انتقل إلى المحتوى

مجلة المقتبس/العدد 91/فوائد الحرب

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة المقتبس/العدد 91/فوائد الحرب

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 8 - 1914



مهما ارتقت المدينة ودعا دعاة الفلسفة فالحرب ما برحت العامل الرئيسي في أشغال المم. وبعيد أن يقال إن اكتشافات العلم تقلل الحروب بل من المحقق أنها بالمدينة أصبحت اشد فتكا وتدميراً. وإننا لو رجعنا إلى عهد كبار السفاحين عهد جنكيز وأنيلا لا نشهد في ساحات الوغى أرواحناً نزهق بقدر ما نرى في عصر الكهرباء والبخار. والقول بأبطال الحروب هو قول من يقول بأبطال الشيخوخة والموت من العالم. فان الجهاد بين الشعوب كان مصدر أهم الترقي ولا يرى كيف استطاع البشر الأول بدون حرب إن يخرج من دور التوحش ويؤسس هذه الممالك ألفخمة التي نشأت فيها ألفنون والعلوم والصناعات وبعد فأي حضارة كبرى لم تكن حربية بلحمتها وسداها؟ وأي شعب جنح إلى السلم والسكينة فكان له شأن في التاريخ غرس في فطرة الحيوان أن يأكل قويه الضعيف. لأجزم إن المدينة تقلل من هذه القاعدة ولكنها لا تستطيع أن تضعف النفرة المستحكمة بين العناصر الناشئة من اختلاف التركيب العقلي بينها وهي اختلافات تحمل كل عنصر يعيش عيشاً يخالف الآخر فيضطر أن يسلك مسلكاً يخالف غيره فيه وقد نشأ معظم التنازع بين البشر من هذا الاختلاف وكل حروب البشرية كحروب ألفتوح والحروب لتولي الزعامة والملك والحروب الدينية والحروب لإعلاء كلمة دين ومذهب كانت على الغالب حروباً عنصرية فقد كان الخلاف بين ألفرس والآشوريين وهو الذي نقل لأول مرة السلطة على العالم من أيدي الساميين إلى أيدي الآريين حرباً بين عنصرين وكذلك كان من أمر النزاع بين اليونان والآسياويين وبين الرومان والبرابرة وبين اليابان والروس بل أن الحروب الدينية في القرون الوسطى كانت حرباً عنصرية يريد فريق أن يفكر كما يريد ويريد الآخر أن ينحله نحلته ويقول بقوله ويخضع لسلطان الدين الجديد وما فيه من قيود عن مشخصاته أما اعتبار هذه الحروب حروب ملوك بعضهم مع بعض فليس من التحقيق في شيء فإن الملوك الذين لم تتجسد فيهم مرامي شعوبهم وأهوائهم وأحلامهم كانوا لا يلبثون على سرر الملك الأعشية أو ضحاها مهما تعددت صلات لأمم وحذت بعضها لغات الأخرى فاختلافهم في عقولهم ومناحيهم لا يزال على أتمة ولا سبيل إلى جمع الشمل بين عناصر متخلفة بالفطرة ولا التفاهم لأن كل واحد نظراً والمنازع متخلفة في مسائل كثيرة إذً فمهما وقفت المصلحة بين الشعوب فأرواحهم تباعد بينهم فبدلاً من أن يسيروا نحو أعظم يسيرون إلى نفور يزداد كل يوم تأصلاً ولهذه الكراهة عدة أسباب سياسية واجتماعية بعد أن تفاربت الأبعاد باختراع البخار والكهرباء أصبحت الأمم تستكثر من التسليح وتضع عقبات كمركية تقطع الاتصال بين المماليك وسيكون من أمرها بعد أن تطوق كل مملكة بطوق كسد الصين أن لا ترى الأمم هذا السد كافياً للحيلولة بينها وبين غيرها حتى لقد أخذت الحكومات حرة دستورية كانت أو مطلقة ألهية تقول بالابتعاد عن الأجانب فبعد أن أقرت أميركا كما أقرت أوستراليا على نفي الصينيين من بلادها أخذت تحظر دخول السفن الحاملة مهاجرين فقراء وحزب العملة في إنكلترا ينادي بطرد العملة من غير الإنكليز والحكومة الروسية عملت بإدارة العامة من شعبها وربما كانت هذه الإرادة أقوى من أي سلطة أعظم من القياصرة فقضت بطرد الإسرائيليين من المدن الكبرى والحكومة البروسية تطرد البولونيين والطليان الذين يعملون في سككها الحديدية وسويسرا بعد أن رفضت سنة 1894 القانون القاضي بعد إعطاء عمل للعملة الأجانب أنشأت تطلب في تعهداتها مع المتعهدين للوازم الحربية أن لا يكون صناعها إلا من السويسريين وكذلك جرت فرنسا في عامة أحوالها كل هذا مما دل على القرن العشرين لم يقو على بث مبادئ الإخاء العام بين البشر وأنه لا سبيل إلى أحكام أواصره بين العناصر المختلفة إلا إذا جهل بعضهم ما عليه صاحبه فأنت إذا قربت بين الشعوب بتقريبك بين المسافات الشاسعة وسهلت ارتياد البلاد على كل مرتاد تحكم عليهم أن يعرفوا بعضهم معرفة تامة فينتج من ذلك أن يضيقوا ذرعاً أكثر من الأول عن تحمل بعضهم بعضاً ذلك لأن تزايد نفوذ الغريب في بلد هو من مقوضات حياة المماليك فالنفوذ الأجنبي يسلب من الأمم أعز ما عندها ونعني به روحها فإن الدخيل لما كثر في مملكة الرومان انحلت وتأذن الله بفنائها الأجنبي في بلاد غيره لايخضع لقانون التجنيد ويدفع أو قد لا يدفع قليلاً من الضرائب ويعمل عملاً أسهل بأجر أكثر مما في مسقط رأسه وتوارد الأجانب على مملكة يحاذر منه لأن العناصر المنحطة التي لا تقدر على القيام بأودها في بلاده هي التي تهاجر ومهما ذهب من الأنفس في ساحات الحروب لا يكون تأثير ذلك في الأمم بقدر ما يكون من غارة الغريب والدخيل على بلد ليس هو منها في العير ولا في النفير كان القدماء يخافون الغريب من فطرتهم ويعرفون حق المعرفة أن قيمة المماليك لا تقدر بعدد سكانها بل بعد الوطنيين فيها وكل دولة كانت ذريعة إلى السلم العام الدائم تقضي على كل ارتقاء وتعود بالناس إلى أقصى التوحش قال فوكويه إن ضمانة السلم تولد قبل أن يأتي نصف قرن فساداً وانحطاطاً افعل في تقويم دعائم الإنسانية من عوامل الحروب لا شك أن الحروب لا تخلو من محاذير وكثيراً ذات بال ولكن إذا قورنت بغيرها تبين الكفة الراجحة من الكفة الشائلة في الحروب محاذير ترد إلى أصول ثلاثة فقد المال وفقد الرجال ضعف العنصر ففقد المال لا شأن له إذ دلنا التاريخ أن الشعوب الكثيرة الغني كانت أبداً تضمحل أمام الشعوب الفقيرة وما أفقار أمة من المضر بها كل الضرر فقد قال الأخصائيون أن ألمانيا أنفقت حتى الآن كثيراً من المليارات للاحتفاظ بولايتي الألزاس واللورين وأن جميع أوروبا تفادي كل سنة بمليارات كثيرة في سبيل تسليح شعوبها ولا جدال في أن بعض الأمم ذاهبة نحو الإفلاس وعلاج هذا الداء فيها أن تحرض على العمل وتعلم الاقتصاد ويجب أن تعتبر هذه المبالغ المصروفة في سبيل التجنيد ضرباً من ضروب المكافأة الضامنة لمن يدفعها شر الغارة عليه فالأمة الأوروبية التي تبقى يوماً بدون جيش تضم حالاً إلى دولة قوية فتستضيفها وترهقها بما تضعه عليها الضرائب الباهظة وهي أشد من كل ضريبة تؤديها في سبيل التسليح ولذلك ترى الأمم تتنافس في إنفاق الملايين على جيوشها ريثما يضرب بعضها بعضاً بالقنابل والأصل الآخر الذي يحاذر منه في الحروب قلة الرجال وهذا ليس من العظم بالقدر الذي يحمل له خصوصاً عند الأمم التي يكثر توالدها فإن نابليون أضاع في حروبه ثلاثة ملايين من الأنفس ولكنه خلف مجداً لعنصره من فوائد الحروب أنها تؤلف روحاً وطنية وبالحروب فقط تتولد هذه الروح وتتأصل في جسم الأمة بدون روح وطنية يصعب أن تقوم لشعب مدنية وحضارة. فالروح الوطنية تقويها الحروب عند الظفر وتنمو قوتها كل النمو عند الانكسار. يقولون إن وقعة اينا كانت مصيبة على ألمانيا والحقيقة أنها لم تكن كذلك إذ بدون هذه المصيبة الموهومة كانت وحدة ألمانيا وقوتها تأخرت بضعة قرون وإنا إذا لم ننظر إلى الحوادث إلا باعتبار نتائجها البعيدة يسوغ لنا أن نقول إن وقعة أينا كانت وبالاً على فرنسا الظافرة إذ ذاك لا على ألمانيا المغلوبة في تلك الوقعة. نشأ من الحروب الأخيرة في أوروبا قانون التجنيد العام فإنه وإن أضر بالأمم الأوروبية من حيث الماديات ولكنه نفعها من وجوه ولولاه لانتشرت ألفوضى وسادت الاشتراكية وتقدمت جميع أبنية المدينة الحديثة. فإن الأسس الدينية القديمة التي كانت تقوم عليها المجتمعات الحديثة في الغرب قد خربت فلم تجد أوروبا شيئاً تستعيض به عنها. فالقانون العسكري كان المهيمن الذي لقن أهل الغرب قليلا من الصبر والثبات وأشرب قلوبهم فكر المفاداة وأورثهم الميل نحو الكمال موقنا وبه قضى على الأنانية والترف الذي يستولي على الشعوب فينهك قواها. ضريبة الخدمة العسكرية ثقيلة تذكر باشق إدوار العبودية القديمة ولكنها لا يتأتى لمجتمع القيم بدونها ومن زهد فيها أندغم من غيره أو أغارت عليه الأمم المتوحشة فلا يجد إلى دفعها سبيلا. قال السير مولتكه في مفكراته: لا يخضع الشبان إلا زمنا قصيراً في الجملة لنفوذ المدرسة النافع ومن حسن الحظ عندنا معاشر الألمان أن التربية الحقيقية تبدأ حالما تنتهي التربية الشخصية وما من أمة أحرز مجموعها تربية تشبه تربيتنا التي جاءتنا من طريق الخدمة العسكرية. قالوا إن معلم المدرسة هو الذي كتب النصر لأعلامنا ولكن العلم وحده لا يكفي في تربية الإنسان والأخذ بيده إلى مستوى من الأخلاق يستعد به لأهراق دمه في سبيل تأييد فكر والقيام بواجب وفي طريق الشرف والوطن وغلى هذا كله ترمي تربية الإنسان. فليس معلم المدرسة هو سبب النصر بل السبب هو المربي الحقيقي: الحكومة العسكرية هي التي انتصرت فربت في الناس مدة ستة عشر سنة متوالية القوة الجسدية والعقلية وعلمتهم النظام والتدقيق والاستقامة والخضوع وحب الوطن. إن نفع القانون العسكري لا يقتصر على تعليم الأمم الشمم والإهابة بأخلاقها إلى السمو بل إليه يرجع ألفضل في النجاح العظيم الذي أحرزته الصناعة الحديثة ولا سيما في أعمال المعادن وذلك لأن البحث الذي وقع لأستجادة السلاح قد كان من إثره إدخال الصناعة في طور علمي دقيق وفي سرعة لم تكن تعرف منذ خمسين سنة على نحو ما كانت الضرورات الحربية مؤدية إلى انتشار الخطوط الحديدية فكانت الأصل في معظم الكمال الذي بلغته الملاحة في البحر. فالحروب والخوف منها هي من أقوى العوامل الأخلاقية والمادية في الشعوب ومن الأفكار العسكرية يتألف أخر عماد بدعم المجتمعات الحديثة وبذلك كان على الشعوب التي لم ترض عن الجندية أن تعترف لها بالجميل. وعلينا ألا نشكو كثيراً من النفرة المتبادلة بين الشعوب إذ بدونها يزول كل خشية ممن الحرب وبذلك تضمحل المدنية فتغدو رباعها بلقعاً. مثال الأمم التي اضر بها السلام أهل الهند فإنهم يعيشون منذ زهاء قرن في سلام دائم وبلادهم أوسع البلاد وأكثرها سكاناً حتى قدرت الزيادة فيهم مدة عشرين سنة بأكثر من ثلاثين مليوناً ويسكن الكيلو متر الواحد من الناس في الأرض القابلة للسكن ضعفاً ما يسكن في الممالك المتمدنة في أوروبا ومع هذا نشأت خطوب كثيرة منها مجاعات ذهبت بأرواح مئات الألوف من السكان في أدوار متعددة فلم تنفع السكك الحديدية والأسلاك البرقية وهلك في ولاية أوريسا وحدها سنة 1866 من الجوع فقط مليون إنسان كما هلك 12. . . . . سنة 1868 في إقليم بنجاب وفي سنة 1874 هلك مليون وربع من الهنود في مملكة الدكن. فهل كانت الحروب تحصد أكثر من هذا القدر من الناس وهلا كان الهلاك في الحرب أشرف وأعظم في حسن الأحدوثة؟ وبعد فإن خير الطرق لإعداد النفوس إلى ما عساه يطرأ على الأمم هو أن تبث فيها روح وعواطف يقال لمجموعها ألفكرة الجندية وهذا هو أقوى دعامة في الجيش وبدونه لا أمل لشعب في إحراز مظهر في الوجود بل يشبه حملاً ضعيفاً ليس له حول ولا طول. من أجل هذا وجب على كل من يحب وطنه أن يربي أولاده تربية جندية ويبث هذه الروح في الجنود الذين لم تمكنهم أحوالهم فيما مضى من تلقف هذه الروح حتى لا يكون حال الأمة التي تطالب بالسلام حال البيزنطيين في الأستانة أيم جاءها محمد ألفاتح يتجادلون في المسائل اللاهوتية وألفاتح يحط رحاله في أسوار القسطنطينية. يتوقف الانتصار في الحروب على معنويات الجيوش لا على كثرة عددها فهي التي تغلب وتقطف ثمرات الحرب الأخيرة. وقد أفادتنا الحرب العامة أن دول الاتحاد (ألمانيا والنمسا والمجر والعثمانية) اقل جنداً ونفوساً من الاتفاقيين (روسيا وإنكلترا وفرنسا وإيطاليا والبلجيك والبرتغال والصرب الجبل الأسود واليابان) ومع هذا رأينا الغلبة للاتحاديين على الوفاقيين وعلمتنا أمن لاتحاد ألفكر بين القواد والضباط العامل الأقوى في الغلبة فأحلافنا لم يختلفوا ساعة على المصلحة على حين ترى أعداءنا كل يوم في شأن من أجل القيادة والمحور الذي يدور عليه العمل للوصول إلى الغاية. هذا بعض ما تجر الحروب من ألفوائد التي أقرها علماء الاجتماع وأيدتها الشواهد التاريخية الكثيرة فإن الصين على كثرة عددها ونفوسها لا تقل عن أربعمائة مليون لما تغلبت عليها فلسفة السلم وأخلدت إلى الراحة تنقصها الأمم الغربية من أطرافها ويابان التي لا نبلغ بعدد نفوسه سدسها ضربت روسيا التي هي ثلاثة أضعافها ضربة أفقدتها منذ سنين خمسها فضربت بهذه الضربة جميع ممالك أوروبا وأمريكا عن الطمع في بلادها وأصبحت يابان إذا ذكرت طأطأت لها الجباه إجلالا وأصبح الغربيين يتفاخرون في الأخذ عن مدنيتها والهند لما نزعت منها الأخلاق الحربية رئمت للمذلة وخضعت لسلطان القوة فأصبح أهلها وهم خمس الأرض بعددهم لا يساوون الهولنديون وهم ثلاثة ملايين فكأن مائة مليون هندي أقل مكانة من مليون هولندي.