس سبباً من أسباب الكسب الصحيحة، ولا جزاء عليه، لأن الجزاء لا يترتب إلا على العمل البشرى وحده، ولا جدال فى أن هذا هو المبدأ الأساسى للتملك وللكسب فى الإسلام.

كذلك يحدد الإسلام لتنمية المال طرقاً معينة، ولا يقرّ أي نموّ يخرج عن حدود الوسائل المشروعة فيه. هذه الوسائل لا يدخل فيها الربا — كما تقدم — ولا المقامرة، ولا الغش، ولا الاحتكار، ولا الربح الفاحش المخالف لكل سماحة، ولا المستقطع من أجور العمال التى تبلغ نصف الربح، كما يرى بعض فقهاء الإسلام. وبطبيعة الحال لا يعترف بالسرقة والنهب والسلب والإكراه، وسائل للتملك، أو وسائل لتنمية المال.

وكل ملكية لم تقم على الأسس الصحيحة التي يعترف بها الإسلام أو قامت عليها، ولكن نموها لم يتم بالوسائل التي يقرها، فهى ملكية زائفة لا يقرها الإسلام، ولا يعترف بها، ولا يوفر لها الضمانات 1.

هذا هو المبدأ الأول عن الملكية فى الإسلام. ومن طبيعته أن يمنع التضخم الفاحش فى الثروات منذ البداية. فالمال الذي ينشأ من الجهد الذاتى بالعمل؛ والذى لا برح ربحاً فاحشاً؛ والذى تبلغ أجور العمال المنشئين له نصف الربح؛ ولا يتضاعف بالربا، أو بالغش؛ ولا يقوم على الاحتكار أو الابتزاز.. لا يصل بطبيعته إلى حد التضخم الذي يؤدى المجتمع، ويخلق فوارق الطبقات.

وينبغى أن نضيف إلى هذه العوامل الطبيعية عامل الضريبة الدائمة: ضريبة الزكاة.. هذه الفريضة التي تأخذ بنظام ثابت ما يعادل ٢,٥٪ إلى ٥٪ من أصل الثروة كل عام.

وهنا كلمة يجب أن تقال عن هذه الفريضة التي يشوهها المغرضون والمتحايلون، فيصورونها بصورة الإحسان المذل لكرامة الإنسان!

إن الدولة هى التى تجمع هذه الضريبة كما تحصل أية ضريبة؛ وإن الدولة هى التى تتولى إنفاقها بنظام معين، قابل للتطور حسب حاجات المجتمع وأوضاعه. فأين هى الذلة فى نظام كهذا النظام؟ إن المغرضين والمتحايلين يحاولون دائماً أن رسموا صورة واحدة مزورة لعملية الزكاة: غنى يتبرع ويتصدق، وفقير يأخذ ويشكر! ويد عليا معطية تحتها يد سفلى آخذة، وجهاً لوجه، مباشرة بين فرد وفرد!

من أين جاءوا بهذه الصورة الشائهة المزورة؟ لست أدرى!

أئذا فرضت الدولة اليوم ضريبة للتعليم، جعلت حصيلتها خاصة بالأغراض التعليمية البحتة، من بناء للدور، وأداء للأجور، وإنفاق على أدوات الطلاب وكتبهم وغذائهم كذلك.. قيل: إن هذا نظام للتسول والشحاذة، يهين كرامة المعلمين والطلاب، لأن هذه الأموال مأخوذة من أموال الأثرياء، منفقة فى شؤون الفقراء؟!

أئذا سنت الدولة قانوناً يجبى ٢,٥٪ من كل ثروة كثرت أم قلت لتكوين الجيش وتسليحه، وجعلت هذه الضريبة وقفاً على هذا الباب من أبواب النفقات العامة.. قيل: إن الجيش يتسول، وإن كرامته تستذل، لأن الدولة أخذت نفقاته من أموال الأثرياء والثرى والفقير فى أدائها سواء!

إن الزكاة ضريبة كهذه الضرائب، تجبيها الدولة، ثم تنفقها فى وجوه معينة، تجبيها كلا ثم تنفقها أجزاء.. وليست إحساناً فرديا يخرج بعينه من يد ليعطى بعينه إلى يد. وإذا كان بعض الناس اليوم يخرجون زكاة أموالهم، فيوزعونها بأيديهم، فذلك ليس النظام الذى فرضه الإسلام. إنما يصنع هذا البعض ذلك، ويسلك هذا الطريق المباشر، لأن الدولة لا تجبى هذه الضريبة بيدها، لتنفقها هى بمعرفتها فى تلك الوجوه القابلة للتصرف بحسب تغير الأحوال.

ولكن الغفلة والاستغفال يبلغان فى مصر، أن يتحدث الناس عن الزكاة على أنها إحسان فردى يذل النفوس، ويعوّدها الاستجداء!.

والجرأة على الحقائق السافرة الأولية إلى درجة التبجح، لا تنشأ إلا من غفلة المستمعين أو القراء إلى حد البلاهة وكلاهما يتوافر فى البيئة المصرية والحمد لله! بل يتوافر فى بيئة من يسمونهم «المثقفين»! الذين يستمعون لكل طاعن فى نظم الإسلام بترحيب وبشاشة، لكى يثبتوا أنهم مثقفون حقاً! ألسنا في عصر الأقزام وجيل الأقزام؟!

***

على أية حال لنمض فى طريقنا لبيان المبادئ الأساسية فى الإسلام عن مشكلة سوء توزيع الملكيات والثروات.

لقد رأينا أن الإسلام لا يعترف بملكية لم تقم على أساس صحيح للتملك، أو لم تنم بوسائل النموّ التى يعترف بها كذلك، ثم رأينا أنه يأخذ بنظام ثابت اثنين ونصفا فى المائة من رأس المال ليخصصه لضمانات اجتماعية معينة لبعض الطوائف المحتاجة إلى تلك الضمانات؛ ليؤديها لهم دفعة واحدة يجعلون منها رأس مال لعمل، أو دفعات على هيئة مرتبات شهرية فى حالة العجز عن العمل، أو بأية صورة من الصور التي يقتضيها النظام العام.

ولكن هذا ليس كل حقوق الإسلام فى المال.

إن هذا إنما يجرى حين يكون المجتمع متوازنا لا اضطراب فيه ولا اختلال؛ وعندما لا تكون هناك حاجات استثنائية للمجتمع، لمواجهة الطوارئ الداخلية أو الخارجية. فأما حين تغير الأحوال وتبرز الحاجات، فحق المجتمع مطلق في المال، وحق الملكية الفردية لا يقف فى وجه هذا الحق العام.

والإسلام يعطى هذه السلطات الدولة – ممثلة المجتمع – لا لمواجهة الحاجات العاجلة فحسب، بل لدفع الأضرار المتوقعة.

وحماية المجتمع من الاعتداء الخارجى، كحمايته من التخلخل الداخلى سواء فى منح هذا الحق للدولة، لتتصرف فى الملكيات الفردية بلا حدود ولا قيود، إلا حدود الحاجات الاجتماعية والصالح العام.

فى يد الدولة أن تفرض أولاً ضرائب خاصة – غير الضرائب العامة — كما تشاء. فتخصص ضريبة للجيش، وضريبة للتعليم، وضريبة للمستشفيات، وضريبة للضمان الاجتماعى ... وضريبة لكل وجه طارئ من أوجه الإنفاق، لم يحسب حسابه في المصروفات العامة، أو تعجز الميزانية العادية عن الإنفاق عليه عند الاقتضاء.

وفى يد الدولة أن تنزع من الملكيات، وأن تأخذ من الثروات — بنسب معينة — كل ما تجده ضرورياً لتعديل أوضاع المجتمع، أو لمواجهة نفقات إضافية ضرورية لحماية المجتمع من الآفات: آفات الجهل، وآفات المرض، وآفات الحرمان، وآفات الترف، وآفات الأحقاد بين الأفراد والجماعات، وسائر ما تتعرض له المجتمعات من آفات.

بل فى يد الدولة أن تنزع الملكيات والثروات جميعاً، وتعيد توزيعها على أساس جديد – ولو كانت هذه الملكيات قد قامت على الأسس التى يعترف بها الإسلام، ونمت بالوسائل التي يبررها – لأن دفع الضرر عن المجتمع كله، أو اتقاء الأضرار المتوقعة لهذا المجتمع أولى بالرعاية من حقوق الأفراد، فنظرية الإسلام فى التكافل الاجتماعى لا تجعل هنالك تعارضاً بين حقوق الفرد وحقوق المجتمع. وكل ضرر يصيب المجتمع يعده الإسلام ضرراً يقع على كل أفراده، ويحتم على الدولة أن تقى هؤلاء الأفراد من أنفسهم عند الاقتضاء!

ويبدو جلياً مما تقدم أن التصرفات التي لا تبلغ هذا المدى مستطاعة بطبيعة الحال. فللدولة أن تبقى على الملاك أراضيهم، ثم تعطيهم قدراً منها يزرعونه فى حدود طاقهم، وتمنح حق الارتفاق على سائرها لمن تشاء من الأفراد المحتاجين القادرين، يستغلونه لحسابهم بلا أجر ولا كراء.

أو أن تتدخل فى إيجارات الأرض، فتحدد لها سعراً معيناً لا تتعداه، أو نسبة من المحصول لاتجور على المستأجر، أو أن تتصرف في هذه الحدود حسبما تقتضيه الظروف، بلا قيد إلا ضمان العدل واجتناب الجور. وهيئة قضائية كمجلس الدولة، يمكن أن يوكل إليها هذا الضمان.

وهكذا نجد أن مشكلة «الملكية الفردية» ولا تقوم إلا فى أذهان الذين لا يعرفون الاسلام، أو الذين يعرفونه ثم يكتمون ما أنزل الله، ويهتفون بضمانة الملكية الفردية على حد: «ولا تقربوا الصلاة ...»!

إن الملكية الفردية محترمة فلا الإسلام بقيودها تلك واحتمالاتها هذه، لأن هذا النظام يلبلا ميول الأفراد الطبيعية فلا التملك، ويحثهم على بذل أقصى الجهد في الإنتاج، ثم يدع خيرات ذلك كله للمجتمع، وفلا خدمة المجتمع عند الاقتضاء.

وهو نظام أعدل من نظام الشيوعية وأمهر وأشمل.

أعدل، لأنه لا يمس الملكية الفردية إلا عند الاقتضاء.

وأمهر، لأنه يضمن بذل أقصى الطاقة من الأفراد فى الإنتاج وأشمل، لأنه يعد الفرد للمجتمع، ويعد المجتمع للأفراد.


  1. يراجع موضوع الملكية الفردية بتوسع فى كتاب «العدالة الاجتماعية في الإسلام»، فصل « سياسة المال ».