محلى ابن حزم - المجلد الثالث/الصفحة السابعة والأربعون
كتاب الشركة
1238 - مسألة: لا تجوز الشركة بالأبدان أصلا، لا في دلالة، ولا في تعليم، ولا في خدمة، ولا في عمل يد، ولا في شيء من الأشياء، فإن وقعت فهي باطلة لا تلزم، ولكل واحد منهم أو منهما ما كسب، فإن اقتسماه وجب أن يقضى له بأخذه، ولا بد لأنه شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل، ولقول الله تعالى: {ولا تكسب كل نفس إلا عليها}.
وقال تعالى: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت}. وهذا كله عموم في الدنيا والآخرة، لأنه لم يأت بتخصيص شيء من ذلك قرآن، ولا سنة، فمن ادعى في ذلك تخصيصا فقد قال على الله تعالى ما لا يعلم.
وأما نحن فقد قلنا: ما نعلم، لأن الله تعالى لو أراد تخصيص شيء من ذلك لما أهمله ليضلنا ولبينه لنا رسوله ﷺ المأمور ببيان ما أنزل عليه فإذ لم يخبرنا الله تعالى، ولا رسوله عليه السلام بتخصيص شيء من ذلك فنحن على يقين قاطع بات على أنه تعالى أراد عموم ما اقتضاه كلامه. ولقول رسول الله ﷺ: إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام فلا يحل أن يقضي بمال مسلم أو ذمي لغيره إلا بنص قرآن، أو سنة، وإلا فهو جور. ولقول الله تعالى: {لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} فهذه ليست تجارة أصلا فهي أكل مال بالباطل.
1239 - مسألة: فإن كان العمل لا ينقسم واستأجرهما صاحبه بأجرة واحدة فالأجرة بينهما على قدر عمل كل واحد ككمد ثوب واحد، أو بناء حائط واحد، أو خياطة ثوب واحد، وما أشبه هذا وكذلك إن نصبا حبالة معا فالصيد بينهما، أو أرسلا جارحين فأخذا صيدا واحدا فهو بينهما ; وإلا فلكل واحد ما صاد جارحه.
وقال أبو حنيفة: شركة الأبدان جائزة في الصناعات اتفقت صناعتهما أو اختلفت عملا في موضع واحد أو في موضعين، فإن غاب أحدهما أو مرض فما أصاب الصحيح الحاضر فبينهما، ولا تجوز في التصيد، ولا في الأحتطاب.
قال أبو محمد: هذا تقسيم فاسد بلا برهان، وروي عنه: أن شركة الأبدان لا تجوز إلا فيما تجوز فيه الوكالة وهذا في غاية الفساد أيضا، لأن الوكالة عنده جائزة في النكاح فتجب أن تجوز الشركة عندهم في النكاح.
وقال مالك شركة الأبدان جائزة في الأحتطاب وطلب العنبر، إذا كان كل ذلك في موضع واحد.
وكذلك إذا اشتركا في صيد الكلاب والبزاة إذا كان لكل واحد منهما باز وكلب، يتعاون البازان أو الكلبان على صيد واحد وتجوز الشركة عنده على التعليم في مكان واحد ; فإن كانا في مجلسين فلا ضير فيه. وأجاز شركة الأبدان في الصناعات إذا كانا في دكان واحد، كالقصار ونحوه إذا كان ذلك في صناعة واحدة، فإن مرض أحدهما فالأجرة بينهما وكذلك إن غاب أحدهما أو عمل أحدهما يوما والآخر يومين. ولا يجوز عنده اشتراك الحمالين أو النقالين على الدواب. ولا يجوز عنده الأشتراك في صناعتين أصلا كحداد وقصار ونحو ذلك وهذا تحكم بلا برهان وقول لا نعلم لهم سلفا وقولنا هو قول الليث وأبي سليمان، والشافعي، وأبي ثور واحتج من أجاز شركة الأبدان بما روينا من طريق أبي داود عن عبيد الله بن معاذ العنبري عن يحيى بن سعيد القطان عن سفيان الثوري عن أبي إسحاق السبيعي عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه قال: اشتركت أنا وعمار بن ياسر، وسعد بن أبي وقاص فيما نصيب يوم بدر فجاء سعد بأسيرين، ولم أجئ أنا وعمار بشيء.
قال أبو محمد: وهذا عجب عجيب، وما ندري على ماذا يحمل عليه أمر هؤلاء القوم ونسأل الله السلامة من التمويه في دينه تعالى بالباطل. أول ذلك: أن هذا خبر منقطع لأن أبا عبيدة لا يذكر من أبيه شيئا:
روينا ذلك من طريق وكيع عن شعبة عن عمرو بن مرة قال: قلت لأبي عبيدة: أتذكر من عبد الله شيئا قال: لا.
والثاني: أنه لو صح لكان أعظم حجة عليهم، لأنهم أول قائل معنا ومع سائر المسلمين: أن هذه شركة لا تجوز، وأنه لا ينفرد أحد من أهل العسكر بما يصيب دون جميع أهل العسكر حاشا ما اختلفنا فيه من كون السلب للقاتل، وأنه إن فعل فهو غلول من كبائر الذنوب. والثالث: أن هذه شركة لم تتم، ولا حصل لسعد، ولا لعمار، ولا لأبن مسعود من ذينك الأسيرين إلا ما حصل لطلحة بن عبيد الله الذي كان بالشام، ولعثمان بن عفان الذي كان بالمدينة فأنزل الله تعالى في ذلك: {قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم} فكيف يستحل من يرى العار عارا أن يحتج بشركة أبطلها الله تعالى ولم يمضها. والرابع: أنهم يعني الحنفيين لا يجيزون الشركة في الأصطياد، ولا يجيزها المالكيون في العمل في مكانين، فهذه الشركة المذكورة في الحديث لا تجوز عندهم، فمن أعجب ممن يحتج في تصحيح قوله برواية لا تجوز عنده والحمد لله رب العالمين على توفيقه لنا.
1240 - مسألة: ولا تجوز الشركة إلا في أعيان الأموال، فتجوز في التجارة، بأن يخرج أحدهما مالا والآخر مالا مثله من نوعه أو أقل منه أو أكثر منه، فيخلطا المالين، ولا بد، حتى لا يميز أحدهما ماله من الآخر، ثم يكون ما ابتاعا بذلك المال بينهما على قدر حصصهما فيه والربح بينهما كذلك، والخسارة عليهما كذلك فإن لم يخلطا المالين فلكل واحد منهما ما ابتاعه هو أو شريكه، به ربحه كله له وحده، وخسارته كلها عليه وحده. برهان ذلك: أنهما إذا خلطا المالين فقد صارت تلك الجملة مشاعة بينهما، فما ابتاعا بها فمشاع بينهما، وإذا هو كذلك فثمنه أصله، وربحه مشاع بينهما والخسارة مشاعة بينهما.
وأما إذا لم يخلطا المالين فمن الباطل أن يكون لزيد ما ابتيع بمال عمرو، أو ما ربح في مال غيره، أو ما خسر في مال غيره، لما ذكرنا آنفا من قول الله تعالى: {ولا تكسب كل نفس إلا عليها}.
1241 - مسألة: فإن ابتاع اثنان فصاعدا سلعة بينهما على السواء، أو ابتاع أحدهما منها أكثر من النصف، والآخر أقل من النصف، فهذا بيع جائز، والثمن عليهما على قدر حصصهما، فما ربحا أو خسرا فبينهما على قدر حصصهما، لأن الثمن بدل السلعة. وهكذا لو ورثا سلعة، أو وهبت لهما، أو ملكاها بأي وجه ملكاها به فلو تعاقدا أن يبتاعا هكذا لم يلزم، لأنه شرط ليس في كتاب الله تعالى، فهو باطل.
1242 - مسألة: ولا يحل للشريكين فصاعدا أن يشترطا أن يكون لأحدهما من الربح زيادة على مقدار ماله فيما يبيع، ولا أن يكون عليه خسارة، ولا أن يشترطا أن يعمل أحدهما دون الآخر، فإن وقع شيء من هذا فهو كله باطل مردود، وليس له من الربح إلا ما يقابل ماله من المال وعليه من الخسارة بقدر ذلك، لأنه كله شرط ليس في كتاب الله تعالى، فهو باطل. فإن عمل أحدهما أكثر من الآخر، أو عمل وحده تطوعا بغير شرط فذلك جائز، فإن أبى من أن يتطوع بذلك فليس له إلا أجر مثله في مثل ذلك العمل ربحا أو خسرا، لأنه ليس عليه أن يعمل لغيره، فاغتنام عمله بغير طيب نفسه اعتداء، وعلى المعتدي مثل ما اعتدى فيه لقول الله تعالى: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم}.
1243 - مسألة: فإن أخرج أحدهما ذهبا والآخر فضة أو عرضا أو ما أشبه ذلك لم يجز أصلا، إلا بأن يبيع أحدهما عرضه أو كلاهما حتى يصير الثمن ذهبا فقط، أو فضة فقط، ثم يخلطا الثمن كما قدمنا، ولا بد لما ذكرنا قبل. أو يبيع أحدهما من الآخر مما أخرج بمقدار ما يريد أن يشاركه به حتى يكون رأس المال بينهما مخلوطا لا يتميز، ولا بد لما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق.
1244 - مسألة: ومشاركة المسلم للذمي جائزة، ولا يحل للذمي من البيع والتصرف إلا ما يحل للمسلم، لأنه لم يأت قرآن، ولا سنة بالمنع من ذلك. وقد عامل رسول الله ﷺ أهل خيبر وهم يهود بنصف ما يخرج منها على أن يعملوها بأموالهم وأنفسهم فهذه شركة في الثمن، والزرع، والغرس. وقد ابتاع رسول الله ﷺ طعاما من يهودي بالمدينة ورهنه درعه فمات عليه السلام وهي رهن عنده وذكرناه بإسناده في " كتاب الرهن " من ديواننا هذا فهذه تجارة اليهود جائزة ومعاملتهم جائزة ومن خالف هذا فلا برهان له.
وروينا عن إياس بن معاوية: لا بأس بمشاركة المسلم للذمي إذا كانت الدراهم عند المسلم وتولى العمل لها وهو قول مالك وكره ذلك أصحاب أبي حنيفة جملة.
قال أبو محمد: من عجائب الدنيا تجويز أبي حنيفة، ومالك: معاملة اليهود والنصارى وإن أعطوه دراهم الخمر والربا ثم يكرهون مشاركته حيث لا يوقن بأنهم يعملون بما لا يحل، وهذا عجب جدا.
وأما نحن فإنا ندري أنهم يستحلون الحرام، كما أن في المسلمين من لا يبالي من أين أخذ المال إلا أن معاملة الجميع جائزة ما لم يوقن حراما، فإذا أيقناه حرم أخذه من كافر أو مسلم.
وروينا من طريق وكيع عن سفيان الثوري عن أبي حصين قال: قال لي علي بن أبي طالب في المضارب وفي الشريكين: الربح على ما اصطلحا عليه.
ومن طريق وكيع عن سفيان الثوري عن هشام أبي كليب، وعاصم الأحول، وإسماعيل الأسدي قال إسماعيل: عن الشعبي، وقال عاصم: عن جابر بن زيد وقال هشام: عن إبراهيم النخعي، قالوا كلهم في شريكين أخرج أحدهما مائة، والآخر مائتين: إن الربح على ما اصطلحا عليه، والوضيعة على رأس المال.
قال علي: هذا صاحب لا يعرف له من الصحابة مخالف وقد خالفه الحنفيون، والمالكيون، وخالفوا معه من ذكرنا من التابعين.
1245 - مسألة: فإن أخذ أحد الشريكين شيئا من المال حسبه على نفسه ونقص به من رأس ماله ذلك القدر الذي أخذه، ولم يكن له من الربح إلا بقدر ما بقي له. ولا يحل لأحد منهما أن ينفق إلا من حصته من الربح، ولا مزيد لما ذكرنا من أن الأموال محرمة على غير أربابها، فإن تكارما في ذلك جاز ما نفد بطيب نفس، ولم يلزم في المستأنف إن لم تطب به النفس.
1246 - مسألة: ومن استأجر أجيرا يعاونه في خياطة أو نسج أو غير ذلك بنصف ما يرد أو بجزء مسمى منه: فهو باطل وعقد فاسد، وله بقدر ما يعمل، ولا بد، فإن تكارما بذلك عن غير شرط فهو جائز ما دام بطيب نفوسهما بذلك فقط. لقوله تعالى: {ولا تنسوا الفضل بينكم} ولقول رسول الله ﷺ: كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل.
1247 - مسألة: ومن كانت بينهما الدابة مشتركة لم يجز أن يتشارطا استعمالها بالأيام، لأنه شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وقد يستعملها أحدهما أكثر مما يستعملها الآخر، والأموال محرمة على غير أربابها إلا بطيب أنفسهم، فإن تكارما في ذلك جاز ما دام بطيب أنفسهم بذلك لما ذكرنا من أن لكل أحد أن يطيب نفسه من ماله بما شاء ما لم يمنعه من ذلك نص.
وكذلك القول في العبد، والرحى، وغير ذلك. فإن تشاحا فلكل أحد منهما على الآخر نصف أجرة ما استعمل فيه ذلك الشيء المشترك، أو مقدار حصته من أجرتها، فإن آجرها فحسن، والأجرة بينهما على قدر حصصهما في تلك السلعة.
1248- مسألة: ومن كانت بينهما سلع مشتركة ابتاعاها للبيع فأراد أحدهما البيع أجبر شريكه على البيع، لأنهما على ذلك تعاقدا الشركة، فإن لم تكن للبيع لم يجبر على البيع من لا يريده، لأنه لم يوجب ذلك نص. ومن كانت بينهما دابة، أو عبد، أو حيوان، أجبرا على النفقة، وعلى ما فيه صلاح كل ذلك. ومن كانت بينهما أرض لم يجبر من لا يريد عمارتها على عمارتها، لكن يقتسمانها ويعمر من شاء حصته لقول النبي ﷺ: من كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها أخاه أو ليمسك أرضه. ومن كانت بينهما دار، أو رحى، أو ما لا ينقسم، أجبرا على الإصلاح لنهي النبي ﷺ عن إضاعة المال، ولكل أوامره حقها من الطاعة لا يحل ضرب بعضها ببعض. وبيع الشريك فيما اشتركا فيه للبيع جائز على شريكه وابتياعه كذلك، لأنهما على ذلك تعاقدا فكل واحد منهما وكيل للآخر، فإن تعدى ما أمره به فباع بوضيعة، أو إلى أجل، أو اشترى عيبا فعليه ضمان كل ذلك، لأنه لم يوكله بشيء من ذلك، فلا يجوز له في مال غيره إلا ما أباحه له. ولا يجوز إقرار أحدهما على الآخر في غير ما وكله به من بيع أو ابتياع لقول الله تعالى: {ولا تكسب كل نفس إلا عليها}. وكل واحد منهما إذا أراد الأنفصال فله ذلك. ولا تحل الشركة إلى أجل مسمى، لأنه شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل وبالله تعالى التوفيق. تم " كتاب الشركة " والحمد لله رب العالمين".