انتقل إلى المحتوى

مجلة المقتبس/العدد 95/الامتيازات الأجنبية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة المقتبس/العدد 95/الامتيازات الأجنبية

مجلة المقتبس - العدد 95
الامتيازات الأجنبية
ملاحظات: بتاريخ: 1 - 12 - 1914



جرى هذا الشهر التصديق القطعي المتبادل على مقاولات ومعاهدات بين الدولة العثمانية ودولة ألمانيا تتعلق بالقناصل وحق إقامة تبعة كل من الدولتين في مملكة الأخرى على شروط متساوية وحقوق متقابلة على نحو ما يجري بين دولتين مستقلتين من دول أوروبا العظمى. وكانت لرعايا الدول الغربية في البلاد العثمانية موقع خاص أمام القانون والمحاكم ولم تكن الامتيازات الأجنبية بمقتضى حقوق الدول المحصورة بالسفراء والموظفين السياسيين المرتبطين بهم بل كانت شاملة للقناصل أيضاً أما امتيازات الأجانب في الحقوق والاقتصاد فكان من شأنه إماتة الحياة الصناعية والزراعية في المملكة فلم تكد تقدر الحكومة أن تنظم تعرفة للمكوس ولا تعقد معاهدة تجارية كما تشاء لعهود كانت مربوطة بها ولم يكن في وسعها وضع انحصار لمستهلكاتها الداخلية فكانت نفقاتها الزائدة عن دخلها تسدد بالقروض الخارجية حتى قدر ما عليها من الدين بزهاء مائتي مليون ليرة. معنى الامتيازات الأجنبية في السلطنة العثمانية إعطاء الحق لرعايا الأمم المسيحية أن لا يحاكموا أمام محاكم المملكة بل أمام محاكم قناصلهم وكانت هذه الامتيازات سبباً من أسباب نجاح التجارة الغربية وضعف التجارة العثمانية ويلحق بالتجارة الصناعة والزراعة بالطبع. فكانت الدولة مغلولة اليدين عن الانطلاق في مصالحها الخاصة غير حرة في تقرير كماركها ولا في ترويج صناعتها تجارتها ولا في منح امتيازاتها ولا في محاكمها وكنا مع الأجنبي كما قال شاعر مصر:

يقتلنا بلا قود ولا دية ولا رهب

ويمشي نحو رايته فتحميه من العطب

وبلغت الحال في مصر في الابتلاء بالامتيازات الأجنبية أعظم شدتها في العهد الأخير وامتياز الأجنبي في القطر المصري وهو من أجزاء السلطنة العثمانية يدور على أن كل القضايا المدنية والتجارية التي تقع بين الأوروبيين والوطنيين أو بين الأوروبيين المختلفي الجنسية (إن لم تكن من قبيل الأحوال الشخصية) وكل القضايا المتعلقة بالأراضي والأطيان بين الأوربيين والوطنيين أو بين الأوربيين المتفقين أو المختلفين في الجنسية تنظر في المحاكم لمختلطة وإن كل الدعاوي الجنائية التي تقام على الأوربيين تنظر في محاكمهم القنصلية بحسب قوانين بلادهم ما عدا دعاوي معينة جعل النظر والفصل فيه اختصاص المحاكم المختلطة ولا يجوز الدخول إلى منزل أوروبي (وأميركي أيضاًَ) غلا بعد مصادقة قنصله على ذلك ما لم يكن الدخول إلى منزله ناتجاً عن قضية جنائية تختص المحاكم المختلطة بالنظر فيها ألا تضرب ضريبه على الأوربيين من الضرائب التي يجبي لمال منهم فيها رأساً كالأموال المقورة إلا بعد مصادقة جميع الدول على ذلك.

وهكذا كان يحكم في مصر في الحقيقة زهاء أربع عشرة دولة وكذلك في بلاد السلطنة وكان للصعلوك الغربي من الشأن ما تتضائل أمامه قيمة الشريف العثماني والمصري فالغربي في هذه البلاد ينجر وينتمي ويسرق ويشتط وقد يرتكب الجنايات وهو في حل من كل عقوبة ومن كل ضريبة مرعي الجانب محترم بين الخاصة والعامة يهدد بخادم قنصله فينال من العثمانيين والمصريين كل ما تطمح إليه نفسه ويدوس حقوق البلاد ويعق قانونها ويتمتع بخيراتها والغرم على أهلها فقط مع أن للغنم بالغرم في كل بلد أقامت للحقوق وزناً.

نشأت الامتيازات الأجنبية في هذا الشرق القريب قبيل قيام الدولة العلية العثمانية وكان اختلاط ملوك الطوائف من الأيوبيين والجراكسة المماليك كثيراً مع بعض مدن فرنجة أي فرنسا ووجمهوريات البنادقة والجنوبيين والبيزيين أي إيطاليا ولما جاءت الدولة العلية منحت بعض امتيازات للأوربيين تفضلاً منها فأعطت في أيام قوتها ما استعملته الدول يعد سلاحاً في وجه الدولة ورعاياها فنتج شر مسطير من عمل انبعث عن مرحمة وشفقة فبلغت لقحة مبالغها بكيل أجنبي في هذه السلطنة وما زال يشتد خناق الامتيازات على الحكومة حتى الغتها أوائل هذه الحرب وكان من أحسن ما وقفت إلى عمله من الأعمال النافعة وهذه الحقبة من الزمن.

ويقال على الجملة إن هذه الامتيازات الأجنبية بدأت في القرن الثاني عشر للميلاد فمنح أهل مرسيليا حق التحاكم أمام قضاة خصوصيين وأن يكون لهم في معظم مدن الشرق شارع خاص وكنيسة وفرن ونالت بعض المدن الإيطالية بعض الامتيازات في بعض الأقطار الإسلامية ولكن فرنسا سبقت في هذا الشأن فلم تنل امتيازات بسبب رعاياها فقط بل باسم الشعوب المسيحية ولما نالت فرنسا الامتيازات على عهد السلطان سليمان سنة 943 اشترط مثل تلك الامتيازات لدولة الإنكليز ومنها ابتدأت العلائق وفي عهد السلطان مراد الثالث سنة 985هـ نالت الملكة ايزاببيلا امتيازاً خاصاً بتجار بلادها وهي أن تحمل سفنها العلم الإنكليزي وبه تدخل بلاد الدولة وكان يحظر عليها ذلك من قبل بل كانت السفن على اختلاف جنسياتها ما عدا سفن البندقية لا تدخل المواني العثمانية إلا إذا كانت تحمل العلم الفرنساوي كما قضت بذلك العهود المبرمة مع السلطان سليمان ابن السلطان سليم الثاني وتجددت في أوائل حكم السلطان مراد الثالث.

فالمعاهدة التي عقدت بين السلطان سليمان القانوني وفرنسوا الأول ملك فرنسا سنة 1539 وهي معاهدة صلح وتحالف كانت نموذجاً وأساساً لكل ما عقد بعدها من المعاهدات ومن سنة 1535 إلى 1740 جددت الامتيازات الفرنسوية في المملكة العثمانية اثنتي عشر مرة بدون إدخال تعديل كبير عليها وكان من الشر في ذلك أن أصبح رعايا الأجانب في المسائل المدنية والحقوقية يتقاضون أمام المحاكم القنصلية بل تقضي هذه بينهم في مسائل الجنايات أيضاً.

ولما حمل نابليون الأول حملته المشهورة على مصر (1798 - 1800) احتلت الصلات بين الدولة العثمانية وإمبراطورية فرنسا ولكن عادت الحكومة العثمانية فاعترفت بالامتيازات الأجنبية وصدقت عليها في معاهدتي 1802 - 1838 وبعد حرب القريم أرادت الدولة العلية أن تتحرر من رق هذه الامتيازات فنظرت فيها وعينت الصلات التجارية فيها وعقد الباب العالي في سنتي 1861 - 63 معاهدات تجارية جديدة مع فرنسا وبريطانيا العظمى وايطاليا وروسيا والنمسا والولايات المتحدة وبروسيا والاتحاد الجمركي الألماني وكلها تؤيد حق الأجانب في السلطنة وتحميهم.

إن المعاهدة التي عقدها فيلنوب سفير لويز الخامس عشر ملك فرنسا لدى السلطان محمود الأول سنة 1740 وما زالت مرعية حتى العهد الأخير وقد أيدت كما قلنا الامتيازات الممنوحة في العهود السابقة وأحدثت امتيازات أخرى فأعفت الفرنسيس من كل ضريبة وأصبحت تجارة القطن حرة ونالوا حق الصيد في بحار السلطنة وأصبح من حق سفرائهم أن يختاروا تراجمهم وكتابهم وقواصتهم ويتقدم سفراء فرنسا بحسب العادات القديمة في الأوقات الرسمية على سفراء أسبانيا وغيرها من الدول والأجانب الذين ليس لهم سفير يمثل دولتهم لدى الباب العالي يحق لهم الاتجار إذا جعلوا شعارهم شعار إمبراطور فرنسا وخفضت الرسوم الجمركية إلى 3 في المئة للفرنساويين ويحق للأجانب الذين يحملون العلم الفرنساوي أن يدفعوا مثل هذا القدر عن بضائعهم أي كالفرنسيس وقضت المادة السبعون من قانون الامتيازات الأجنبية أن تصان منازل الفرنساويين وأن يكونوا أحراراً في إقامة شعائر أديانهم.

هذا ما جاء في المصادر الإفرنجية ويقول مؤرخو الترك إن الدولة العلية لقد اتخذت لها سياسة خارجية للمرة الأولى على عهد السلطان سليمان القانوني وقد وقع السعي للاستفادة ما أمكن من تحسين العلائق بين العثمانية وفرنسا والبندقية وبولونيا وبالغت البندقية في استمالة قلوب رجال الدولة إذ ذاك وسعت إلى عقد معاهدة تجارية مع الحكومة العثمانية فاستنكف رجال حكومتنا بادي الرأي من إطلاق اسم معاهدة على العهد الذي وقع عليه بين الطرفين مدعين أن المعاهدة تعقد في العادة بين دولتين متساويتين وحكومة البندقية فضلاً عن كونها غير مساوية للدولة العلية في القدر هي تريد الاحتماء بها فبذلت لها هذه العناية وترجموا لفظة العناية بكلمة كابيتولاسيون ومعنى هذه اللفظة تطلق على كل قلعة عجزت عن المقاومة لشدة الضيق عليها وأذعنت للتسليم فانتهى ذلك على مرور الزمان بسائق غفلتنا إلى خروج الشيء عما وضع وكان من اثر ما ارتكب من التزويرات منح الحقوق المدنية لرعايا الأجانب وإدخال هذا التعامل في جملة الدساتير الجاري العمل بها بين الدول.

وكانت صلاتنا مع فرنسا على صورة أهم فكان يعتبر ملك فرنسا من جملة الملوك العظام مثل شارلكان ولم يكن لملك ولا لقيصر موسكو هذه المرتبة واعتبر ملك فرنسا بأنه محالف للدولة العلية للخلاص من أسرة هابسبورغ النمساوية فظاهرته الحكومة العثمانية ولما سقط فرانسوا ملك فرنسا في يد شارلكن سعت الدولة العلية في إنقاذه كثيراً فالتجأت والدته إلى ملك الملوك سلطان العثمانيين فبفضلنا استفادت فرنسا كثيراً ولولانا كانت طعمة للنمسا مما انتهى بأن تعرف فرنسا بعد ذلك بأنها حامية المسيحيين في الشرق وكتبت المعاهدة بين الدولة العلية وفرنسا على مثال المعاهدة التي كتبت من قبل الدولة وجمهورية البندقية ولكن منحت فرنسا امتيازات أخرى فالمعاهدة التي كتبت مع البندقية كتمت هذه أمرها ولم تنشرها أما التي عقدت مع فرنسا فقد نشرتها هذه فصارت دستوراً للعمل في المعاهدات التي عقدت مع الدول الأخرى بعد ذلك (942).

وكانت الدولة تعتبر حكومات أسبانيا والبورتغال وجنوى داخلة مثل النمسا في منطقة نفوذ الإمبراطور شارلكان فلم تكن تعير التفاتاً يذكر وكانت تنظر إلى حكومة فلورنسا بعين الحب والولاء ولم تكن لنا إلى ذاك العهد صلات مع السويد وإنكلترا وفي تلك الأثناء جاء سفير العجم وعقدت صلات مع حكومة إيران وجاء سفيرها إلى الاستانة وكان كل سفير يرد على الأستانة يقدم هدايا جميلة من نفائس وأعلاق وذهب وأحجار كريمة إلى سلطان العثمانيين وكبار رجال سلطنته وظلت هذه العادة تضعف فبدأ بها سفير العجم فقدم عشر ما كان يقدمه أسلافه ثم أتم ذلك سفير فرنسا حتى بطلت العادة.