انتقل إلى المحتوى

محلى ابن حزم - المجلد الثالث/الصفحة الثانية والستون

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
ابن حزم - المحلى المؤلف ابن حزم
كتاب المرفق (مسألة 1355 - 1361)


كتاب المرفق

1355 - مسألة : ولكل أحد أن يفتح ما شاء في حائطه من كوة أو باب ، أو أن يهدمه إن شاء في دار جاره ، أو في درب غير نافذ أو نافذ ، ويقال لجاره : ابن في حقك ما تستر به على نفسك ؟ إلا أنه يمنع من الاطلاع فقط . وهو قول أبي حنيفة ، والشافعي ، وأبي سليمان . وقال مالك : يمنع من كل ذلك . قال أبو محمد : وهذا خطأ ؛ لأن كل ذي حق أولى بحقه . ولا يحل للجار أن ينتفع بحائط جاره إلا حيث جاء النص بذلك . ولا فرق بين أن يهدم حائطه فلا يكلف بنيانه ويقول لجاره : استر على نفسك إن شئت ، وبين أن يهدم هو حائط نفسه . ولا فرق بين السقف والاطلاع منه وبين قاع الدار والاطلاع منه - ولا فرق بين فتح كوة للضوء وبين فتحها هكذا وكلا الأمرين ، يمكن الاطلاع منه ، ولم يأت قط قرآن ، ولا سنة ، ولا رواية سقيمة ، ولا قول صاحب يمنع المرء من أن يفتح في حقه وفي حائطه ما شاء . فإن احتجوا بالخبر { لا ضرر ولا ضرار } هذا خبر لا يصح ؛ لأنه إنما جاء مرسلا ، أو من طريق فيها زهير بن ثابت - وهو ضعيف - إلا أن معناه صحيح . ولا ضرر أعظم من أن يمنع المرء من التصرف في مال نفسه مراعاة لنفع غيره فهذا هو الضرر حقا . وأما الاطلاع فمنعه واجب - : لما روينا من طريق البخاري نا علي بن عبد الله بن المديني نا سفيان بن عيينة نا أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال : قال أبو القاسم  : { لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذن فحذفته بعصا ففقأت عينه لم يكن عليك جناح } ورويناه أيضا من طريق أخرى { بحصاة } هو أصح .

1356 - مسألة : وليس لأحد أن يرسل ماء سقفه أو داره على أرض جاره أصلا ، فإن أذن له كان له الرجوع متى شاء لقول رسول الله  : { إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام } فإطلاقه ماء داره على أرض جاره تصرف منه في مال غيره - وهو عليه حرام - والإذن في ذلك إنما هو ما دام إذنا ؛ لأنه لم يملكه الرقبة ، والإذن في شيء ما اليوم غير ما لم يؤذن له فيه غدا بلا شك - وبالله التوفيق .

1357 - مسألة : ولا يجوز لأحد أن يدخن على جاره ؛ لأنه أذى ، وقد حرم الله تعالى أذى المسلم . ولكل أحد أن يعلي بنيانه ما شاء - وإن منع جاره الريح والشمس - لأنه لم يباشر منعه بغير ما أبيح له . ولكل أحد أن يبني في حقه ما شاء من حمام ، أو فرن ، أو رحى ، أو كمر أو غير ذلك ، إذ لم يأت نص بالمنع من شيء من ذلك .

1358 - مسألة : ولا يحل لأحد أن يمنع جاره من أن يدخل خشبا في جداره ويجبر على ذلك - أحب أم كره - إن لم يأذن له ، فإن أراد صاحب الحائط هدم حائطه كان له ذلك ، وعليه أن يقول لجاره : دعم خشبك أو انزعه فإني أهدم حائطي ، ويجبر صاحب الخشب على ذلك - : لما روينا من طريق مالك عن ابن شهاب عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله قال : { لا يمنع أحدكم جاره أن يغرز خشبة في جداره } ثم يقول أبو هريرة : مالي أراكم عنها معرضين والله لأرمين بها بين أكتافكم فهذا قول أبي هريرة ولا يعرف له مخالف من الصحابة رضي الله عنهم - وهو قول أصحابنا . وقال أبو حنيفة ، ومالك : ليس له أن يضع خشبه في جدار جاره . قال أبو محمد : وهذا خلاف مجرد للخبر وما نعلم لهم حجة أصلا ، إلا أن بعضهم ذكر قول رسول الله  : { إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام } . قال علي : الذي قال هذا هو الذي قال ذلك ، وقوله كله حق وعن الله تعالى ، وكله واجب علينا السمع له والطاعة ، وليس بعضه معارضا لبعض قال الله تعالى : { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم } والذي قضى بالشفعة وإسقاط الملك بعد تمامه ، وإبطال الشراء بعد صحته وقضى بالعاقلة ، وأن يغرموا ما لم يجنوا ، وأباح أموالهم في ذلك - أحبوا أم كرهوا - هو الذي قضى بأن يغرز الجار خشبه في جدار جاره ، ونهى عن منعه من ذلك . ولو أنهم استعملوا هذا الحكم حيث أباحوا ثمر النخل ، وكراء الدار المغصوبة - : كل ذلك لمن اشتراه من الغاصب بالباطل لكان أولى بهم ، والواجب استعمال جميع السنن . فنقول : أموالنا حرام على غيرنا ، إلا حيث أباحها الذي حرمها . وقال بعضهم : قد روي هذا الخبر { خشبة } بالنصب على أنها واحدة ؟ فقلنا : فأنتم لا تجيزون له لا واحدة ولا أكثر من واحدة ، فأي راحة لكم في هذه الرواية ؟ وكل خشبة في العالم فهي خشبة ، وليس للجار منع جاره من أن يضعها في جداره ، فالحكم واحد في كلتا الروايتين - وبالله تعالى التوفيق .

1359 - مسألة : وكل من ملك ماء في نهر حفره ، أو ساقية حفرها ، أو عين استخرجها ، أو بئر استنبطها - فهو أحق بماء كل ذلك ما دام محتاجا إليه ، ولا يحل له منع الفضل ، بل يجبر على بذله لمن يحتاج إليه ، ولا يحل له أخذ عوض عنه ، لا ببيع ولا غيره - : لما روينا من طريق جرير عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله  : { لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ } . ومن طريق أبي داود ، نا النفيلي نا داود بن عبد الرحمن العطار عن عمرو بن دينار عن أبي المنهال عن إياس بن عبد قال { نهى رسول الله عن بيع فضل الماء }

1360 - مسألة : وما غلب عليه الماء من نهر ، أو نشع ، أو سيل ، فاستغار فهو لصاحبه كما كان ، فإن انتقل عنه يوما ما - ولو بعد ألف عام - فهو له ولورثته ، وما رمى النهر من أحد عدوتيه إلى أخرى فهو باق بحسبه كما كان لمن كان له . وقال المالكيون : بخلاف ذلك - وهذا باطل لأن تبدل مجرى الماء لا يسقط ملكا عن مالكه ، ولا يحل مالا محرما لمن حرمه الله تعالى عليه ، وهذا حكم في الدين بلا برهان ، قال رسول الله  : { إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام } .

1361 - مسألة : ولا تكون الأرض بالإحياء إلا لمسلم ، وأما الذمي فلا ، لقول الله تعالى : { إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده } وقوله تعالى : { أن الأرض يرثها عبادي الصالحون } ونحن أولئك لا الكفار ، فنحن الذين أورثنا الله تعالى الأرض - فله الحمد كثيرا .