انتقل إلى المحتوى

مجلة المقتبس/العدد 89/معجم البلدان

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة المقتبس/العدد 89/معجم البلدان

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 6 - 1914



تكلمنا في الجزئيين الماضيين ما ساعدنا نفس الكلام على معجم ياقوت واقتبسنا من فرائد فوائده ما اتسع له المقام وما هذا المعجم في الحقيقة إلا منجم واسع فه صنوف المعادن الثمينة يتكلم عن علل البلدان والسكان والإنسان علة فساد الأرض وصلاحها قال في دنيسر بضم أوله بلدة عظيمة مشهورة من نواحي الجزيرة فرب ماردين بينهما فرسخان ولها اسم آخر يقال له فوج حصار رأيتها وأنا صبي وقد صارت قرية ثم رأيتها بعد ذلك بنحو ثلاثين سنة وصارت مصراً لا نظيراً لها كبراً وكثرة أهل وعظم أسواق وهذا من العجائب الذي لا مثيل لها ويشبهه حال مدينة شيكاغو في غربي الولايات المتحدة الأميركية فإنها كانت منذ خمسين سنة قرية وها هي من أعظم عواصم العالم وأضخمها عمراناً ولكن سنة الشرق غير سنة الغرب إلا ترى إلى ما وراء ياقوت في أصبهان قال أن قد فشا الخراب لعهده وقبله في نواحيها لكثرة الفتن والتعصب بين الشافعية والحنفية والحروب المتصلة بين الحزبين فكلما ظهرت طائفة نهبت محلة الأخرى وأحرقتها وخربتها لا يأخذهم في ذلك إلى ولا ذمة ومع ذلك فقل أن تدوم بها دولة سلطان أو يقيم بها فيصلح فأسدها وكذلك الأمر في رسانيقها وقراها التي كل واحدة منها كالمدينة.

ومثل ذلك ما وراء في اغمات قال: وأهلها فرقتان يقال لأحدهما الموسوية من أصحاب ابن ورصند والغالب عليهم جفاء الطبع وعدم الرقة والفرقة الأخرى مالكية حشوية وبينهما القتال الدائم وكل فرقة تصلي في الجامع منفردة بعد صلاة الأخرى كذا ذكر ابن حوقل التاجر الموصلي في كتابه وكان شاهدها قديماً بعد الثلاثمائة من الهجرة ولا ادري في الدين ثم عبد المؤمن وبنوه ولهم ناموس يلتزمونه وسياسة يقيمونها لا يلبث معها مثل هذه الأخلاط.

وقال في مادة البري: كان أهل المدينة ثلاث طوائف شافعية وهم الأقل وحنفية وهم الأكثر وشيعية وهم السواد الأعظم لان أهل البلد كان نصفهم شيعة وأما أهل الرستاق فليس فيهم إلا شيعة وقليل من الحنفيين ولم يكن فيهم من الشافعية احد فوقعت العصبية بين السنة والشيعة فتظافر عليهم الحنفية والشافعية وتطاولت بينهم الحروب حتى لم يتركوا من الشيعة من يعرف فلما أفنوهم وقعت العصبية بين الحنفية والشافعية ووقعت بينهم حروب كان الظفر في جميعها هذا مع قلة عدد الشافعية إلا أن الله نصرهم عليهم وكان أه الرستاق وهم حنفية يجيئون إلى البلد بالسلاح الشاك ويساعدون أهل نحلتهم فلم يغنهم ذلك شيئاً حتى أفنوهم فهذا المحال الخراب التي ترى هي محال الشيعة والحنفية وبقيت هذه المحلة المعروفة بالشافعية وهي اصغر محال الري ولم يبق من الشيعة والحنفية إلا من يخفي مذهبه ووجدت دورهم كلها مبنية تحت الأرض ودروبهم التي يسلك بها إلى دورهم على غاية الظلمة وصعوبة المسلك فعلوا ذلك لكثرة ما يطرقهم من العساكر بالغارات ولولا ذلك لما بقي فيها احد.

ومثل ذلك مدينة ساوة بين الري وهمذان قال وبقربها مدينة يقال لها آوه فساوة سنية شافعية واوه أهلها شيعة أمامية وبينهما نحو فرسخين ولا يزال يقع بينهما عصبية وما زالتا معمورتين إلى سنة 617 فجاءها التتر وخربوها وقتلوا كل من كان فيها ولم يتركوا أحداً البتة وكان بها دار كتب لم يكن في الدنيا أعظم منها بلغني أنهم احرقوها.

وهكذا ذكر بالمناسبة ما أحدثه التعصب الديني في خراب البلدان فقد ذكر في أبي محمد هياج بن محمد الحطيني الزاهد انه استشهد بمكة في وقعة وقعت بين أهل السنة والرافضة فحمله أميرها محمد بن أبي هاشم فضربه ضرباً شديداً على كبر السن ثم حمل إلى منزله فعاش بعد الضرب أياماً ثم مات في سنة 472 قلنا والفتن الدينية لم تكد تخلو منها جهة من جهات بلاد الإسلام بضع سنين فقد ذكر المؤرخون في حوادث سنة خمس وسبعين وأربعمائة انه كانت فيها أيضاً فتنة ببغداد بين الشافعية والحنفية وكل هذه الفتن كانت تسيل فيها الدماء إلى الأباطح وما سببها إلا ضعف العمال وانتفاعهم سراً من الاختلاف بين أهل البلد الواحد فهم يفرحون بكل ما يقع إذ كان ينتج لهم بسط سلطاتهم بإشغال الناس عن النظر في أمورهم وكان استبعاد الملوك للرعايا يختلف باختلاف رقي البلد والقطر فقد روى ياقوت في مادة زغاوة وهم جيل من السودان يعظمون لملكهم ويعبدونه من دون الله تعالى ويتوهمون انه لا يأكل الطعام ولطعامه قومه عليه سراً يدخلونه إلى بيوته لا يعلم من أين يجيئون به فإن اتفق لأحد من الرعية أن يلقى الابل التي عليها زاده قتل لوقته في موضعه وهو يشرب الشراب بحضرة خاصة أصحابة وشرابه يعمل من الذرة مقوى بالعسل وزيه ليس سراويلات من صوف رقيق والاتشاح عليها بالثياب الرفيعة من الصوف الاسماط والخز السومي والديباج الرفيع ويده مطلقة في رعاياه ويسترق من شاء منهم امواله المواشي من الغنم والبقر والجمال والخيل وزرع بلدهم أكثرها الذرة واللوبياء ثم القمح وأكثر رعاياه عراة مؤتزرون بالجلود ومعايشهم من الزرع واقتناء المواشي وديانتهم عبادة ملوكهم يعتقدون أنهم الذين يحيون ويميتون ويمرضون ويصحون.

ومن المسائل التي حققها ياقوت ما قاله في وصف الرقيم الذي جاء ذكره في القران وان فيه أصحاب الكهف أن هذا الكهف بين عمورية ونيقية وبينه وبين طرطوس عشرة أيام أو احد عشر يوماً وكان الواثق قد وجه محمد بن موسى المنجم إلى بلاد الروم (الأناضول) للنظر إلى أصحاب الكهف والرقيم قال فوصلنا إلى بلد الروم فإذا هو جبل صغير قدر أسفله اقل من ألف ذراع وله سرب من وجه الأرض فتدخل السرب فتمر في خسف من الأرض مقدار ثلاثمائة خطوة فيخرجك إلى رواق في الجبل على أساطين منقورة فيه عدة أبيات منها بيت مرتفع القبة مقدار قامة عليها باب حجارة فيه الموتى ورجل موكل بهم يحفظهم معه خصبان وإذا هو يحيدنا عن أن نراهم ونفتشهم ويزعم انه لا يأمن من أن يصيب من التمس ذلك آفة في بدنه يريد التمويه ليدوم كسبه فقلت دعني انظر إليهم وأنت بريء فصعدت بمشقة عظيمة غليظة مع غلام من غلماني فنظرت إليهم وإذا هم في مسوح شعر تتفتت في اليد وإذا أجسادهم مطلية بالصبر والكافور ليحفظها وإذا جلودهم لاصقة بعظامهم غير أني أمررت يدي على صدر احدهم فوجدت خشونة شعره وقوة ثيابه ثم أحضرناه ليتوكل بهم طعاماً وسألنا أن نأكل كل منه فلما أخذناه منه ذقناه وقد أنكرت أنفسنا وتهوعنا وكأن الخبيث أراد قتلنا أو قتل بعضنا ليصبح له ما كان يموه به عند الملك انه فعل بنا هذا الفعل أصحاب الرقيم فقلنا له أنا ظننا أنهم أحياء يشبهون الموتى وليس هؤلاء كذلك فتركناه وانصرفنا.

ومن العجائب التي نقلها في قومسين أي كرمان شاء أن فيها الدكان الذي اجتمع عليه ملوك الأرض منهم فغفور ملك الصين وخاقان ملك الترك وداهر ملك الهند وقيصر ملك الروم عند كسرى أبرويز وهو دكان مربع مائة ذراع في مثلها من حجارة مهندمة مسمرة بمسامير من حديد لا يبين فيها ما بين الحجرين فلا يشك من رآه انه قطعة واحدة.

ومما ذكرناه في كرخ بغداد ولما ابتنى المنصور مدينة بغداد أمر أن تجعل الأسواق في طاقات المدينة إزاء كل باب سوق فلم يزل على ذلك مدة حتى قدم عليه بطريق من بطارقة الروم رسولاً من عند الملك فأمر الربيع أن يطوف به في المدينة حتى ينظر إليها ويتأملها ويرى سورها وأبوابها وما حولها من العمارة ويصعده السور حتى يمشي من أوله إلى آخره ويريه قباب الأبواب والطاقات وجميع ذلك ففعل الربيع ما أمره به فلما رجع إلى المنصور قال له: كيف رأيت مدينتي قال: رأيت بناء حسناً ومدينة حصينة إلا أن أعداءك فيها معك قال: من هم قال: رأيت السوقة يوافي الجاسوس من جميع الأطراف فيدخل الجاسوس بعلة التجارة والتجار هم برد الآفاق فيتجسس الأخبار ويعرف ما يريد ويتصرف من غير أن يعلم به احد فسكت المنصور فلما انصرفت البطريق أمر بإخراج السوقة من المدينة وتقدم إلى إبراهيم بن حبيش الكوفي وخراس بن المسيب اليماني بذلك وأمرهما أن بيينا ما بين الصراة ونهر عيسى سوقاً وان يجعلاها صفوفاً ورتب كل صنف في موضعه وقال اجعلا سوق القصابين في آخر الأسواق فإنهم سفهاء وفي أيديهم الحديد القاطع. . .

ولياقوت اقتدار عظيم في وصف أخلاق الشعوب وعاداتهم خصوصاً ما يحققه بنفسه مثل كلامه على أهل مرباط فرضة مدينة ظفار قال: وأهلها عرب وزيهم وفي العرب القديم وفيهم صلاح مع شراسة في خلقهم وزعارة وتعصب وفيهم قلة غيرة كأنهم اكتسبوها بالعادة وذلك انه في كل ليلة تخرج نساؤهم إلى ظاهر مدينتهم ويسامرون الرجال الذين لا حرمة بينهم ويلاعبهم ويجالسهم إلى أن يذهب أكثر الليل فيجوز الرجل على زوجته وأخته وأمه وعمته وإذا هي تلاعب آخر وتماشيه فيعرض عنها ويمضي على امرأة غيره فيجالسها كما فعل بزوجته وقد اجتمعت بكيش بجماعة كثيرة منهم رجل عاقل أديب يحفظ شيئاً كثيراً وأنشدني إشعاراً وكتبتها عنه فلما طال الحديث بيني وبينه قلت له: بلغني عنكم شيء أنكرته ولا اعرف صحته فبدرني وقال: لعلك تعني السمر قلت ما أردت غيره فقال: الذي بلغك من ذلك صحيح وبالله اقسم انه لقبيح ولكن عليه نشأنا وله مذ خلقنا ألفنا ولو استطعنا أن نزيله لا زلناه ولو قدرنا لغيرناه ولكن لا سبيل إلى ذلك مع ممر السنين عليه واستمرار العادة به.

ومن ذلك ما ذكره في أمانة أهل قزدار من نواحي الهند: وفي كتاب أبي علي التنوخي حدثني أبو الحسن علي بن لطيف المتكلم على مذهب أبي هاشم قال: كنت مجتازاً بناحية قزدار مما يلي سجستان ومكران وكان يسكنها الخليفة من الخوارج وهي بلدهم ودارهم فانتهيت إلى قربة لهم وأنا عليل فرأيت قراح بطيخ فابتعدت واحدة فأكلتها فحممت في الحال ونمت بقية يومي وليلتي في قراح البطيخ ما عرض لي احد بسوء وكنت قبل ذلك دخلت القرية فرأيت خياطاً شيخاً في مسجد فسلمت إليه رزمة ثيابي وقلت: تحفظها لي فقال: دعها في المحراب فتركتها ومضيت إلى القراح فلما أتيت من الغد عدت إلى المسجد فوجدته مفتوحاً ولم أر الخياط ووجدت الرزمة بشدها في المحراب فقلت: ما اجهل هذا الخياط ترك ثيابي وحدها وخرج ولم اشك في انه حملها بالليل إلى بيته وردها من الغد إلى المسجد فجلست افتحها واخرج شيئاً منها فإذا أنا بالخياط فقلت له: كيف خلفت ثيابي فقال: أفقدت منها شيئاً قلت: لا قال: فما سؤالك قلت: أحببت أن اعلم فقال: تركتها البارحة في موضعها ومضيت إلى بيتي فأقبلت أخاصمه وهو يضحك ثم قال: انتم قد تعودتم أخلاق الأراذل نشأتم في بلاد الكفر التي فيها السرقة والخيانة وهذا لا نعرفه ههنا لو بقيت ثيابك مكانها إلى أن تبلى ما أخذها غيرك ولو مضيت إلى المشرق والمغرب ثم عدت لوجدتها مكانها فانا لا نعرف لصاً ولا فساداً ولا شيئاً مما عندكم ولكن ربما لحقنا في السنين الكثيرة شيء من هذا فنعلم انه من جهة غريب قد اجتاز بنا فنركب وراء فلا يفوتنا فندركه ونقتله أما نتأول عليه بكفره وسعيه في الأرض بالفساد فنقتله أو تقطعه كما نقطع السراق عندنا من المرفق فلا نرى شيئاً من هذا قال: وسألت عن سيرة أهل البلد بعد ذلك فإذا الأمر على ما ذكره فإذا هم لا يغلقون أبوابهم بالليل وليس لأكثرهم أبواب وإنما شيء يرد الوحوش والكلاب.

وذكر في باشغرد قال كان المقتدر بالله قد أرسل احمد بن فضلان بن العباس بن راشد بن حماد مولى أمير المؤمنين ثم مولى محمد بن سليمان إلى ملك الصقالبة وكان قد اسلم هو وأهل بلاده ليفيض عليهم الخلع ويعلمهم الشرائع الإسلامية فحكى جميع ما شاهده منذ خرج من بغداد إلى أن عاد وكان انفصاله في صفر سنة 309. وهنا روى عبارة ابن فضلان في الباشغراد أو الباشقرد فقال أنهم قوم من الأتراك من اشد الناس انداماً على القتل وهم يحلقون لحاهم وذكر من عاداتهم كل غريب فبعد أن أورد ياقوت كل هذا على علاته قال: أما أنا فأني وجدت بمدينة حلب طائفة كبيرة يقال لهم الباشغردية شقر الشعور والوجود عن بلادهم وحالهم فقال أما بلادنا فمن وراء القسطنطينية في مملكة امة من الإفرنج يقال لهم الهنكر (المجر) وتحن مسلمون رعية لملكهم في طرف بلاده نحو ثلاثين قرية كل واحدة تكاد أن تكون بليدة إلا أن ملك الهنكر لا يمكننا أن نعمل على شيء منها سوراً خوفاً من أن نعصي عيسى ونحن في وسط بلاد النصرانية فشمالينا الصقالبة وقبلينا بلاد البابا يعني رومية والبابا رئيس الإفرنج وهو عندهم نائب المسيح كما هو أمير المؤمنين عند المسلمين ينفذ أمره في جميع ما يتعلق بالدين في جميعهم. قال وفي غريبنا الأندلس وفي شرقينا بلاد الروم قسطنطينية وأعمالها قال ولساننا لسان الإفرنج وزينا زيهم ونخدم معهم في الجندية ونغزو معهم كل طائفة لأنهم لا يقاتلون إلا مخالفي الإسلام.

قال ياقوت: فسألته عن سبب إسلامهم فقال سمعت جماعة من أسلافنا يتحدثون انه قدم إلى بلادنا منذ دهر طويل سبعة نفر من المسلمين من بلاد بلغار وسكنوا بيننا وتلطفوا في تعريفنا وأرشدونا إلى الصواب من دين الإسلام فهدانا الله والحمد الله فأسلمنا جميعاً ونحن نقدم إلى هذه البلاد ونتفقه فإذا رجعنا إلى بلادنا أكرمنا أهلها وولونا أمور دينهم: فسألته لم تحلقون لحاكم كما تفعل الإفرنج فقال يحلقها منا المتجندون ويلبسون لبسة السلاح مثل الإفرنج أما غيرهم فلا. قلت فكم مسافة ما بيننا وبين بلادكم فقال: من ها هنا إلى القسطنطينية نحو شهرين ونصف ومن القسطنطينية إلى بلادنا نحو ذلك وأما الاصطخري فقد ذكر في كتابه من باشجرد إلى بلغار خمس وعشرين مرحلة ومن باشجرد إلى البجناك وهم صنف من الأتراك عشرة أيام.

ووصف بلاد برغر قال: قال علي بن الحسين المسعودي مدينة البرغر على ساحل بحر مانطس وهو بحر متصل بخليج القسطنطينية وارى أنهم في الإقليم السابع وهم نوع من الترك والقوافل متصلة منهم إلى بلاد خوارزم وارض خرسان ومن بلاد خوارزم إليهم إلا أن ذلك بين بوادي غيرهم من الترك قال وملك البرغر في وقتنا هذا وهو سنة 332 مسلم اسلم أيام المقتدر بعد العشر والثلمائة لرؤيا رآها وقد كان حج له ولد فورد بغداد وحمل معه المقتدر لواء وسواداً ومالاً ولهم جامع وهذا الملك يغزو القسطنطينية في نحو خمسين ألف فارس فصاعداً ويشن الغارات حولها إلى بلاد رومية والأندلس وارض برجان والجلالقة وافرنجة ومنه إلى القسطنطينية نحو شهرين بين عمائر وغمائر والبرغرامة عظيمة شديدة البأس ينقاد إليها من جاورها من الأمم ولا تمتنع القسطنطينة منهم إلا ياسوار وكذلك ما جاورها من البلدان والليل في بلادهم في غاية القصر في الصيف حتى أن احدهم لا يفرغ من طبخه حتى يأتيه الصبح، قلت أنا (ياقوت) هذه الصفة جميعها صفة يلغار وما أظنهما إلا واحداً وأنهما لغتان فيه لسانين وليس فيه ما أنكرته إلا قوله أن البرغر على سواحل بحر مانطس وما أظن بينه وبين ساحل بحر مانطس إلا مسافة بعيدة.

وهكذا ترى ياقوت يذكر عبارة من سلفه في وصف الشعوب والبلدان ثم يشفعها بإخباراته وكثيراً ما ينقل مالا يعتقد صحته كما نقل ما قيل في الصين في اثنتي عشرة صفحة مقدماً عليه قوله: وهذا شيء من أخبار الصين الأقصى ذكرته كما وجدته إلا اضمن صحته فان كان صحيحاً فقد ظفرت بالغرض وان كان كذباً فتعرف ما تقوله الناس فان هذا بلاد شاسعة ما رأينا من مضى إليها فأوغل فيها إنما يقصد التجار أطرافها.

ونقل المؤلف عن الاصطخري في وصف ما وراء النهر قال: ولقد شهدت منزلاً بالصغد قد ضربت الأوتاد على بابه فبلغني أن ذلك الباب لم يغلق منذ زيادة على مائة سنة لا يمنع من نزوله طارق وربما ينزل بالليل بيتاً من غير استعداد المائة والمائتان والأكثر بدوابهم فيجدون من علف دوابهم وطعامهم ورقادهم من غير أن يتكلف صاحب المنزل شيء من ذلك لدوام ذلك منه الغالب على أهل ما وراء النهر صرف مفقاتهم إلى الرباطات وعمارة الطرق والوقوف على سبيل الجهاد ووجوده الخيرات إلا القليل منهم وليس من بلد ولا من منهل ولا مفازة مطروقة ولا قرية أهلة إلا وبها من الرباطات ما يفضل عن نزول من طرقه. قال وبلغني أن بما وراء النهر زيادة على عشرة ألاف رباط في كثير منها إذا نزل الناس اقيم لهم علف دوابهم وطعام أنفسهم إلى أن يرحلوا وأما بأسهم وشوكتهم فليس في الإسلام ناحية اكبر حظاً في الجهاد منهم وذلك أن جميع حدود ما وراء النهر دار حرب فمن حود خوارزم إلى اسبيجاب فهم الترك الغزية ومن اسبيجاب إلى أقصى فرغانة الترك الخزلخية ثم يطوف بحدود ما وراء النهر من الصغدية وبلد الهند من حد ظهر الختل إلى حد الترك في ظهر فرغانة فهم القاهرون لأهل هذه النواحي وستفيض انه ليس للإسلام دار حرب هم اشد شوكة من الترك يمنعونهم من دار الإسلام وجميع ما وراء النهر ثغر يبلغهم نفير العدو ولقد اخبرني من كان مع نصر بن احمد في غزاة اشر وسنة أنهم كانوا يحزرون ثلثمائة ألف رجل انقطعوا عن عسكرة فضلوا أياماً قبل أن يبلغهم نفير العدو ويتهيأ لهم الرجوع وما كان فيهم من غير أهل ما وراء النهر كبير احد يعرفون بأعيانهم. وبلغني أن المعتصم كتب إلى عبد الله ابن طاهر كتاباً يتهدده فيه فأنفذ الكتاب إلى نوح بن أسد فكتب إليه أن بما وراء النهر ثلاثمائة ألف قرية ليس من قرية إلا ويخرج منها كذا فارس وراجل لابنتين على أهلها فقدهم وبلغني أن بالشاش وفرغانة من الاستعداد ما لا يوصف مثله عن ثغر من الثغور حتى أن الرجل الواحد من الرعية عنده ما بين مائة ومائتي دابة وليس بسلطان وهم مع ذلك أحسن الناس طاعة لكبرائهم والطفهم خدمة لعظمائهم حتى دعا ذلك الخلفاء إلى أن استدعوا من ما وراء النهر رجالاً وكانت الأتراك جيوشاً تفضلهم على سائر الأجناس في البأس والجرأة والإقدام وحسن الطاعة فقد الحضرة منهم جماعة صاروا قواداً وحاشية للخلفاء ونقاباً عندهم مثل الفراعنة الأتراك الذين هم شحنة دار الخلافة ثم قوي أمرهم وتوالدوا وتغيرت طاعتهم حتى بلغوا على الخلفاء مثل الافشين وآل أبي الساج وهم من اشروسنة والاخشيند من سمرقند. . قلنا وهذا مبدأ دخول الأتراك في خدمة الخلفاء.

ومثل ذلك ما قاله في وصف خوارزم قال: ذكروا في سبب تسميتها بهذا الاسم أن احد الملوك القدماء غضب على أربعمائة من أهل مملكته وخاصة حاشيته فأمر بنفيهم إلى موضع منقطع عن العمارات بحيث يكون بينهم وبين العمائر مائة فرسخ فلم يجدوا على هذه الصفة إلا موضع مدينة كانت وهي إحدى مدن خوارزم فجاؤوا بهم إلى هذا الموضع وتركوهم وذهبوا فلما كان بعده مرة أخرى جرى ذكرهم على بال الملك فأمر قوماً بكشف خبرهم فجاؤوا فوجدوهم قد بنوا أكواخاً ووجدوهم يصيدون السمك وبه يتقوتون وإذا حولهم حطب كثير فقالوا لهم كيف حالكم فقالوا عندنا هذا اللحم وأشاروا إلى السمك وعندنا هذا الحطب فنحن نشوي هذا بهذا ونتقوت به فرجعوا إلى الملك واخبروه بذلك فسمي ذلك الموضع خوارزم لان اللحمة بلغة الخوارزمية خوار والحطب رزم فصار خوارزم فخفف استشقالاً لتكرير الراء. واقر أولئك الذين نفاهم بذلك المكان واقطعهم إياه وأرسل إليهم أربعمائة جارية تركية وأمدهم بطعام من الحنطة والشعير وأمرهم بالزرع والمقام هناك فلذلك في وجوههم اثر الترك وفي طباعهم أخلاق الترك وفيهم جلد وقوة وأحوجهم إلى مقتضى القضية للصبر على الشفاء فعمروا هناك دوراً وقصوراً وكثروا وتنافسوا في البقاع فبنوا قرى ومدناً وتسامع بهم من يقاربهم من مدن خراسان فجاؤوا وساكنوهم فكثروا وغزوا فصارت ولاية حسنة عامرة.

وكنت قد جئتها في سنة 616 فما رأيت ولاية قط أعمر منها فإنها على ما هي عليه رداءة أرضها وكونها سنجة كثيرة النزور متصلة العمارة متقاربة بالقرى كثيرة البيوت المفردة والقصور في صحاريها قل ما يقطع نظرك في رساتيقها على موضع لا عمارة فيه هذا مع كثرة الشجر بها والغالب عليه شجر التوت والخلاف لاحتياجهم إليه لعمائرهم وطعم دود الابريسم ولا فرق بين المار في رساتيقها كلها والمار في الأسواق وما ظننت أن في الدنيا بقعة سعتها حوارزم وأكثر من أهلها مع أنهم قد مرنوا على ضيق العيش والقناعة بالشيء اليسير وأكثر ضياع خوارزم مدن ذات أسواق وخيرات ودكاكين وفي النادر أن يكون قرية لا سوق فيها مع امن شامل وطمأنينة تامة. .

قال: والشتاء عندهم شديد جداً بحيث إني رأيت جيحون نهرهم وعرضه ميل وهو جامد والقوافل والعجل الموقرة ذاهبة وآتية عليه. وقد قال في وصف جيحون: وقد شاهدته وركبت فيه ورأيته جامداً وكيفية جموده انه إذا اشتد البرد وقوي كلبه جمد أولاً قطعاً ثم تسري تلك القطع على وجه الماء فكلما ماست واحدة الأخرى التصقت بها ولا يزال يعظم حتى يعود جيحون كله قطعة واحدة ولا يزال ذلك الجامد يثخن حتى يصير ثخنه نحو خمسة أشبار وباقي الماء تحته جار فيحفر أهل خوارزم فيه آباراً بالمعاول حتى يخترقوه إلى الماء الجاري ثم يستقوا منه الماء لشربهم ويحملوه في الجرار إلى منازلهم فلا يصل إلى المنزل إلا وقد جمد نصفه في بواطن الجرة فإذا استحكم جمود هذا النهر عبرت عليه قوافل والعجل بالبقر ولا يبقى بينه وبين الأرض فرق حتى رأيت الغبار يتطاير عليه كما يكون في البوادي ويبقى على ذلك نحو شهرين فإذا انكسرت سورة البرد تقطع قطعاً كما بدأ في أول أمره إلى أن يعود إلى حالته الأولى وتظل السفن في مدة جماده ناشبة فيه لا حيلة لهم في اقتلاعها منه إلى أن يذوب وأكثر الناس يبادرون برفعها إلى البر قبل الجماد.

وبعد فقد علم القارئ من وصف مصنف ياقوت البديع انه خاص ببلاد الشرق والإسلام منه خاصة وما يذكره بالعرض من البلاد القاصية كبلاد الروم فانه يأخذه بتحفظ وقد قال في الروم: وفي أخبار بلاد الروم أسماء عجزت عن تحقيقها وضبطها فليذر الناظر في كتابي هذا ومن كان عنده أهلية ومعرفة وقتل شيئاً منها علماً فقد أذلت له في إصلاحه مأجوراً وقال في زقاق بن واقف: وقد تتغير أسماء الأماكن حسب تغير أهلها.

وقال في مادة عكوتان: وجبلا عكاد فوق مدينة الزرائب (باليمن) وأهلها باقون على اللغة العربية من الجاهلية إلى اليوم لم تتغير لغتهم بحكم أنهم لم يختلطوا بغيرهم من الحاضرة في مناكحة وهم أهل قرار لا يظعنون عنه ولا يخرجون منه.

ومؤلفنا لا تفوته شاردة إلا ويأتي بنموذج منه قوله في نقيرة في كتاب أبي حنيفة إسحاق بن بشر بخط العبدري في مسير خالد بن الوليد رضي الله عنه من عين التمر ووجدوا في كنيسته صبياناً يتعلمون الكتابة في قرية من قرى عين التمر يقال لها النقيرة وكان فيهم حمران مولى عثمان بن عفان رضي الله عنه. وذكر في ترجمة أبي عبد الله محمد بن خفيف الشيرازي شيخ الصوفية ببلاد فارس وواحد الطريقة في وقته انه لما توفي بشيراز سنة 371 عن نحو مائة وأربع سنين خرج مع جنازته المسلمون واليهود والنصارى.

وهنا نختم هذا البحث - الذي طال لنا توخينا نقل عبارات ياقوت برمتها لمتانتها وسلاستها ولان فيها من الفصح ما يجدر بطلاب الآداب واللغة أن يقبسوه - بقصة وقعت لفقيه مع خليفة وفيها عبرة العبر في خراب البلدان وعمرانها بل هي السر الأعظم فيهما. قال: كان أبو خالد عبد الرحمن بن زياد بن انعم الأفريقي قاضيها وهو أول مولود ولد في الإسلام بافريقية تكلموا فيه فقدم على أبي جعفر المنصور ببغداد قال: كنت اطلب العلم مع أبي جعفر أمير المؤمنين قبل الخلافة فأدخلني يوماً منزلاً فقدم إلي طعاماً ومريقة من حبوب ليس فيها لحم ثم قدم إلي زبيباً ثم قال: يا جارية عندك حلواء قالت: لا قال ولا التمر قالت: ولا التمر فاستلقى ثم قرأ هذه الآية (عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستحلفكم في الأرض فينظر كيف تعلمون قال: فلما ولي المنصور الخلافة أرسل إلي فقدمت عليه والربيع قائم على رأسه فاستدناني وقال: يا عبد الرحمن بلغني انك كنت تفد على بني أمية قلت: اجل قال: فكيف رأيت في سلطاني من سلطانهم وكيف ما مررت به من أعمالنا حتى وصلت ألينا قال: فقلت يا أمير المؤمنين رأيت أعمالاً سيئة وظلماً فاشياً والله يا أمير المؤمنين ما رأيت في سلطانهم شيئاً من الجور والظلم إلا ورايته في سلطانك وكنت ظننته لبعد البلاد منك فجعلت كلما دنوت كان الأمر أعظم أتذكر يا أمير المؤمنين يوم أدخلتني منزلك فقدمت إلي طعاماً ومريقة من حبوب لم يكن فيها لحم ثم قدمت زبيباً ثم قلت يا جارية عندك حلواء قالت: لا قلت: ولا تمر قالت: ولا التمر فاستلقيت ثم تلوت (عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستحلفكم في الأرض فينظر كيف تعلمون) فقد والله اهلك عدوك واستخلفك في الأرض ما تعمل قال: فنكس رأسه طويلاً ثم رفع رأسه وقال: كيف لي بالرجال قلت أليس عمر ابن عبد العزيز كان يقول أن الوالي بمنزلة السوق يجلب إليها ما ينفق فيها فان كان براً أتوه ببرهم وان كان فاجراً أتوه بفجورهم: فاطرق طويلاً فاومأ إلي الربين أن اخرج فخرجت وما عدت إليه.