مصطلح التاريخ (الطبعة الثالثة)/الباب السادس: العدالة والضبط
وهنالك نقد داخلي سلبي، يكشف الستار عن مآرب المؤلف وأهوائه ودرجة تدقيقه في الرواية، فيظهر لنا مقدار ما عنده من العدالة والضبط أو ما ينقصه منهما. والمؤرخ العربي في أشد الحاجة إلى مثل هذا النوع من النقد. ولا سيما وأنه لا يزال في العالم العربي من يقول قول فنلون2 الإفرنسي ويحذو حذوه:
على ما عرف من جمهور علماء الحديث وعلى ما أنتجه قرائح رجال الغرب في القرنين الأخيرين في هذا السبيل، حتى كاد بعضهم يحشر مسألة معالجة التاريخ من بعض نواحيه بين العلوم الثابتة. ولكن صاحبنا شاعر والشعراء يتبعهم الغاوون.
ومن الغريب أن ما أورده شاعرنا، في سبيل الهزء والسخرية، في البيت الثاني، إنما هو قاعدة من القواعد التي يرتكز عليها علم التأريخ. وقد قال علماء التاريخ شك المؤرخ رائد حكمته وقالوا الأصل في التأريخ الاتهام لا براءة الذمة.
ودليلهم في هذا مستمد من علم النفس، حيث يتهم رجاله حواس الإنسان وأحكامه العقلية وذاكرته ويذهبون إلى أنه كثيراً ما يُخدع فيخدع. ونظرة إلى ما يقوم به المشعوذون على المسارح لتضليل الجماهير تكفي لإقناع القارئ بما أقول. وخذ إذا شئت حصاة صغيرة وضعها في كفك. ثم ضع وسطى أصابع يدك الأخرى فوق السبابة وتناولها بها تشعر بأنها اثنتان. وما يصدق على اللمس يصح على الحواس الأخرى أحياناً.
وقد تنقل الحواس الخبر اليقين إلى الدماغ. ولكن العقل يسيء التفسير فيخطئ فهمها وتعليلها. ويضل في وهمه. ومما نذكر من هذا القبيل، أننا في أثناء التلمذة، جلسنا مرة نصغي إلى أستاذنا يلقي محاضرة علينا في هذه الناحية من علم النفس. وفي أثناء الكلام سمعنا ضجة قوية خارج الغرفة. ثم دخل فجأة علينا رجل مذعور ووراءه اثنان يلحقان به وأحدهما يقول له قف قف وإلا قتلتك. وبيده مسدس صوّبه إليه. فهرب الرجل الأول من باب آخر. وتبعه الرجلان الآخران. فقال لنا أستاذنا اكتبوا ما شاهدتهم من هذه الواقعة. فكتبنا ما ورد في أعلاه. وبعد أن اطلع على شهادتنا في الأمر ضحك. ثم استدعى صاحب المسدس وسأله أن يرينا مسدسه. ولشد ما كانت دهشتنا حين علمنا أن مسدسه لم يكن سوى ثمرة جافة من أثمار الموز. أرأيتم إلى أي حد يخدع العقل أحياناً في استناده إلى حواس؟
هذا واذكروا أن الإنسان عرضة للنسيان. فقد تخونه الذاكرة أو يخلط بين حادثين. فيضيف وقائع حدثت أو وقعت في الواحد وينسبها إلى الآخر. وإذن فعلم النفس، في هذا الباب، يفرض أن نحتاط فلا نخدع. وإذا ما ذكرنا في الوقت نفسه أن الراوي يقول أحياناً فيما لا يفهم، وأنه قد يقصد التحريض وإيقاد نار الفتنة، وقد يتعمد الكذب لغاية في النفس، إذا ما ذكرنا جميع هذه الأمور، قلنا مع علماء التاريخ، شك المؤرخ رائد حكمته.
وينحصر شك المؤرخ في سلسلتين أساسيتين من الأسئلة التي لا بد من الإجابة عنها لإخراج الحقائق التاريخية من سترة الريب إلى صحن اليقين. والسلسلة الأولى تتعلق برأي الراوي في حقيقة ما يروي لأنه قد يموه الباطل ويزين الخطأ. فيترتب على المؤرخ، والحالة هذه، أن يتساءل عن أمور عدة منها ما يأتي:
- ١) هل لراوي الرواية مصلحة فيما يروي؟ وهل هو يزين لنا الأمر ويحسنه فيتعمد الكذب ليسوقنا إلى استنتاج معين؟ فإذا ما خامرنا في كلامه شك، وخالجنا فيه ظن، تحرينا غرضه فيما يكتب. ومثل هذا يكثر في المخابرات السياسية الرسمية، ولا سيما فيما تنشره الحكومات عن بعض المشاكل فورَ ظهورها. فقد تصدق الوزارات فيما تنشر ولكنها لا تنشر كل الحقيقة. وليس على المؤرخ المستجد إلا أن يطلع على بعض ما نشره الأستاذ هارولد تمبرلي، من أبحاثه في تاريخ أوروبة المعاصر ليتأكد من صحة ما نقول. وعليه أيضاً أن يتعهد بنظره الرواة الذين ينتمون إلى فئة معينة من الناس، أو يدينون بمذهب من المذاهب، أو يقولون قول حزب من الأحزاب، لعلهم يموهون أو ينمقون أو يكذبون.
- ٢) هل خضع الراوي لظروف قاهرة أكرهته على التلفيق والنطق بالبطل؟ ومثل هذا يقع أحياناً في بعض المعاملات الرسمية، كأن تتطلب بعض الظروف الحكومية القانونية شروطاً لا تتوفر أحياناً بتمام دقائقها وحذافيرها. فيضطر منظم الضبط أن يقول باكتمالها في حين أنها لم تكتمل. فمن خطأ في تاريخ الاجتماع إلى تأخير في الساعة المعينة للجلسة إلى نقص في عدد الحاضرين وهلم جراً. وعلى الرغم من هذا ترى العامة والخاصة أحياناً تعزو الصدق إلى وثيقة من الوثائق الحكومية الرسمية لمجرد كونها رسمية. وإذن فيجدر بالمؤرخ المدقق أن يتردد في صحة هذا النوع من الوثائق الرسمية أن ينجلي الشك ويشرق نور اليقين.
- ٣) هل شايع الراوي، أو قاوم، فئة معينة من الناس حتى اضطر، عن قصد أو غير قصد، أن ينظر بعين الرضى إلى الفئة التي انتمى إليها فيناصرها على الأخرى؟ وهو أمرٌ قديم العهد في مهنة التاريخ أشار إليه المؤرخون القدماء وعبروا عنه بالعبارتين اللاتينيتين: odium in longum jacens, studium immane loquendi ومعنى الأولى «رغبة في الكلام لا تعرف الشبع» والثانية «بغض مزمن» نقول عبر المؤرخون القدماء عن هذا الأمر بهاتين العبارتين وتبرأوا من الأخذ بهما منذ مئات السنين فيجدر بالمؤرخ المدقق أن يتبصر في الأمر من هذه الناحية ويدرس الراوي من حيث علاقاته القومية والحزبية والمذهبية والفلسفية وما شاكل ذلك.
- ٤) وهل اندفع الراوي بشيء من الغرور والكبرياء لينطق بالباطل ويحيد عن الحق؟ وهل أقدم على ما يروي بداعي المفاخرة أو المفاضلة أو المنافسة أو ما شابه ذلك؟ لا بد من تفحُّص أخبار الراوي من هذه الناحية أيضًا قبل الاعتماد على روايته. وليذكر المؤرخ المستجد أن دوافع الغرور والكبرياء تختلف باختلاف الزمان والمكان، وأن بعض الناس قد يفاخر بما لا يفاخر به البعض الآخر. فالإفرنسيون اليوم ينكرون على أسلافهم قيامهم بمجزرة برثولوميو والملك الإفرنسي شارل التاسع زمنئذ كان يتبجَّح ويتباهى بأنه هو الذي نظم هذه المذابح. بيد أنه لا بد من الاعتراف أيضاً بنوع من التشرف والتبذخ والاعتزاز لم يختلف على مدى العصور والأدهار هو حب الجاه والظهور بمظهر المقدرة والنفوذ والعظمة. فيجدر بنا والحالة هذه أن نصر على اتهام الراوي بمثل ما تقدَّم إلى أن نتيقن من براءَة ذمته.
- ٥) وهل حاول الراوي أن يتودَّد إلى جمهور الناس أو أن يتملقهم أو يداريهم؟ فهنالك عقائد دينية وعادات اجتماعية وأمور أخرى قلما يجرؤ على مخالفتها أو إهمالها فرد من الأفراد. وهذه مراسلاتنا الشخصية فإنها قد تتضمن الشيء الكثير من عبارات التودد والإخلاص والمحبة لمجرد المجاملة والانقياد للعرف. وقد لا نجد، حتى بين أفراد العامة، من ينكر علينا هذا الأمر ولكننا ننسى أو نتناسى هذه الحقيقة الناصعة عندما نرجع إلى بعض الأصول لتأييد رأي من الآراء. فنقول مثلاً بتواضع المقامات الإكليريكية العالية، في العصور الوسطى، لأنهم لدى انتخابهم لتبوء عرش من العروش الكنيسية، امتنعوا عن القبول بداعي العجز والتقصير وعدم الاستحقاق. نقول هذا القول وننسى في الوقت نفسه أن العادة والعرف في العصور الوسطى قضيا بمثل هذا التواضع. وإذاً فلا بد من التردد والتبصر مرة أخرى قبل الاعتماد على رواية الراوي في مثل هذه الظروف. فقد يكون مخلصاً فيما يقول ويفعل وقد لا يكون. وعلى كل فإنه يحسن بالمؤرخ المدقِّق أن يتعرف إلى الراوي ليتأكد من الجمهور الذي يخاطب. ويجدر به أن ينعم النظر في أحوال الجمهور المخاطب ليقف على عرفهم وعوائدهم.
- ٦) ومما يترقبه المؤرخ المدقق ولا يغفله طرفة عين الأسلوب الأدبي في الرواية. وذلك لأن الأدب فن وكفن لا يتطلب صاحبه فيه الحقيقة كما هي بل كما يريدها أن تكون. ولذا فإن الأديب يتعمد مداعبة الألفاظ والتراكيب للتأثير في النفس. وقد يتطلب ذوقه الفني ما لا يتفق مع الحقيقة. فمن زيادة بسيطة هنا إلى تقديم أو تأخير هناك وما إلى ذلك من أساليب الفن مما يزعج المؤرخ العالم ويدفعه للتيقظ. فيتعقب خطوات الراوي الأديب ويراقب حركاته وسكناته. ثم يسعى ما أمكنه للتعرف إلى أدب العصر الذي عاش فيه الراوي. فيطلع على بدائعه وروائعه لعلَّه يقف على المُثل العليا التي أثرت في أُسلوب الراوي. فيسهل عليه عندئذٍ أن يتفهم الرواية ويقدرها حق قدرها.
ولا نرى بداً في هذه المناسبة من مصارحة المؤرخ المستجد بأن شكنا في عدل الراوي يتناسب أحياناً كثيرة مع تفوقه في الإبداع الفني الأدبي. فكلَّما ازداد الراوي إبداعاً في أسلوبه الأدبي ازددنا شكاً في عدله وقل اطمئنانا إليه. وما يصح عن النثر في هذا الباب أحياناً ينطبق كل الانطباق على الشعر في غالب الأحيان.
وهنالك سلسلة ثانية من الأسئلة العلمية يتذرع بها المؤرخ للتوصل إلى فهم الراوي وإدراك مقدار ضبطه. وهي كالسلسلة الأولى مما أجمع عليه المؤرخون المعاصرون وأبدع في عرضه والتعبير عنه المؤرخ الإفرنسي الشهير الأستاذ شارل لانجلوا. وإليك أَهمها:
- ١) هل كان الراوي يتمتع بحواس سليمة وعقل صحيح؟ أم كان عرضة للخطأ من هذا القبيل كما أَبنا ذلك في القسم الأول من هذا الباب؟ فقد يشاهد الراوي ما يروي وينوي الصدق والإخلاص ولكن حواسه تخطئ في نقل الخبر إليه، أو عقله يتوهم غير الواقع، أو ذاكرته تخونه من حيث لا يدري.
- ومما له علاقة بالموضوع نفسه أهواء الراوي وأغراضه. فإنها قد تؤثر عليه من حيث لا يقصد. فيظن أنه يروي الحقيقة ويكون بعيداً عنها. فيتذرع المؤرخ عندئذٍ ببعض الأسئلة التي أوردناها لإظهار العدالة. ويتمكن بها أحياناً كثيرة من اكتشاف أهواء الراوي وأغراضه.
- بيد أنه لا بد من الإشارة بهذه المناسبة إلى طريقة السؤال والجواب في نقل بعض المعلومات التاريخية. فقد يستدعي شكل السؤال شكلاً خصوصياً للجواب مما يؤدي أحياناً إلى الضلال والتضليل. ولا سيما وان السائل في بعض الأحيان يجهل ما يسأل عنه فيبتعد كل البعد عن الحقيقة التي ينشد.
- ٢) هل تمتع الراوي بجميع شروط المشاهدة العلمية؟ وهي ما يلي: أولاً أن يكون الراوي في مكان يتمكن فيه من مشاهدة الحوادث مشاهدة صحيحة. وثانياً أن يكون الراوي في أثناء المشاهدات بعيداً عن الغرض. وثالثاً أن يدون ما شاهده في أثناء وقوع الحوادث المروية. ورابعاً أن يوضح بجلاء تام طريقته في المشاهدة والتدوين. فقد يشاهد الراوي ما يروي ولكنه يكون في مكان أو ظرف لم يتمكن فيه من التدقيق في النظر والسمع. وقد يشاهد ما يروي وينقصه الاستعداد الفني لفهمه. وقد يشاهد أيضاً ولكنه يتأخَّر في التدوين فتخونه الذاكرة وتؤثر عليه ظروف مستجدة فلا ينقل إلينا الخبر اليقين. وإذاً «فالذكريات» التي لا تدوّن عادة إلا بعد مرور الزمن هي في عرفنا من أضعف الروايات.
- ٣) وهناك حقائق كان بإمكان الراوي أن يشاهدها ويفهمها لو كلف نفسه مؤونة البحث عنها. فقد يروي لنا تفاصيل لم يشاهدها. ولكنه تكاسلاً أو إهمالًا منه تخيلها أو استنتجها دون أن يتحققها بنفسه. ومثال ذلك يروي أحياناً عن تفاصيل حفلة دعي إليها الراوي ولكنه لسبب ما لم يحضرها. فاكتفى بوقائع الحفلة وتخيَّل أو استنتج الباقي.
- ٤) وهل روى الراوي ما لا تكتمل معرفته بمجرد المشاهدة الشخصية؟ فقد تتعلق روايته بحقيقة عامة تشمل عدداً كبيراً من النفوس أو بلاداً واسعة من البلدان مما لا يتيسر لفرد واحد من الناس أن يدقق فيها وينقل إلينا الخبر اليقين عنها. فمن كلام إجمالي عن عادات قوم من الأقوام، إلى تعميم عن تطور عقيدة أو رأي في عصر من العصور، وما إلى ذلك من الإجمال في الكلام والتعميم في المعنى، مما يستلفت النظر ويوجب التبصر. فيترتب على المؤرخ في هذه الأحوال أن يذكر أن مثل هذا التعميم إنما هو استنتاج في أساسه لا مشاهدة، فينظر عندئذٍ في عدد الحقائق المفردة التي بنى الراوي استنتاجه عليها، ويلتفت بصورة خاصة إلى مقدرة الراوي في الاستنتاج. ولا بد من درس الراوي في جميع مؤلفاته للتعرف إلى عاداته في التفكير والاستنتاج. وإذا ما ذكرنا بهذه المناسبة أن العقل البشري يتأثَّر بالعادة في التفكير أدركنا إمكانية التوصل إلى نقد الراوي من هذه الناحية وتقدير تدقيقه في التفكير والاستنتاج.
ونريد قبل الفراغ من بحث هذه المسألة أن نلاحظ أمراً هو من الأهمية بمكان. ذلك أن أمر العدالة والضبط عند الراوي الواحد ليس جامعاً مانعاً كما يقول المناطقة. فلا يجوز مثلاً أن نثبت عدالة الطبري وضبطه ثم نأخذ بجميع أقواله. إذ قد يجوز أن يكون عادلاً ضابطاً في بعض ما يقول، ويكون على عكس ذلك في بعض أقواله الأخرى، وإذن فيجب على المؤرخ المدقق أن ينظر في كل خبر من أخبار الراوي على حدة فيطبق ما ورد من الأسئلة في أعلاه مراراً متعددة.
وقد تضطرنا الظروف أحياناً إلى الاعتماد على المصادر الثانوية. وذلك لأسباب منها ضياع الأصول أو المصادر الأولية، ومنها أن ما نسميه أصلاً قد لا يخلو أحياناً من الاعتماد على سابق له، فتصبح الرواية فيه مزيجاً من شهادة أولية وشهادة ثانوية مأخوذة عن الغير. ومما نذكر من هذا القبيل أنه لما زار الجنرال اللنبي جامعة بيروت الأميركية عام ١٩١٩ أتى بمعيته أركان حربه. وبعد أن رحب به الدكتور هورد بلس رئيس الجامعة آنئذٍ قام الجنرال ليتكلم. واتخذ موضوعاً له موقعة طول كرم الشهيرة. وما كاد يتبسط في أخبار هذه الموقعة، التي خاض غمارها بصفته قائداً عاماً للقوات البريطانية، حتى أخذ يستعين بأركان حربه الجالسين معه على المنبر، فيقول للجنرال بولفين ألم تفعل كذا في الساحل؟ ويقول لغيره أليس كذلك؟ فانظروا إلى رجل، كان على رأس جيش فاتح، يحمل أكبر مسؤولية في ساحة القتال، وهو أولى من تؤخذ عنه أخبار فتوحاته، ولكنه على ذاك يعتمد على من كان يوجه إليهم الأوامر في تفاصيل روايته. وإذاً فرواية الجنرال اللنبي عن موقعة طول كرم هي مزيج من مشاهداته الشخصية ومشاهدات ثانوية أخذها عن أركان حربه.
وهنا يجب على المؤرخ أن يوجه التفاته إلى الشاهد الذي أخذ عنه الخبر. فإذا كان هذا قد شاهد بعينه فشهادته أولية. وإلا فمن الواجب أن نتأثر الرواة الذين تسلسل عنهم هذا الخبر حتى نصل إلى الشاهد العيان. وعندئذٍ نطبق ما مرَّ بنا من الأسئلة للتثبت من العدالة والضبط. وهو أمر وعر المسلك لبعدنا في غالب الأحيان عن زمن الوقائع المروية، فنصبح تجاه أمر واقع وهو النظر في شهادة ليس لها راوٍ معروف. وشهادة مثل هذه هي في عرفنا قليلة القيمة. ولو تقيد المؤرِّخون بهذه القاعدة لوفروا على الخَلَف كثيراً من العناء. ولكفوا أنفسهم مؤونة سرد أخبار لا طائل تحتها. ولعل كثيراً من التاريخ لو غربل بهذا الغربال لما زاده عن عشره.
ومما يذكر مع مزيد الإعجاب والتقدير ما توصل إليه علماء الحديث منذ مئات السنين في هذا الباب وإليك بعض ما جاء في مصنفاتهم نورده بحروفه وحذافيره تنويهاً بتدقيقهم العلمي واعترافاً بفضلهم على التأريخ.
قال الإمام مالك بن أنس (١٧٩هـ): «لا يؤخذ العلم من أربعة ويؤخذ ممن سوى ذلك — لا يؤخذ من سفيه ولا يؤخذ من صاحب هوى يدعو الناس إلى هواه ولا من كذاب يكذب في أحاديث الناس وإن كان لا يتهم على أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا من شيخ له فضل وصلاح وعبادة إذا كان لا يعرف ما يحدث به. وقال إسحق بن محمد الغروي سئل مالك أيؤخذ العلم ممن ليس له طلب ولا مجالسة فقال لا فقيل أيؤخذ ممن هو صحيح ثقة غير أنه لا يحفظ ولا يفهم ما يحدث به فقال لا يكتب العلم إلا عمن يحفظ ويكون قد طلب وجالس الناس وعمل ويكون معه ورع. وقال إسماعيل بن أبي أويس وعرف سمعت خالي مالكاً يقول إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم. لقد أدركت سبعين ممن يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند هذه الأساطين فما أخذت عنهم شيئاً وإن أحدهم لو اؤتمن على بيت مال لكان به أميناً لأنهم لم يكونوا من أهل هذا الشأن وقدم علينا ابن شهاب فكنا نزدحم عند بابه. وقال شعبة بن الحجاج كان مالك أحد المميزين ولقد سمعته يقول ليس كل الناس يكتب عنهم وإن كان لهم فضل في أنفسهم إنما هي أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تؤخذ إلا من أهلها. وقال ابن كنانة قال مالك من جعل التمييز رأس ماله عدم الخسران وكان على زيادة».3 وقال الإمام أبو الحسين مسلم4 (٢٦١هـ.): «واعلم وفقك الله تعالى أن الواجب على كل أحد عرف التمييز بين صحيح الروايات وسقيمها وثقات الناقلين لها من المتهمين أن لا يروي منها إلا ما عرف صحة مخارجه والستارة في ناقليه وأن يتقي منها ما كان منها عن أهل التهم والمعاندين من أهل البدع» وقال أيضاً: «حدثني محمد بن عبدالله بن قهزاد من أهل مرو قال أخبرني علي بن حسين بن واقد قال قال عبدالله بن المبارك قلت لسفيان الثوري أن عباد بن كثير من تعرف حاله وإذا حدث جاء بأمر عظيم فترى أن اقول للناس لا تأخذوا عنه قال سفيان بلى قال عبدالله فكنت إذا كنت في مجلس ذكر فيه عباد أثنيت عليه في دينه وأقول لا تأخذوا عنه. وحدثني محمد ابن أبي عتاب قال حدثني عفان عن محمد بن يحيى بن سعيد القطان عن أبيه قال لم تر الصالحين في شيء أكذب منهم في الحديث. قال مسلم يقول يجري الكذب على لسانهم ولا يتعمدون الكذب. وحدثني حجاج بن الشاعر حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد قال قال أيوب إن لي جاراً ثم ذكر من فضله ولو شهد عندي على تمرتين ما رأيت شهادته جائزة»5
وقال حجّة الإسلام الإمام أبو حامد الغزالي (٥٠٥هـ.): «العدالة في الرواية والشهادة عبارة عن استقامة السيرة في الدين. ويرجع حاصلها إلى هيئة راسخة في النفس تحمل على ملازمة التقوى والمروءة جميعاً حتى تحصل ثقة النفوس بصدقه. فلا ثقة بقول من لا يخاف الله تعالى خوفاً وازعاً عن الكذب. ثم لا خلاف في أنه لا تشترط العصمة من جميع المعاصي. ولا يكفي أيضاً اجتناب الكبائر بل من الصغائر ما يرد به كسرقة بصلة وتطفيف في حبة قصداً. وبالجملة كل ما يدل على ركاكة دينه إلى حد يجترئ على الكذب للأغراض الدنيوية. كيف وقد شرط في العدالة التوقي عن بعض المباحات القادحة في المروءة نحو أكل في الطريق والبول في الشارع وصحبة الأرذال والإفراط في المزاح. والضابط في ذلك فيما جاوز محل الإجماع أن يرد إلى اجتهاد الحاكم. فما دل عنده على جراءته على الكذب رد الشهادة به. وما لا فلا وهذا يختلف بالإضافة إلى المجتهدين وتفصيل ذلك من الفقه لا من الأصول. ورب شخص يعتاد الغيبة ويعلم الحاكم أن ذلك له طبع لا يصبر عنه ولو حمل على شهادة الزور لم يشهد أصلاً فقبوله شهادته بحكم اجتهاده جائز في حقه. ويختلف ذلك بعادات البلاد واختلاف أحوال الناس في استعظام بعض الصغائر دون بعض.»6
ومما له علاقة بهذا الباب، وهو من أجود ما قرأنا، كلام القاضي عياض بن عياض (٥٤٤هـ.) حيث يقول: «الذي ذهب إليه أهل التحقيق من مشايخ الحديث وأئمة الأصوليين والنظار أنه لا يجب أن يحدث المحدث إلا بما حفظه في قلبه أو قيده في كتابه وصانه في خزانته فيكون صونه كصونه فيه في قلبه حتى لا يدخله ريب ولا شك في أنه كما سمعه. وكذلك يأتي لو سمع كتاباً وغاب عنه ثم وجده أو عاره ورجع إليه وحقق أنه بخطه أو الكتاب الذي سمع فيه بنفسه ولم يرتب فيه حرف منه ولا في ضبط كلمة ولا وجد فيه تغيراً. فمتى كان بخلاف هذا أو دخله ريب أو شك لم يجز له الحديث بذلك إذ الكل مجمعون على أنه لا يحدث إلا بما حقق وإذا ارتاب في شيء فقد حدَّث بما لم يحقق أنه من قول النبي صلى الله عليه وسلم، ويخشى أن يكون مغتراً، فيدخل في وعيد من حدث عنه بالكذب وصار حديثه بالظن. والظن أكذب الحديث. وقد هاب السلف الصالح من الصحابة رضوان الله عليهم الحديث بما سمعوه من قلق فيه وحفظوه عنه مخافة تجويز النسيان والوهم والغلط على حفظهم. ولا تأثير في الشرع للتجويزات فكيف بما لا يحقق ويُبنى على الظن وسلامة الظاهر. ولهذا قال مالك رحمه الله فيمن يحدث من الكتاب ولا يحفظ حديثه أخاف أن يزاد في كتبه بالليل. وقد قال مثل هذا جماعة من أئمة الحديث وشدَّدوا في الأخذ»7
وقام في القرن السابع للهجرة الحافظ الفقيه ابن الصلاح الشهرزوري (٦٤٣هـ). ونزل دمشق ودرّس الحديث في المدرسة الأشرفية. فاعتنى بتصانيف الخطيب المفرقة وجمع شتات مقاصدها وضم إليها من غيرها نخب فوائدها، فاجتمع في كتابه ما تفرَّق في غيره. وعكف الناس عليه وساروا بسيره فنظموا أقواله واختصروها واستدركوا عليها واقتصروا وعارضوا وانتصروا8. إلى أن قام في أيامنا العلَّامة الشيخ راغب الطباخ فعني بمصنف ابن الصلاح ونشره نشراً دقيقاً وعمم فائدته9. فرأينا نحن أن نقتطف من هذا المؤلف جميع ما ورد في معرفة من تقبل روايته ومن ترد.
قال ابن الصلاح: «أجمع جماهير أئمة الحديث والفقه على أنه يشترط فيمن يحتج بروايته أن يكون عدلاً ضابطاً لما يرويه. وتفصيله أن يكون مسلماً بالغاً عاقلاً سالماً من أسباب الفسق وخوارم المروءة متيقظاً غير مغفل حافظاً إن حدث من حفظه ضابطاً لكتابه أن حدث من كتابه. وإن كان يحدث بالمعنى اشترط فيه مع ذلك أن يكون عالماً بما يحيل المعاني والله أعلم. ونوضح هذه الجملة بمسائل.
(الأولى) عدالة الراوي تارة تثبت بتنصيص المعدلين على عدالته وتارة تثبت بالاستفاضة. فمن اشتهرت عدالته بين أهل النقل أو نحوهم من أهل العلم وشاع الثناء عليه بالثقة والأمانة استغني فيه بذلك عن بينة شاهدة بعدالته تنصيصاً، وهذا هو الصحيح في مذهب الشافعي وعليه الاعتماد في فن أصول الفقه. وممن ذكر ذلك من أهل الحديث أبو بكر الخطيب الحافظ. ومثل ذلك بمالك وشعبة والسفيائيين والأوزاعي والليث وابن المبارك … ومن جرى مجراهم في نباهة الذكر واستقامة الأمر فلا يسأل عن عدالة هؤلاء وأمثالهم وإنما يسأل عن عدالة من خفي أمره على الطالبين. وتوسع ابن عبد البر الحافظ في هذا فقال كل حامل علم معروف العناية به فهو عدل محمول في أمره أبداً على العدالة حتى يتبين جرحه لقوله صلى الله عليه وسلم يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله. وفيما قاله اتساع غير مرضي والله أعلم
(والثانية) ويعرف كون الراوي ضابطاً بأن نعتبر رواياته بروايات الثقات المعروفين بالضبط والإتقان. فإن وجدنا رواياته موافقة ولو من حيث المعنى لرواياتهم أو موافقة لها في الأغلب والمخالفة نادرة عرفنا حينئذٍ كونه ضابطاً ثبتاً. وإن وجدناه كثير المخالفة لهم عرفنا اختلال ضبطه ولم نحتج بحديثه والله أعلم
(الثالثة) التعديل مقبول من غير ذكر سببه على المذهب الصحيح المشهور لأن أسبابه كثيرة يصعب ذكرها فإن ذلك يحوج المعدل إلى أن يقول لم يفعل كذا لم يرتكب كذا فعل كذا وكذا فيعدد جميع ما يفسق بفعله أو بتركه وذلك شاق جداً. وأما الجرح فإنه لا يقبل إلا مفسراً مبين السبب لأن الناس يختلفون فيما يجرح وما لا يجرح. فيطلق أحدهم الجرح بناءً على أمر اعتقده جرحاً وليس بجرح في نفس الأمر. فلا بدَّ من بيان سببه لينظر فيما هو جرح أم لا. وهذا ظاهر مقرر في الفقه وأصوله. وذكر الخطيب الحافظ أنه مذهب الأئمة من حفاظ الحديث ونقاده مثل البخاري ومسلم وغيرهما. ولذلك احتج البخاري بجماعة سبق من غيره الجرح لهم كعكرمة مولى ابن عباس رضي الله عنهما وكإسماعيل بن أبي أويس وعاصم بن علي وعمرو بن مرزوق وغيرهم. واحتج مسلم بسويد بن سعيد وجماعة اشتهر الطعن فيهم. وهكذا فعل أبو داود السجستاني وذلك دال على أنهم ذهبوا إلى أن الجرح لا يثبت إلا إذا فسر سببه ومذاهب النقاد للرجال غامضة مختلفة. وعقد الخطيب باباً في بعض أخبار من استُفسر في جرحه فذكر ما لا يصح جارحاً. منها عن شعبة أنه قيل له لم تركت حديث فلان فقال رأيته يركض على برذون فتركت حديثه. ومنها عن مسلم بن إبراهيم أنه سئل عن حديث الصالح المري. فقال ما يصنع بصالح ذكروه يوماً عند حماد بن سلمة فامتخط حماد والله أعلم. قلت ولقائل أن يقول إنما يعتمد الناس في جرح الرواة ورد حديثهم على الكتب التي صنفها أئمة الحديث في الجرح أو في الجرح والتعديل. وقل ما يتعرضون فيها لبيان السبب بل يقتصرون على مجرد قولهم فلان ضعيف وفلان ليس بشيء ونحو ذلك أو هذا حديث ضعيف وهذا حديث غير ثابت ونحو ذلك. فاشتراط بيان السبب يفضي إلى تعطيل ذلك وسد باب الجرح في الأغلب الأكثر. وجوابه أن ذلك وإن لم نعتمده في إثبات الجرح والحكم به قد اعتمدناه في أن توقفنا عن قبول حديث من قالوا فيه مثل ذلك بناءً على أن ذلك أوقع عندنا فيهم ريبةً قوية يوجب مثلها التوقف. ثم من انزاحت عنه الريبة فلم يبحث عن حاله أوجب الثقة بعدالته قبلنا حديثه ولم نتوقف كالذين احتج بهم صاحبا الصحيحين وغيرهما ممن مسهم مثل هذا الجرح من غيرهم. فافهم ذلك فإنه مخلص حسن والله أعلم
(الرابعة) اختلفوا في أنه هل يثبت الجرح والتعديل بقول واحد أو لا بد من اثنين. فمنهم من قال لا يثبت ذلك إلا باثنين كما في الجرح والتعديل في الشهادات. ومنهم من قال وهو الصحيح الذي اختاره الحافظ أبو بكر الخطيب وغيره أنه يثبت بواحد لأن العدد لم يشترط في قبول الخبر فلم يشترط في جرح رواية وتعديله بخلاف الشهادات والله أعلم (الخامسة) إذا اجتمع في شخص جرح وتعديل فالجرح مقدم لأن المعدل يخبر عما ظهر من حاله والجارح يخبر عن باطن خفي على المعدل. فإن كان عدد المعدلين أكثر فقد قيل التعديل أولى. والصحيح الذي عليه الجمهور أن الجرح أولى لما ذكرناه والله أعلم.
(السادسة) لا يجزئ التعديل على الإبهام من غير تسمية المعدل. فإذا قال حدثني الثقة أو نحو ذلك مقتصراً عليه لم يكتف به فيما ذكره الخطيب الحافظ والصيرفي الفقيه وغيرهما خلافاً لمن اكتفى بذلك. وذلك لأنه قد يكون ثقة عنده وغيره قد اطلع على جرحه بما هو جارح عنده أو بالإجماع فيحتاج إلى أن يسميه حتى يعرف.
(السابعة) إذا روى العدل عن رجل وسماه لم يجعل روايته عنه تعديلاً منه له عند أكثر العلماء من أهل الحديث وغيرهم وقال بعض أهل الحديث وبعض أصحاب الشافعي يجعل ذلك تعديلاً منه له لأنه يتضمن التعديل. والصحيح هو الأول لأنه يجوز أن يروي عن غير عدل فلم يتضمن روايته عنه تعديله.
(الثامنة) في رواية المجهول. وهو في غرضنا ههنا أقسام. أحدها المجهول العدالة من حيث الظاهر والباطن جميعاً وروايته غير مقبولة عند الجماهير على ما نبهنا عليه أولاً. والثاني المجهول الذي جهلت عدالته الباطنة. وهو عدل في الظاهر وهو المستور. فقد قال بعض أئمتنا المستور من يكون عدلاً في الظاهر ولا نعرف عدالة باطنة. فهذا المجهول يحتج بروايته بعض من رد رواية الأول وهو قول بعض الشافعيين وبه قطع منهم الإمام سليم بن أيوب الرازي. قال لأن أمر الإخبار مبني على حسن الظن بالراوي ولأن رواية الأخبار تكون عند من يتعذر عليه معرفة العدالة في الباطن فاقتصر فيها على معرفة ذلك في الظاهر. وتفارق الشهادة فإنها تكون عند الحكام ولا يعتذر عليهم ذلك. فاعتبر فيها العدالة في الظاهر والباطن. قلت ويشبه أن يكون العمل على هذا الرأي في كثير من كتب الحديث المشهورة في غير واحد من الرواة الذين تقادم العهد بهم وتعذرت الخبرة الباطنة بهم والله أعلم. والثالث المجهول العين. وقد يقبل رواية المجهول العدالة من لا يقبل رواية المجهول العين ومن روى عنه عدلان وعيناه فقد ارتفعت عنه هذه الجهالة. ذكر أبو بكر الخطيب البغدادي في أجوبة مسائل سئل عنها أن المجهول عند أصحاب الحديث هو كل من لم تعرفه العلماء ومن لم يعرف حديثه إلا من جهة راوٍ واحدٍ وقل ما يرتفع به الجهالة أن يروي عن الرجل اثنان من المشهورين بالعلم إلا أنه لا يثبت له حكم العدالة بروايتهما عنه. قلت قد خرج البخاري في صحيحه حديث جماعة ليس لهم غير راوٍ واحد منهم مرداس الأسلمي لم يرو عنه غير قيس بن أبي حازم وكذلك خرج مسلم حديث قوم لا راوٍ لهم غير واحد. منهم ربيعة بن كعب الأسلمي لم يرو عنه غير أبي سلمة بن عبد الرحمن وذلك منهما مصير إلى أن الراوي قد يخرج من كونه مجهولاً مردوداً برواية واحد عنه. والخلاف في ذلك متجه في التعديل نحو اتجاه الخلاف المعروف في الاكتفاء بواحد في التعديل على ما قدمناه والله أعلم
(التاسعة) اختلفوا في قبول رواية المبتدع الذي لا يكفر في بدعته. فمنهم من رد روايته مطلقاً لأنه فاسق ببدعته. وكما استوى في الكفر المتأول وغير المتأول يستوي في الفسق المتأول وغير المتأول. ومنهم من قبل رواية المبتدع إذا لم يكن ممن يستحل الكذب في نصرة مذهبه أو لأهل مذهبه سواء كان داعية إلى بدعته أو لم يكن. وعزا بعضهم هذا إلى الشافعي لقوله أقبل شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية من الرافضة لأنهم يرون الشهادة بالزور لموافقيهم. وقال قوم تقبل روايته إذا لم يكن داعية ولا تقبل إذا كان داعية إلى بدعته وهذا مذهب الكثير أو الأكثر من العلماء. وحكى بعض أصحاب الشافعي رضي الله عنه خلافاً بين أصحابه في قبول رواية المبتدع إذا لم يدع إلى بدعته. وقال أما إذا كان داعية فلا خلاف بينهم في عدم قبول روايته. وقال أبو حاتم بن حيان البستي أحد المصنفين من أئمة الحديث الداعية إلى البدع لا يجوز الاحتجاج به عند أئمتنا قاطبة لا أعلم بينهم فيه خلافاً. وهذا المذهب الثالث أعدلها وأولاها. والأول بعيد مباعد للشائع عن أئمة الحديث. فإن كتبهم طافحة بالرواية عن المبتدعة غير الدعاة. وفي الصحيحين كثير من أحاديثهم في الشواهد والأصول والله أعلم
(العاشرة) التائب من الكذب في حديث الناس وغيره من أسباب الفسق تقبل روايته إلا التائب من الكذب متعمداً في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لا تقبل روايته أبداً وإن حسنت توبته على ما ذكر غير واحد من أهل العلم. منهم أحمد بن حنبل وأبو بكر الحميدي شيخ البخاري. وأطلق الإمام أبو بكر الصيرفي الشافعي فيما وجدت له في شرحه لرسالة الشافعي فقال كل من أسقطنا خبره من أهل النقل بكذب وجدناه عليه لم نَعُد لقبوله بتوبة تظهر. ومن ضعفنا نقله لم نجعله قوياً بعد ذلك وذكر أن ذلك مما افترقت فيه الرواية والشهادة. وذكر الإمام أبو المظفر السمعاني المروزي أن من كذب في خبر واحد وجب إسقاط ما تقدم من حديثه. وهذا يضاهي من حيث المعنى ما ذكره الصيرفي والله أعلم.
(الحادية عشرة) إذا روى ثقة عن ثقة حديثاً ورجع المروي عنه فنفاه فالمختار أنه إن كان جازماً بنفيه بأن قال ما رويته أو كذب علي أو نحو ذلك فقد تعارض الجزمان والجاحد هو الأصل. فوجب رد حديث فرعه ذلك. ثم لا يكون ذلك جرحاً له يوجب رد باقي حديثه لأنه مكذب لشيخه أيضاُ في ذلك. وليس قبول جرح شيخه له بأولى من قبول جرحه لشيخه فتساقطا. أما إذا قال المروي عنه لا أعرفه أو لا أذكره أو نحو ذلك. فلذلك لا يوجب رد رواية الراوي عنه. ومن روى حديثاً ثم نسيه لم يكن ذلك مسقطاً للعمل به عند جمهور أهل الحديث وجمهور الفقهاء والمتكلمين خلافاً لقوم من أصحابي أبي حنيفة صاروا إلى إسقاطه بذلك. وبنوا عليه ردهم حديث سليمان بن موسى عن الزهري عن عروة عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا نكحت المرأة بغير إذن وليها فنكاحها باطل) الحديث من أجل ابن جريج قال لقيت الزهري فسألته عن هذا الحديث فلم يعرفه. وكذا حديث ربيعة الرأي عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بشاهد ويمين. فإن عبد العزيز بن محمد الدراوردي قال لقيت سهلاً فسألته عنه فلم يعرفه. والصحيح ما عليه الجمهور. لأن المروي عنه بصدد السهو والنسيان والراوي عنه ثقة جازم فلا يرد بالاحتمال روايته ولهذا كان سهيل بعد ذلك يقول حدثني ربيعة عني عن أبي ويسوق الحديث. وقد روى كثير من الأكابر أحاديث نسوها بعدما حدثوا بها عن من سمعها منهم فكان أحدهم يقول حدثني فلان عني وعن فلان بكذا وكذا. ولأجل أن الإنسان معرض للنسيان كره من كره من العلماء الرواية عن الأحياء، منهم الشافعي رضي الله عنه قال لابن عبد الحكم إياك والرواية عن الأحياء والله أعلم
(الثانية عشرة) من أخذ على التحديث أجراً منع ذلك من قبول روايته عند قوم من أئمة الحديث وروينا عن إسحق بن إبراهيم أنه سئل عن المحدِّث يحدث بالأجر. فقال لا يكتب عنه. وعن أحمد بن حنبل وأبي حاتم الرازي نحو ذلك. وترخص أبو نعيم الفضل بن دكين وعلي بن عبد العزيز المكي وآخرون في أخذ العوض على التحديث وذلك شبيه بأخذ الأجرة على تعليم القرآن ونحوه. غير أن في هذا من حيث العرف خرمًا للمروءة. والظن يساء بفاعله إلا أن يقترن ذلك بعذر ينفي ذلك عنه كمثل ما حدثنيه الشيخ أبو المظفر عن أبيه الحافظ أبي سعيد السمعاني أن أبا الفضل محمد بن ناصر السلامي ذكر أن أبا الحسين بن النقور فعل ذلك لأن الشيخ أبا إسحق الشيرازي أفتاه بجواز أخذ الأجرة على التحديث لأن أصحاب الحديث كانوا يمنعونه عن الكسب لعياله والله أعلم
(الثالثة عشرة) لا تُقبل رواية من عُرِف بالتساهل في سماع الحديث أو إسماعه كمن لا يُبالي بالنوم في مجلس السماع. وكمن يحدث لا من أصل مقابل صحيح. ومن هذا القبيل من عرف بقول التلقين في الحديث. ولا تقبل روايته من كثرة الشواذ والمناكير في حديثه. جاء عن شعبة أنه قال لا يجيئك الحديث الشاذ إلا من الرجل الشاذ. ولا تقبل رواية من عرف بكثرة السهو في روايته إذا لم يحدث من أصل صحيح. وكل هذا يخرم الثقة بالراوي وبضبطه. وورد عن ابن المبارك وأحمد بن حنبل والحميدي وغيرهم أن من غلط في حديث وبين له غلطه فلم يرجع عنه وأصر على رواية ذلك الحديث سقطت روايته ولم يكتب عنه. وفي هذا نظر. وهو غير مستنكر إذا ظهر أن ذلك منه على جهة العناد أو نحو ذلك والله أعلم.
(الرابعة عشرة) أعرض الناس في هذه الأعصار المتأخرة عن اعتبار مجموع ما بينا من الشروط في رواة الحديث ومشايخه فلم يتقيدوا بها في رواياتهم لتعذر الوفاء بذلك على نحو ما تقدم وكان عليه من تقدم. ووجه ذلك ما قدمناه في أول كتابنا هذا من كون المقصود المحافظة على خصيصة هذه الأمة في الأسانيد والمحاذرة من انقطاع سلسلتها. فليعتبر من الشروط المذكورة ما يليق بهذا الغرض على تجرده وليكتف في أهلية الشيخ بكونه مسلماً بالغاً عاقلاً غير متظاهر بالفسق والسخف وفي ضبطه بوجود سماعه مثبتاً بخط غير متهم وبروايته من أصل موافق لأصل شيخه. وقد سبق إلى نحو ما ذكرناه الحافظ الفقيه أبو بكر البيهقي رحمه الله تعالى. فإنه ذكر فيما روينا عنه توسَّع من توسع في السماع من بعض محدثي زمانه الذين لا يحفظون حديثهم ولا يُحسنون قراءته من كتبهم ولا يعرفون ما يُقرأ عليهم بعد أن تكون القراءة عليهم من أصل سماعهم. ووجه ذلك بأن الأحاديث التي قد صحت أو وقعت بين الصحة والسقم قد دونت وكتبت في الجوامع التي جمعها أئمة الحديث. ولا يجوز أن يذهب شيء منها على جميعهم وإن جاز أن يذهب على بعضهم لضمان صاحب الشريعة حفظها. قال البيهقي فمن جاء اليوم بحديث لا يوجد عند جميعهم لم يقبل منه. ومن جاء بحديث معروف عندهم فالذي يرويه لا ينفرد بروايته والحجة قائمة بحديثه برواية غيره. والقصد من روايته والسماع منه أن يصير الحديث مسلسلاً بحدثنا وأخبرنا وتبقى هذه الكرامة التي خصت بها هذه الأمة شرفاً لنبينا المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم والله أعلم
(الخامسة عشرة) في بيان الألفاظ المستعملة من أهل هذا الشأن في الجرح والتعديل وقد رتبها أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي في كتابه في الجرح والتعديل فأجاد وأحسن. ونحن نرتبها كذلك ونورد ما ذكره ونضيف إليه ما بلغنا في ذلك عن غيره إن شاء الله تعالى. أما ألفاظ التعديل فعلى مراتب الأولى قال ابن أبي حاتم إذا قيل للواحد أنه ثقة أو متقن فهو ممن يحتج بحديثه. قلت وكذا إذا قيل ثبت أو حجة وكذا إذا قيل في العدل إنه حافظ أو ضابط والله أعلم. الثانية قال ابن أبي حاتم إذا قيل إنه صدوق أو محله الصدق أو لا بأس به فهو ممن يكتب حديثه وينظر فيه وهي المنزلة الثانية. قلت هذا كما قال لأن هذه العبارات لا تشعر بشريطة الضبط فينظر في حديثه ويختبر حتى يعرف ضبطه وقد تقدَّم بيان طريقه في أول هذا النوع. وإن لم يتسوف النظر المعرف لكون ذلك المحدث في نفسه ضابطاً مطلقاً واحتجنا إلى حديث من حديثه اعتبرنا ذلك الحديث ونظرنا هل له أصل من رواية غيره كما تقدم بيان طريق الاعتبار في النوع الخامس عشر. ومشهور عن عبد الرحمن بن مهدي القدوة في هذا الشأن أنه حدث فقال حدثنا أبو خلدة فقيل له أكان ثقة. فقال كان صدوقاً وكان مأمونًا وكان خيراً. وفي رواية كان خيار الثقة شعبة وسفيان. ثم إن ذلك مخالف لما ورد عن ابن أبي خيثمة. قال قلت ليحيى بن معين إنك تقول فلان ليس به بأس وفلان ضعيف. قال إذا قلت لك ليس به بأس فهو ثقة. وإذا قلت لك هو ضعيف فليس هو بثقة لا تكتب حديثه. قلت ليس في هذا حكاية ذلك من غيره من أهل الحديث فإنه نسبه إلى نفسه خاصة بخلاف ما ذكره ابن أبي حاتم والله أعلم. الثالثة قال ابن أبي حاتم إذا قيل شيخ فهو بالمنزلة الثالثة يكتب حديثه وينظر فيه إلا أنه دون الثانية. الرابعة قال إذا قيل صالح الحديث فإنه يكتب حديثه للاعتبار. قلت وقد جاء عن أبي جعفر أحمد بن سنان قال كان عبد الرحمن بن مهدي ربما جرى ذكر حديث الرجل به ضعف وهو رجل صدوق فيقول رجل صالح الحديث والله أعلم.
وأما ألفاظهم في الجرح فهي أيضاً على مراتب أولاها قولهم لين الحديث. قال ابن أبي حاتم إذا أجابوا في الرجل لين الحديث فهو ممن يكتب حديثه وينظر فيه اعتباراً. قلت وسأل حمزة بن يوسف السهمي أبا الحسن الدارقطني الإمام فقال له إذا قلت فلان لين إيش تريد به قال لا يكون ساقطاً متروك الحديث ولكن مجروحاً بشيء لا يسقط عن العدالة. الثانية قال ابن أبي حاتم إذا قالوا ليس بقوي فهو بمنزلة الأول في كتب حديثه إلا أنه دونه. الثالثة قال إذا قالوا ضعيف الحديث فهو دون الثاني لا يطرح حديثه بل يعتبر به. الرابعة قال إذا قالوا متروك الحديث وذاهب الحديث أو كذاب فهو ساقط الحديث لا يكتب حديثه وهي المنزلة الرابعة.
قال الخطيب أبو بكر أرفع العبارات في أحوال الرواة أن يقال حجة أو ثقة. وأدونها أن يقال كذاب ساقط. أخبرنا أبو بكر بن عبد المنعم الصاعدي الفردي قراءة عليه بنيسابور قال أخبرنا محمد بن إسمعيل الفارسي قال أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي الحافظ أخبر الحسين بن الفضل أخبرنا عبد الله بن جعفر حدثنا يعقوب بن سفيان قال سمعت أحمد بن صالح. قال لا يترك حديث حتى يجتمع الجميع على ترك حديثه. قد يقال فلان ضعيف فإما أن يقال فلان متروك فلا إلا أن يجمع الجميع على ترك حديثه ومما لم يشرحه ابن أبي حاتم وغيره من الألفاظ المستعملة في هذا الباب قولهم فلان قد روى الناس عنه، فلان وسط، فلان مقارب الحديث، فلان مضطرب الحديث، فلان لا يحتج به، فلان مجهول، فلان لا شيء، فلان ليس بذاك. وربما قيل ليس بذاك القوي فلان فيه أو في حديثه ضعف. وهو في الجرح أقل من قولهم فلان ضعيف الحديث. فلان ما أعلم به بأساً وهو في التعديل دون قولهم لا بأس به وما من لفظة منها ومن أشباهها إلا ولها نظير شرحناه أو أصل أصلناه ننبه إن شاء الله به عليها والله أعلم»10
ولم يغفل ابن خلدون عما توصل إليه علماء الحديث في هذا المضمار ولا عن تطبيقه على الروايات التاريخية. فإنه نظر في أمر العدالة والضبط وذكر شيئاً من هذا القبيل في مقدمته الشهيرة ثم ذهب مذهباً خاصاً في تمحيص الأخبار لا ينفصل عن آرائه الفلسفية في الاجتماع والتاريخ. وإليك الآن بعض ما قاله في هذا الموضوع:
«اعلم أنه لما كانت حقيقة التاريخ أنه خبر عن الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال مثل التوحش والتأنس والعصبيات وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض وما ينشأ عن ذلك من الملك والدول ومراتبها وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع وسائر ما يحدث من ذلك العمران بطبيعته من الأحوال.
ولما كان الكذب متطرقاً للخبر بطبيعته وله أسباب تقتضيه. فمنها (١) التشيعات للآراء والمذاهب فإن النفس إذا كانت على حال الاعتدال في قبول الخبر أعطته حقه من التمحيص والنظر حتى تتبين صدقه من كذبه، وإذا خامرها تشيع لرأي أو نحلة قبلت ما يوافقها من الأخبار لأول وهلة، وكان ذلك الميل والتشيع غطاء على عين بصيرتها عن الانتقاد والتحميص، فتقع في قبول الكذب ونقله. (٢) ومن الأسباب المقتضية للكذب في الأخبار أيضاً الثقة بالناقلين. وتمحيص ذلك يرجع إلى التعديل والتجريح. (٣) ومنها الذهول عن المقاصد. فكثير من الناقلين لا يعرف القصد بما عاين أو سمع وينقل الخبر على ما في ظنه وتخمينه فيقع في الكذب. (٤) ومنها توهم الصدق وهو كثير وإنما يجيء في الأكثر من جهة الثقة بالناقلين. (٥) ومنها الجهل بتطبيق الأحوال على الوقائع لأجل ما يداخلها من التلبيس والتصنع فينقلها المخبر كما رآها وهي بالتصنع على غير الحق في نفسه. (٦) ومنها تقرب الناس في الأكثر لأصحاب التجلة والمراتب بالثناء والمدح وتحسين الأحوال وإشاعة الذكر بذلك فيستفيض الأخبار بها على غير حقيقة، فالنفوس مولعة بحب الثناء والناس متطلعون إلى الدنيا وأسبابها من جاه أو ثروة وليسوا في الأكثر براغبين في الفضائل ولا متنافسين في أهلها.
ومن الأسباب المقتضية له أيضاً وهي سابقة على جميع ما تقدم الجهل بطبائع الأحوال في العمران. فإن كل حادث من الحوادث، ذاتاً كان أو فعلاً، لا بد له من طبيعة تخصه في ذاته وفيما يعرض له من أحواله. فإذا كان السامع عارفاً بطبائع الحوادث والأحوال في الوجود ومقتضياتها أعانه ذلك في تمحيص الخبر على تمييز الصدق من الكذب. وهذا أبلغ في التمحيص من كل وجه يعرض وكثيراً ما يعرض للسامعين قبول الأخبار المستحيلة وينقلونها وتؤثر عنهم كما نقله المسعودي عن الإسكندر لما صدَّته دواب البحر عن بناء الإسكندرية وكيف اتخذ صندوق الزجاج وغاص فيه إلى قعر البحر حتى صور تلك الدواب الشيطانية التي رآها وعمل تماثيلها من أجساد معدنية ونصبها حذاء البنيان، ففرت تلك الدواب حين خرجت وعاينتها وتم بناؤها في حكاية طويلة من أحاديث خرافة مستحيلة من قبل اتخاذه التابوت الزجاجي ومصادمة البحر وأمواجه بجرمه ومن قبل أن الملوك لا تحمل أنفسها على مثل هذا الغرور ومن اعتمده منهم فقد عرَّض نفسه للهلكة وانتقاض العقدة واجتماع الناس إلى غيره، وفي ذلك إتلافه ولا ينظرون به رجوعه من غروره ذلك طرفة عين، ومن قبل أن الجن لا يعرف لها صور ولا تماثيل تختص بها إنما هي قادرة على التشكل. وما يذكر من كثرة الرؤوس لها فإنما المراد به البشاعة والتهويل لا أنه حقيقة. وهذه كلها قادحة في تلك الحكاية. والقادح المحيل لها من طريق الوجود أبين من هذا كله وهو أن المنغمس في الماء ولو كان في الصندوق يضيق عليه الهواء للتنفس الطبيعي وتسخن روحه بسرعة لقتله فيفقد صاحبه الهواء البارد المعدل لمزاج الرئة والروح القلبي ويهلك مكانه. وهذا هو السبب في هلاك أهل الحمامات إذا أطبقت عليهم من الهواء البارد، والمتدلين في الآبار والمطافير العميقة المهوى إذا سخن هواؤها بالعفونة ولم تداخلها الرياح فتخلخلها. فإن المتدلي فيها يهلك لحينه. وبهذا السبب يكون موت الحوت إذا فارق البحر. فإن الهواء لا يكفيه في تعديل رئته إذ هو حار بافراط، والماء الذي يعدله بارد والهواء الذي خرج إليه حار فيستولي الحار على روحه الحيواني ويهلك دفعة. ومنه هلاك المصعوقين وأمثال ذلك.
ومن الأخبار المستحيلة ما نقله المسعودي أيضاً في تمثال الزرزور الذي برومة تجتمع إليه الزرازير في يوم معلوم من السنة حاملةً للزيتون ومنه يتخذون زيتهم. وانظر ما أبعد ذلك عن المجرى الطبيعي في اتخاذ الزيت.
ومنها ما نقله البكري في بناء المدينة المسماة ذات الأبواب تحيط بأكثر من ثلاثين مرحلة وتشتمل على عشرة آلاف باب. والمدن إنما اتخذت للتحصن والاعتصام كما يأتي وهذه خرجت عن أن يحاط بها فلا يكون بها حصن ولا معتصم.
وكما نقله المسعودي أيضاً في حديث مدينة النحاس، وأنها مدينة كل بنائها نحاس بصحراء سجلماسة، ظفر بها موسى بن نصير في غزوته إلى المغرب، وأنها مغلقة الأبواب وأن الصاعد إليها من أسوارها إذا أشرف على الحائط صفق ورمى بنفسه فلا يرجع آخر الدهر في حديث مستحيل عادة من خرافات القصاص. وصحراء سجلماسة قد نفضها الركاب والأدلاء ولم يقفوا لهذه المدينة على خبر. ثم إن هذه الأحوال التي ذكروا عنها كلها مستحيل عادة منافٍ للأمور الطبيعية في بناء المدن واختطاطها وأن المعادن غاية الموجود منها أن يصرف في الآتية والخرثى وأما تشييد مدينة منها فكما تراه من الاستحالة والبعد.
وأمثال ذلك كثيرة وتمحيصه إنما هو بمعرفة طبائع العمران وهو أحسن الوجوه وأوثقها في تمحيص الأخبار وتمييز صدقها من كذبها. وهو سابق على التمحيص بتعديل الرواة ولا يرجع إلى تعديل الرواة حتى يعلم أن ذلك الخبر في نفسه ممكن أو ممتنع. وأما إذا كان مستحيلاً فلا فائدة للنظر في التعديل والتجريح. ولقد عد أهل النظر من المطاعن في الخبر استحالة مدلول اللفظ وتأويله بما لا يقبله العقل. وإنما كان التعديل والتجريح هو المعتبر في صحة الأخبار الشرعية لأن معظمها تكاليف إنشائية أوجب الشارع العمل بها حتى حصل الظن بصدقها، وسبيل صحة الظن الثقة بالرواة بالعدالة والضبط. وأما الأخبار عن الواقعات فلا بد في صدقها وصحتها من اعتبار المطابقة. فلذلك وجب أن ينظر في إمكان وقوعه. وصار فيها ذلك أهم من التعديل ومقدمًا عليه إذ فائدة الإنشاء مقتبسة منه فقط وفائدة الخبر منه ومن الخارج بالمطابقة.
وإذا كان ذلك فالقانون في تمييز الحق من الباطل في الأخبار بالإمكان والاستحالة أن ننظر بالاجتماع البشري الذي هو العمران ونميز ما يلحقه من الأحوال لذاته وبمقتضى طبعه وما يكون عارضاً لا يعتد به وما لا يمكن أن يعرض له وإذا فعلنا ذلك كان ذلك لنا قانوناً في تمييز الحق من الباطل في الأخبار والصدق من الكذب بوجه برهاني لا مدخل للشك فيه. وحينئذٍ فإذا سمعنا عن شيء من الأحوال الواقعة في العمران علمنا ما نحكم بقبوله مما نحكم بتزييفه وكان ذلك لنا معياراً صحيحاً يتحرى به المؤرخون طريق الصدق والصواب فيما ينقلونه. وهذا هو غرض هذا الكتاب من تأليفنا»11
وفي كلام ابن خلدون ضعف ظاهر. ومصدر الضعف أن طبائع العمران التي ذكرها في مقدمته شيء أقل ما يقال فيه انه غير مستقر أو راهن. فما يتعلَّق من طبائع العمران بالطبيعة فقد انتظمت ظواهره وثبتت نواميسه ويصح فيه تطبيق نظرية ابن خلدون كما سنبين في فصل آخر. أما ما يتعلق من طبائع العمران بالمجتمع البشري فلسنا نستطيع قبوله. وذلك أن العلماء لم يتمكنوا بعد من تعيين نواميس لعلوم الاجتماع كما فعلوا في العلوم الطبيعية ولو تمكنوا فلن تكون نواميس ثابتة لا تتغير بل تقريبية.
- ↑ عدل يعدل عدالة ضد جار. ورجل عدل أي عادل ورضى ومقنع في الشهادة. وهو في الأصل مصدر وبهذا الاعتبار لا يثنى ولا يجمع. يقال رجل أو امرأة عدل ورجلان أو مرأتان عدل ورجال أو نساء عدل. ويجوز أن يطابق. وضبطه يضبطه ضبطاً حفظه حفظاً بليغاً وقهره وقوي عليه والحكمة وأتقن عمله.
- ↑ François Fenelon ١٦٥١ - ١٧١٥
- ↑ مما اقتطفه الشيخ طاهر الجزائري عن الإمام جلال الدين السيوطي في إسعاف المبطأ برجال الموطأ. راجع كتابه توجيه النظر إلى أصول الأثر، ص ٣٦
- ↑ الجامع الصحيح، ج ١، ص ٦
- ↑ الجامع الصحيح، ج ١، ص ١٣–١٦
- ↑ أبو حامد الغزالي: المستصفى في أصول الفقه (طبع مصر) ج ١ ص ١٠٠ راجع أيضاً ج ٢ من المؤلف نفسه ص ١٠٢-١٠٣
- ↑ عياض بن عياض: كتاب الإلماع إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع ص ٥٦-٥٧
- ↑ ابن حجر العسقلاني: نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر (طبعة مصر سنة ١٣٠٨) ص ٣
- ↑ وكان قد سبقه إلى ذلك العالم المحدث الشيخ عبد الحي الكنوي والسيدان أحمد الجالي وأمين الخانجي.
- ↑ مقدمة ابن الصلاح (طبع حلب) ص ١١٤–١٣٧
- ↑ مقدمة العلامة ابن خلدون (المطبعة الأدبية، بيروت، ١٩٠١) ص ٣٥–٣٨