انتقل إلى المحتوى

مجموعة الرسائل والمسائل/حقيقة مذهب الاتحاديين/زعمهم أن الدعوة إلى عبادة الله مكر بالعباد

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


زعمهم أن الدعوة إلى عبادة الله مكر بالعباد

السادس: أن عندهم أن دعوة العباد إلى الله مكر بهم كما صرح به حيث قال: إن الدعوة إلى الله مكر بالمدعو فإنه ما عدم من البداية فيدعى إلى الغاية.

وقال أيضا صاحب الفصوص (وبشر المخبتين) الذين خبت نار طبيعتهم فقالوا إلها ولم يقولوا طبيعة (وقد أضلوا كثيرا) أي حيروهم في تعداد الواحد بالوجوه والنسب (ولا تزد الظالمين) لأنفسهم المصطفين الذين أورثوا الكتاب فهم أول الثلاثة فقدمه على المقتصد والسابق (إلا ضلالا) أي إلا حيرة. وفي المحمدي زدني فيك تحيرا (كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا) له فالمحير له الدور والحركة الدورية حول القطب فلا تبرح منه، وصاحب الطريق المستطيل مائل خارج عن المقصود طالب ما هو فيه، صاحب خيال إليه غايته، فله " من " و " إلى " وما بينهما، وصاحب الحركة الدورية لا بدء له فيلزمه " من " ولا غاية فتحكم عليه " إلى " فله الوجود إلا ثم وهو المؤتى جوامع الكلم ". اهـ.

وقال بعض شعرائهم:

ما بال عينك لا يقر قرارها... وإلام خطوك لا يني متنقلا

فلسوف تعلم أن سيرك لم يكن... إلا إليك إذا بلغت المنزلا

فعندهم الإنسان هو غاية نفسه، وهو معبود نفسه وليس وراءه شيء يعبده أو يقصده، أو يدعوه أو يستجيب له، ولهذا كان قولهم حقيقة قول فرعون.

وكنت أقول لمن أخاطبه أن قولهم هو حقيقة قول فرعون حتى حدثني بعض من خاطبته في ذلك من الثقات العارفين: أن بعض كبرائهم لما دعا هذا المحدث إلى مذهبهم وكشف له حقيقة سرهم قال: فقلت له هذا قول فرعون، قال: نعم، ونحن على قول فرعون، قلت له والحمد لله الذي اعترفوا بهذا، فإنه مع إقرار الخصم لا يحتاج إلى بينه.

جعلهم متبع الصراط المستقيم صاحب خيال

وقد جعل صاحب الطريق المستطيل صاحب خيال، ومدح الحركة المستديرة الحائرة، والقرآن يأمر بالصراط المستقيم ويمدحه ويثني على أهله لا على المستدير. ففي أم الكتاب (اهدنا الصراط المستقيم) وقال (وإن هذا صراطي مستقميما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل) وقال (ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا) الآيتين وقال تعالى في موسى وهارون (وآتيناهما الكتاب المستبين، وهديناهما الصراط المستقيم) وقال تعالى (وهذا صراط ربك مستقيما، قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون) وقال عن إبليس (فيما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم) الآية وقال تعالى (ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين) وهؤلاء الملحدون من أكابر متبعيه، وأنه قعدهم على صراط الله المستقيم فصدهم عنه حتى كفروا بربهم، وآمنوا أن نفوسهم هي معبودهم وإلههم. وقال تعالى في حق خاتم الرسل (وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم، صراط الله) الآية.

وأيضا فإن الله يقول (وردوا إلى الله مولاهم الحق) وقال تعالى (إن إلينا إيابهم ثم علينا حسابهم) وقال تعالى (إلى الله مرجعكم جميعا) الآية وقال تعالى (يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه) وهؤلاء عندهم ما ثم إلا أنت، وأنت من الآن مردود إلى الله، وما رأيت مردودا إليه وليس هو شيء غيرك حتى ترد إليه أو ترجع إليه، أو تكدح إليه أو تلاقيه.

حال ابن الفارض والتلمساني عند الموت، وتصحيح ابن عربي لدعوى فرعون

ولهذا حدثونا أن ابن الفارض لما احتضر أنشد بيتين:

إن كان منزلتي في الحب عندكم... ما قد لقيت فقد ضيعت أيامي

أمنية ظفرت نفسي بها زمنا... واليوم أحسبها أضغاث أحلام

وذلك أنه كان يتوهم أنه الله، وأنه ما ثم مرد إليه ومرجع إليه غير ما كان عليه، فلما جاءته ملائكة الله تنزع روحه من جسمه، وبدا له من الله ما لم يكن يحتسب، تبين له أن ما كان عليه أضغاث أحلام من الشيطان.

وكذلك حدثني بعض أصحابنا عن بعض من أعرفه وله اتصال بهؤلاء عن الفاجر التلمساني أنه وقت الموت تغير واضطرب، قال: دخلت عليه وقت الموت فوجدته يتأوه، فقلت له: مم تتأوه؟ فقال من خوف الفوت، فقلت سبحان الله، ومثلك يخاف الفوت وأنت تدخل الفقير إلى الخلوة فتوصله إلى الله في ثلاثة أيام؟ فقال ما معناه: زال ذلك كله وما وجدت لذلك حقيقة.

الثامن: أن عندهم من يدعي الإلهية من البشر كفرعون والدجال المنتظر، أو ادعيت فيه وهو من أولياء الله نبيا كالمسيح، أو غير نبي كعلي، أو ليس من أولياء الله كالحاكم بمصر وغيرهم، فإنه عند هؤلاء الملاحدة المنافقين يصحح هذه الدعوى، وقد صرح صاحب الفصوص أن هذه الدعوى كدعوى فرعون، وهم كثيرا ما يعظمون فرعون فإنه لم يتقدم لهم رأس في الكفر مثله، ولا يأتي متأخر لهم مثل الدجال الأعور الكذاب، وإذا نافقوا المؤمنين وأظهروا الإيمان قالوا أنه مات مؤمنا وأنه لا يدخل النار، وقالوا ليس في القرآن ما يدل على دخوله النار. وأما في حقيقة أمرهم فما زال عندهم عارفا بالله، بل هو الله، وليس عندهم نار فيها ألم أصلا كما سنذكره أن شاء الله عنهم، ولكي يتفطن بهذا لكون البدع مظان النفاق، كما أن السنن شعائر الإيمان.

تحريف ابن عربي آيات مراجعة فرعون لموسى واعترافه بربوبته

قال صاحب "الفصوص" في "فص الحكم التي في الكلمة الموسوية" لما تكلم على قوله (وما رب العالمين): " وهنا سر كبير فإنه أجاب بالفعل لمن سأل عن الحد الذاتي فجعل الحد الذاتي عين إضافته إلى ما ظهر به من صور العالم أو ما ظهر فيه من صور العالم، فكأنه قال له في جواب قوله (وما رب العالمين) قال الذي يظهر فيه صور العالمين من علو وهو السماء وسفل وهو الأرض (إن كنتم موقنين) أو يظهر هو بها، فلما قال فرعون لأصحابه أنه لمجنون كما قلنا في معنى كونه مجنونا أي لمستور عنه علم ما سألته عنه أو لا يتصور أن يعلم أصلا، زاد موسى في البيان ليعلم فرعون رتبته في العلم الإلهي لعلمه بأن فرعون يعلم ذلك فقال (رب المشرق والمغرب) فجاء بما يظهر ويستر وهو الظاهر والباطن (وما بينهما) وهو قوله " وهو لكل شيء عليم " (إن كنتم تعقلون) أي إن كنتم أصحاب تقييد فإن العقل للتقييد.

" والجواب الأول جواب الموقنين وهم أهل الكشف والوجود، فقال له (إن كنتم موقنين) أي أهل الكشف ووجود فقد أعلمتكم ما تيقنتموه في كشفكم ووجودكم " فإن لم تكونوا من هذا النصف فقد أجبتكم بالجواب الثاني إن كنتم أهل عقل وتقييد وحصرتم الحق فيما تعطيه أدلة عقولكم، فظهر موسى بالوجهين ليعلم فرعون فضله وصدقه، وعلم موسى أن فرعون لكونه سأل عن ذلك من الماهية فعلم أنه سؤاله ليس على اصطلاح القدماء في السؤال فلذلك أجاب فلو علم منه غير ذلك لخطأ في السؤال، فلما جعل موسى المسؤول عنه عين العالم خاطبه فرعون بهذا اللسان والقوم لا يشعرون فقال له (لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين) والسين من حروف الزوائد، أي لأسترنك فإنك أجبت بما أيدتني به أن أقول مثل هذا القول فإن قلت ليس بلسان الإشارة: فقد جهلت يا فرعون بوعيدك إياي والعين واحدة فكيف فرعت فيقول فرعون إنما فرقت المراتب العين ما تفرقت العين ولا انقسمت في ذاتها، ومرتبتي الآن التحكم فيك يا موسى بالفعل، وأنا أنت بالعين، وأنا غيرك بالرتبة - وساق الكلام إلى أن قال: ولما كان فرعون في منصب الحكم صاحب الوقت وأنه الخليفة بالسيف وإن جار في العرف الناموسي لذلك قال (أنا ربكم الأعلى) وإن كان الكل أربابا بنسبة ما، فأنا الأعلى منهم بما أعطيته في الظاهر من التحكم فيكم، ولما علمت السحرة صدقه فيما قال لهم لم ينكروه وأقروا له بذلك وقالوا له (فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا) فالدولة لك فصح قوله (أنا ربكم الأعلى) وإن كان عين الحق فالصورة لفرعون فقطع الأيدي والأرجل وصلب بعين حق في صورة باطل لنيل مراتب لا تنال إلا بذلك الفعل فإن الأسباب لا سبيل إلى تعطيلها لأن الأعيان الثابتة اقتضتها، فلا تظهر في الوجود إلا بصورة ما هي عليه في الثبوت إذ لا تبديل لكلمات الله، وليست كلمة الله سوى أعيان الموجودات ".

فصل في تحريفهم وزيادتهم في حديث: "كان الله ولم يكن شيء قبله"

ومن أعظم الأصول التي يعتمدها هؤلاء الاتحادية الملاحدة المدعون للتحقيق والعفان ما يأثرونه عن النبي قال " كان الله ولا شيء معه وهو الآن على ما عليه كان " وهذه الزيادة وهو قوله " وهو الآن على ما عليه كان " كذب مفتري على رسول الله اتفق أهل العلم بالحديث على أنه موضوع مختلق، وليس هو في شيء من دواوين الحديث، لا كبارها ولا صغارها. ولا رواه أحد من أهل العلم بإسناد لا صحيح ولا ضعيف، ولا بإسناد مجهول، وإنما تكلم بهذه الكلمة بعض متأخري متكلمة الجهمية. فتلقاه هؤلاء الذين وصلوا إلى آخر التجهم وهو التعطيل والإلحاد، ولكن أولئك قد يقولون: كان الله ولا مكان ولا زمان، وهو الآن على ما عليه كان، فقال هؤلاء: كان الله ولا شيء معه وهو الآن على ما عليه كان، وقد عرف بأن هذا ليس من كلام النبي أعلم هؤلاء بالإسلام ابن عربي فقال " ما لا بد للمريد منه وكذلك، جاء في السنة " كان الله ولا شيء معه " قال: وزاد العلماء وهو الآن على ما عليه كان، ولم يرجع إليه من خلقه العالم وصف لم يكن عليه ولا عالم موجود، فاعتقد فيه من التنزيه مع وجود العالم ما يعتقده فيه ولا عالم ولا شيء سواه ".

كلام الجهمية وأهل السنة في حديث: "كان الله.." إلخ

وهذا الذي قاله هو قول كثير من أهل القبلة. ولو ثبت على هذا لكان قوله من جنس قول غيره. لكنه متناقض، ولهذا كان مقدم الاتحادية الفاجر التلمساني يرد عليه في مواضع يقرب فيها إلى المسلمين، كما يرد عليه المسلمون المواضع التي خرج فيها إلى الاتحاد، وإنما الحديث المأثور عن النبي ما أخرجه البخاري ومسلم عن عمران بن حصين عن النبي أنه قال " كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، ثم خلق السموات والأرض " وهذه الزيادة الإلحادية، وهو قولهم: وهو الآن على ما عليه كان، قصد بها المتكلمة المتجهمة نفى الصفات التي وصف بها نفسه من استوائه على العرش ونزوله إلى السماء الدنيا، وغير ذلك فقالوا: كان في الأزل ليس مستويا على العرش، وهو الآن على ما عليه كان، فلا يكون على العرش لما يقتضي ذلك من التحول والتغير، ويجيبهم أهل السنة والإثبات بجوابين:

أحدهما: أن المتجدد نسبة إضافية بينه وبين العرش بمنزلة المعية ويسميها ابن عقيل الأحوال، وتجدد النسب والإضافات متفق عليه بين جميع أهل الأرض من المسلمين وغيرهم. إذا لا يقتضي ذلك تغيرا ولا استحالة.

والثاني: أن ذلك وإن اقتضى تحولا من حال إلى حال، ومن شأن إلى شأن، فهو مثل مجيئه وإتيانه ونزوله. وتكليمه لموسى وإتيانه يوم القيامة في صورة ونحو ذلك مما دلت عليه النصوص. وقال به أكثر أهل السنة في الحديث. وكثير من أهل الكلام وهو لازم لسائر الفرق. وقد ذكرنا نزاع الناس في ذلك في قاعدة الفرق بين الصفات والمخلوقات والصفات الفعلية، وأما هؤلاء الجهمية الاتحادية فقالوا: وهو الآن على ما عليه كان، ليس معه غيره كما كان في الأزل ولا شيء معه، قالوا: إذ الكائنات ليست غيره ولا سواه، فليس إلا هو، فليس معه شيء آخر لا أزلا ولا أبدا بل هو عين الموجودات، ونفس الكائنات، وجعلوا المخلوقات المصنوعات هي نفس الخالق البارئ المصور، وهم دائما يهذون بهذه الكلمة: " وهو الآن على ما عليه كان " وهي أجل عندهم من " قل هو الله أحد " ومن آية الكرسي لما فيها من الدلالة على الاتحاد الذي هو إلحادهم، وهم يعتقدون أنها ثابتة عن النبي وأنها من كلامه ومن أسرار معرفته، وقد بينا أنها كذب مختلق، ولم يروها أحد من أهل العلم ولا في شيء من دواوين الحديث. بل اتفق العارفون بالحديث على أنها موضوعة، ولا تنقل هذه الزيادة عن إمام مشهور في الأمة بالإمامة، وإنما مخرجها ممن يعرف بنوع من التجهم، وتعطيل بعض الصفات، ولفظ الحديث المعروف عند علماء الحديث الذي أخرجه أصحاب الصحيح " كان الله ولا شيء معه، وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء " وهذا إنما ينفي وجود المخلوقات من السموات والأرض. وما فيهما من الملائكة والإنس والجن. لا ينفي وجود العرش.

حديث: "أول ما خلق الله القلم"، وحديث: "كان في عماء"

ولهذا ذهب كثير من السلف والخلف إلى أن العرش متقدم على القلم واللوح. مستدلين بهذا الحديث وحملوا قوله " أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب. فقال: وما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة " على هذا الخلق المذكور في قوله (وهو الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وكان عرشه على الماء) وهذا نظير حديث أبي رزين العقيلي المشهور في كتب المسانيد والسنن أنه سأل النبي فقال: يا رسول الله أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه؟ فقال " كان في عماء، ما فوقه هواء وما تحته هواء " فالخلق المذكور في هذا الحديث لم يدخل فيه الغمام، وذكر بعضهم أن هذا هو السحاب المذكور في قوله (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام) وفي ذلك آثار معروفة.

بطلان زيادة: "وهو الآن على ما كان عليه"

والدليل على أن هذا الكلام وهو قولهم " وهو الآن على ما عليه الآن " كلام باطل مخالف للكتاب والسنة والإجماع والاعتبار وجوه:

أحدها: أن الله قد أخبر بأنه مع عباده في غير موضع من الكتاب عموما وخصوصا مثل قوله (وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش وهو معكم أينما كنتم) وقوله (ما يكون من نجوي ثلاثة إلا هو رابعهم - إلى قوله - أينما كانوا) وقوله (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، والله مع الصابرين) في موضعين وقوله (إنني معكما أسمع وأرى، لا تحزن إن الله معنا، وقال الله إني معكم، إن معي ربي سيهديني) وكان النبي إذا سافر يقول " اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل، اللهم اصحبنا في سفرنا، واخلفنا في أهلنا " فلو كان الخلق عموما وخصوصا ليسوا غيره ولا هم معه بل ما معه شيء آخر امتنع أن يكون هو مع نفسه وذاته، فإن المعية توجب شيئين كون أحدهما مع الآخر فكما أخبر الله أنه مع هؤلاء امتنع علم بطلان قولهم " هو الآن على ما عليه كان " لا شيء معه. بل هو عين المخلوقات، وأيضا فإن المعية لا تكون إلا من الطرفين، فإن معناها المقارنة والمصاحبة، فإذا كان أحد الشيئين مع الآخر امتنع ألا يكون الآخر معه، فمن الممتنع أن يكون الله مع خلقه ولا يكون لهم وجود معه ولا حقيقة أصلا بل هم هو.

الوجه الثاني: أن الله قال في كتابه (ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا) وقال تعالى (فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين) وقال (ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه) فنهاه أن يجعل أو يدعو معه إلها آخر، ولم ينهه أن يثبت معه مخلوقا، أو يقول إن معه عبدا مملوكا أو مربوبا فقيرا، أو معه شيئا موجودا خلقه، كما قال: (لا إله إلا هو) ولم يقل لا موجود إلا هو، ولا هو إلا هو، ولا شيء معه إلا هو، بمعنى أنه نفس الموجودات وعينها. وهذا كما قال (إلهكم إله واحد) فأثبت وحدانيته في الألوهية ولم يقل أن الموجودات واحد فهذا التوحيد الذي في كتاب الله هو توحيد الألوهية وهو أن لا تجعل معه ولا تدعو معه إلها غيره، فأين هذا من أن يجعل نفس الوجود هو إياه، وأيضا فنهيه أن يجعل معه أو يدعو معه إلها آخر دليل على أن ذلك ممكن كما فعله المشركون الذين دعوا مع الله آلهة أخرى.

فهذه النصوص تدل على أن معه أشياء ليست بآلهة، ولا يجوز أن تجعل آلهة ولا تدعى آلهة، وأيضا فعند الملحد يجوز أن يعبد كل شيء ويدعى كل شيء إذ لا يتصور أن يعبد غيره فإنه هو الأشياء، فيجوز للإنسان حينئذ أن يدعو كل شيء من الآلهة المعبودة من دون الله، وهو عند الملحد ما دعا معه إلها آخر فجعل نفس ما حرمه الله وجعله شركا جعله توحيدا، والشرك عنده لا يتصور بحال.

الوجه الثالث: أن الله لما كان ولا شيء معه لم يكن معه سماء ولا أرض ولا شمس ولا قمر، ولا جن ولا إنس ولا ذوات ولا شجر ولا جنة ولا نار ولا جبال ولا بحار. فإن كان الآن على ما عليه كان، فيجب أن لا يكون معه شيء من هذه الأعيان، وهذا مكابرة للعيان، وكفر بالقرآن والإيمان.

الوجه الرابع: أن الله كان ولا شيء معه ثم كتب في الذكر كل شيء كما جاء في الحديث الصحيح فإن كان لا شيء معه فيما بعد فما الفرق بين حال الكتابة وقبلها، وهو عين الكتابة واللوح عند الفراعنة الملاحدة؟

فصل في قولهم بإيمان فرعون وأنه لا يدخل النار وتحريفهم الآيات فيه

وزعمت طائفة من هؤلاء الاتحادية الذين ألحدوا في أسماء الله وآياته أن فرعون كان مؤمنا وأنه لا يدخل النار، وزعموا أنه ليس في القرآن ما يدل على عذابه بل فيه ما ينفيه كقوله: (أدخلوا آل فرعون أشد العذاب) قالوا: فإنما أدخل آله دونه، وقوله: (يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار) قالوا: إنما أوردهم ولم يدخلها، قالوا: ولأنه قد آمن أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل، ووضع جبريل الطين في فمه لا يرد إيمان قلبه.

وهذا القول كفر معلوم فساده بالاضطرار من دين الإسلام لم يسبق ابن عربي إليه فيما أعلم أحد من أهل القبلة ولا من اليهود ولا من النصارى، بل جميع أهل الملل مطبقون على كفر فرعون. فهذا عند الخاصة والعامة أبين من أن يستدل عليه بدليل، فإنه لم يكفر أحد بالله ويدعي لنفسه الربوبية والإلهية مثل فرعون، ولهذا ثنى الله قصته في القرآن في مواضع، فإن القصص هي أمثال مضروبة للدلالة على الإيمان، وليس في الكفار أعظم من كفره، والقرآن قد دل على كفره وعذابه في الآخرة في مواضع:

أحدها: قوله تعالى في القصص: (فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملئه أنهم كانوا قوما فاسقين - إلى قوله: - وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين) فأخبر سبحانه أنه أرسله إلى فرعون وقومه، وأخبر أنهم كانوا قوما فاسقين، وأخبر أنهم: (قالوا ما هذا إلا سحر مفترى)، وأخبر أن فرعون قال: (ما علمت لكم من إله غيري)، وأنه أمر باتخاذ الصرح ليطلع إلى إله موسى وأنه يظنه كاذبا، وأخبر أنه استكبر فرعون وجنوده وظنوا أنهم لا يرجعون إلى الله، وأنه أخذ فرعون وجنوده فنبذهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين، وأنه جعلهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون، وأنه أتبعهم في الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين.

فهذا نص في أن فرعون من الفاسقين المكذبين لموسى، الظالمين الداعين إلى النار، الملعونين في الدنيا بعد غرقهم، المقبوحين في الدار الآخرة. وهذا نص في أن فرعون بعد غرقه ملعون، وهو في الآخرة مقبوح غير منصور. وهذا إخبار عن غاية العذاب، وهو موافق للموضع الثاني في سورة المؤمن، وهو قوله: (وحاق بآل فرعون سوء العذاب * النار يعرضون عليها غدوا وعشيا، ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب)، وهذا إخبار عن فرعون وقومه أنه حاق بهم سوء العذاب في البرزخ، وأنهم في القيامة يدخلون أشد العذاب، وهذه الآية إحدى ما استدل به العلماء على عذاب البرزخ.

النصوص في أن الرجل يدخل في آله وأهل بيته وهو منهم

وإنما دخلت الشبهة على هؤلاء الجهال لما سمعوا "آل فرعون" فظنوا أن فرعون يخرج منهم. وهذا تحريف للكلم عن مواضعه، بل فرعون داخل في آل فرعون بلا نزاع بين أهل العلم والقرآن واللغة.. يتبين ذلك بوجوه:

أحدها: أن لفظ "آل فلان" يدخل فيها ذلك الشخص مثل قوله في الملائكة الذين ضافوا إبراهيم: (إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين * إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين * إلا امرأته) ثم قال: (فلما جاء آل لوط المرسلون * قال) يعني لوطا (إنكم قوم منكرون)، وكذلك قوله: (إنا أرسلنا عليهم حاصبا إلا آل لوط، نجيناهم بسحر)، ثم قال بعد ذلك: (ولقد جاء آل فرعون النذر، كذبوا بآياتنا كلها فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر)، ومعلوم أن لوطا داخل في "آل لوط" في هذه المواضع، وكذلك فرعون داخل في "آل فرعون" المكذبين المأخوذين، ومنه قول النبي : "قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم"، وكذلك قوله: "كما باركت على آل إبراهيم" فإبراهيم داخل في ذلك، وكذلك قوله للحسن: "إن الصدقة لا تحل لآل محمد".

وفي الصحيح عن عبد الله بن أبي أوفى قال: كان القوم إذا أتوا رسول الله بصدقة يصلي عليهم، فأتى أبي بصدقة فقال: "اللهم صل على آل أبي أوفى" وأبو أوفى هو صاحب الصدقة.

ونظير هذا الاسم "أهل البيت" اسما، فالرجل يدخل في أهل بيته كقول الملائكة: (رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت)، وقول النبي : "سلمان منا أهل البيت"، وقوله تعالى: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت)، وذلك لأن آل الرجل من يتولى أباه ونفسه ممن يؤول إليه، وأهل بيته هم من يأهله وهو من يأهل أهل بيته.

فقد تبين أن الآية التي ظنوا أنها حجة لهم هي حجة عليهم في تعذيب فرعون مع سائر آل فرعون في البرزخ وفي القيامة، ويبين ذلك أن الخطاب في القصة كلها إخبار عن فرعون وقومه. قال تعالى: (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين * إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب) إلى قوله: (قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد)، فأخبر عقب قوله: (أدخلوا آل فرعون أشد العذاب) عن محاجتهم في النار وقول الضعفاء للذين استكبروا وقول المستكبرين للضعفاء: (إنا كل فيها)، ومعلوم أن فرعون هو رأس المستكبرين، وهو الذي استخف قومه فأطاعوه، ولم يستكبر أحد استكبار فرعون فهو أحق بهذا النعت والحكم من جميع قومه.

بقية الآيات في كفر فرعون وعذابه مع آله وهو منهم

الموضع الثاني: وهو حجة عليهم لا لهم قوله: (فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد * يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار، وبئس الورد المورود) إلى قوله: (بئس الرفد المرفود) أخبر أنه يقدم قومه ولم يقل: "يسوقهم"، وأنه أوردهم النار. ومعلوم أن المتقدم إذا أورد المتأخر النار كان هو أول من يردها وإلا لم يكن قادما بل كان سائقا. يوضح ذلك أنه قال: (وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة) فعلم أنه وهم يردون النار، وأنهم جميعا ملعونون في الدنيا والآخرة. وما أخلق المحاج عن فرعون أن يكون بهذه المثابة فإن المرء مع من أحب (والذين كفروا بعضهم أولياء بعض)، وأيضا فقد قال تعالى: (فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس) يقول: هلا آمن قوم فنفعهم إيمانهم إلا قوم يونس. وقال تعالى: (أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم، كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا في الأرض - إلى قوله - سنة الله التي قد خلت في عباده)

فأخبر عن الأمم المكذبين للرسل أنهم آمنوا عند رؤية البأس، وأنه لم يك ينفعهم إيمانهم حينئذ، وأن هذه سنة الله الخالية في عباده، وهذا مطابق لما ذكر الله في قوله لفرعون: (آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين) فإن هذا الخطاب هو استفهام إنكار - أي الآن تؤمن وقد عصيت قبل؟ فأنكر أن يكون هذا الإيمان نافعا أو مقبولا، فمن قال: إنه نافع مقبول فقد خالف نص القرآن وخالف سنة الله التي قد خلت في عباده.

يبين ذلك أنه لو كان إيمانه حينئذ مقبولا لدفع عنه العذاب كما دفع عن قوم يونس، فإنهم لما قبل إيمانهم متعوا إلى حين، فإن الإغراق هو عذاب على كفره، فإذا لم يك كافرا لم يستحق عذابا. وقوله بعد هذا: (فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية) فوجب أن يعتبر به من خلفه، ولو كان إنما مات مؤمنا لم يكن المؤمن مما يعتبر بإهلاكه وإغراقه. وأيضا فإن النبي لما أخبره ابن مسعود بقتل أبي جهل قال: "هذا فرعون هذه الأمة" فضرب النبي المثل في رأس الكفار المكذبين له برأس الكفار المكذبين لموسى. فهذا يبين أنه هو الغاية في الكفر، فكيف يكون قد مات مؤمنا؟ ومعلوم أن من مات مؤمنا لا يجوز أن يوسم بالكفر ولا يوصف، لأن الإسلام يهدم ما كان قبله، وفي مسند أحمد وإسحاق وصحيح ابن أبي حاتم عن عوف بن مالك عن عبد الله بن عمرو عن النبي في تارك الصلاة: "يأتي مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف".

((هذا آخر ما وجد من هذه الرسالة))

مجموعة الرسائل والمسائل لابن تيمية
الهجر الجميل والصفح الجميل والصبر الجميل | الشفاعة الشرعية والتوسل | أهل الصفة وأباطيل بعض المتصوفة فيهم | إبطال وحدة الوجود | مناظرة ابن تيمية العلنية لدجاجلة البطائحية الرفاعية | لباس الفتوة والخرقة عند المتصوفة | كتاب شيخ الإسلام ابن تيمية إلى الشيخ نصر المنبجي | مسألة صفات الله تعالى وعلوه على خلقه | فتاوى لابن تيمية | الصحابة لا يجتمعون على ضلالة | قاعدة جليلة فيما يتعلق بأحكام السفر والإقامة مثل قصر الصلاة والفطر | مختارات من المسائل الكيلانية | مذهب السلف وأئمة الأمصار في كلام الله | مسألة الأحرف التي أنزلها الله على آدم | الجهمية المعطلة كاليهود والحلولية كالنصارى والمسلمون وسط | اصطلاحات المتكلمين والفقهاء المخالفة للغة ومنها القديم والمحدث | اختلاف أدلة المتكلمين على إثبات الصانع وما ترتب عليه من البدع | فيما قاله في مسألة اللفظ | كفير من أنكر تكليم الله لموسى مع العلم بالنص فيه | حقيقة مذهب الاتحاديين | حقيقة مذهب الاتحاديين/حقيقة مذهب الاتحاديين أو وحدة الوجود وبيان بطلانه بالبراهين النقلية والعقلية | معاني العموم والخصوص والإطلاق والتقييد | رد قول بعض طواغيتهم إن العالم حدقة عين الله | كلام ابن عربي في خاتم النبوة وخاتم الولاية | بيان كفر الاتحادية وفساد قولهم | زعمهم أن الدعوة إلى عبادة الله مكر بالعباد | قاعدة في المعجزات والكرامات وأنواع خوارق العادات | تفصيل الإجمال فيما يجب لله من صفات الكمال | رسالة العبادات الشرعية | مسألة في الغيبة | أقوم ما قيل في المشيئة والحكمة والقضاء والقدر والتعليل وبطلان الجبر والتعطيل | شرح حديث عمران بن حصين المرفوع كان الله ولم يكن شيء قبله | أهل البدع والمعاصي ومشاركتهم في صلاة الجماعة | وضع الجوائح في المبايعات والضمانات والمؤجرات | عرش الرحمن وما ورد فيه من الآيات والأحاديث وكونه فوق العالم كله