معركة الإسلام والرأسمالية (1952)/إني أتهم
إنىّ أتّهـمُ
.. أَتَّهم هذه الأوضاع الاجتماعية الحاضرة بأنها تشل قوى الأمة عن العمل والإنتاج؛ وتُشيع فيها البطالة والتعطل؛ وتقعدها عن استخدام مواردها الطبيعية والبشرية؛ وتؤدى بها إلى الضعف عن مواجهة الأخطار الداخلية والأخطار الخارجية، التي تتزايد وتبرز على مر الأيام.
إن أرضنا تملك أن تنتج أضعاف ما تنتج من غلات. ولكن لماذا لا يتم هذا؟ لأن هذه الأرض لا تزال موزعة كما كانت موزعة في أظلم عهود الإقطاع، فهي محتكرة في أيد قليلة لا تستغلها استغلالا كاملا، ولا تدعها للقادرين على استغلالها من لا يملكون شيئاً.. دع هذه الأرض تخرج من هذا الاحتكار؛ وتتداولها الأيدى المتعطلة التى لا تجد ما تعمل.. حينئذ تتبدل الحال غير الحال.
وإن الأرض الصالحة للزراعة ليمكن أن تتضاعف. ولكن لماذا لا يتم هذا؟ لأن مشروعات الرى والصرف الكبرى معطلة لا تنفذ! لماذا؟ لأنها تحتاج إلى المال، والمال في أيدي الرأسماليين؛ والدولة تشفق أن تحمل رؤوس الأموال نصيبها الواجب من الأعباء. لماذا؟ لأن الدولة لا تمثل الجماهير المحتاجة، إنما تمثل رؤوس الأموال.. دع مقاليد الحكم للشعب حقًا. حينئذ سيجد الشعب في خزائنه من حصيلة الضريبة العادلة، ما يصلح به الأراضى البور، في فترة معقولة من الزمان.
وإن هذه الأرض لتحوى كنوزاً من الخامات والقوى المعطلة التي لا تستغل. لماذا؟ لأن الدولة فقيرة وعاجزة وغير جادة ومشغولة.. فقيرة لا تجد المال، لأن ميزانيتها تعتمد على دخول الجمارك التى يؤديها الفقراء قبل الأغنياء؛ ولا تعتمد على غرائب الدخل المباشرة التى يؤديها الأغنياء قبل الفقراء! وعاجزة لأن أداتها الإدارية فاسدة. أفسدتها الاستثناءات والمحسوبيات، وسوء النظام، وبلادة «الروتين»؛ ما أفسدتها الرّشوة، وفساد الذمة، وتعفن الضمير. وغير جادة، لأنها لا تحس حافزاً يدفعها إلى زيادة الثروة القومية العامة، ما دام الأثرياء الذين تمثلهم يحسون التخمة، ويعجزون عن تصريف ما في أيديهم من ثروات. ومشغولة. مشغولة بذلك الصراع الحزبى في حلبة الأقزام، التي أقامها الاستعمار منذ ربع قرن باسم الدستور! ووقف يتفرج ويتسلى، كما كان الأشراف في القرون الوسطى يتسلون بصراع العبيد والأقزام. ثم هي مشغولة بحماية تلك الأوضاع الاجتماعية الشاذة المناقضة لطبيعة الأشياء، والتي تحتاج إلى جهد ضخم من الأداة الحكومية العاجزة الفاسدة الشّلاء.
وإن في هذه الأرض من الثروات البشرية والقوى الإنسانية ما لا يقل عما فيها من الخامات والقوى. ولكن أحداً لا يستغلها ولا يلتفت إليها. لماذا؟ لأن المصلحة العاجلة للسادة الرأسماليين الذين تمثلهم الدولة، لا تقتضي استقلال هذه القوى ولا استنقاذها من التبطل والضياع. فهى تدعها للجهل والمرض والفقر تأكلها أكلا، ثم تدعها للتبطل يحيلها مخلوقات تافهة: إما مشردة في الطرقات؛ وإما جالسة على المقاهى والحانات؛ وإما عاملة كمتعطلة لا تنتج إلا التافه اليسير ما تملك أن تنتج؛ لأن النظام الذي تعمل في ظله نظام فاسد؛ ولأن الأجور التي تتناولها لا تحفز إلى الإخلاص؛ ولأن المستقبل الذى ينتظرها ظلام في ظلام . والدولة لا تحاول أن تعمل شيئاً جدياً لاستنقاذ هذه الثروات المبددة الضائعة في سفه وإسراف.
ذلك أن استنقاذ هذه الثروة القومية من القوى البشرية يكلف رؤوس الأموال بعض التكاليف. ودون هذا وتقف الدولة متحرجة واجمة خاشعة!
وهكذا يدور دولاب العمل في الدولة وفى الشعب، لا ليسد حاجة سكانها جميعاً، بل ليسد حاجة حفنة قليلة هى القادرة وحدها على الإنتاج وعلى الاستهلاك. ولا تعمل الدولة ولا الأمة لرعاية المصالح الضخمة للعشرين مليوناً من السكان، بل لرعاية المصالح المحدودة لفئة منها معدودة.
ثم يتزايد السكان وتتناقص الغلة؛ لا لعجز في طبيعة الأمة عن العمل، ولا النقص في كفاياتها واستعداداتها الفطرية؛ ولكن تبعاً لهذا الاختلال في توزيع الثروة القومية، وفي توزيع المغانم والمغارم؛ ومن ثم نتخلف والدنيا تركض ، ونضعف وخصومنا على الأبواب تتزايد قدرتهم على الاعتداء؛ وتهبط كرامتنا الدولية يوماً بعد يوم، ونحن نتحلق ونتصايح: يحيا ويسقط، حول الصراع الحزبى التافه في حلبة الأقزام!
إلى أتهم.. أتهم الأوضاع الاجتماعية القائمة بأنها تهدر الكرامة الإنسانية، وتقضي على كل حقوق الإنسان.
من ذا الذى يجرؤ على القول بأن هؤلاء الملايين من الفلاحين الجياع العراة الحفاة، الذين تأكل الديدان أحشاءهم، وينهش الذباب مآقيهم، وتمتص الحشرات دماءهم.. ناس. يتمتعون بكرامة الإنسان وحقوق الإنسان؟
من ذا الذى يجرؤ على القول بأن هؤلاء الصبية الذين يجمعون من القرى والكفور للعمل في «التراحيل» لتنقية المزارع في الدوائر والتفاتيش من الآفات، وجسومهم تنغل بالآفات، وينقلون عشرات الأميال ومئاتها بعيداً عن أهلهم - حيث يعودون أو لا يعودون - لا متطوعين ولا مختارين، ولكن قسرا وغصباً، في مقابل القروش والمللاليم التى يؤكل نصفها قبل أن تصل إلى أيديهم الهزيلة النحيلة.
من ذا الذى يقول بأن هؤلاء قام لهم كرامة الإنسان وحقوق الإنسان؟! من ذا الذى يجرؤ على القول بأن الملايين «الأنفار» في دوائر الإقطاع ناس، والسيد المالك يملك أن يحيى ويميت، وأن يمنع ويمنح، وأن يرزق ويرزأ، والعبيد لا يملكون شيئا، حتى ولا حق البقاء في الدائرة، ولا التعويض الضئيل عند الطرد من الرحمة. فإذا غضب السيد - بل عامله – فقد طرد «النفر» مع زوجه وأولاده، وقد سلبت منه جاموسته، وقد عاد كوخه إلى السيد المالك الذى أنعم به عليه؛ وخرج هو شريداً طريداً من رحمة الأرض جميعاً!
من ذا الذى يجرؤ على القول بأن مئات الألوف من العجزة المتسولين، الباحثين عن الفتات في صناديق القمامة، العراة الجسد، الحفاة القدم، المعفرى الوجوه، الزائغى النظرات.. ناس لهم كرامة الإنسان وحقوق الإنسان؟ وهم لا يجدون ما تجده كلاب السادة فى بيوت السراة!
من ذا الذي يجرؤ على القول بأن هؤلاء الألوف من الخدم فى البيوت، و «الخدمة السائرة» في الدواوين، الذين يحرمهم القانون حتى حق تكوين النقابات، لأن السادة يأبون عليهم هذا الحق، كي لا يتجرأ العبيد على الأسياد، وكي لا تكون لهم حقوق – ولو نظرية – يرفعون بها جباههم في وجوه الأسياد ...
من ذا الذي يجرؤ على القول بأن هؤلاء ناس، لهم حقوق الإنسان وكرامة الإنسان؟!
ودعك بعد هذا من تلك الخرافة التي تتحدث «الأمة مصدر السلطات» وعن حق الانتخاب وحرية الاختيار.. إنها خرافة لا تستحق المناقشة، فهذه الأمة مصدر السلطات هى هذه الملايين الجائعة الهزيلة، الجاهلية المستغفلة. هذه الملايين المشغولة نهارها وليلها بالبحث عن اللقمة. الملايين التي لا تملك أن تفيق لحظة لتفكر في ذلك الترف الذي يسمونه حتى الانتخاب وحرية الاختيار. الملايين التي يشير لها السادة فتنتخب، ويشير لها السادة فتمتنع؛ لأن هؤلاء السادة هم خزنة أرزاقها وأقواتها؛ وملاك الإقطاع الذي يؤوى هؤلاء الجياع!
إنها خرافة أن تتحدث في عهود الإقطاع عن الدساتير والبرلمانات. ونحن نعيش في عهود الإقطاع بكل مقوماتها؛ لا ينقص منها شىء إلا تبعات السيد تجاه رقيق الأرض، فقد سقطت عنه هذه التبعات في عصر الدستور! أجل فلقد كان السيد فيا مضى مسؤولا عن رقيقه، يزوّج بناتهم ويمنحهن؛ ويعالجهم إذا مرضوا، ويؤدى عنهم نفقات الجنائز والأعياد.. فأسقط عهد الدستور كل هذه التكاليف عن كاهله، وأتى له الرقيق، يأكل من أبدانهم ما يشاء كيف شاء!
إن الحديث الدساتير والبرلمانات يصاح مادة فكاهة، يتسلى بها الفارغون. ولكنه لا يصلح حديث أمة تريد الجِد، وتنظر إلى الواقع بعين الاعتبار!
إن تضخم الثراء في جانب، وبروز الحرمان في جانب، من شأنه أن يخلق طبقة الأثرياء الفارغين المتبطلين، الذين يجدون لديهم وفرة من المال، ووفرة من الوقت، ووفرة من الطاقة الجسدية التي لا بد لها من متصرف.
والطاقة التى لا تصرف في العمل، والتى لا تشغلها فكرة أعلى من الذات، لا بد أن تجد لها طريقاً آخر: طريق المتاع الجسدي الغليظ، والرفاهية المترفة الناعمة، والموائد الخضر والسباق، والسكر والعربدة والاستهتار...
وماذا يصنع أولئك الفتيان المرد، وأولئك الشيوخ المترهلون، الذين تجى إليهم ثمرات الكد والعرق والدماء، من جهود الألوف الجياع الحفاة العراة.. ماذا يصنع أولئك وهؤلاء بتلك الألوف والملايين التي تصل إليهم وهم قاعدون؟ ماذا يصنعون ولم يطهر العمل قلوبهم وأيديهم، ولم يشغل العمل أفكارهم ومشاعرهم؟ ماذا يصنعون إلا أن يفكروا في لذائذ الحس، وشهوات الجسد، والترف الناعم الرخيص؟
وهم يملكون قوة الإغراء.. المال.. وعلى الضفة الأخرى أولئك المحرومون التاعسون، ضعفاء أمام ذلك الإغراء، طلاب حياة وطلاب متاع كذلك، لا يجدون إليهما سبيلا من وجه شريف ... فالشرف آخر حرفة في مصر تدر على أصحابها الكفاف!
عندئذ ينقسم المحرومون والمحرومات فريقين: فريق السماسرة وفريق الضحايا. فريق القوادين وفريق الرقيق – ولا عبرة بالفريق الثالث: فريق الشرفاء الذي يأبى أن يخضع للإغراء العنيف. إنه فريق الذين لا يريدون الحياة ولا يريدون المتاع! أو فريق الأبطال والقديسين. وما كل الناس ولا كثرتهم أبطال ولا قديسون!
ولابد من حاشية وأذيال، لأولئك الفتيان المرد، وأولئك الشيوخ المترهلين. لا بد من حاشية تملق كبرياءهم، وتؤمن على سخافاتهم وحماقاتهم. وهم واجدون هذه الحاشية في ذلك الحطام الآدمى التافه، الذين أحالته الأوضاع الاجتماعية الفاسدة ديداناً طفيلية وإمّعات!
وهكذا تتكون حلقة مفرغة، من الشباب الفارغ والشيخوخة الآسنة، ومن الرق الأبيض والنخاسة القذرة، ومن الملق الحقير وفناء الشخصية والانحلال.
وندع هذه الحلقة الآسنة، لتقع العين على حلقة أخرى نشيطة متحركة عاملة، ولكن الشيطان وفى حقل الشيطان. حقل الرشوة والارتشاء. حقل السرقة والاختلاس وفساد الضمير.
إنه العوز فى جانب والإغراء فى جانب. إنه الموظف ذو العيال الذى يلهب الغلاء ظهره بسياطه الكاوية؛ ويمتص عصارة قلبه ودمه، ليسلمها إلى السادة الممولين، الذين تحميهم الدولة بتشريعاتها وتعمل لحسابهم وحده لا لحساب الجماهير. إنه ذلك المخلوق الضعيف وأمامه إغراء المال الحرام. المال الذى يريد أن يتضاعف بالغش والسرقة والتهريب والاحتكار.
وقد لا يقف الفقر هكذا أمام الثراء. إنما يقف المال أمام المال. تقف المصلحة المشتركة بين الغنى الفاحش والغنى الفاحش. تقف المؤامرة على حقوق الجماهير ومصالح الجماهير. الجماهير الضعيفة التى لا تملك شيئاً تذود به عن نفسها في المعركة، حتى ولا قوة اليقظة والانتباه!
وهذه قضايا الذخيرة الفاسدة فى الجيش، وتهريب التموين إلى إسرائيل، والاختلاسات في الأموال العامة.. هذه هى تقشعر لقذارتها وبشاعتها النفوس. ولكنها في صميمها ليست منفصلة عن الأوضاع الاجتماعية القائمة؛ فهى ثمرتها الطبيعية التى لا تثمر سواها؛ وما يمكن أن تختل موازين العدالة الاجتماعية هذا الاختلال، ثم تبقى للمجتمع قواه الخلقية ومبادئه ومثله. إنما هى الحمأة الآسنة يصب فيها الوحل والقذى، وتنمو على حوافها الحشرات، وتنسل في جوفها الديدان؛ ثم تتسع وتتسع حتى تحيل المجتمع كله بركة من الوحل المنتن العفن، تغوص فيها الضمائر والأخلاق، وتغرق فيها القوميات والأوطان.
وهنا ينبعث السادة الأجلاء من هيئة كبار العلماء، من سباتهم الطويل العميق، ينعون الأخلاق الضائعة والفواحش الشائعة، ولا يدعون ثبوراً واحداً بل يدعون ثبوراً كثيراً! فلننصرف إلى السادة الأجلاء لحظة نسمع منهم الوعظ الشريف، ترويحاً للنفس عن ذلك الجد الكريه الذي نعانيه!
هذه بعض عريضتهم إلى رئيس الحكومة في يوم من الأيام:
« وإن الناظر في حال أمتنا العزيزة، وما آل إليه أمر الدين والخلق فيها، ليهوله ما يرى، ويأخذه كثير من الحزن على حاضرها الذى صارت إليه، ويخالجه كثير من الإشفاق على مستقبلها الذى هي مقبلة عليه. فقد استهان الناس بأوامر الدين ونواهيه؛ وجنحوا إلى ما يخالف تقاليد الإسلام؛ ودخل على كثير منهم ما لم يكن يعهد من أخلاق الإباحية والتحلل، جرياً وراء المدنية الزائفة، واغتراراً ببريقها الخادع؛ وكثرت عوامل الإفساد والإغراء في البلاد، ولا سيما أمام ناشئتها وفتيانها، المرجوين للنهوض بها، والأخذ بيدها في حاضرها ومستقبلها؛ فمن حفلات ماجنة خليعة، يختلط فيها النساء بالرجال على صورة متهتكة جريئة، تشرب فيها الخمر، و يرتكب فيها ما ينافى المروءة والخلق الكريم؛ إلى أندية يباح فيها القمار، ويسكب على موائدها الذهب، وتبرز فيها الأموال، وتزلزل بسببها البيوت والكرامات؛ إلى ملاعب للسباق والمراهنات تنطوى على ألوان من الفساد وإضاعة المال؛ إلى مسابقات للجمال إنما هى معارض للفسوق والإثم، يرتكب فيها ما يندى له جبين الدين والخلق والمروءة، ويباح فيها من المحرمات أكبرها وأخطرها؛ إلى شواطئ في الصيف يخلع فيها العذار، ويطغى فيها الأشرار؛ إلى أخبار ذلك تذكر وتنشر، وتوصف وتصور، وتستثار بها كوامن الشهوات والغرائز، في غير تورع ولا حياء؛ إلى كثير من ألوان المنكرات وفنون الموبقات..»
وی! وى! أو هذا هكذا أيها العلماء الأجلاء؟! يا سبحان الله! ولا حول ولا قوة إلا بالله! حقاً إنه لأمر جلل يوجب النقمة ويستوجب اللعنة ...
ولكن! وقد قدر لشفاهكم الشريفة أن تنفرج عن كلام في المجتمع، أفما كانت هناك كلمة واحدة تقال عن المظالم الاجتماعية الفاشية؛ وعن رأي الإسلام في الحكم، ورأيه في المال، ورأيه في الفوارق الاجتماعية التي لا تطاق؟
وما الذي كنتم تنتظرونه أيها السادة الأجلاء من أوضاعنا الاجتماعية القائمة إلا هذا الفساد، التي تناولت خطبتكم الشريفة ظواهره، وتجنبت خوافيه؟ أوضاعنا الاجتماعية التي تجد منكم السند والنصير؛ والتي يصيبك البكم فلا تشيرون إليها إشارة عارضة من قريب أو من بعيد، لأن السكوت عنها من ذهب: ذهب ابريز!
إني أتهم.. أتهم الأوضاع الاجتماعية القائمة بأنها تحيل تكافؤ الفرص خرافة، والعدالة بين الجهد والجزاء أسطورة. وبذلك تشيع القلق والاضطراب في نفوس الأفراد والجماعات.
إنه يكفى في مصر أن يحسن الطفل اختيار أبويه، كما تتاح له الفرص جميعاً، ويتخطى عقبات الطريق وثباً! فلئن فاته أن يحسن اختيار أبويه، فلا أقل من أن يختار له زوجة قد أحسنت اختيار أبويها، فولدت في بيت وزير أو كبير، كي تحمله على جناحيها ونطير! فإلا تكن قد أحسنت اختيار أبويها فلا أقل من أن تكون قد أحسنت اختيار تقاطيعها وملامحها. وهذه تعويذة تفك العقد، ويدخل بها على الحكام ويخرج. كما كانت كتب السحر تصف بعض التعاويذ في قديم الزمان وسالف العصر والأوان!
والدعابة التي أطلقها الشاعر الملهم «محمود أبو الوفا» فى: « أنفاس محترقة ».
لم تكن دعابة عابرة، إنما هى إيماضة الحقيقة في ضمير هذا الواقع الاجتماعى المريض، انطلقت على لسان شاعر صادق الحس موهوب.
إن تكافؤ الفرص في مثل هذه الأوضاع خرافة لا تقل عن خرافة المساواة أمام القانون! وإلا فأى تكافؤ بين الكتلة من اللحم يدفع بها رحم في الكوخ، فتلقاها الأرض، أو حجر أقذر من الأرض، يسلمها إلى الميكروب والمرض، ثم يكلها إلى الجوع والشظف، حتى إذا غالبت ذلك كله، دفع بها إلى الحرمان والإهمال. وبين أخت لها وليدة على يدي طبيب، وفي حضن ممرضة، موكولة إلى العناية والرعاية، إلى المناغاة والتدليل، فإلى روضة الأطفال فالجامعة، فإلى كرسى الديوان أو مساقط الثراء في الشركات والدوائر والتفاتيش؟!
أي تكافؤ بين ذلك الذى أحسن اختيار أبويه وخاب فى الدراسة؛ وذلك الذي لم يوهب حسن الاختيار ولو كان من أوائل المتخرجين؟
أى تكافؤ في عالم الوظيفة أو فى العالم الذي يسمونه «حراً» وذلك المحظوظ المرموق يخطو والأسرة والجاه يفتحان له مغاليق الحياة. وهذا النكد التاعس تتلقاه الصدمات والعقبات فى كل شبر من طريقه البطيء الطويل؟!
وإذا كان تكافؤ الفرص خرافة، فالعدالة بين الجهد والجزاء أسطورة! وإلا فمن ذا الذي يقول: إن هذه الملايين الجائعة إنما تجوع لأنها ملايين من الكسالى، الذين لا يريدون العمل والتعب؟ يقال هذا عن فرد، أو عن عشرة، أو عن مئة، أو عن ألف، أو عن عشرة آلاف.. أما أن يقال عن الملايين، فدون هذا ويمج الحديث، وتسخن العبارة، وتعجز المرائر عن الاحتمال.
إن الذين يعملون في هذا البلد هم الذين يجوعون. أعنى الذين يعملون أعمالا شريفة، لا تدخل في قائمة السرقة والاختلاس، والغش والتدليس، والارتشاء واستغلال النفوذ، وتجارة الرقيق الأبيض، والخيانة الوطنية... إلى آخر ما يملك به الرجل أو المرأة فى مصر أن يصبح بين يوم وليلة من الوجهاء والأثرياء!
نحن لا ننكر التفاوت فى الاستعدادات الفردية والمقدرات الذاتية. ولكن أى تفاوت يمكن أن يبرر الفوارق بين ملايين عبود، وفرغلى، وأمين يحيى، والبدراوى... وأمثالهم. وبين الملاليم التي ينالها عمالهم وعبيدهم وفلاحوهم؟
وأى تفاوت يمكن أن يبرر الفوارق بين مرتب الوزير ووكيل الوزارة والمدير العام. ومرتبات الكتبة والسعاة والفراشين في الدواوين، وهى تبلغ خمسين ضعفاً في بعض الأحايين؟
إن أية مغالطة عن تفاوت المقدرات الفردية لتقف حسيرة خجلى أمام الواقع الصارخ، الذي يعجز المدافعون عن تبريره وتفسيره، عجزه هو ذاته عن الاستمرار والبقاء، يحكم مناقضته لطبائع الأشياء.
إن مجتمعاً هذه سماته ليشيع القلق في نفوس أفراده وجماعاته. القلق الناشئ من أن الجهد لا يلقى جزاءه؛ والجد لا يثاب عليه؛ والوسائل الملتوية تبلغ يصاحبها ما لا تبلغ الوسائل المستقيمة؛ والولادة في بيت وزير أو كبير تجدي ما لا يجدي الذكاء والموهبة والخلق والعمل جميعاً!
ولقد مضى على مصر أكثر من ربع قرن منذ تسلمت مقاليدها؛ وتوالت على حكمها الوزارات والأحزاب. وما من عهد من هذه العهود خلا من الاستثناء البغيض. تارة بالآحاد والعشرات، وتارة بالمئات والألوف. حتى شاع في الدواوين وعلى ألسنة الناس أن الواسطة هى الطريق الوحيد القصير؛ ووقر فى ضمائرهم أن لا شىء يعدل أن تكون ذا جاه، أو محسوباً، أو أن تسلك على أية حال طريقاً غير مستقيم!
ومتى فقدت النفوس الثقة في الخير والواجب، والأمانة والضمير؛ فقد فسد كل شىء، وسرى القلق والتوجس، وعم الإهمال والاستهتار. وقد انتهينا إلى هذا، وانتهينا معه إلى ما هو أدهى: انتهينا إلى الشك المطلق في صلاحية الإدارة المصرية، وإلى الترحم على أيام الاحتلال وهذه كارثة. فليس أخطر من أن يكفر المواطن بوطنه وبشعبه وبنفسه.
إن الجريمة التي ارتكبتها سياسة الاستثناء هي هذه الجريمة. جريمة تزعزع ثقة المواطنين في الحكم الوطنى. جريمة انهيار الشعور الداخلى بقيمة الاستقلال، وبضرورة الاستقلال!
إني أتهم ... أتهم الأوضاع الاجتماعية القائمة بأنها تدفع بالناس دفعًا إلى أحضان الشيوعية، وبخاصة ذلك الجيل الناشئ من الشبان الأبرياء.
حين يقال للملايين من الكادحين الذين لا يجدون ما ينفقون: إن الشيوعية تضمن لكم كفايتكم؛ وتمنع الترف الفاجر الذى يزاوله أثرياؤكم.. يكون لها فعل السحر في نفوس الجماهير. وحين يقال لهم: إن الشيوعية تحرمكم حرية العمل، وحرية القول وحرية التفكير، فإنهم لا يحسون أنها تسلبهم شيئاً حقيقياً يملكونه.
إن الشيوعية لا تحوى سحراً ولا سراً. ولكن الجماهير معها على رأي المثل العامى الذي يقول: «ضربوا الأعور على عينه قال: خسرانة خسرانة!». أو المثل الآخر الذي يقول: «قالوا للقرد: ربنا حيسخطك. قال: حيعملنى غزال ؟!». فالعُور والقرود – أى الذين لا يملكون شيئاً يخسرونه، واليانسون من أن تكون هناك حال أسوأ من حالهم – هم الذين تسحرهم الشيوعية. لأن كل تغيير قد يفيدهم. وهو على أية حال لا يضيرهم شيئاً. أما الذين يملكون شيئاً. الذين يملكون حرية القول وحرية الفكر؛ ويملكون قبلهما حرية الرغيف؛ ولا تصطدمهم تلك الفوارق الاجتماعية السحيقة.. فهم أعداء الشيوعية الطبيعيون.
لهذا لم تجد الشيوعية لها إلى اليوم تربة صالحة في السويد أو النرويج أو الدانمارك، لا لأن أهل هذه البلاد يملكون أية فكرة عن الحياة أعلى مما يملك الشيوعيون، ولا لأن لهم أهدافا روحية أو عقيدة إنسانية. بل لأنهم يملكون أكثر مما تمنحه الشيوعية، ويفقدون بالشيوعية أشياء حقيقية يملكونها.
حين يقال للعامل في تلك البلاد: إن الشيوعية ستوفر لك كفايتك وضمانات حياتك. قد يسخر! فكفاياته كلها مضمونة، بل رفاهيته كذلك. وحين يقال له: إن الشيوعية ستضمن لك عملا دائماً، وتحميك من نتائج التعطل قد يسخر! لأنه يجد ضمانات حياته عاملاً ومتعطلا؛ ولا يحس قلقاً فى حياته من هذا الجانب أو ذاك.
ولكن حين يقال له: إن الشيوعية ستجندك للعمل بلا حرية ولا اختيار؛ أو ستقضى على حريتك النقابية؛ أو ستضغط على حرية القول والكتابة والتفكير.. فإن ذلك يفزعه ويزعجه. ذلك أنه يملك تلك الحرّيات فعلا. يملكها حقيقة واقعة في حياته اليومية، لا فى الكتب والدساتير المكتوبة.. عندئذ تعجز الشيوعية أن تغزو قلبه لأنها لا تمنحه شيئاً ينقصه، وعلى العكس تسلبه مزايا حقيقية يملكها.
كذلك الحال في أمريكا.. إن العامل الأمريكى يعرف أنه حينما قرر عمال المناجم الإضراب، وصرَّح الرئيس ترومان بأنه يفكّر في اتخاذ تدبير شديد لإنهاء هذا الإضراب، هتف العمال: «دع ترومان يأت هنا ويحفر الأرض معنا».
ونشر هذا الهتاف في الصحف على أعمدة بحروف بارزة، فلم يتحرك شرطى واحد ليقبض على عامل، فضلا على أن يضربه ويسجنه ويعذبه
وحينما كتب صحفى طويل اللسان عن ابنة ترومان كتابة بذيئة، لم يزد رئيس الدولة التي تحكم نصف العالم عن أن يكتب له رسالة شخصية «بأنه سيضربه بنفسه عندما يقابله!» ولم يتحرك «الجستابو» ليدق عنق هذا الصحفى، أو يقتله سراً، ويرمي بجسده في جُب!
والعامل الأمريكى يعلم أن روسيَّا لا يملك أن يهتف ضد ستالين، ولا أن يكتب حرفاً واحداً عن أسرته.. ولهذا يفزع من الشيوعية!
أمّا هنا فعبُّود باشا يملك أن يحطم نقابات عماله التي ترتكب جريمة مطالبته بتنفيذ قانون من قوانين الدولة، يزيد لقيمات في نصيب العامل باسم إعانة الغلاء. والدولة واقفة تتفرَّج وتشجع سعادته وهو يسحق هذه النقابات سحقاً. والجمعية الزراعية تشرد موظفا خدمها سبعة عشر عاما، وخدمها أبوه قبله لأنه طالب بإعانة الغلاء!
اللسان أن يتطاول على ذاته الكريمة!.
أما حرية القول وحرية الفكر، فيسأل عنها القلم السياسى. وتسأل عنها المعتقلات والسجون، وتسأل عنها حوادث التعذيب في كل قضية سياسية في تاريخ مصر الحديث!
إن الشيوعية فى ذاتها فكرة صغيرة لا تستحق الاحترام عند من يفكرون تفكيراً إنسانياً أعلى من الطعام والشراب؛ وعند من يعرفون أفكاراً أخرى عرفتها الإنسانية قبل الشيوعية، وهى أعدل وأرقى. ولكن الأوضاع الاجتماعية القائمة تضفى على الشيوعية سحراً وجاذبية، وإذ كنا نعتقد أن الشيوعية فكرة تعسفية وضيقة، وفيها من سوء الظن بالبشرية، ومن الأحقاد المسمومة ما فيها.. فإننا نعتبر الأوضاع القائمة مجرمة، ترتكب في كل يوم جريمة تحبيب الشيوعية للجماهير المحرومة، وتزينها في نفوسهم، وتدفعهم إليها دفعاً، للخلاص من ذل الإقطاع ولذع الحرمان، وظلم الأوضاع المتناقضة لطبائع الأشياء.
وأخيراً فأنا أتهم الأوضاع الاجتماعية القائمة بأنها مناقضة فى جملتها وتفصيلها لروح الدين كله. الدين منذ أن عرفت البشرية أديانها السماوية، وهى أكثر مناقضة للإسلام بكل تأويل من تأويلاته. وكل ما يدعيه المحترفون من رجال الدين ليسندوا به هذه الأوضاع، إنما هو افتراء على الدين، لا يجد له سنداً من حقائقه ومبادئه: ﴿فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ ٱلْكِتَٰابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنْ عِندِ ٱللَّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِۦ ثَمَناً قَلِيلًا﴾
إن الإسلام ليصرخ في وجه الظلم الاجتماعى، والاسترقاق الإقطاعى وسوء الجزاء؛ وإنه ليمد المكافحين لهذه الأوضاع بقوة ضخمة للكفاح والصراع.
وما من وضع اجتماعى هو أبعد عن روح الإسلام من أوضاعها القائمة؛ وما من إثم أكبر من إثم الذين يدينون بالإسلام، ثم يقبلون مثل هذه الأوضاع، أو يبررونها باسم الإسلام، والإسلام من مثلها براء.
إن هذه الأوضاع غير قابلة للبقاء والاستمرار. ذلك أنها مخالفة لروح الحضارة الإنسانية بكل معنى من معانيها. مخالفة لروح الدين بكل تأويل من تأويلاته. مخالفة لروح العصر الحاضر بكل مقتضى من مقتضياته.. ومن ثم فهى لا تحمل عنصرًا واحدًا من عناصر البقاء، يملى لها في الأجل، ويمنحها فرصة البقاء.