محلى ابن حزم - المجلد الثالث/الصفحة الرابعة
كتاب الجهاد
941 - مسألة : ولا يقبل من يهودي ، ولا نصراني ، ولا مجوسي : جزية ، إلا بأن يقروا بأن محمدا رسول الله إلينا ، وأن لا يطعنوا فيه ، ولا في شيء من دين الإسلام ؛ لحديث ثوبان الذي ذكرنا آنفا ولقول الله تعالى : { وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم } وهو قول مالك ، قال في المستخرجة : من قال من أهل الذمة : إنما أرسل محمد إليكم لا إلينا فلا شيء عليه ، قال : فإن قال لم يكن نبيا قتل .
942 - مسألة : ومن قال : إن في شيء من الإسلام باطنا غير الظاهر الذي يعرفه الأسود والأحمر ، فهو كافر يقتل ولا بد ، لقول الله تعالى : { إنما على رسولنا البلاغ المبين } وقال تعالى : { لتبين للناس ما نزل إليهم } فمن خالف هذا فقد كذب بالقرآن .
943 - مسألة : وكل عبد ، أو أمة كانا لكافرين ، أو أحدهما أسلما في دار الحرب ، أو في غير دار الحرب : فهما حران ، فلو كانا كذلك لذمي فأسلما : فهما حران ساعة إسلامهما ، وكذلك مدبر الذمي ، أو الحربي ، أو مكاتبهما ، أو أم ولدهما ، أيهم أسلم فهو حر ساعة إسلامه وتبطل الكتابة ، أو ما بقي منها ، ولا يرجع الذي أسلم بشيء مما كان أعطى منها قبل إسلامه ، ويرجع بما أعطى منها بعد إسلامه فيأخذه لقول الله عز وجل : { ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا } وإنما عنى تعالى بهذا أحكام الدين بلا شك ، وأما تسلط الدنيا بالظلم فلا ، والرق أعظم السبيل ، وقد أسقطه الله تعالى بالإسلام ، ونسأل من باعهما عليه : لم تبيعهما ؟ أهما مملوكان له أم غير مملوكين ؟ ولا بد من أحدهما . فإن قال : ليسا مملوكين له صدق - وهو قولنا - وإذ لم يكونا مملوكين له فهما حران ، وإن قال : هما مملوكان له . قلنا : فلم تبطل ملكه الذي أنت تصححه بلا نص ولا إجماع ؟ وأي فرق بين إقرارك لهما في ملكه ساعة ، أو ساعتين ، أو يوما ، أو يومين ، أو جمعة ، أو جمعتين ، أو شهرا ، أو شهرين ، أو عاما ، أو عامين ، أو باقي عمرها ، أو عمره ، وكيف صح إقرارك لهما في ملكه مدة تعريضهما للبيع ؟ ولم يصح ، ولم يصح إبقاؤهما في ملكه أكثر ، ولعلهما لا يستبيعان في شهر ؛ أو أكثر ، وهلا أقررتموهما في ملكه وحلتم بينه وبينهما كما فعلتم في المدبر ، وأم الولد ، والمكاتب إذا أسلموا ؟ ولئن كان يجوز إبقاؤهم في ملكه إن ذلك لجائز في العبد ، ولئن حرم إبقاء العبد في ملكه ليحرم ذلك في أم الولد ، والمدبر ، والمكاتب ولا فرق - وهذا تناقض ظاهر لا خفاء به ، وقول فاسد لا مرية فيه ، ونسألهم أيضا عن كافر اشترى عبدا مسلما ، أو أمة مسلمة ، فمن قولهم : إنهم يفسخون ذلك الشراء . فنقول لهم : ولم فسختموه ؟ وهلا بعتموهما عليه كما تفعلون إذا أسلم في ملكه ؟ وما الفرق ؟ فإن قالوا : لأن هذا ابتداء تملك . قلنا : نعم ، فكان ماذا ؟ ولا يخلو ابتياعه لهما من أن يكون ابتداء تملك لما يحل تملكه ، ولا سبيل إلى ثالث . فإن قالوا : بل لما لا يحل تملكه . قلنا : صدقتم ، فكيف أحللتم تملكه لهما مدة تعريضكم إياهما للبيع إذا أسلما في ملكه ؟ وإن قالوا : بل لما يحل تملكه . قلنا : فلم فسختم ابتياعه لما يحل له تملكه ؟ بل لم تبيعون عليه ما يحل له تملكه ؟ فإن قالوا : إنهما كانا في ملكه قبل أن يسلما فلم يبطل ملكه بإسلامهما . قلنا : نعم ، فلم بعتموهما عليه ؟ وهذا تناقض فاحش لا إشكال فيه ، وقول باطل بلا برهان ، والعجب كل العجب أنهم ينكرون مثل هذا على الله تعالى ، وعلى رسوله ﷺ فيقولون في تزوجه عليه السلام صفية أم المؤمنين وجعل عتقها صداقها : لا يخلو أن يكون تزوجها قبل عتقها ، أو بعد عتقها ، فإن كان تزوجها قبل عتقها فزواج الرجل أمته لا يحل ، وإن كان تزوجها بعد عتقها ، فقد مضى عتقها فأين الصداق ؟ وقالوا مثل هذا في العتق بالقرعة ، وفي وجود المرء سلعته عند مفلس ؛ وكل هذا لا يدخل فيه ما أدخلوه فيه من هذه الاعتراضات الفاسدة ، ثم لا ينكرون هذا على أنفسهم وهو موضع الإنكار حقا ، لأنهم إنما يتكلمون ويقضون برأيهم الفاسد ، وهو عليه السلام إنما يتكلم ويقضي عن الله تعالى الذي { لا يسأل عما يفعل وهم يسألون } . فإن قالوا : نبيعه على الكافر كما تبيعون أنتم عبد المسلم وأمته إذ شكوا الضرر ، وفي التفليس . قلنا لهم - وبالله تعالى التوفيق - : لا نبيع عبدا لمسلم ولا أمته أصلا إلا في حق واجب لازم لا يمكننا التوصل إليه ألبتة بوجه من الوجوه إلا ببيعهما وإلا فلا ، أول ذلك : أننا لا نبيعهما عليه إلا في دين لزمه ، أو في نفقة لزمته لنفسه أو للمملوك والمملوكة ، أو لمن تلزمه نفقته ، أو لضرر ثابت ؛ فأما الحق الواجب فما دمنا نجد له دراهم أو دنانير لم نبعهما عليه ، فإن لم نجد له غيرهما ولم يكن سبيل إلى أداء ذلك الحق إلا ببيعهما فهما مال من ماله يباع عند ذلك لقول الله تعالى : { كونوا قوامين بالقسط شهداء لله } ومن القيام بالقسط : إعطاء كل ذي حق حقه ، وصوب رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم هذا القول ، إذ قاله سلمان لأبي الدرداء رضي الله عنهما . وأما الضرر الثابت فإن أمكننا منع الضرر بأن نحول بينه وبين الأمة ، والعبد ، بأن يؤاجرا ، أو يجعلا عند ثقة يمنع من الإضرار بهما لم نبعهما ، فإذا لم يقدر على ذلك ألبتة بعناهما ، لأننا لا نقدر على المنع من الظلم والعدوان والإثم إلا بذلك ، وقال تعالى : { ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } . فإن قالوا : كذلك تحكم الكافر على المسلم من عبيدهم ضرر . قلنا : فإن صح أنه لا ضرر على الأمة والعبد من سيدهما الكافر ، أو سيدتهما الكافرة ؛ بل هما معترفان بالإحسان والرفق جملة ، أليس قد بطل تعلقكم بالضرر ؟ هذا ما لا شك فيه . فإن قالوا : نخاف أن يفسدا دينهما بطول الصحبة . قلنا : ففرقوا بينهما وبين ابنيهما إذا أسلم خوف أن يفسد دينه ، وبيعوا عبد المسلم الفاسق وأمته بهذا الاعتلال ، لأنه مظنون منه تدريبهما على شرب الخمر ، وإضاعة الصلاة والظلم ، ولا فرق ، وهذا ما لا مخلص منه أصلا - والحمد لله رب العالمين . وقوله تعالى : { إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن وآتوهم ما أنفقوا ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن } برهان قاطع في وجوب عتق أمة الذمي ، أو الحربي إذا أسلمت لأنه تعالى أمر أن لا نرجعها إلى الكفار وأنهن لا يحللن لهم وأباح لنا نكاحهن ، وهذا عموم يوجب الحرية ضرورة . فإن قيل : قوله تعالى في هذه الآية : { وآتوهم ما أنفقوا } دليل على أنه تعالى أراد الزوجات . قلنا : الآية كلها عامة لكل مؤمنة هاجرت بالإيمان لتدخل في جملة المسلمين ، وهذا الحكم في إيتاء ما أنفقوا خاص في الزوجات ، ولا يوجب أن يكون سائر عموم الآية خصوصا ، إذ لم يوجب ذلك لغة ولا شريعة - وبالله تعالى التوفيق . وقد صح أن أبا بكرة خرج إلى رسول الله ﷺ مسلما فعتق . فإن قالوا : هذا حكم من خرج من دار الحرب إلى دار الإسلام . قلنا : ما الفرق بينكم وبين من قال : بل هذا حكم من خرج من الطائف خاصة ؟ وهل بين الحكمين فرق ؟ ثم نقول لهم : وما دليلكم على هذا ؟ وإنما جاء مسلما إلى رسول الله ﷺ وهو عبد لكافر فأعتقه ، ولم يقل عليه السلام : إني إنما أعتقته ، لأنه خرج من دار الحرب ، فمن نسب هذا إلى رسول الله ﷺ فقد كذب عليه ، وقال عليه بلا برهان ، وأنتم تقيسون الجص على التمر ، السقمونيا على البر ، والكمون عليهما بلا برهان ، وفرج المسلمة المتزوجة على يد السارق ، ثم تفرقون بين عبد مسلم وعبد مسلم كلاهما أسلم في ملك كافر ، إن هذا لعوج ما شئتم . فإن ذكروا أمر بلال ، وسلمان ، رضي الله عنهما أن كليهما أسلم وهما مملوكان لوثني ويهودي ؛ فابتاع بلالا أبو بكر ، وكاتب سلمان سيده ، فلو كانا حرين بنفس إسلامهما لما كان أبو بكر مالك ولاء بلال ، ولا صحيح العتق فيه ؟ قلنا وبالله تعالى التوفيق : أما أمر بلال فكان في أول الإسلام بلا خلاف من أحد ، وقبل نزول الآية التي ذكرنا ببضع عشرة سنة ، لأن الآية مدنية في " سورة النساء " ولم تكن الصلاة يومئذ لازمة ، ولا الزكاة ، ولا الصيام ، ولا الحج ، ولا المواريث ، ولا كان حراما نكاح الوثني المسلمة ، ولا نكاح المسلم الوثنية ، ولا ملك الوثني للمسلم ، فلا حجة في أمر بلال . وأما أمر سلمان فكان بالمدينة وكان مملوكا لرجل من بني قريظة ، وهم ممتنعون لا يجري عليهم حكم رسول الله ﷺ بل هم في حصونهم مالكون لأنفسهم ، وكان إسلام سلمان رضي الله عنه بلا خلاف قبل الخندق ، وهو أول مشاهده ، وهلاك بني قريظة وقتلهم ، وحصارهم ، بعد الخندق بلا خلاف من أحد . ومن البرهان القاطع على أن ملك سيده له بطل عنه بإسلامه أنه كان مكاتبا له بلا شك وما انتمى قط إلى ولاء ذلك لقرظي بل انتمى مولى الله تعالى ورسوله ، وهذا كله متفق عليه من المؤالف ، والمخالف ، والصالح والطالح ؛ فلو كان ملكه له صحيحا وكتابته له صحيحة بحق الملك لكان ولاؤه له ، ولو كان ولاؤه له لما تركه النبي ﷺ ينتفي عن ولائه - وفي هذا حجة لمن نصح نفسه وكفاية ، وكيف ولو لم يقم هذا البرهان لما كان لهم فيه حجة ؟ لأنهم لا دليل لهم على أنه كان أمره بعد نزول الآية المذكورة وبالله تعالى التوفيق . وبهذا القول يقول بعض أصحاب مالك - ذكر ذلك ابن شعبان عنهم أن عبد الذمي ساعة يسلم فهو حر . وقال أشهب : ساعة يسلم عبد الحربي فهو حر ، خرج أو لم يخرج . وقال مالك : إذا أسلمت أم ولد الذمي فهي حرة . وقال أبو حنيفة وأصحابه : إن أسلم عبد الحربي في دار الحرب فهو باق على ملكه ، فإن باعه أو وهبه من مسلم ، أو كافر ، أو لمسلم ، أو كافر فهو حر ساعة بيعه أو هبته ، وبطل البيع والهبة . قال : فإن اشترى الحربي عبدا مسلما فهو على ملكه ، فإذا حمله إلى أرض الحرب فساعة دخوله إلى أرض الحرب فهو حر - فهل سمع بأوحش أو أفحش من هذا التخليط ؟ وهي أقوال لا يعرف أن أحدا قالها قبله . وأما مالك : فإذا أعتق أم ولده بإسلامها ، وهي أمة له فقد ناقض ، إذ لم يعتق العبد والأمة بإسلامهما ، ولا فرق بين ذلك . روينا من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرنا أنه سمع سليمان بن موسى يقول : لا يسترق الكافر المسلم - وهذا نفس قولنا ؛ لأنه أبطل استرقاقه إياه جملة . قال ابن جريج : وسئل ابن شهاب عن أم ولد النصراني أسلمت ؟ فقال ابن شهاب : يفرق الإسلام بينهما وتعتق . قال ابن جريج : لا تعتق حتى يدعى هو إلى الإسلام ، فإن أبى عتقت . قال أبو محمد : كلاهما قد أوجب عتقها ، ولا معنى لتأني عرض الإسلام عليه . ومن طريق ابن أبي شيبة نا معن بن عيسى عن ابن أبي ذئب عن الزهري قال : مضت السنة أن لا يسترق كافر مسلما . ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن عمرو بن ميمون قال : كتب عمر بن عبد العزيز فيمن أسلم من رقيق أهل الذمة أن يباعوا ولا يتركون يسترقونهم ، ويدفع أثمانهم إليهم ، فمن قدرت عليه بعد تقدمك إليه استرق شيئا من سبي المسلمين ممن قد أسلم وصلى فأعتقه . ومن طريق عبد الرزاق عن ابن جريج قال : أخبرني بعض أهل أرضنا أن نصرانيا أعتق مسلما فقال عمر بن عبد العزيز : أعطوه قيمته من بيت المال ، وولاؤه للمسلمين . قال أبو محمد : قد رأى عتقه له غير نافذ ورأى ولاءه للمسلمين وهذا هو نص قولنا ، وأما إعطاؤه قيمته من بيت المال فلا نقول بهذا : فإنه لا حق للكفار في بيت مال المسلمين .
944 - مسألة : ومن سبي من أهل الحرب من الرجال وله زوجة ، أو من النساء ولها زوج فسواء سبي معها ، أو لم يسب معها ، ولا سبيت معه فهما على زوجيتهما فإن أسلمت انفسخ نكاحها حين تسلم لما قدمنا وأما بقاء الزوجية فلأن نكاح أهل الشرك صحيح قد أقرهم رسول الله ﷺ عليه ، ولم يأت نص بأن سباءهما ، أو سباء أحدهما يفسخ نكاحهما . فإن قيل : فقد قال الله تعالى : { والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم } قلنا : نعم ، إذا أسلمت حلت لسيدها المسلم ، ولو كانت هذه الآية على عمومها لكان من له أمة ناكح تحل له ؛ لأنها ملك يمينه ، وهذا ما لا يقوله الحاضرون من خصومنا . وقد قال به ابن عباس وغيره : من ابتاع أمة ذات زوج فبيعها طلاقها - ولا نقول بهذا ، لما سنذكره في كتاب النكاح إن شاء الله عز وجل