انتقل إلى المحتوى

محاضرات في تاريخ الدولة العباسية/الباب الأول، مقدمة: سمات الدولة العباسية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة



مقدمة: سمات الدولة العباسية:


دالت الدولة الأموية، التي حكمت الدولة العربية الإسلامية، من الحاضرة دمشق، وقامت على أنقاضها دولة جديدة تنتمي الى بيت الرسول صلى الله عليه وسلم وهي الدولة العباسية، وارتفعت بنود العباسيين السوداء.

ويعتبر قيام الأسرة الجديدة نقطة تحول خطيرة في دولة الإسلام وذلك أن صبغة الدولة أصبحت إسلامية عالمية بعد أن كانت عربية. واستمرت الدولة العباسية فــــي الحكم حوالي خمسة قرون شهدت الدولة خلالها فترات من العظمة والسؤدد والأبهة، وتمتع الخلفاء أثناءها بكل مظاهر الترف والحضارة كما شهدوا أيضاً فترات من الضعف والشدة والبؤس ذاقوا خلالها مرارة الذل والهوان.

والعصر العباسي الأول يشغل فترة القرن الأول من هذه الفترة. وخـــلال هذا القرن كان الفرس يحتلون مركز الصدارة في الدولة ولهذا يطلق الكتّاب على هذه الفترة اسم العصر الفارسي أو دولة الفرس. وعقبت فترة الازدهار والقوة هذه فتــــــــرة انتاب فيبا الخلفاء الضعف الشديد وتغلب عليهم قواد الجيش من الترك، وأصبـح الأمر والنهي في الدولة لقائد الجيوش الذي عرف بلقب أمير الأمراء. كذلك شهدت الدولة خلال هذه الفترة التفتت والانقسام السياسي الذي بدأ أول الأمر في المغــرب والأندلس ثم انتقل الى المشرق الذي بدأ ينفصل بدوره عن الدولة.

هذه الفترة ـ أو المرحلة الثانية ــ يطلق عليها الكتّاب اسم العصر التركـي أو دولة الترك. وهذه الفترة تنقسم بدورها الى فترات ساد المشرق فيها بعض العناصر التركية وغير التركية. ففي قبيل منتصف القرن الرابع الهجري فرضت أسرة البويهيــن من الديلم وصايتها على الخليفة في بغداد من سنة ٣٣٤هـ إلى منتصف القــــــــرن الخامس الهجري تقريباً. وبني بويه هولاء كانوا يدينون بالمذهب الشيعي ورغم ذلك لم يحاولوا أن يقضوا على الخلافة السنية بل حافظوا عليها. ولكن قيام دولتهم ساعـد على انتشار الأفكار الشيعية في المشرق. وكان ذلك إيذاناً بتحول كل المشرق الإيرانـي إلى المذهب الشيعي.

وتلى الديلم دولة السلاجقة وهم من الأتراك، واستمر العنصر التركي يسود الدولة حتى نهاية بغداد على أيدي المغول. وكان سقوط بغداد حاضرة الخلافة العباسيـة أثره الخطير بالنسبة للدولة الإسلامية من الناحيتين السياسية والحضارية. فمن الناحية السياسية انتهت دولة الخلافة وتقسمت الدولة الى ذلك العدد الكبير من الـدول المعروفة في المغرب وفي المشرق وحاول الأتراك العثمانيون أن يعيدوا هذه الوحـدة وقد نجحوا إلى حد ما.

أما من الناحية الحضارية فكان سقوط بغداد يعني توقف العلوم والحضـارة العربية الإسلامية. وتلى هذا التوقف فترة من التدهور والاضمحلال استمرت إلى وقت قريب عندما بدأ العرب المسلمون يفيقون من ثباتهم هذا في الوقت الذي كانت فيـه أوربا تنهض من الناحيتين السياسية والحضارية فبدأت الفترة الحديثة الحالية في تاريخ الإسلام التي نسميها فترة النهضة.

أما عن السمات التي تميزت بها الدولة العباسية ففي مقدمتها أن الدولـة اتخذت سياسة شرقية على عكس الدولة الأموية التي كانت تتجه في سياستها العامة اتجاهاً غربياً والمثل لذلك هو أن بلاد المغرب كانت أول البلاد التي خرجت علـى سلطان الخلافة العباسية وبدأت حركة المد الإسلامي في بلاد المغرب تفقد قوتها، كما بدأ ينكمش أمام ضغط أوربا المتزايد.

وفيما يتعلق بخلفاء الدولة العباسية فقد اعتبروا أنفسهم ورثة النبي صلى الله عليه وسلم الذين يسيرون بالجماعة الإسلامية في الطريق القويم المستقيم. واذا ما تأملنـا في كتب التاريخ نجد أن الكتاب يؤكدون حرمة وقداسة الخليفة العباسي سليل بيـت النبوة بينما يظهرون خلفاء بني أمية بمظهر الزعماء غير المتدينين ويبالغون في وصـف رذائلهم. ويمكن أن نفسر ن ذلك بأن معظم الكتاب الذين كتبوا عن تاريخ الدولة الأموية إنما دوّنوا مصنفاتهم تلك، على أيام العباسيين ولهذا السبب لا نتوقع منهم أن يسجلـوا أمجاد أسرة انمحت واندثرت. وصورة الخليفة العباسي عند هؤلاء الكتاب أشبـه ما تكون بصورة كسرى فارس فهو يتمتع بكثير من الأبهة والفخامة والرونق والعظمـة، كما تحيط به مظاهر الترف والتحضر. فقد زخر بلاط الخليفة بأهل العلم والفقه من يتصفون بالورع والتقوى، إلى جانب الأدباء والمغنين والشعراء، والأطباء الأخيار، والقضاة، وكذلك المشعوذين والمنجمين. وشهدت، كما يقول ديمومبين ليالي بغداد الساحرة محافل الخلفاء ومجالسهم، فبعد صلاة العشاء الورعة تنشد الأغاني وتدار كورس الـراح خلال ذلك. ويسطر الجو بأنسام عبقة تتصاعد من المبخرات، ويختل على رنين قطـــــــرات الينابيع ويهتز الجو طرباً للأصوات القوية المفردة المنبعثة عن أفواه المغنيات وألحان الأعواد، وقد يعترض هذه الحفلات اليومية حادثة غير متوقعة فتكسبها طرافة كاستجواب سجين لبق ذي نصاحة مفحمة، أو زيارة ناسك متسول ذي كبرياء وفظاظة، وقد يحز رأس بينما تدور الأقداح. وتقترب الليلة من نهايتها، فيثقل الخمر قلـــوب النشاوي ، وتنهل الدموع، وقد ينشد شاعر قصيدة ينعي فيها العمر القصير. وفي الختام يبزغ الفجر بأضوائه المتهيبة، فيؤدي صلاة الصبح أولئك الذين فيهم بقيـة من وعي بخشوع وتقوى. إنها حياة ملأى بالأحاسيس، عنيفة رقيقة معاً، تحفـل بالفظاظة ورقة الطبع في آن واحد، نجد مثيلاً لها لكن بصورة أوضح وأعنف، وذلـك في عصر النهضة الأوربية. وقد ورد وصف هذه الحياة الحافلة في ألف ليلة وليلـة، والأغاني، ومروج الذهب، وفي روايات المؤرخين وقصائد الشعراء. ولكن وراء هـذا الوجه الرومنتيكي للحياة يعيش شعب بينهم من يفكر.. وقد شهد القرن الثالـث الهجري (التاسع الميلادي) قمة جهود المسلمين لفهم ذات الله والإنسان والحياة، والتوفيق بين العقل والنقل. وكان عصر ازدهار الأدب العربي كذلك، وبداية إحيـاء آخر للفن الإسلامي بصورة فعالة. وفي هذا العصر كذلك نجد كل امكانيات الازدهار العقلي والمادي قد تحققت بوضوح. وفي السنوات الأخيرة من هذا العصر بالـذات آذنت الساعة بزوال وتفسخ هذا المجد1.


  1. انظر، جودفروا ديمومبين، النظم الإسلامية، ترجمة الدكتور فيصل السامر، الدكتور صالح الشمـاع، دار النشر للجامعيين، بيروت ١٩٦١، ص ۲۹ - ۳۰.