انتقل إلى المحتوى

مطفأة هي النوافذ الكثار

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مطفأة هي النوافذ الكثار

​مطفأة هي النوافذ الكثار​ المؤلف بدر شاكر السياب


مطفأة هي النوافذ الكثار

و باب جدّي موصد و بيته انتظار

و أطرق الباب فمن يجيب يفتح؟

تجيبني الطفولة الشباب منذ صار

تجيبني الجرار جف ماؤها فليس تنضح

بويب غير أنها تذرذر الغبار

مطفأة هي الشموس فيه و النجوم

الحقب الثلاث منذ أن خفقت للحياة

في بيت جدي ازدحمن فيه كالغيوم

تختصر البحار في خدودهن و المياه

فنحن لا نلم بالردى من القبور

فأوجه العجائز

أفصح في الحديث عن مناجل العصور

من القبور فيه و الجنائز

و حين تقفز البيوت من بناتها

و ساكنيها من أغانيها و من شكاتها

نحس كيف يسحق الزمان إذ يدور

أأشتهيك يا حجارة الجدار يا بلاط يا حديد يا طلاء

أأشتهي التقاءكن مثلما انتهى إلي فيه؟

أم الصّبا صباي و الطفولة اللعوب و الهناء

وهل بكيت أن تضعضع البناء

و أقفر الفناء أم بكيت ساكنيه؟

أم أنني رأيت في خرابك الفناء

محدقا إليّ منك من دمي

مكشرا من الحجار؟ آه أيّ برعم

يربّ فيك؟ برعم الردى غدا أموت

و لن يظل من قواي ما يظل من خرائب البيوت

لا أنشق الضياء لا أعضعض الهواء

لا أعصر النهار أو يمصّني المساء

كأنّ مقلتي بل كأنني انبعثت (أورفيوس)

تمصّه الخرائب الهوى إلى الجحيم

فيلتقي بمقلتيه، يلتقي بها بيورديس

آه يا عروس

يا توأم الشباب يا زنبقة النعيم

طريقة ابتناه بالحنين و الغناء

براعم الخلود فتحت له مغالق الفناء

و بالغناء يا صباي يا عظام يا رميم

كسوتك الرواء و الضياء

طفولتي صباي أين أين كلّ ذاك؟

أين حياة لا يحد من طريقها الطويل سور

كشر عن بوّابة كأعين الشباك

تفضي إلى القبور

و الكون بالحياة ينبض: المياه و الصخور

وذرة الغبار و النمال و الحديد

و كل لحن كل موسم جديد

الحرث و البذار و الزهور

وكل ضاحك فمن فؤاده و كل ناطق فمن فؤاده

وكل نائح فمن فؤاده و الأرض لا تدور

و الشمس إذ تغيب تستريح كالصغير في رقاده

و المرء لا يموت إن لم يفترسه في الظلام ذيب

أو يختطفه مارد و المرء لا يشيب

(فهكذا الشيوخ منذ يولدون

الشعر الأبيض و العصي و الذوقون)

و في ليالي الصيف حين ينعس القمر

و تذبل النجوم في أوائل السحر

أفيق أجمع الندى من الشجر

في قدح ليقتل السعال و الهزال

و في المساء كنت أستحمّ بالنجوم

عيناي تلقطانهن نجمة فنجمة وراكب الهلال

سفينة كأن سندباد في ارتحال

شراعي الغيوم

و مرفأي المحال

و أبصر الله على هيئة نخلة كتاج نخلة يبيضّ

في الظلام

أحسه يقول: يا بني يا غلام

و هبتك الحياة و الحنان و النجوم

وهبتها لمقلتيك و المطر

للقدمين الغضتين فاشرب الحياة

وعبّها يحبّك الإله

أهكذا السنون تذهب

أهكذا الحياة تنضب؟

أحس أنني أذوب أتعب

أموت كالشجر.