انتقل إلى المحتوى

محلى ابن حزم - المجلد الخامس/الصفحة الخامسة والخمسون

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


أحكام العـــدة

ومن طريق أحمد بن شعيب أنا أبو بكر بن إسحاق أنا أبو الجواب الأحوص بن جواب أنا عمار، هو ابن زريق عن الشعبي عن فاطمة بنت قيس فذكر الحديث، فحصبه الأسود وقال: ويحك لم تفتي بمثل هذا قال عمر لها: إن جئت بشاهدين يشهدان أنهما سمعاه من رسول الله وإلا لم نترك كتاب الله لقول امرأة: لا تخرجوهن من بيوتهن، ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة.

قلنا: هذا كله صحيح. فأما قول عمر: ما كنا لندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري أحفظت أم نسيت فإن هذا يجمع ثلاثة معان: أما سنة رسول الله فهي بيد فاطمة بنت قيس ونحن نشهد بشهادة الله تعالى قطعا أنه لم يكن عند عمر في ذلك سنة عن رسول الله غير عموم سكنى المطلقات فقط. ولا يحل لمسلم أن يظن بعمر رضي الله عنه في ذلك حكم من رسول الله ولا بينة للناس، ويأتي به لما في هذا من عظيم الوعيد في القرآن.

وها هنا أمر قريب جدا نحن قد صرحنا بأنه لم يكن في ذلك عند عمر سنة عن رسول الله فكتمها، ولم ينصها ويبينها فليصرحوا بأنه كان عند عمر في ذلك سنة عن رسول الله لم يخبر بنصها الناس، حتى يروا من منا الذي يكذب على رسول الله وأينا يضيف إلى عمر ما قد نزهه الله تعالى عنه، ولا نقنع منهم إلا بالقطع بأنه كان عنده رضي الله عنه عن النبي أن للمطلقة ثلاثا السكنى والنفقة مدة العدة.

وأما كتاب الله تعالى فقد بينه، إذ أتى بالآية المذكورة وهي حجة لفاطمة عليه ; لأن فيها لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف فهل يشك أحد في أن هذه الآية في الطلاق الرجعي خاصة ولو ذكر عمر بذلك لرجع كما رجع عن قوله، إذ منع من أن يزيد أحد على أربعمائة درهم في صداق امرأة حين ذكرته امرأة بقول الله تعالى: {وآتيتم إحداهن قنطارا} فتذكر ورجع. وكما ذكره أبو بكر إذ سل سيفه وقال: لا يقولن أحد: إن رسول الله مات إلا ضربته بالسيف فلما تلا عليه أبو بكر قول الله تعالى: {إنك ميت وإنهم ميتون} سقط إلى الأرض. وبهذا احتجت فاطمة نصا:

كما روينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله أن فاطمة قالت حين بلغها قول مروان في هذا الخبر بيني وبينكم كتاب الله عز وجل قال الله تعالى {فطلقوهن لعدتهن} إلى قوله سبحانه {لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا} قالت: فأي أمر يحدث بعد الثلاث.

وأما قوله " لقول امرأة لا ندري أحفظت أم نسيت " فإن ما أمكن من النسيان على فاطمة فهو ممكن على عمر بلا شك. وأقرب ذلك تذكير عمار له بأمر رسول الله لهما جميعا بالتيمم من الجنابة لمن لم يجد الماء، فلم يذكر عمر ذلك، وثبت على أنه لا يصلي حتى يجد الماء.

وقد ذكرناه من طريق البخاري في كتبنا وكما نسي ما ذكرنا آنفا فليس جواز النسيان مانعا من قبول رواية العدل الذي قد افترض الله تعالى قبول روايته،

ولو كان ذلك لوجب على أصول خصومنا ترك خبر الواحد جملة ورد شهادة كل شاهد في الإسلام لجواز النسيان في هذا. فمن أضل ممن يحتج بما هو أول مبطل له عصبية ولجاجا في الباطل. وهكذا القول في قوله لها " إن جئت بشاهدين يشهدان أنهما سمعاه من رسول الله " فهم أول مخالف لهذا ولو لزم هذا فاطمة للزم عمر في كل ما حدث به عن رسول الله وكل أحد من الصحابة، ولا فرق. فمن أضل ممن يموه على المسلمين بأشياء هو بدين الله تعالى بخلافها وبطلانها ونعوذ بالله من الخذلان.

فإن قيل: فقد رويتم من طريق حماد بن سلمة عن حماد بن أبي سليمان أنه أخبر إبراهيم النخعي بحديث الشعبي عن فاطمة بنت قيس فقال له إبراهيم: إن عمر أخبر بقولها فقال: لسنا بتاركي آية من كتاب الله تعالى وقول النبي لقول امرأة لعلها أوهمت سمعت النبي يقول: لهما السكنى والنفقة. قلنا: هذا مرسل ; لأن إبراهيم لم يولد إلا بعد موت عمر بسنين. ثم لو صح لما كانت فيه حجة ; لأنه ليس فيه أن عمر سمع النبي : للمطلقة ثلاثا السكنى والنفقة. وقد يمكن أن يسمعه عليه السلام يقول للمطلقة السكنى والنفقة، فيحمل ذلك على عمومه، وهذا لا يجوز، بل يجب استعمال ذلك مع حديث فاطمة، ولا بد، فيستثنى الأقل من الأكثر، ولا يجوز رد نص ثابت بين إلا بنص ثابت بين، لا بمشكلات لا تصح وبمجملات لا بيان فيها، فلم يبق من كل ذلك إلا أن عمر أنكر على فاطمة فقط، مع أن هذا الخبر الساقط لا يرضاه المالكيون، ولا الشافعيون. وموهوا أيضا بما روينا من طريق ابن وهب أخبرني ابن سمعان أن ابن قسيط أخبره أن ابن المسيب كان يقول: إذا طلق الرجل امرأته وهو صحيح سوى ثلاثا فلا نفقة لها إلا أن تكون حاملا فينفق عليها حتى تضع حملها ; للحامل المطلقة النفقة في كتاب الله عز وجل وعلى ذلك كان أصحاب رسول الله وهي السنة.

قال أبو محمد: هذا في غاية السقوط ; لأن ابن سمعان مذكور بالكذب أسقطه مالك وغيره، وأما احتجاجه بأن لها النفقة في كتاب الله عز وجل فإنما النفقة في كتاب الله تعالى للمطلقة الرجعية.

وأما قوله " على ذلك كان أصحاب رسول الله " فكل من

روينا عنه في ذلك شيئا، فإنما هم على أن لها النفقة حاملا أو غير حامل، أو على أنه لا نفقة لها أصلا، إلا ابن عمر وحده.

وأما الرجعية فلا شك أن لها النفقة عند أصحاب رسول الله .

وأما قوله " وهي السنة " فقد قالها في دية أصابع المرأة، فلم يلتفت إلى قوله في ذلك الحنفيون والشافعيون. وقال من هو خير منه ما روينا من طريق أبي داود أنا محمد بن كثير أنا سفيان عن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن طلحة بن عبد الله بن عوف قال صليت مع ابن عباس على جنازة فقرأ بفاتحة الكتاب فقال: إنها من السنة، فلم يلتفت إلى قوله ذلك الحنفيون والمالكيون. فمن أضل ممن يدين بتصحيح قول لم يثبت عن سعيد بن المسيب " هي السنة "، ولا يصدق القول الثابت، عن ابن عباس هي السنة ألا هكذا فليكن الباطل والضلال. وذكروا:

ما روينا من طريق أبي داود أنا أحمد بن زهير، حدثنا أحمد بن يونس أنا زهير أنا جعفر بن برقان أنا ميمون بن مهران قال: قلت لسعيد بن المسيب فاطمة بنت قيس طلقت فخرجت من بيتها، فقال سعيد: تلك المرأة فتنت الناس، إنها كانت لسنة، فوضعت على يدي ابن أم مكتوم.

قال أبو محمد: هذا مرسل لا ندري من أخبر سعيدا بذلك فهو ساقط. وقول رسول الله في المطلقة ثلاثا ليس لها سكنى، ولا نفقة الذي أوردنا قبل بأصح إسناد يبطل هذه الظنون الكاذبة كلها، ويبين أنه ليس ذلك في فاطمة وحدها، بل في كل مطلقة ثلاثا. وذكروا: ما ناه حمام أنا عباس بن أصبغ أنا محمد بن عبد الملك بن أيمن أنا مطلب أنا أبو صالح هو عبد الله بن صالح كاتب الليث حدثني الليث حدثني عقيل، عن ابن شهاب أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن فذكر حديث فاطمة. ثم قال: فأنكر الناس عليها ما كانت تحدث من خروجها من قبل أن تحل.

قال أبو محمد: وهذا ساقط ; لأنه من رواية عبد الله بن صالح وهو ضعيف جدا كما ذكرنا قبل. ولا ندري من هؤلاء الناس، وإنما ندري أن الحجة تقوم على الناس برسول الله لا أن الحجة تقوم على رسول الله بالناس، وإنكار من أنكر من الناس هو الذي يجب أن ينكر حقا. وذكروا: ما روينا من طريق مسلم، أخبرنا إسحاق بن إبراهيم أنا عبد الرزاق أنا معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عتبة فذكر حديث فاطمة هذا، فقال مروان: لم يسمع هذا الحديث إلا من امرأة سنأخذ بالعصمة التي وجدنا الناس عليها.

قال أبو محمد: لو أن مروان تورع هذا الورع حيث شق عصا المسلمين، وخرج على ابن الزبير أمير المؤمنين، بلا تأويل، ولا تمويه، فأخذ بالعصمة التي وجد جميع الناس وأهل الإسلام عليها من القول بإمامة ابن الزبير من أقصى أعمال إفريقية إلى أقصى خراسان حاشا أهل الأردن لكان أولى به وأنجى له في آخرته.

وقد ذكرنا اختلاف الصحابة، رضي الله عنهم، فيما ادعى فيه العصمة، واحتجوا بما روينا من طريق مسلم أنا محمد بن المثنى أنا حفص بن غياث أنا هشام بن عروة عن أبيه عن فاطمة بنت قيس قالت: قلت يا رسول الله: إن زوجي طلقني ثلاثا وأنا أخاف أن يقتحم علي قال: فأمرها فتحولت.

قال أبو محمد: هذا كما ترون فتأملوا قوله فأمرها فتحولت ليس من كلام رسول الله ، ولا من كلام فاطمة ; لأن نصه قال: فأمرها فتحولت فصح أنه من كلام عروة، ولا يخلو هذا الخبر من أن يكون لم يسمعه عروة من فاطمة فيكون مرسلا: ويوضح ذلك: أنه ما خبرنا به يونس بن عبد الله بن مغيث قال أنا محمد بن أحمد بن خالد أنا أبي أنا محمد بن وضاح أنا أبو بكر بن أبي شيبة عن حفص بن غياث عن هشام بن عروة عن أبيه قال: قالت فاطمة بنت قيس: يا رسول الله إني أخاف أن يقتحم علي فأمرها أن تتحول فإن كان هذا هو أصل الخبر فهو منقطع، ولا حجة في منقطع، أو يكون عروة سمعه من فاطمة فلا حجة فيه أيضا ; لأنه ليس فيه أن رسول الله قال: إنما آمرك بالتحول من أجل خوفك أن يقتحم عليك وإذ لم يقل عليه الصلاة والسلام هذا فلا يحل لمسلم يخاف النار أن يقول: إنه عليه الصلاة والسلام إنما أمرها بالتحول من أجل ذلك ; لأنه إخبار عنه عليه الصلاة والسلام بما لم يخبر به عن نفسه. وعلى كل حال فقد صح: من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن، والشعبي وأبي بكر بن أبي الجهم أن رسول الله قال: لا سكنى لها، ولا نفقة: أفترون النفقة سقطت خوف الأقتحام عليها هذا كله خدش في الصفا. وقوله عليه الصلاة والسلام بل المطلقة ثلاثا لا سكنى لها، ولا نفقة يغني عن هذا كله، وعن تكلف الظنون الكاذبة وبالله تعالى التوفيق. فلم يبق إلا إنكار عمر، وعائشة أم المؤمنين عليها، فكان ماذا فقد وافقها جابر بن عبد الله، وابن عباس، وعياش بن أبي ربيعة، وغيرهم من الصحابة، رضي الله عنهم، فما الذي جعل رأي عائشة، وعمر من رأي من ذكرنا فكيف، ولا حجة في شيء من ذلك، إنما الحجة على كل أحد ما صح عن رسول الله . ونحن نعلن ونهتف ونصرح: أن رأي أم المؤمنين، وعمر أمير المؤمنين لا نأخذ به إذا صح عن رسول الله خلافه، ولا يحل الأخذ برأيهما حينئذ، ولا أن يقول أحد عندهما في ذلك عن رسول الله سنة كتماها، ويصرحوا هم بأن يقولوا: إن رأي عمر، وأم المؤمنين أحق أن يتبع مما صح عن رسول الله حتى يروا حالهم عند الله تعالى، وعند أهل الإسلام. وليت شعري أين كان عنهم هذا الأنقياد لأم المؤمنين عائشة، إذ لم يلتفتوا إلى قولها بتحريم رضاع الكبير، إذ قد نسبوا إليها ما قد برأها الله تعالى عنه من أنها تولج حجاب الله تعالى الذي ضربه على نساء رسول الله من لا يحل له ولوجه فهذه هي العظيمة التي تقشعر منها جلود المؤمنين. وفي إباحتها للمتوفى عنها أن تعتد حيث شاءت وأين كانوا من هذه الطاعة لعمر رضي الله عنه إذ خالفوه في المسح على العمامة وجعلوه يفتي بالصلاة بغير وضوء وما قد جمعناه عليهم مما قد خالفوهما فيه في كتاب أفردناه لذلك، إذا تأمله المتأمل رآهم كأنهم مغرمون بخلاف الصاحب فيما وافق فيه السنة، وتقليده في رأي وهم فيه أبدا، ولكن من لم يعد كلامه من عمله كثر كلامه بالباطل وحسبنا الله ونعم الوكيل. فصح خبر فاطمة كالشمس ; لأنها من المهاجرات المبايعات الأول:

كما روينا من طريق مسلم أنا عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث، وحجاج بن الشاعر، كلاهما عن عبد الصمد بن عبد الوارث عن أبيه عبد الوارث بن سعيد التنوري عن الحسن بن زكوان أنا أبو بريرة عن عامر الشعبي أنه سأل فاطمة بنت قيس وهي من المهاجرات الأول وذكر الحديث.

قال أبو محمد: قد شهد الله عز وجل لكلهم بالصدق: قال عز وجل: {للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون}. فمن أضل ممن يكذب منهم أحدا، ونسأل الله العافية، والحمد لله رب العالمين. ولم نجد لأحد خلافه، وقالوا: في خبر خالة جابر إنما أمرها عليه الصلاة والسلام بالخروج على أن لا تبيت هنالك فكان هذا كذبا مستسهلا، وإخبارا عن رسول الله بالأفتراء بلا دليل. ولعمري لو لم يأت أثر لكان الواجب أن لا نفقة لمبتوتة، ولا سكنى ; لأنها أجنبية ليست له بزوجة، فلا حق لها في ماله لا في إسكان، ولا في نفقة والعدة شيء ألزمها الله تعالى إياها، لا مدخل للزوج في إسقاطه، ولا الزيادة فيه وبالله تعالى التوفيق.

وأما المتوفى عنها فإن من أوجب لها السكنى احتجوا بما رويناه من طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن سعيد بن إسحاق بن كعب بن عجرة عن عمته زينب بنت كعب عن فريعة بنت مالك أن زوجها قتل بالقدوم فأتت النبي فقالت: إن لها أهلا فأمرها أن تنتقل، فلما أدبرت دعاها فقال: امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله أربعة أشهر وعشرا.

ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري، عن ابن كعب بن عجرة قال: حدثتني عمتي وكانت تحت أبي سعيد الخدري أن فريعة حدثتها أن زوجها خرج في طلب أعلاج حتى إذا كان بطرف القدوم وهو جبل أدركهم فقتلوه فأتت رسول الله فذكرت له: أن زوجها قتل، وأنه تركها في مسكن ليس له، واستأذنته في الأنتقال فأذن لها، فانطلقت حتى إذا كانت بباب الحجرة أمر بها فردت، فأمرها أن لا تخرج حتى يبلغ الكتاب أجله.

ومن طريق مالك عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة عن عمته زينب بنت كعب بن عجرة عن الفريعة بنت مالك بن سنان أخت أبي سعيد الخدري فذكره وفيه قالت: فسألت رسول الله أن أرجع إلى أهلي في بني خدرة فإن زوجي لم يتركني في مسكن يملكه. وفيه: أنه عليه الصلاة والسلام قال لها: امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله، قال: فاعتدت فيه أربعة أشهر وعشرا.

ومن طريق عبد الرزاق، عن ابن جريج عن عبد الله بن كثير قال: قال مجاهد استشهد رجال يوم أحد فجاء نساؤهم إلى رسول الله فقلن: إنا نستوحش يا رسول الله بالليل فنبيت عند إحدانا حتى إذا أصبحنا تبددنا في بيوتنا فقال رسول الله : تحدثن عند إحداكن ما بدا لكن حتى إذا أردتن النوم فلتؤب كل امرأة منكن إلى بيتها.

قال أبو محمد: أما حديث مجاهد فمنقطع لا حجة فيه.

وأما حديث فريعة ففيه زينب بنت كعب بن عجرة وهي مجهولة لا تعرف، ولا روى عنها أحد غير سعد بن إسحاق وهو غير مشهور بالعدالة على أن الناس أخذوا عنه هذا الحديث لغرابته ; ولأنه لم يوجد عند أحد سواه فسفيان يقول: سعيد، ومالك، وغيره يقولون: سعد، والزهري يقول: عن ابن كعب بن عجرة فبطل الأحتجاج به. إذ لا يحل أن يؤخذ عن رسول الله إلا ما ليس في إسناده مجهول، ولا ضعيف. ثم لو صح لكان الحنفيون، والمالكيون، مخالفين له ; لأن مالكا يقول: إن كان المنزل ليس للميت فإن كان بكراء فهي أولى به، وإن كان ليس إلا إسكانا، أو كان قد تمت فيه مدة الكراء: فلصاحب المنزل إخراجها منه، ولو طلب منها الكراء فغلى عليها لم يلزمها أن تكريه، ولا يلزم الورثة أن يكروه لها من مال الميت.

وقال أبو حنيفة: لا سكنى لها في مال الميت أصلا، سواء كان المنزل له أو بكراء فقد خالفوا نص هذا الخبر. ومن المحال احتجاج قوم بخبرهم أول عاصين له. وموهوا فيما صح من ذلك عن عائشة أم المؤمنين، وعلي بن أبي طالب بما رويناه من طريق إسماعيل بن إسحاق أنا سليمان بن حرب أنا حماد بن زيد قال: سمعت أيوب السختياني ذكر له نقله أم كلثوم بنت علي فقال أيوب: إنما نقلها من دار الإمارة. وقال حماد: وسمعت جرير بن حازم يحدث أيوب بحديث عطاء: أن عائشة حجت بأختها أم كلثوم في عدتها من طلحة بن عبيد الله فقال أيوب: إنما نقلتها إلى بلادها. وبه إلى حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد قال: كانت عائشة تخرج المرأة من بيتها إذا توفي زوجها لا ترى به بأسا وأبى الناس إلا خلافها، فلا نأخذ بقولها وندع قول الناس.

قال أبو محمد: لا ندري من هؤلاء الناس والشرط ناس، ولا حجة في الناس على الله تعالى ورسوله إنما كلام الله تعالى وكلام رسوله هو الحجة على الناس، وقد حرم الله تعالى ورسوله مال كل أحد على سواء إلا بحق. ومنزل الميت إما للغرماء،

وأما للورثة بعد الوصية ليس لأمرأته فيه حق إن كانت وارثة إلا مقدار حصتها فقط، وما عدا ذلك فحرام عليها إلا بطيب أنفس الورثة، وأما كلام أيوب فزلة عالم قد حذر منها قديما.

وأما تمويه المحتج به وهو يدري بطلانه فمصيبة، أما قوله " نقلها عن دار الإمارة " فوا فضيحتاه وهل كان في المدينة قط دار إمارة مدة رسول الله وأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، ومعاوية. وهل سكن كل واحد من هؤلاء إلا في دار نفسه، لكن لما رأى أيوب رحمه الله دار الإمارة بالبصرة ظن أنها بالمدينة كذلك، وأن عمر بن الخطاب سكن في دار الإمارة بالمدينة، فيا للعجب.

وكذلك قوله عن عائشة أم المؤمنين " إنما نقلتها إلى بلادها " فهذه طامة أخرى هو يسمع حجت بها في عدتها ويقول " نقلتها إلى بلادها " وهي المدينة. وهل يخفى على أحد أنه ضد قول أيوب، وأنها إنما نقلتها عن بلادها وهي المدينة وعن الموضع الذي قتل فيه زوجها طلحة رضي الله عنه وهو البصرة إلى مكة التي ليست لها بلدا، ولكن من ذا عصم من الخطأ من الناس بعد رسول الله الذي تكفل الله تعالى له بالعصمة.

وأما تهويلهم بعمر، وعثمان، فإنما الرواية عنهما في ذلك، وعن أم سلمة، وزيد: منقطعة، ونحن نأتيهم عنهم بمثلها سواء سواء قد أوردنا في تلك الرواية نفسها: أن زيد بن ثابت أرخص للمتوفى عنها أن تبقى عن منزلها بياض يومها أو ليلتها وهذا خلاف قولهم. وعن أم سلمة أن تبقى عن منزلها أحد طرفي الليل، فليت شعري ما الفرق بين الطرف الواحد، والطرف الثاني.

وأما عمر فروينا من طريق سعيد بن منصور، أخبرنا يحيى بن سعيد هو القطان عن أيوب بن موسى عن سعيد بن المسيب أن امرأة توفي عنها زوجها فكانت في عدتها، فمات أبوها، فسئل لها عمر بن الخطاب فرخص لها أن تبيت الليلة والليلتين وهذا خلاف قوله فمرة عمر حجة، ومرة ليس بحجة من مثل تلك الرواية نفسها.

وقد ذكرنا الرواية الثابتة، عن ابن عمر: نفقة المتوفى عنها من جميع المال وقول سالم ابنه: كنا ننفق عليهن حتى نبتم ما نبتم. فتركوا هذا كله، وتركوا: عمر، وعثمان، وأم المؤمنين، وابن مسعود حيث أحبوا، وشنعوا بخلافهم، وإن خالف ما جاء عنهم السنن الثابتة حيث أحبوا. ووالله قسما برا ما اتبع الحاضرون منهم قط عمر، ولا عثمان، ولا ابن عمر، ولا ابن مسعود، ولا عائشة وما اتبعوا إلا أبا حنيفة، ومالكا، والشافعي، ثم لا مئونة عليهم في إنكار ما يعرفونه من أنفسهم من ذلك، ويعلمه الله تعالى والناس منهم، وبالله تعالى نعوذ من مثل هذا، وحسبنا الله ونعم الوكيل. قالب:محلى ابن حزم - المجلد الخامس/أحكام العدة