مجلة المقتبس/العدد 9/نظام الطبيعة والإنسان والحيوان
مجلة المقتبس/العدد 9/نظام الطبيعة والإنسان والحيوان
نظام الأرض أن تدور دورة من الغرب إلى الشرق في كل أربع وعشرين ساعة فيكون الليل والنهار. ودورة في كل ثلاثمائة وخمسة وستين يوماً من الغرب إلى الشرق فتتأتى عنها فصول السنة وهي الربيع والصيف والخريف والشتاء.
أتى على هذا النظام الذي سنه الخالق العظيم لحفظ الكون نحو ستة آلاف سنة عند علماء الدين وتسعة أو عشرة آلاف عام على رأي علماء طبقات الأرض. وما برحت الطبيعة محافظة على نظامها لأنه من لزومياتها. ومتى تشوش اختلت الأرض وقضي على من فيها بالتقهقر الملازم والخراب الدائم.
وما يقال في الأرض من حيث محافظتها على نظامها الطبيعي يقال في كل ما دب عليها من إنسان وحيوان وكل ما ينبت فيها من أعشاب ونباتات ومزروعات وغياض ورياض وغيرها.
فالبشر سن عقلاؤهم والمتمدنون منهم نظامات لهم لحفظ حقوقهم ومصالحهم المدنية والعمرانية والعمومية والخصوصية وغير ذلك. وللحيوانات على تباينها نظامات تمشي بموجبها وإن لم يدركها أكثر البشر.
هذه طائفة الذئاب من الوحوش الكاسرة يظنها معظم الناس لا ترتيب لديها ولا نظام على أن لها نظامات يجهلها الإنسان. وهذه طائفة النمل التي ينظر إليها المرء نظرة الازدراء والاحتقار حازت من النشاط والترتيب والنظام ما يذهل العقول ويحير الأفكار.
راقب سرباً من الذئاب يسير في البرية ترى له قائداً يقوده. وكل ذئب منه يسير بترتيب وراء رفيقه وكأنها كلها جنود مدربة يقودها قائد محنك. وتأمل طائفة من النمل في جدار تلق ما لقيته في سرب الذئاب من القيادة أو الزعامة والترتيب والنظام.
وما يقال في الذئاب والنمل يقال في سائر الحيوانات كاسرة كانت أو داجنة وطائرة أو سابحة. ويلحق كل من يخالف النظام من تلك الحيوانات قصاص بقدر جرمه. فالذئب الذي لا يسير على سنن النظام أو يخالفه إذ يمشي سربه يرتد عليه قائد السرب ثم سائر الذئاب فتمزقه تمزيقاً. وبديهي أن هذا القصاص عند طائفة الذئاب من الحيوانات بمثابة قتل القاتل عند البشر. وكل ما يقال في الذئاب بهذا الشأن يقال في غيرها من الحيوانات.
خلق الله الإنسان الأول آدم وسن له شريعة ونظاماً كما برأ تعالى الخليقة وسن لها نظامات تمشي عليها منذ البدء فقال له من جميع شجر الجنة تأكل أكلاً وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها وهذه الشريعة أو النظام أساس شرائع الجنس البشري وقوانينه فهي أولها. وكان لجماع الآباء الأولين والشعوب القديمة شرائع ونظامات وما فتئت نظامات هؤلاء الموسويين وشرائعهم مدونة في أسفار موسى كليم الله. وتلك الشعوب والأمم التي عاصرت الموسويين وجاءت بعدهم كالكلدانيين والآشوريين والفينيقيين والحثيين والمصريين والأدوميين والكنعانيين والعرب واليونان والرومان وغيرهم كان لهم شرائع ونظامات نقلها إلينا المؤرخون القدماء كهيرودتس اليوناني الذي ولد عام 484 ق. م وزنفو الروماني الذي ولد نحو 380 ق. م ويوسيفوس العبراني الذي ولد عام 37 ق. م وغيرهم.
ولقد عني اليونانيون في أيامهم بالنظامات المدنية والشرائع الدولية. على أن الرومانيين نظموها وأتقنوها. ثم أخذت شعوب الأرض مبادئ نظامات الرومانيين وشرائعهم وفي مقدمتهم الأمة النابليونية. وزادوا عليها كثيراً وشرحوها شروحاً حسب مقتضيات المكان ومطالب الزمان.
ولا يزال معظم دول المعمور ساعياً إلى سن نظامات جديدة وشرائع مفيدة ومهتماً بتحسين قوانين بلاده وحكوماته. حتى أن الصين التي استولى الانحطاط عليها قروناً أفاقت من رقادها وبدأت بضبط نظاماتها وتحسين شرائعها وسنها على مثال شرائع العالم المتمدن.
وإرسال الصين البعثة المؤلفة من اثني عشر عضواً من كبار رجال الأمة الصينية ومتهذبيها في هذه الشهور الأخيرة إلى العالم الجديد وأوربا لدرس شرائع القارتين ونظاماتهما العصرية أكبر شاهد على نهضة هذه الأمة وأشهر دليل على شدة اهتمامها بنظامات بلادها وشرائع دولتها. فالنظامات المدنية والشرائع الدولية والقوانين العمرانية رافقت الإنسان منذ وجد الإنسان الأول إلى الآن. وهي ضرورية للدول ضرورة الهواء للإنسان. ولازمة للأمم والبلاد لزوم الماء للإنسان والحيوان والنبات.
وليست هذه النظامات من حاجات البشر ولا هي محصورة فيهم فقط بل هي من ضروريات كل ما نراه أمامنا ووراءنا وفوقنا وتحتنا من هذه الخليقة العجيبة أو هذا الوجود الذي لا يزال موضوع بحث الباحثين من علماء غربيين وشرقيين.
فلتلك الأمطار التي تهطل وتحيي الزرع والضرع والإنسان والحيوان والنبات نظامات وما تحويلها أحياناً في البلاد الباردة إلى الثلج إلا من برودة الجو. وما المضار التي تأتي منها إلا منبعثة من تلك الطوارئ الخارجية التي هي سبب من أسباب تشويش نظامها الطبيعي.
لولا تلك الأهوية والرياح التي نظنها مضرة ما نمت الزروع والأشجار النمو المطلوب وما أتت بالأثمار والفوائد المنتظرة منها. فالرياح المعتدلة تقوي جذوع المغروسات والمزروعات ومتى تقوت جذوعها كثر نموها. والرياح تسبب اللقاح المعروف بلقاح المغروسات ومتى تم هذا الازدواج أو اللقاح أثمرت المغروسات. أما المضار الناشئة من الرياح الشديدة فهي من عوامل الطبيعة الخارجية. فاعتدال الرياح نظامها واختلال الرياح طوارئ خارجية تطرأ عليها فتشوش نظامها ويكون بذلك تشويش نظامها واختلاله.
وتلك الأشجار الزهراء التي تتضام بعضها إلى بعض عند تموجات الهواء وتلك الزروع الخضراء الني نشاهدها تتمايس وتتعانق وتلك الرياحين الجميلة التي تنفح عبيرها وتلك الأزاهير العطرية التي يعبق شذاها هي كلها ذات نظامات طبيعية وفي نموها وجمالها ورائحتها وثمرها وقائدتها أدلة على نظاماتها التي دونت في كتاب الطبيعة العظيم.
بل هذه القبة الزرقاء ونجومها وسياراتها وكواكبها كالشمس والقمر والثوابت وغيرها فإن لها نواميس طبيعية ونظامات سطرتها لها أنامل الطبيعة. ونواميس النور معروفة وهي أن النور ينبعث بالتساوي من الجسم المنير إلى الجهات كلها وأنه يسير في خطوط مستقيمة إذا اخترق وسطاً متجانس الأجزاء. وأن كثافته تنقص بقدر ما يزيد مربع بعده.
أما التشويش النظامي الذي يحدث للطبيعة بسبب الطوارئ الخارجية التي تطرأ عليها فهو بمقام الاختلال النظامي الذي يعرو الشعوب والدول فيفسدها ويلحق بها أضراراً فاحشة بل يسقطها من ذروة مجدها وقمة سعدها إلى حضيض الشقاء والدمار.
هذه بلاد السودان من إفريقية قد كانت قبل أن احتلتها بريطانيا العظمى مسرح الجهل ومجزر سفك الدماء وفي أقصى دركات التأخر والانحطاط والتوحش لأن النظام فيها كان معدوماً. أما اليوم فقد سنت الدولة الإنكليزية نظاماً للقطر السوداني على حسب مقتضيات العصر فساد الأمن في ربوعه وافتتحت مدارس التهذيب فأخذت تبدد غياهب الجهل من بلاده.
ولا يسع الواقف على تواريخ القدماء إلا التصريح بأن كل أمة حافظت على نظامها وكل دولة سارت على سنن قوانينها وكل قبيلة اتبعت شرائع بلادها حازت مقاماً من المجد والعز والرقي وإن كل من خالف تلك النظامات من تلك الأمم والدول انقلب عزها ذلاً وهناؤها شقاءً وارتفاعها سقوطاً وتقدمها تأخراً.
ولا حاجة إلى القول أن الأمة الإسرائيلية لما خالفت شرائعها ونظامها المدنية والدينية دبت في مجتمعها روح الموت الأدبي والمدني وعبث بجامعتها عابث فمزق شملها وانفصل حبلها وما المصائب والاضطهادات التي لقيتها هذه الأمة في جميع قارات العالم بل ما المذابح التي جرت على شعبها المتفرق بل ما السيف الذي عمل في رقاب كثيرين من هذا الشعب العريق في القدم أينما كان وحيثما حل في خلال القرون الخالية وفي كل قرن من القرون المتوسطة والحديثة ما خلا القرن الثامن عشر للميلاد بل ما الداعي إلى انفصام عروة اليهود على وجه البسيطة إلا بسبب مخالفتهم للنظام والشريعة. وهكذا يقال في البابليين الذين بلغت أسوار مدينتهم العظيمة 300 قدم ارتفاعاً و87 قدماً عرضاً وبلغ محيط دائرتها 48 ميلاً. فقد سقطت بيد الماديين والفرس سنة 644 ق. م. لأنهم سكروا في عيدهم السنوي فغفلوا عن واجباتهم نحو الشريعة الدولية والنظام الأدبي فهبطوا ذلك الهبوط المريع وخسروا تلك المدينة العظيمة التي أجمع المؤرخون القدماء على أنها كانت سيدة الممالك ودرة تاج فخار الأمصار.
خسر البابليون على ذاك العهد بخسارة بابلهم مائة باب مصفحة بالنحاس وخسروا هيكل بابل الذي كان ارتفاعه 600 قدم والبحيرة الصناعية التي بلغ محيطها مائة ميل وعمقها زهاء 35 قدماً. وفقدوا أيضاً الجنائن الصناعية التي جعلت طبقات بعضها فوق بعض وبلغ علوها علو البرج. دع الدور الفخيمة والقصور الشاهقة والأبنية الجميلة.
والواقف على تاريخ اليونان القدماء وامتداد سلطتهم وما بلغوه من قوة السعد وعلى تاريخ الرومان وما وصلوا إليه من مناعة العز والمجد لا يرى بداً من التصريح بأن تشويش نظامهم الدولي واختلال شرائعهم المدنية كانا قاضيين على تلك السلطة وذلك المجد والسعد بالتلاشي والزوال.
فحري والحالة هذه بحكام البلاد الذين تشوش نظامهم وأخذ سوس الفساد بنخر جسم مدنيتهم وعمرانهم وحقيق بالآخذين بنواصي العباد ممن استولى عليهم الرقاد أن يستيقظوا ويعتبروا في مصير تلك الدول القديمة التي درست آثارها ويتأملوا في ما فعل التشويش النظامي بالشعوب الماضية التي طمست أخبارها. وأن يتمثلوا بالدول الراقية والأمم الناهضة ويقوموا بمطالب التمدن ويلبوا نداء هذا العصر. بل جدير بكل فرد يحب شعبه ويغار على وطنه أن يحافظ على قوانين بلاده ويساعد في تأييد نظام دولته وحكامه. فمتى تحسنت شؤون الأفراد تحسنت شؤون العيال فالجماعات فالشعوب.
وإذا كان الإنسان ملكاً أو مملوكاً وجيهاً أو صعلوكاً رئيساً أو مرؤوساً غنياً أو فقيراً عالماً أو جاهلاً لا يجد من نفسه دافعاً يدفعه إلى المحافظة على نظام البلاد والدول والمشاريع المدنية والعمرانية فله أمثلة مما يراه في الجهات الست من جماد ومياه وحيوانات ونباتات وأجرام ما يجعله ينادي على رؤوس الأشهاد بوجود النظام ووجوب المحافظة عليه ووجوب ضرورته للبشر ضرورة الهواء والماء والشمس والطعام للإنسان.
اوماهانبراسكا (الولايات المتحدة)
يوسف جرجس زخم