محلى ابن حزم - المجلد الخامس/الصفحة الرابعة عشر
كتاب الرضاع
1873 - مسألة: ورضاع الكبير محرم ولو أنه شيخ يحرم كما يحرم رضاع الصغير، ولا فرق وهذا مكان اختلف الناس فيه: فطائفة قالت: يحرم من الرضاع في الصغر، ولا يحرم في الكبر، ولم يحدوا حدا في ذلك:
كما روينا من طريق مالك، عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير أن أزواج النبي ﷺ حاش عائشة وحدها كن يرين رضاع سالم مولى أبي حذيفة خاصة له فدل ذلك على أنهن كن يرين: لا يحرم إلا رضاع الصغير، لا رضاع الكبير، دون أن يرد عنهن في ذلك حد.
ومن طريق مالك عن عبد الله بن دينار أنه سمع ابن عمر وقد سأله رجل عن رضاع الكبير فقال له ابن عمر: قال عمر بن الخطاب: إنما الرضاعة رضاعة الصغير.
ومن طريق مالك عن نافع، عن ابن عمر أنه كان يقول: لا رضاعة إلا ما أرضع في الصغر، ولا رضاعة لكبير.
وقالت طائفة: لا يلزم من الرضاع إلا ما كان في المهد:
كما روينا من طريق أبي داود حدثني أحمد بن صالح حدثني عنبسة حدثني يونس، هو ابن يزيد، عن ابن شهاب حدثني عروة بن الزبير أبى أزواج النبي ﷺ أن يدخل عليهن بالرضاعة أحد حتى رضع في المهد.
ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان بن عيينة عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن سعيد بن المسيب قال: لا رضاع إلا ما كان في المهد.
وقالت طائفة: لا يحرم من الرضاع إلا ما كان قبل الفطام، وأما بعد الفطام فلا:
كما روينا من طريق حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب: أن أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها سئلت: هل يحرم الرضاع بعد الفطام قالت: لا رضاع بعد فطام.
ومن طريق عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان الثوري عن أبي حصين عن أبي عطية الوادعي أن رجلا مص من ثدي امرأته فدخل اللبن في حلقه فسأل أبا موسى الأشعري عن ذلك فقال له أبو موسى: حرمت عليك امرأتك، ثم سأل ابن مسعود عن ذلك، قال أبو عطية ونحن عنده: فقام ابن مسعود وقمنا معه حتى أتى أبا موسى الأشعري فقال: أرضيعا ترى هذا إنما الرضاع ما أنبت اللحم والعظم فقال أبو موسى: لا تسألوني عن شيء ما دام هذا الحبر بين أظهركم. فتبين هاهنا أنه إنما يحرم مدة تغذي الرضيع باللبن.
ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن جويبر عن الضحاك عن النزال، هو ابن سبرة عن علي بن أبي طالب قال: لا رضاع بعد الفصال.
ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن عمرو بن دينار عمن سمع من ابن عباس يقول: لا رضاع بعد الفطام.
ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن الحسن، والزهري، وقتادة، قالوا: لا رضاع بعد الفصال قال معمر: وأخبرني من سمع عكرمة يقول ذلك، ويقول: الرضاع بعد الفطام مثل الماء يشربه.
وبه يقول الأوزاعي وقال: إن فطم وله عام واحد واستمر فطامه ثم رضع في الحولين لم يحرم هذا الرضاع الثاني شيئا، وقال: فإن تمادى رضاعه ولم يفطم قبل الحولين، فإنه ما كان في الحولين، فإنه يحرم، وما كان بعدهما، فإنه لا يحرم وإن تمادى الرضاع.
وقالت طائفة: لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء:
كما روينا من طريق سعيد بن منصور أنا سفيان، هو ابن عيينة عن هشام بن عروة عن أبيه عن الحجاج بن الحجاج الأسلمي عن أبي هريرة قال: لا رضاع إلى ما فتق الأمعاء.
وقالت طائفة: لا يحرم من الرضاع إلا ما كان في ثلاثة أعوام،
وأما ما رضع بعد الثلاثة الأعوام فلا يحرم وهذا قول زفر بن الهذيل.
وقالت طائفة: لا يحرم من الرضاع إلى ما كان في عامين وستة أشهر فما كان بعد ذلك فإنه لا يحرم وهو قول أبي حنيفة.
وقالت طائفة: لا يحرم من الرضاع إلا ما كان في عامين وشهرين، فما كان بعد ذلك لم يحرم وهذا قول مالك. وهذه الأقوال الثلاثة: قول أبي حنيفة، وزفر، ومالك: ما نعلم أحدا من أهل العلم قال بشيء منها قبل المذكورين، ولا معهم، إلا من قلدهم اتباعا لهواهم ونعوذ بالله من الفتنة.
وقالت طائفة: لا يحرم من الرضاع إلا ما كان في الحولين، وأما الرضاع بعدهما فلا يحرم:
كما روينا من طريق الحجاج بن المنهال أنا أبو عوانة عن المغيرة بن مقسم عن إبراهيم النخعي، عن ابن مسعود قال: لا رضاع بعد حولين.
ومن طريق أبي عبيد: أنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس قال: لا رضاع إلا في الحولين.
ومن طريق مالك عن إبراهيم بن عقبة أنه سأل سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير عن الرضاعة فقالا جميعا: كل ما كان في الحولين وإن كانت قطرة واحدة فهي تحرم، وما كان بعد الحولين فإنما هو طعام يأكله.
ومن طريق أبي عبيد أنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان الثوري عن أبي إسحاق الشيباني قال: سمعت الشعبي يقول: ما كان من سعوط، أو وجور أو رضاع في الحولين فهو يحرم، وما كان بعد الحولين لم يحرم شيئا.
وهو قول ابن شبرمة، وسفيان الثوري، والشافعي، وأبي يوسف، ومحمد بن الحسن، وأبي سليمان، وأصحابنا. ورواه ابن وهب عن مالك ثم رجع إلى الذي ذكرنا قبل؛ لأنه هو المأثور عنه في موطئه الذي قرئ عليه إلى أن مات.
قال أبو محمد: وقالت طائفة إرضاع الكبير والصغير يحرم كما ذكرنا قبل عن أبي موسى وإن كان قد رجع عنه.
ومن طريق عبد الرزاق، أخبرنا ابن جريج أخبرني عبد الكريم: أن سالم بن أبي الجعد مولى الأشجعي أخبره أن أباه أخبره أنه سأل علي بن أبي طالب فقال: إني أردت أن أتزوج امرأة وقد سقتني من لبنها وأنا كبير تداويت به فقال له علي: لا تنكحها ونهاه عنها.
ومن طريق مالك، عن ابن شهاب أنه سئل عن رضاع الكبير فقال: أخبرني عروة بن الزبير بحديث أمر رسول الله ﷺ سهلة بنت سهيل بأن ترضع سالما مولى أبي حذيفة خمس رضعات وهو كبير ففعلت، فكانت تراه ابنا لها، قال عروة: فأخذت بذلك عائشة أم المؤمنين فيمن كانت تحب أن يدخل عليها من الرجال فكانت تأمر أختها أم كلثوم، وبنات أخيها يرضعن من أحبت أن يدخل عليها من الرجال.
ومن طريق عبد الرزاق، أخبرنا ابن جريج قال: سمعت عطاء بن أبي رباح وسأله رجل فقال: سقتني امرأة من لبنها بعد ما كنت رجلا كبيرا أفأنكحها قال عطاء: لا، قال ابن جريج فقلت له: وذلك رأيك قال: نعم، كانت عائشة تأمر بذلك بنات أخيها
وهو قول الليث بن سعد.
قال أبو محمد: أما قول أبي حنيفة، وزفر، ومالك، فلا خفاء بفسادها، إلا على قول من يقول في النهار: إنه ليل، مكابرة ونصرا للباطل.
ومن عجائب الدنيا قول بعض المفتونين: لما قال الله تعالى: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين} دل ذلك على أن هاهنا حولين ناقصين، وأشار إلى عددها بالشمس.
قال أبو محمد: فجمع هذا القول مخالفة الله عز وجل، ومكابرة الحس: أما مخالفة الله عز وجل فإنه يقول: {إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم}. فنص تعالى على أن عدة الشهور عنده هي التي منها أربعة حرم، وأنه في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض، وأن ذلك هو الدين القيم، ولا يمكن أن تكون الأشهر الحرم إلا في الأشهر العربية القمرية، فمن خالف ذلك فقد خالف الدين القيم، ونسب إلى الله تعالى الكذب من أنه أمر أن يراعى عدد الحولين بالعجمية.
وأما مكابرة العيان فإنه ليس بين الحولين الأعجميين المعدودين بالشمس وقطعهما للفلك وبين الحولين العربيين المعدودين بالقمر إلا اثنان وعشرون يوما، فالزيادة على ذلك إلى تمام شهرين لا ندري من أين أتت، والقطع بالتحريم والتحليل في دين الله عز وجل بمثل هذا لا يحل.
وأما من حد ذلك بما كان في المهد فكلام أيضا لا تقوم بصحته حجة لا من قرآن، ولا من سنة، ولا من إجماع، ولا من قياس، ولا من رواية ضعيفة فسقط هذا القول.
وأما من حد ذلك بما كان في الصغر فإن الصغر يتمادى إلى بلوغ الحلم؛ لأنه قبل ذلك لا تلزمه الحدود، ولا الفرائض وهذا حد لا يوجبه قرآن، ولا سنة.
وأما من حد ذلك بالفطام فإنهم احتجوا بقول الله عز وجل: {فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما}.
قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه في التحريم إذ ليس للتحريم في هذه الآية ذكر، ولا في تراضيهما بالفصال تحريم؛ لان يرتضع الولد بعد ذلك، إنما فيها انقطاع النفقة الواجبة على الأب في الرضاع، وليس بانقطاع حاجة الصبي إلى الرضاع ينقطع التحريم برضاعه إن رضع إذ لم يأت بذلك قرآن، ولا سنة. واحتجوا بخبر رويناه من طريق أحمد بن شعيب أنا قتيبة بن سعيد أنا أبو عوانة أنا هشام بن عروة عن فاطمة بنت المنذر عن أم سلمة أم المؤمنين قالت: قال رسول الله ﷺ: لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء في الثدي، وكان قبل الفطام.
قال أبو محمد: هذا خبر منقطع؛ لأن فاطمة بنت المنذر لم تسمع من أم سلمة أم المؤمنين؛ لأنها كانت أسن من زوجها هشام باثني عشر عاما وكان مولد هشام سنة [ 60 هـ ] ستين، فمولد فاطمة على هذا سنة [ 48 هـ ] ثمان وأربعين، وماتت أم سلمة سنة [ 59 هـ ] تسع وخمسين، وفاطمة صغيرة لم تلقها، فكيف أن تحفظ عنها، ولم تسمع من خالة أبيها عائشة أم المؤمنين شيئا وهي في حجرها إنما أبعد سماعها من جدتها أسماء بنت أبي بكر الصديق، رضي الله عنهم ،. وموهوا أيضا بخبرين ساقطين: أحدهما من طريق معمر عن جويبر عن الضحاك عن النزال بن سبرة عن علي عن النبي ﷺ: لا رضاع بعد الفصال. والآخر من طريق معمر أيضا عن حرام بن عثمان عن عبد الرحمن ومحمد ابني جابر بن عبد الله عن أبيهما عن رسول الله ﷺ فذكر كلاما كثيرا وفيه: ولا رضاع بعد الفطام. وهذان خبران لا يجوز التشاغل بهما؛ لأن جويبرا ساقط، والضحاك ضعيف وحرام بن عثمان هالك بمرة فسقط كل ما تعلقوا به وبالله تعالى التوفيق. وسقطت الأقوال كلها إلا قول من راعى الحولين، وقول من لم يراع في ذلك حدا أصلا، فنظرنا فيمن راعى الحولين فوجدناهم يحتجون بقول الله عز وجل: {وحمله وفصاله ثلاثون شهرا}. وبقوله عز وجل: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة}. وبقوله عز وجل: {حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين}. فقالوا: قد قطع الله عز وجل أن فصال الرضيع في عامين، وأن رضاعه حولان كاملان؛ لمن أراد أن يتم الرضاعة. قالوا: فلا رضاع بعد الحولين أصلا؛ لأن الرضاعة قد تمت، وإذا انقطع الرضاع انقطع حكمه من التحريم، وغير ذلك.
قال أبو محمد: صدق الله تعالى وعلينا الوقوف عند ما حد عز وجل، ولو لم يأت نص غير هذا لكان في هذه النصوص متعلق، لكن قد جاء في ذلك: ما رويناه من طريق مسلم أنا عمرو الناقد، وابن أبي عمر، قالا جميعا: أنا سفيان بن عيينة عن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين قالت: جاءت سهلة بنت سهيل إلى النبي ﷺ فقالت: يا رسول الله إني أرى وجه أبي حذيفة من دخول سالم وهو خليفه فقال رسول الله ﷺ أرضيعيه، فقالت: وكيف أرضعه وهو رجل كبير فتبسم رسول الله ﷺ وقال: قد علمت أنه رجل كبير. ومن طريق مسلم.، أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، هو ابن راهويه، ومحمد بن أبي عمر، واللفظ له قال: أنا عبد الوهاب الثقفي عن أيوب هو السختياني، عن ابن أبي مليكة عن القاسم بن محمد بن أبي بكر عن عائشة أم المؤمنين: أن سالما مولى أبي حذيفة كان مع أبي حذيفة وأهله في بيتهم فأتت يعني سهلة بنت سهيل إلى النبي ﷺ فقالت: إن سالما قد بلغ ما يبلغ الرجال، وعقل ما عقلوا، وأنه يدخل علينا، وإني أظن أن في نفس أبي حذيفة من ذلك شيئا فقال لها النبي ﷺ أرضعيه تحرمي عليه ويذهب الذي في نفس أبي حذيفة. ومن طريق مسلم أنا محمد بن المثنى أنا محمد بن جعفر أنا غندر أنا شعبة عن حميد بن نافع عن زينب بنت أم سلمة، قالت: قالت أم سلمة لعائشة رضي الله عنهما إنه يدخل عليك الغلام الأيفع الذي ما أحب أن يدخل علي فقالت عائشة: أما لك في رسول الله ﷺ أسوة حسنة إن امرأة أبي حذيفة قالت: يا رسول الله إن سالما يدخل علي وهو رجل وفي نفس أبي حذيفة منه شيء فقال رسول الله ﷺ أرضعيه حتى يدخل عليك ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين قالت: جاءت سهلة بنت سهيل بن عمرو إلى النبي ﷺ فقالت: إن سالما كان يدعى ابن أبي حذيفة، وإن الله قد أنزل في كتابه ادعوهم لأبائهم وكان يدخل علي وأنا فضل ونحن في منزل ضيق فقال لها النبي ﷺ أرضعي سالما تحرمي عليه. قال الزهري: قال بعض أزواج رسول الله ﷺ لا ندري لعل هذه كانت رخصة لسالم خاصة قال الزهري: فكانت عائشة تفتي بأنه يحرم الرضاع بعد الفصال حتى ماتت.
قال أبو محمد: فهذه الأخبار ترفع الإشكال، وتبين مراد الله عز وجل في الآيات المذكورات أن الرضاعة التي تتم بتمام الحولين، أو بتراضي الأبوين قبل الحولين، إذا رأيا في ذلك صلاحا للرضيع أنها هي الموجبة للنفقة على المرضعة، والتي يجبر عليها الأبوان أحبا أم كرها. ولعمري لقد كان في الآية كفاية في هذا؛ لأنه تعالى قال: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف}. فأمر تعالى الوالدات بإرضاع المولود عامين، وليس في هذا تحريم الرضاعة بعد ذلك، ولا أن التحريم ينقطع بتمام الحولين. وكان قول الله تعالى: {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة} ولم يقل تعالى في حولين، ولا في وقت دون وقت زائدا على الآيات الأخر، وعموما لا يجوز تخصيصه إلا بنص يبين أنه مخصص له لا بظن، ولا بمحتمل لا بيان فيه. وكانت هذه الآثار قد جاءت مجيء التواتر رواها نساء رسول الله ﷺ كما أوردنا، وسهلة بنت سهيل من المهاجرات وزينب بنت أم سلمة. ورواه من التابعين القاسم بن محمد، وعروة بن الزبير، وحميد بن نافع. ورواه عن هؤلاء الزهري، وابن أبي مليكة، وعبد الرحمن بن القاسم، ويحيى ابن سعيد الأنصاري، وربيعة. ورواه عن هؤلاء أيوب السختياني، وسفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، وشعبة، ومالك، وابن جرير، وشعيب بن أبي حمزة، ويونس بن يزيد، وجعفر بن ربيعة، وسليمان بن بلال، ومعمر، وغيرهم. ورواه عن هؤلاء الناس: الجماء الغفير، فهو نقل كافة لا يختلف مؤالف، ولا مخالف في صحته فلم يبق من الأعتراض إلا أن يقول قائل: هو خاص لسالم كما قال بعض أزواج رسول الله ﷺ فليعلم من تعلق بهذا أنه ظن ممن ظن ذلك منهن رضي الله عنهن. وهكذا جاء في الحديث أنهن قلن: ما نرى هذا إلا خاصا لسالم، وما ندري لعله رخصة لسالم، فإذ هو ظن بلا شك، فإن الظن لا يعارض بالسنن قال تعالى: {إن الظن لا يغني من الحق شيئا}. وشتان بين احتجاج أم سلمة رضي الله عنها باختيارها وبين احتجاج عائشة رضي الله عنها بالسنة الثابتة، وقولها لها: أما لك في رسول الله ﷺ أسوة حسنة وسكوت أم سلمة ينبئ برجوعها إلى الحق عن احتياطها. ومن أعجب العجائب أن المخالفين لنا هاهنا يقولون: إن المرسل كالمسند، وقد روينا من طريق عبد الرزاق عن معمر أن أزواج النبي ﷺ إذا أرضعن الكبير دخل عليهن، فكان ذلك لهن خاصة. وقال آخرون: هذا منسوخ بنسخ التبني.
قال أبو محمد: وهذا باطل بيقين؛ لأنه لا يحل لأحد أن يقول في نص ثابت: هذا منسوخ، إلا بنص ثابت مبين غير محتمل، فكيف وقول سهلة رضي الله عنها لرسول الله ﷺ: كيف أرضعه وهو رجل كبير بيان جلي؛ لأنه بعد نزول الآيات المذكورات وباليقين ندري أنه لو كان خاصة لسالم، أو في التبني الذي نسخ لبينه عليه الصلاة والسلام كما بين لأبي بردة في الجذعة إذ قال له تجزئك، ولا تجزئ أحدا بعدك. وقال بعض من لا يخاف الله تعالى فيما يطلق به لسانه: كيف يحل للكبير أن يرضع ثدي امرأة أجنبية.
قال أبو محمد: هذا اعتراض مجرد على رسول الله ﷺ الذي أمر بذلك، والقائل بهذا لا يستحي من أن يطلق: أن للمملوكة أن تصلي عريانة يرى الناس ثدييها وخاصرتها، وأن للحرة أن تتعمد أن تكشف من شفتي فرجها مقدار الدرهم البغلي تصلي كذلك ويراها الصادر والوارد بين الجماعة في المسجد، وأن تكشف أقل من ربع بطنها كذلك ونعوذ بالله من عدم الحياء وقلة الدين.
قال أبو محمد: وقول رسول الله ﷺ: إنما الرضاعة من المجاعة حجة لنا بينة؛ لأن للكبير من الرضاعة في طرد المجاعة نحو ما للصغير، فهو عموم لكل رضاع إذا بلغ خمس رضعات كما أمر رسول الله ﷺ .
قال علي: فصح أن عائشة رضي الله عنها كان يدخل عليها الكبير إذا أرضعته في حال كبره أخت من أخواتها الرضاع المحرم، ونحن نشهد بشهادة الله عز وجل ونقطع بأنه تعالى لم يكن ليبيح سر رسول الله ﷺ ينتهكه من لا يحل له مع قوله تعالى: {والله يعصمك من الناس}. فنحن نوقن ونبت بأن رضاع الكبير يقع به التحريم، وليس في امتناع سائرهن من أن يدخل عليهن بهذه الرضاعة شيء ينكر؛ لأن مباحا لهن أن لا يدخل عليهن من يحل له الدخول عليهن وبالله تعالى التوفيق.
1874 - مسألة: وإن حملت امرأة ممن يلحق ولدها به فدر لها اللبن، ثم وضعت فطلقها زوجها، أو مات عنها فتزوجها آخر، أو كانت أمة فملكها آخر، فما أرضعت فهو ولد للأول لا للثاني، فإن حملت من الثاني فتمادى اللبن فهو للأول إلا أن يتغير، ثم يعتدل، فإنه إذا تغير فقد بطل حكم الأول وصار للثاني والحمد لله رب العالمين .
محلى ابن حزم - المجلد الخامس/كتاب الرضاع |
كتاب الرضاع (مسألة 1867 - 1870) | كتاب الرضاع (مسألة 1871 - 1872) | كتاب الرضاع (مسألة 1873 - 1874) |