انتقل إلى المحتوى

معركة الإسلام والرأسمالية (1952)/عداوات حول حكم الإسلام/عداوات الصليبيين

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


عداوات الصليبيين

لقد انتهت المسيحية في أوربا وأمريكا إلى أن تصبح راية قومية تتجمع تحتها جموعهم، لا عقيدة دينية - كما هي طبيعة المسيحية - وهم إذ يتنادون اليوم باسم حماية الحضارة المسيحية من هجوم الشيوعية عليها كما كانوا يتنادون أيام الفاشية والنازية، لا يقصدون العقيدة المسيحية كديانة، بل يقصدون الأمم المسيحية كأوطان وقوميات. والمسيحية ليست إلا ستارًا يتخذونه لاستجاشة حمية البلاد المسيحية جميعًا؛ وهذا ما يفسر الانحلال الخلقي والاجتماعي الذي يتزايد في محيط البلاد المسيحية - منافيًا لكل تعاليم المسيحية - في الوقت الذي ترتفع فيه الدعوة باسم الحضارة المسيحية!

وبهذا الوضع للمسألة لا تبدو هنالك غرابة في الجمع بين التحلل من روح المسيحية في أوربا وأمريكا، والخصومة والعداء لغير المسيحيين في البلاد الأخرى! إنه لا غرابة ولا لغز يحير الأفهام، ولكنها اللعبة الماهرة مع المغفلين والسذج من أهل الديانات الأخرى، وبخاصة أهل الإسلام ... إن الغرب يوحي لهؤلاء الغافلين، أن الدين عامل ثانوي لا قيمة له في حياتهم؛ مستشهدين بتحللهم من قيوده في مجتمعاتهم؛ فينعق أصحابنا بهذه الدعوة، ويسيرون عليها، ويخربون بيوتهم بأيديهم لا بأيدي أعدائهم الدهاة، ذلك بينما العالم الغربي كله ينصب للإسلام، ويكن له العداوة والبغضاء!

إن الحروب الصليبية لم تضع أوزارها إلا في نفوس المسلمين وفي عالم المسلمين؛ فأمّا في العالم المسيحي فهي مشبوبة الأوار؛ وهي تشغل من أذهان القوم وسياستهم مكانًا بارزًا، يبدو في شتى مناحي الحياة. ونحن بغفلة منقطعة النظير نقدم لهم العون والمساعدة في هذه الحرب المشبوبة الأوار.

إن الصليبين الأحياء لم ينسوا يومًا أن بيت المقدس هو البقعة التي ثارت من أجلها الحروب الصليبية، وحينما دخل الماريشال «ألنبي» بيت المقدس في الحرب العظمى الماضية. تحرك لينفث لسان الصليبية الكامنة في دمه وفي دم كل صليبي. تحرك لينفث أوار الصليبية الكامن:

«والآن انتهت الحروب الصليبية»!

وحين قضت السياسة الاستعمارية والواقع المادي أن تكون فلسطين للعرب – أهلها وسكانها – تحركت هذه الصليبية مرة أخرى بفكرة الوطن القومي لليهود؛ ثم انتهت إلى المأساة الأخيرة على عين انجلترا وأمريكا وبصرهما، وبأسلحتهما وأموالها – تشترك معهما الشيوعية التي تطرد الدين من حسابها، إلا أن يكون هذا الدين هو الإسلام، فهي تحاربه باسمها لا باسم الصليبية، تحاربه لحسابها الخاص ولمصلحتها الخاصة كما سيأتي – وقال المغفلون هنا: إن الدسائس الاستعمارية والمصالح الشخصية وحدها هي التي تحرك انجلترا وأمريكا. ذلك أنهم لا يفطنون إلى أن روح الصليبية كامن وراء السياسة الاستعمارية كذلك، يذكي العوامل الظاهرة ويقوّيها.

وقد بقي بيت المقدس القديم وحده في أيد عربية - هي على كل حال مسلمة! وهنا يجيء دور هيئة الأمم، لترد هذه البقعة إلى حكم الصليبين مرة أخرى! لا باسم الصليبية سافرًا، ولكن باسم «التدوبل» وتجد من صراع الأقزام الدائر بين الدويلات العربية، بل بين البيوت المالكة وحدها في هذه الدويلات، مشجعًا وناصرًا. وتجد من ساسة الأقزام في هذه الدويلات البائسة، من بعد ذلك سياسة قومية مرسومة!

إن الصليبيين يعرفون ويقول الصرحاء منهم - وقد سمعته في أمريكا بأذني - إن الإسلام هو الدين الوحيد الخطر عليهم. فهم لا يخشون البوذية ولا الهندوكية ولا اليهودية، إذ أنها جميعًا ديانات قومية لا تريد الامتداد خارج أقوامها وأهليها؛ وهي في الوقت ذاته أقل من المسيحية رقيًا. فأما الإسلام فهو – كما يسمونه – دين متحرك زاحف. وهو يمتد بنفسه وبلا أية قوة مساعدة. وهذا هو وجه الخطر فيه في نظرهم جميعًا ولهذا يجب أن يحترسوا منه، وأن يقاوموه ويكافحوه.

ونحن الغافلين في الشرق لا ندرك ضخامة الجهود التبشيرية التي تبذلها أوربا وأمريكا لنشر المسيحية في أرجاء العالم كله؛ في مجاهله ومعموره سواء لا ندرك أن للكنيسة الكاثوليكية وحدها نحو أربعة آلاف بعثة تبشيرية، تنتشر في أنحاء الأرض؛ وتذهب إلى مجاهل الكونغو والتبت ووراءها الأموال الضخمة التي لا تنفد.

وهذه الجهود لا يقوم بها المبعوثون وحدهم، بل تعتمد كل الاعتماد على الوطنيين في البلاد الأخرى؛ وتتخذ لها طرقًا وعنوانات شتى؛ وتتزيا بأزياء كثيرة ليس الزي الديني إلا واحدًا منها. ففي مصر مثلا يعد رجل كجورجي زيدان منشئ دار الهلال، ورجل كسلامة موسى الكاتب الصحفي، رسولين مهمين للتبشيرية؛ يجدان في غفلة المصريين والشرقيين - بما في ذلك أصحاب الصحف والقراء - مجالا طيبًا للعمل، الذي لا تنهض به جمعيات تبشيرية كاملة. باسم الثقافة والأدب والصحافة!

والحكومات تشجع هذه البعثات وتؤيدها، لأنها ترمى من وراء المسيحية إلى أهداف سياسية واقتصادية؛ وتعد المسيحية علماً قومياً ينتشر ظله في هذه الأصقاع كما أسلفنا.

والدين الوحيد الذي يقف في وجه هذه الجهود، هو الإسلام وحده كما تقول تقريراتهم، وكما يفصح أحياناً بعض الصرحاء منهم!

وهؤلاء الصليبيون يعرفون أن الإسلام ليس شيئًا آخر غير حكم الإسلام، فهو لا يستطيع أن يتحقق كاملاً وقوياً في هذه الأرض بغير هذا الحكم، الذي يحول العقيدة شريعة، ثم يقف ليحميها ويدفع عنها.

لذلك يحاربون رجعة الحكم إلى الإسلام محاربة قوية لا هوادة فيها. يحاربونها بنفوذهم وبقوتهم، كما يحاربونها بوساطة المغفلين منا، وذوي المصالح الذين يخشون حكم الإسلام عليها.

وعلى حين تنكر أوربا وأمريكا على الإسلام أن يحكم في أية بقعة من بقاع الأرض، وأن تقوم على أساسه دولة تحمل لواءه، وتعمل بفكرته، وتنفذ قوانينه. وعلى حين ينعق الناعقون هنا وهنالك في الأفطار الإسلامية ممن استعمرت أوربا وأمريكا أرواحهم.. بأن الزمن قد مضى فلم يعد يحتمل قيام دولة على أساس الدين..

على حين هذا وذاك تنبت كالشوكة دولة إسرائيل! ترتكز على الدين - وعلى الدين وحده - فاليهودية ليست جنسية بل ديانة. تضم الروسي والألماني والبولندي والأمريكي والمصري واليمني ... وكل من هب ودب على وجه هذه الأرض من الأجناس. وعلى اليهودية وحدها ترتكز إسرائيل بتشجيع انجلترا، وتمويل امريكا. فأمّا روسيا الشيوعية فلنضع حديثها في هذه المأساة على جنب! فإن نكيرها على الدين أشد، وإنكارها لقيام دولة على الدين أعنف، ولكن هذا كله يتبخر وتتبخر معه مبادئ الشيوعية الأساسية، عندما يطل وجه المصلحة الشخصية!

وما يلقاه الحكم الإسلامي من عنت الصليبية في مصر تجد منه «الباكستان» اليوم ما تجد في قضية كشمير مع الهند والمغفلون هنا لا يفطنون إلى أنها الروح الصليبية التي تملى على هذه الدول المسيحية سياستها، فيحاولون أن يردوها إلى أسباب أخرى!

إن أجهزة الدعاية الأمريكية في الشرق هي التي تتولى الدعاية للهند؛ بأموال أمريكية يظهر صداها في صحافة الشرق واضحًا! لماذا؟ لأن الهند ليست مسلمة، ولأن بينها وبين أول دولة مسلمة في الشرق نزاعًا. والكثرة من الحاكمين في الدولة الأمريكية تخرجوا في المعاهد التبشيرية. وهي حقيقة أفضي إلىّ بها أحد الأساتذة الإنجليز الذين التقيت بهم في أمريكا، وعدّ لى عشرات من الأسماء البارزة في وزارة الخارجية الأمريكية وفي السلك السياسي - ولم يكن يفضي إلىّ بهذه الحقيقة بريئا لوجه الله! وإنما هو - كما عرفت فيما بعد - أحد رجال قلم المخابرات البريطاني الذين يهمهم ألا يثق الشرقيون كثيرًا في نيات أمريكا! مما دعاني إلى التشكك في بياناته لي فتحققتها بوسائل أخرى.

إن الإسلام لا يجوز أن يحكم.. هذه رغبة العالم الصليبي. وعلينا نحن أن نذعن. وأن نصدق ما يوحى إلينا به الصليبيون في الشرق والغرب، في سذاجة وغفلة، باسم التحرر والثقافة!

ألا من الأقزام، بمن يقنعهم أنهم ليسوا بعد إلا الأقزام؟!