مجموع الفتاوى/المجلد السابع عشر/أسماء المصادر
أسماء المصادر
وأسماء المصادر في باب الكلام تتضمن القول نفسه وتدل على فعل القائل بطريق التضمن واللزوم، فإنك إذا قلت: الكلام والخبر والحديث والنبأ والقصص، لم يكن مثل قولك: التكليم والإنباء والإخبار والتحديث؛ ولهذا يقال: إنه منصوب على المفعول به، واسم المصدر ينتصب على المصدر كما في قوله: { وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا } 1، فإذا قال: كلمته كلامًا حسنًا، وحدثته حديثًا طيبا، وأخبرته أخبارًا سارة، وقصصت عليه قصصًا صادقة ونحو ذلك، كان هذا منصوبًا على المفعول به لم يكن هذا.
كقولك: كلمته تكليمًا، وأنبأته أنباء. فتبين أن قوله: { أَحْسَنَ الْقَصَصِ } 2، منصوب على المفعول، وكل ما قصه الله فهو أحسن القصص، ولكن هذا إذا كان يتضمن معنى المصدر ومعنى المفعول به، جاز أن ينتصب على المعنيين جميعًا، فإنهما متلازمان، تقول: قلت قولا حسنا وقد أسمعته قولا، ولم يسمع الفعل الذي هو مسمى المصدر، وإنما سمع الصوت، وتقول: قال يقول قولا فتجعله مصدرًا، والصوت نفسه ليس هو مسمى المصدر، إنما مسمى المصدر الفعل المستلزم للصوت ولكن هما متلازمان.
ولهذا تنازع أهل السنة والحديث في التلاوة والقرآن هل هي القرآن المتلو أم لا؟ وقد تفطن ابن قتيبة وغيره لما يناسب هذا المعنى وتكلم عليه، وسبب الاشتباه: أن المتلو هو القرآن نفسه الذي هو الكلام، والتلاوة قد يراد بها هذا، وقد يراد بها نفس حركة التإلى وفعله، وقد يراد بها الأمران جميعًا، فمن قال: التلاوة هي المتلو، أراد بالتلاوة: نفس القرآن المسموع وذلك هو المتلو، ومن قال غيره أراد بالتلاوة: حركة العبد وفعله وتلك ليست هي القرآن، ومن نهي عن أن يقال: التلاوة هي المتلو أو غير المتلو؛ فلأن لفظ التلاوة يجمع الأمرين، كما نهى الإمام أحمد وغيره عن أن يقال: لفظي بالقرآن مخلوق أو غير مخلوق؛ لأن اللفظ يراد به الملفوظ نفسه الذي هو كلام الله، ويراد به مصدر لَفَظَ يَلِفظُ لَفْظًا وهو فعل العبد، وأطلق قوم من أهل الحديث: أن لفظي بالقرآن غير مخلوق، وأطلق ناس آخرون: أن لفظي به مخلوق. قال ابن قتيبة: لم يتنازع أهل الحديث في شيء من أقوالهم إلا في مسألة اللفظ، وهذا كان تنازع أهل الحديث والسنة الذين كانوا في زمن أحمد بن حنبل، وأصحابه الذين أدركوه.
ثم جاء بعد هؤلاء طائفة قالوا: التلاوة غير المتلو، وأرادوا بالتلاوة: نفس كلام الله العربي الذي هو القرآن، وأرادوا بالمتلو معنى واحدًا قائما بذات الله. وقال آخرون: التلاوة هي المتلو، وأرادوا بالتلاوة: نفس الأصوات المسموعة من القراء، جعلوا ما سمع من الأصوات هو نفس الكلام الذي ليس بمخلوق، ولم يميزوا بين سماع الكلام من المتكلم وبين سماعه من المبلغ له عنه، فزاد كل من هؤلاء وهؤلاء من البدع ما لم يكن يقوله أحد من أهل السنة والعلم، فلم يكن من أهل السنة من يقول: إن القرآن العربي ليس هو كلام الله، ولا يجعل المتلو مجرد معنى، ولا كان فيهم من يقول: إن أصوات العباد وغيرها من خصائصهم غير مخلوق، بل هم كلهم متفقون على أن القرآن المتلو هو القرآن العربي الذي نزله روح القدس من الله بالحق، وهو كلام الله الذي تكلم به، ولكن تنازعوا في تلاوة العباد له: هل هي القرآن نفسه؟ أم هي الفعل الذي يقرأ به القرآن؟
والتحقيق أن لفظ التلاوة يراد به هذا وهذا، ولفظ القرآن يراد به المصدر ويراد به الكلام، قال الله تعالى: { إِنَّ علينا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ علينا بَيَانَهُ } 3، وفي الصحيحين عن ابن عباس قال: إن علينا أن نجمعه في قلبك، وتقرأه بلسانك. وقال أهل العربية: يقال: قرأت الكتاب قراءة وقرآنا، ومنه قول حسان:
ضحّوا بأشمط عنوان السجود به ** يقطّع الليل تسبيحا وقرآنا
وقد قال تعالى: { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } 4، وقال تعالى: { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } 5، وقال تعالى: { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ } 6، وهم إنما يستمعون الكلام نفسه ولا يستمعون مسمى المصدر الذي هو الفعل، فإن ذلك لا يسمع، فقوله: { نَحْنُ نَقُصُّ عليك أَحْسَنَ الْقَصَصِ } 7، من هذا الباب، من باب نقرأ عليك أحسن القصص، ونتلو عليك أحسن القصص، كما قال تعالى: { نَتْلُوا عليك مِن نَّبَإِ موسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ } 8، وقال: { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ } 9. قال ابن عباس: أي قراءة جبريل. { فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ }: فاستمع له حتى يقضي قراءته.
والمشهور في قوله: { وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ } 10 أنه منصوب على المفعول به، فكذلك { أّحسن القصص }، لكن في كليهما معنى المصدر أيضا كما تقدم، ففيه معنى المفعول به ومعنى المصدر جميعا، وقد يغلب هذا كما في قوله: { إِنَّ علينا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ } 11، فالمراد هنا نفس مسمى المصدر، وقد يغلب هذا تارة كما في قوله: { فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ } 12، وقوله: { قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ } 13، وقوله: { إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } 14، وغالب ما يذكر لفظ القرآن إنما يراد به نفس الكلام، لا يراد به التكلم بالكلام الذي هو مسمى المصدر.
ومثل هذا كثير في اللغة يكون أمران متلازمان: إما دائمًا، وإما غالبا، فيطلق الاسم عليهما، ويغلب هذا تارة وهذا تارة، وقد يقع على أحدهما مفردًا كلفظ النهر و القرية و الميزاب ونحو ذلك مما فيه حال ومحل، فالاسم يتناول مجري الماء والماء الجاري، وكذلك لفظ القرية يتناول المساكن والسكان، ثم تقول: حفر النهر، فالمراد به المجري، وتقول: جري النهر، فالمراد به الماء، وتقول: جري الميزاب تعني الماء. وَنُصِّبَ الميزابُ تعني الخشب. وقال تعالى: { وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ } 15، والمراد السكان في المكان، وقال تعالى: { وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ } 16، وقال تعالى: { وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا } 17، وقال تعالى: { وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا } 18، وقال تعالى: { وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ } 19، وقال تعالى: { لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا } 20، وقال تعالى { فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ } 21، والخاوي على عروشه: المكان لا السكان، وقال تعالى: { أَوْ كَالَّذِي مَرَّ على قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا } 22، لما كان المقصود بالقرية هم السكان كان إرادتهم أكثر في كتاب الله، وكذلك لفظ النهر لما كان المقصود هو الماء كان إرادته أكثر كقوله: { وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ } 23، وقوله: { وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا } 24، فهذا كثير. أكثر من قولهم: حفرنا النهر.
وكذلك إطلاق لفظ القرآن على نفس الكلام أكثر من إطلاقه على نفس التكلم، وكذلك لفظ الكلام والقول والقصص وسائر أنواع الكلام يراد بها نفس الكلام أكثر مما يراد بها فعل المتكلم، وهذه الأمور لبسطها موضع آخر.
والمقصود هنا أن قوله تعالى: { نَحْنُ نَقُصُّ عليك أَحْسَنَ الْقَصَصِ } 25، المراد: الكلام الذي هو أحسن القصص، وهو عام في كل ما قصه الله، لم يخص به سورة يوسف؛ ولهذا قال: { بِمَا أَوْحَيْنَا إليكَ هَذَا الْقُرْآنَ } 26، ولم يقل: بما أوحينا إليك هذه السورة، والآثار المأثورة في ذلك عن السلف تدل كلها على ذلك، وعلى أنهم كانوا يعتقدون أن القرآن أفضل من سائر الكتب، وهو المراد. والمراد من هذا حاصل على كل تقدير، فسواء كان أحسن القصص مصدرًا أو مفعولا أو جامعًا للأمرين، فهو يدل على أن القرآن وما في القرآن من القصص أحسن من غيره، فإنا قد ذكرنا أنهما متلازمان، فأيهما كان أحسن، كان الآخر أحسن. فتبين أن قوله تعالى: { أَحْسَنَ الْقَصَصِ } كقوله: { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ } 27، والآثار السلفية تدل على ذلك.
والسلف كانوا مقرين بأن القرآن أحسن الحديث، وأحسن القصص، كما أنه المهيمن على ما بين يديه من كتب السماء، فكيف يقال: إن كلام الله كله لا فضل لبعضه على بعض؟! روي ابن أبي حاتم، عن المسعودي، عن القاسم أن أصحاب رسول الله ﷺ ملوا ملة فقالوا: حدثنا يارسول الله، فأنزل الله: { نَحْنُ نَقُصُّ عليك أَحْسَنَ الْقَصَصِ } ، ثم ملوا ملة فقالوا: حدثنا يارسول الله، فنزلت: { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ } 28، ثم ملوا ملة فقالوا: حدثنا يارسول الله، فأنزل الله: { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ } 29.
وقد روى أبو عبيد في فضائل القرآن عن بعض التابعين فقال: حدثنا حجاج، عن المسعودي، عن عون بن عبد الله بن عتبة قال: مل أصحاب رسول الله ﷺ ملة فقالوا: يارسول الله، حدثنا، فأنزل الله تعالى: { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ } قال: ثم نعته فقال: { كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ اللَّهِ } إلى آخر الآية 30، قال: ثم ملوا ملة أخرى فقالوا: يارسول الله، حدثنا شيئا فوق الحديث ودون القرآن - يعنون القصص - فأنزل الله: { الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ } إلى قوله { نَحْنُ نَقُصُّ عليك أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إليكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ } 31، قال: فإن أرادوا الحديث دلهم على أحسن الحديث، وإن أرادوا القصص دلهم على أحسن القصص. ورواه ابن أبي حاتم بإسناد حسن مرفوعا عن مصعب بن سعد، عن سعد قال: نزل على رسول الله ﷺ القرآن فتلاه عليهم زمانًا، فقالوا: يارسول الله، لو قصصت علينا. فأنزل الله تعالى: { الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ.... نَحْنُ نَقُصُّ عليك أَحْسَنَ الْقَصَصِ } 32، فتلاه عليهم زمانًا.
ولما كان القرآن أحسن الكلام، نهوا عن اتباع ما سواه. قال تعالى: { أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عليك الْكِتَابَ يُتْلَي عليهمْ } 33. وروى النسائي وغيره عن النبي ﷺ أنه رأي بيد عمر بن الخطاب شيئا من التوراة فقال: «لو كان موسى حيًا ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم». وفي رواية: «ما وسعه إلا اتباعي». وفي لفظ: فتغير وجه النبي ﷺ لما عرض عليه عمر ذلك، فقال له بعض الأنصار: يا ابن الخطاب، ألا تري إلى وجه رسول الله ﷺ؟ فقال عمر: رضينا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيًا. ولهذا كان الصحابة ينهون عن اتباع كتب غير القرآن.
وعمر انتفع بهذا حتى إنه لما فتحت الإسكندرية وُجِدَ فيها كتبٌ كثيرة من كتب الروم، فكتبوا فيها إلى عمر، فأمر بها أن تحرق وقال: حسبنا كتاب الله. وروي ابن أبي حاتم، حدثنا أبي، حدثنا إسماعيل بن خليل، حدثنا علي بن مسهر، حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق، عن خليفة بن قيس، عن خالد بن عُرْفُطَةَ، قال: كنت عند عمر بن الخطاب، إذ أُتِي برجل من عبد القيس مسكنه بالسوس. فقال له عمر: أنت فلان ابن فلان العبدي؟ قال: نعم. قال: وأنت النازل بالسوس؟ قال: نعم. فضربه بقناة معه، فقال له: ما ذنبي؟ قال: فقرأ عليه: { الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ.... نَحْنُ نَقُصُّ عليك أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إليكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ } 34، فقرأها عليه ثلاث مرات وضربه ثلاث ضربات، ثم قال له عمر: أنت الذي انتسخت كتاب دانيال؟ قال: نعم. قال: اذهب فامحه بالحميم والصوف الأبيض، ولا تقرأه ولا تقرئه أحدًا من الناس. فقرأ عليه عمر هذه الآية، ليبين له أن القرآن أحسن القصص فلا يحتاج معه إلى غيره. وهذا يدل على أن القصص عام لا يختص بسورة يوسف، ويدل على أنهم كانوا يعلمون أن القرآن أفضل من كتاب دانيال ونحوه من كتب الأنبياء. وكذلك مثل هذه القصة مأثورة عن ابن مسعود لما أُتِي بما كتب من الكتب محاه وذكر فضيلة القرآن كما فعل عمر رضي الله عنهما.
وروى ابن أبي حاتم عن قتادة: { نَحْنُ نَقُصُّ عليك أَحْسَنَ الْقَصَصِ } قال: من الكتب الماضية وأمور الله السالفة في الأمم: { بِمَا أَوْحَيْنَا إليكَ هَذَا الْقُرْآنَ } 35. وهذا يدل على أن أحسن القصص يعم هذا كله، بل لفظ القصص يتناول ما قصه الأنبياء من آيات الله غير أخبار الأمم، كقوله تعالى: { أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عليكمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُواْ شَهِدْنَا على أَنفُسِنَا } 36. وقال في موضع آخر: { يَتْلُونَ عليكمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ } 37، وقد قال تعالى: { وَأَنزَلْنَا إليكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عليه } 38. وروى ابن أبي حاتم بالإسناد المعروف، عن ابن عباس قال: مؤتمنًا عليه. قال: وروي عن عكرمة والحسن وسعيد بن جبير وعطاء الخراساني أنه الأمين. وروي من تفسير الوالبي، عن ابن عباس قال: المهيمن: الأمين. قال: على كل كتاب قبله. وكذلك عن الحسن قال: مصدقا بهذه الكتب وأمينًا عليها. ومن تفسير الوالبي أيضا عن ابن عباس { وَمُهَيْمِنًا عليه } قال: شهيدًا، وكذلك قال السدي عن ابن عباس. وقال في قوله: { وَمُهَيْمِنًا عليه }: على كل كتاب قبله. قال: وروي عن سعيد بن جبير وعكرمة وعطية وعطاء الخراساني ومحمد بن كعب وقتادة والسدي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم نحو ذلك، وابن أبي حاتم قد ذكر في أول كتابه في التفسير: أنه طلب منه إخراج تفسير القرآن مختصرًا بأصح الأسانيد، وأنه تحري إخراجه بأصح الأخبار إسنادًا وأشبعها متنًا. وذكر إسناده عن كل من نقل عنه شيئًا.
فالسلف كلهم متفقون على أن القرآن هو المهيمن المؤتمن الشاهد على ما بين يديه من الكتب، ومعلوم أن المهيمن على الشيء أعلى منه مرتبة. ومن أسماء الله المهيمن، ويسمى الحاكم على الناس القائم بأمورهم المهيمن. قال المبرد والجوهري وغيرهما: المهيمن في اللغة: المؤتمن. وقال الخليل: الرقيب الحافظ. وقال الخطابي المهيمن: الشهيد. قال: وقال بعض أهل اللغة: الهيمنة: القيام على الشيء والرعاية له، وأنشد:
ألا إن خير الناس بعد نبيهم ** مهيمنه التإليه في العرف والنكر
يريد القائم على الناس بالرعاية لهم. وفي مهيمن قولان: قيل: أصله مؤيمن والهاء مبدلة من الهمزة، وقيل: بل الهاء أصلية.
وهكذا القرآن، فإنه قرر ما في الكتب المتقدمة من الخبر عن الله وعن اليوم الآخر، وزاد ذلك بيانًا وتفصيلًا، وبين الأدلة والبراهين على ذلك، وقرر نبوة الأنبياء كلهم، ورسالة المرسلين، وقرر الشرائع الكلية التي بعثت بها الرسل كلهم، وجادل المكذبين بالكتب والرسل بأنواع الحجج والبراهين، وبين عقوبات الله لهم ونصره لأهل الكتب المتبعين لها، وبين ما حرف منها وبدل، وما فعله أهل الكتاب في الكتب المتقدمة، وبين أيضا ما كتموه مما أمر الله ببيانه، وكل ما جاءت به النبوات بأحسن الشرائع والمناهج التي نزل بها القرآن، فصارت له الهيمنة على ما بين يديه من الكتب من وجوه متعددة، فهو شاهد بصدقها وشاهد بكذب ما حُرِّفَ منها، وهو حاكم بإقرار ما أقره الله، ونسخ ما نسخه، فهو شاهد في الخبريات حاكم في الأمريات.
وكذلك معنى الشهادة و الحكم يتضمن إثبات ما أثبته الله من صدق ومحكم، وإبطال ما أبطله من كذب ومنسوخ، وليس الإنجيل مع التوراة ولا الزبور بهذه المثابة، بل هي متبعة لشريعة التوراة إلا يسيرًا نسخه الله بالإنجيل، بخلاف القرآن. ثم إنه معجز في نفسه لا يقدر الخلائق أن يأتوا بمثله، ففيه دعوة الرسول، وهو آية الرسول، وبرهانه على صدقه ونبوته، وفيه ما جاء به الرسول، وهو نفسه برهان على ما جاء به.
وفيه أيضا من ضرب الأمثال وبيان الآيات على تفضيل ما جاء به الرسول ما لو جمع إليه علوم جميع العلماء؛ لم يكن ما عندهم إلا بعض ما في القرآن. ومن تأمل ما تكلم به الأولون والآخرون في أصول الدين والعلوم الإلهية، وأمور المعاد والنبوات، والأخلاق والسياسات والعبادات، وسائر ما فيه كمال النفوس وصلاحها وسعادتها ونجاتها، لم يجد عند الأولين والآخرين من أهل النبوات ومن أهل الرأي كالمتفلسفة وغيرهم إلا بعض ما جاء به القرآن.
ولهذا لم تحتج الأمة مع رسولها وكتابها إلى نبي آخر وكتاب آخر؛ فضلًا عن أن تحتاج إلى شيء لا يستقل بنفسه غيره، سواء كان من علم المحدثين والملهمين، أو من علم أرباب النظر والقياس الذين لا يعتصمون مع ذلك بكتاب منزل من السماء؛ ولهذا قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح: «إنه كان في الأمم قبلكم مُحَدَّثون، فإن يكن في أمتي أحد فعمر». فعلق ذلك تعليقًا في أمته مع جزمه به فيمن تقدم؛ لأن الأمم قبلنا كانوا محتاجين إلى المحدثين كما كانوا محتاجين إلى نبي بعد نبي. وأما أمة محمد ﷺ، فأغناهم الله برسولهم وكتابهم عن كل ما سواه، حتى إن المحدث منهم كعمر بن الخطاب رضي الله عنه إنما يؤخذ منه ما وافق الكتاب والسنة، وإذا حدث شيئا في قلبه، لم يكن له أن يقبله حتى يعرضه على الكتاب والسنة، وكذلك لا يقبله إلا إن وافق الكتاب والسنة. وهذا باب واسع في فضائل القرآن على ما سواه.
والمقصود أن نبين أن مثل هذا هو من العلم المستقر في نفوس الأمة السابقين والتابعين، ولم يعرف قط أحد من السلف رد مثل هذا، ولا قال: لا يكون كلام الله بعضه أشرف من بعض، فإنه كله من صفات الله ونحو ذلك، إنما حدث هذا الإنكار لما ظهرت بدع الجهمية الذين اختلفوا في الكتاب وجعلوه عِضِين.
وممن ذكر تفضيل بعض القرآن على بعض في نفسه، أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما، كالشيخ أبي حامد الاسفرائيني، والقاضي أبي الطيب، وأبي إسحاق الشيرازي وغيرهم، ومثل القاضي أبي يعلى، والحلواني الكبير وابنه عبد الرحمن، وابن عقيل. قال أبو الوفاء ابن عقيل في كتاب الواضح في أصول الفقه في احتجاجه على أن القرآن لا ينسخ بالسنة قال: فمن ذلك قوله: { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } 39، وليست السنة مثل القرآن ولا خيرًا منه، فبطل النسخ بها؛ لأنه يؤدي إلى المحال، وهو كون خبره بخلاف مخبره، وذلك محال على الله، فما أدى إليه فهو محال.
قال: فإن قيل: أصل استدلالكم مبني على أن المراد بالخير الفضل وليس المراد به ذلك، وإنما المراد: نأت بخير منها لكم، وذلك يرجع إلى أحد أمرين في حقنا: إما سهولة في التكليف، فهو خير عاجل، أو أكثر ثوابًا؛ لكونه أثقل وأشق، ويكون نفعًا في الآجل والعاقبة، وكلاهما قد يتحقق بطريق السنة. ويحتمل { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا } لا ناسخًا لها، بل يكون تكليفا مبتدأ هو خير لكم، وإن لم يكن طريقه القرآن الناسخ ولا السنة الناسخة. قالوا: يوضح هذه التأويلات، أن القرآن نفسه ليس بعضه خيرًا من بعض، فلابد أن يصرفوا اللفظ عن ظاهره من خير يعود إلى التكليف لا إلى الطريق.
وقال في الجواب: قولهم: الخير يرجع إلى ما يخصنا من سهولة أو ثواب لا يصح؛ لأنه لو أراد ذلك لقال: لكم، فلما حذف ذلك، دل على ما يقتضيه الإطلاق وهو كون الناسخ خيرًا من جهة نفسه وذاته، ومن جهة الانتفاع به في العاجل والآجل على أن ظاهره يقتضي بآيات خير منها، فإن ذلك يعود إلى الجنس كما إذا قال القائل: ما آخذ منك دينارًا إلا أعطيك خيرًا منه، لا يعقل بالإطلاق إلا دينارًا خيرًا منه، فيتخير من الجنس أولًا ثم النفع، فأما أن يرجع ذلك إلى ثوب أو عرض غير الدينار فلا، وفي آخر الآية ما يشهد بأنه أراد به القرآن؛ لأنه قال: { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } 40، ووصفه لنفسه بالقدرة يدل على أن الذي يأتي به هو أمر يرجع إليه دون غيره، وكذلك قوله: { أَوْ مِثْلِهَا } يشهد لما ذكرناه؛ لأن المماثلة يقتضي إطلاقها من كل وجه، لا سيما وقد أنثها تأنيث الآية، فكأنه قال: نأت بآية خير منها أو بآية مثلها.
قلت: وأيضا فلا يجوز أن يراد بالخير من جهة كونه أخف عملًا أو أشق وأكثر ثوابًا؛ لأن هذين الوصفين ثابتان لكل ما أمر الله به مبتدأ وناسخا، فإنه إما أن يكون أيسر من غيره في الدنيا، وإما أن يكون أشق فيكون ثوابه أكثر، فإذا كانت هذه الصفة لازمة لجميع الأحكام، لم يحسن أن يقال: ما ننسخ من حكم نأت بخير منه أو مثله، فإن المنسوخ أيضا يكون خيرًا ومثلا بهذا الاعتبار، فإنهم إن فسروا الخير بكونه أسهل، فقد يكون المنسوخ أسهل، فيكون خيرًا، وإن فسروه بكونه أعظم أجرًا لمشقته؛ فقد يكون المنسوخ كذلك، والله قد أخبر أنه لابد أن يأتي بخير مما ينسخه أو مثله، فلا يأتي بما هو دونه.
وأيضا، فعلى ما قالوه لا يكون شيء خيرًا من شيء، بل إن كان خيرًا من جهة السهولة، فذلك خير من جهة كثرة الأجر. قال ابن عقيل: وأما قولهم: إن القرآن في نفسه لا يتخاير ولا يتفاضل، فعلم أنه لم يرد به الخير الذي هو الأفضلية، فليس كذلك، فإن توحيد الله الذي في سورة الإخلاص، وما ضمنها من نفي التجزي والانقسام، أفضل من تبت المتضمنة ذم أبي لهب وذم زوجته، إن شئت في كون المدح أفضل من القدح، وإن شئت في الإعجاز، فإن تلاوة غيرها من الآيات التي تظهر منها الفصاحة والبيان أفضل، وليس من حيث كان المتكلم واحدًا لا يكون التفاضل لمعنى يعود إلى الكلام ثانيًا، كما أن المرسل واحد لذي النون وإبراهيم، وإبراهيم أفضل من ذي النون. قال: وأما قولهم: { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا } 41 لا يكون ناسخا بل مبتدأ، فلا يصح؛ لأنه خرج مخرج الجزاء مجزوما، وهذا يعطي البدلية والمقابلة، مثل قولهم: إن تكرمني أكرمك، وإن أطعتني أطعتك، يقتضي أن يكون الجزاء مقابلة وبدلًا، لا فعلا مبتدأ.
قلت: المقصود هنا ذكر ما نصره من كون القرآن في نفسه بعضه خيرًا من بعض ليس المقصود الكلام في مسألة النسخ، وكذلك غير هؤلاء صرحوا بأن بعض القرآن قد يكون خيرًا من بعض، وممن ذكر ذلك أبو حامد الغزإلى في كتابه جواهر القرآن قال: لعلك تقول: قد توجه قصدك في هذه التنبيهات إلى تفضيل بعض آيات القرآن على بعض، والكل كلام الله، فكيف يفارق بعضها بعضًا؟ وكيف يكون بعضها أشرف من بعض؟ فاعلم أن نور البصيرة إن كان لا يرشدك إلى الفرق بين آية الكرسي وآية المداينات، وبين سورة الإخلاص وسورة تبت، وتَرْتَاعُ من اعتقاد الْفَرْقِ نَفْسُكُ الخَوَّارَةُ المسْتَغْرِقَةُ في التقليد، فقلد صاحب الشرع صلوات الله عليه وسلامه فهو الذي أنزل عليه القرآن، وقال: «قلب القرآن يس». وقد دلت الأخبار على شرف بعضه على بعض فقال: «فاتحة الكتاب أفضل سور القرآن»، وقال: «آية الكرسي سيدة آي القرآن»، وقال: «قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن». والأخبار الواردة في فضائل قوارع القرآن، وتخصص بعض السور والآيات بالفضل، وكثرة الثواب في تلاوتها لا تحصى، فاطلبه من كتب الحديث إن أردت. وننبهك الآن على معنى هذه الأخبار الأربعة في تفضيل هذه السور.
قلت: وسنذكر إن شاء الله ما ذكره في تفضيل { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } وممن ذكر كلام الناس في ذلك وحكي هذا القول عمن حكاه من السلف القاضي عياض في شرح مسلم، قال في قول النبي ﷺ لأُبي: «أتدري أي آية من كتاب الله أعظم؟ »وذكر آية الكرسي. فيه حجة لتفضيل بعض القرآن على بعض، وتفضيل القرآن على سائر كتب الله عند من اختاره، منهم إسحاق بن راهويه وغيره من العلماء والمتكلمين. قال: وذلك راجع إلى عظم أجر قارئي ذلك وجزيل ثوابه على بعضه أكثر من سائره. قال: وهذا مما اختلف أهل العلم فيه، فأبي ذلك الأشعري وابن البَاقِلاني وجماعة من الفقهاء وأهل العلم؛ لأن مقتضي الأفضل نقص المفضول عنه، وكلام الله لا يتبعض. قالوا: وما ورد من ذلك بقوله: أفضل و أعظم لبعض الآي والسور، فمعناه: عظيم وفاضل. قال: وقيل: كانت آية الكرسي أعظم؛ لأنها جمعت أصول الأسماء والصفات من الإلهية والحياة والوحدانية والعلم والملك والقدرة والإرادة، وهذه السبعة قالوا: هي أصول الأسماء والصفات.
قلت: المقصود ما ذكره من كلام العلماء، وأما قول القائل: إن هذه السبعة هي أصول الأسماء، فهذه السبعة عند كثير من المتكلمين هي المعروفة بالعقل، وما سواها قالوا: إنما يعلم بالسمع. وهذا أمر يرجع إلى طريق علمنا لا إلى أمر حقيقي ثابت لها في نفس الأمر، فكيف والجمهور على أن ما سواها قد يعلم بالعقل أيضا كالمحبة والرضا والأمر والنهي؛ ومذهب ابن كُلاَّب وأكثر قدماء الصفاتية أن العلو من الصفات العقلية، وهو مذهب أبي العباس القَلانِسي والحارث المحاسبي ومذهب طوائف من أهل الكلام والحديث والفقه، وهو آخر قولي القاضي أبي يعلى وأبي الحسن بن الزَّاغُوني وغيره، ومذهب ابن كرام وأصحابه، وهو قول عامة أئمة الحديث والفقه والتصوف.
وكذلك ما فسره القاضي عياض من قول المفضلين: إن المراد كثرة الثواب، فهذا لا ينازع فيه الأشعري وابن الباقلاني؛ فإن الثواب مخلوق من مخلوقات الله تعالى فلا ينازع أحد في أن بعضه أفضل من بعض، وإنما النزاع في نفس كلام الله الذي هو كلامه، فحكايته النزاع يناقض ما فسر به قول المثبتة. وقد بين مأخذ الممتنعين عن التفضيل، منهم من نفي التفاضل في الصفات مطلقًا بناء على أن القديم لا يتفاضل، والقرآن من الصفات ومنهم من خص القرآن بأنه واحد على أصله، فلا يعقل فيه معنيان، فضلا أن يعقل فيه فاضل ومفضول، وهذا أصل أبي الحسن ومن وافقه كما سنبينه إن شاء الله تعالى.
وهؤلاء الذين ذكرنا أقوالهم في أن كلام الله يكون بعضه أفضل من بعض ليس فيهم أحد من القائلين بأن كلام الله مخلوق - كما يقول ذلك من يقوله من أهل البدع كالجهمية والمعتزلة بل كل هؤلاء يقولون: إن كلام الله غير مخلوق، ولو تتبع ذكر من قال ذلك لكثروا؛ فإن هذا قول جماهير المسلمين من السلف والخلف أهل السنة وأهل البدعة. أما السلف كالصحابة والتابعين لهم بإحسان فلم يُعْرَفْ لهم في هذا الأصل تَنَازعٌ، بل الآثار متواترة عنهم به.
واشتهر القول بإنكار تفاضله بعد المائتين لما أظهرت الجهمية القول بأن القرآن مخلوق. واتفق أئمة السنة وجماهير الأمة على إنكار ذلك ورده عليهم. وظنت طائفة كثيرة مثل أبي محمد بن كلاب ومن وافقه أن هذا القول لا يمكن رده إلا إذا قيل: إن الله لم يتكلم بمشيء ته وقدرته، ولا كلم موسى حين أتاه، ولا قال للملائكة: اسجدوا لآدم بعد أن خلقه، ولا يغضب على أحد بعد أن يكفر به، ولا يرضي عنه بعد أن يطيعه، ولا يحبه بعد أن يتقرب إليه بالنوافل، ولا يتكلم بكلام بعد كلام، فتكون كلماته لا نهاية لها، إلى غير ذلك مما ظنوا انتفاءه عن الله. وقالوا: إنما يمكن مخالفة هؤلاء إذا قيل بأن القرآن وغيره من الكلام لازم لذات الله تعالى لم يزل ولا يزال يتكلم بكل كلام له كقوله: { يا آدم }، { يا نوح }، وصاروا طائفتين: طائفة تقول: إنه معنى واحد قائم بذاته، وطائفة تقول: إنه حروف أو حروف وأصوات مقترن بعضها ببعض أزلًا وأبدًا، وإن كانت مترتبة في ذاتها ترتبًا ذاتيا لا ترتبا وجوديا، كما قد بين مقالات الناس في كلام الله في غير هذا الموضع. والأولون عندهم: كلام الله شيء واحد لا بعض له، فضلًا عن أن يقال: بعضه أفضل من بعض. والآخرون يقولون: هو قديم لازم لذاته، والقديم لا يتفاضل.
وربما نقل عن بعض السلف في قوله تعالى: { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا } 42 أنه قال: خير لكم منها، أو أنفع لكم، فيظن الظان أن ذلك القائل موافق لهؤلاء وليس كذلك بل مقصوده بيان وجه كونه خيرًا وهو أن يكون أنفع للعباد، فإن ما كان أكثر من الكلام نفعا للعباد، كان في نفسه أفضل، كما بين في موضعه. وصار من سلك مسلك الكلابية من متأخرى أصحاب أحمد ومالك والشافعي وغيرهم يظنون أن القول بتفاضل كلام الله بعضه على بعض إنما يمكن على قول المعتزلة ونحوهم الذين يقولون: إنه مخلوق، فإن القائلين بأنه مخلوق، يرون فضل بعضه على بعض فضل مخلوق على مخلوق، وتفضيل بعض المخلوقات على بعض لا ينكره أحد، فإذا ظن أولئك أن القول بتفضيل بعض كلام الله على بعض مستلزم لكون القرآن مخلوقا؛ فروا من ذلك وأنكروا القول به، لأجل ما ظنوه من التلازم، وليس الأمر كما ظنوه، بل سلف الأمة وجمهورها يقولون: إن القرآن كلام الله غير مخلوق، وكذلك سائر كلام الله غير مخلوق. ويقولون مع ذلك: إن كلام الله بعضه أفضل من بعض كما نطق بذلك الكتاب والسنة وآثار الصحابة والتابعين من غير خلاف يعرف في ذلك عنهم.
وحدثنا أبي، عن جدنا أبي البركات وصاحبه أبي عبد الله بن عبد الوهاب أنهما نظرًا فيما ذكره بعض المفسرين من الأقوال في قوله: { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } 43 وأظنه كان نظرهم في تفسير أبي عبد الله محمد بن تيمية فلما رأيا تلك الأقوال قالا: هذا إنما يجيء على قول المعتزلة. وزار مرة أبو عبد الله بن عبد الوهاب هذا لشيخنا أبي زكريا بن الصَّيْرَفي وكان مريضًا، فدعا أبو زكريا بدعاء مأثور عن الإمام أحمد يقول فيه: أسألك بقدرتك التي قدرت بها أن تقول للسموات والأرض: { اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } 44 أن تفعل بنا كذا وكذا. فلما خرج الناس من عنده قال له: ما هذا الدعاء الذي دعوت به؟ هذا إنما يجيء على قول المعتزلة الذين يقولون: القرآن مخلوق، فأما أهل السنة فلا يقال عندهم قدر أن يتكلم، أو يقول، فإن كلامه قديم لازم لذاته لا يتعلق بمشيء ته وقدرته.
وكان أبو عبد الله بن عبد الوهاب رحمه الله قد تلقى هذا عن البحوث التي يذكرها أبو الحسن بن الزاغوني وأمثاله، وقبله أبو الوفاء ابن عقيل وأمثاله، وقبلهما القاضي أبو يعلى ونحوه، فإن هؤلاء وأمثالهم من أصحاب مالك والشافعي كأبي الوليد الباجي وأبي المعالي الجويني وطائفة من أصحاب أبي حنيفة يوافقون ابن كلاب على قوله: إن الله لا يتكلم بمشيئته وقدرته، وعلى قوله: إن القرآن لازم لذات الله، بل يظنون أن هذا قول السلف قول أحمد بن حنبل ومالك والشافعي وسائر السلف الذين يقولون: القرآن غير مخلوق، حتى إن من سلك مسلك السالمية من هؤلاء كالقاضي وابن عقيل وابن الزاغوني يصرحون بأن مذهب أحمد أن القرآن قديم، وأنه حروف وأصوات. وأحمد بن حنبل وغيره من الأئمة الأربعة لم يقولوا هذا قط ولا ناظروا عليه، ولكنهم وغيرهم من أتباع الأئمة الأربعة لم يعرفوا أقوالهم في بعض المسائل.
ولكن الذين ظنوا أن قول ابن كُلاَّب وأتباعه هو مذهب السلف ومن أن القرآن غير مخلوق هم الذين صاروا يقولون: إن كلام الله بعضه أفضل، إنما يجيء على قول أهل البدع الجهمية والمعتزلة، كما صار يقول ذلك طوائف من أتباع الأئمة كما سنذكره من أقوال بعض أصحاب مالك والشافعي ولم يعلموا أن السلف لم يقل أحد منهم بهذا، بل أنكروا على ابن كلاب هذا الأصل، وأمر أحمد بن حنبل وغيره بهجر الكلابية على هذا الأصل، حتى هجر الحارث المحاسبي؛ لأنه كان صاحب ابن كلاب وكان قد وافقه على هذا الأصل، ثم روي عنه أن رجع عن ذلك، وكان أحمد يحذر عن الكلابية. وكان قد وقع بين أبي بكر بن خُزَيمة الملقب بإمام الأئمة وبين بعض أصحابه مشاجرة على هذا الأصل؛ لأنهم كانوا يقولون بقول ابن كلاب. وقد ذكر قصتهم الحاكم أبو عبد الله النيسابوري في تاريخ نيسابور، وبسط الكلام على هذا الأصل له موضع آخر، وإنما نبهنا على المآخذ التي تعرف بها حقائق الأقوال.
هامش
- ↑ [نوح: 17]
- ↑ [يوسف: 3]
- ↑ [القيامة17: 19]
- ↑ [النحل: 98]
- ↑ [الإسراء: 45]
- ↑ [الأعراف: 204]
- ↑ [يوسف: 3]
- ↑ [القصص: 3]
- ↑ [القيامة: 18]
- ↑ [الإسراء: 45]
- ↑ [القيامة: 17]
- ↑ [الأعراف: 402]
- ↑ [الإسراء: 88]
- ↑ [الإسراء: 9]
- ↑ [النحل: 112]
- ↑ [الأعراف: 4]
- ↑ [يوسف: 82]
- ↑ [الكهف: 59]
- ↑ [هود: 102]
- ↑ [الشورى: 7]
- ↑ [الحج: 45]
- ↑ [البقرة: 259]
- ↑ [الأنعام: 6]
- ↑ [الكهف: 33]
- ↑ [يوسف: 3]
- ↑ [يوسف: 3]
- ↑ [الزمر: 23]
- ↑ [الزمر: 23]
- ↑ [الحديد: 16]
- ↑ [الزمر: 23]
- ↑ [يوسف: 1: 3]
- ↑ [يوسف: 1: 3]
- ↑ [العنكبوت: 51]
- ↑ [يوسف: 1: 3]
- ↑ [يوسف: 3]
- ↑ [الأنعام: 130]
- ↑ [الزمر: 71]
- ↑ [المائدة: 48]
- ↑ [البقرة: 106]
- ↑ [البقرة: 106]
- ↑ [البقرة: 106]
- ↑ [البقرة: 106]
- ↑ [البقرة: 106]
- ↑ [فصلت: 11]