انتقل إلى المحتوى

مجلة المقتبس/العدد 86/نهضة ايطاليا

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة المقتبس/العدد 86/نهضة ايطاليا

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 3 - 1914


في ديار الغرب


نهضة ايطاليا

ايطاليا القديمة

كنت أحب أن اسطر قبل الآن ما اعرفه وعرفته عن النهضة الايطالية إلا أنني انتطرت ريثما قضيت شهراً في هذه الشبه الجزيرة ورأيتها إجمالاً من جنوبها إلى شمالها وقد اعتمدت فيما اكتب على من وقعت لي معهم تعارف من خاصة الطليان أو ما قرأته بأقلام الطليان بالفرنسية أو ما كتبه الفرنسيين عن الطليان وهو وان لم يكن مجموعاً صحيحاً من كل الوجوه لكنه اقرب إلى الصحة من كثير من الأحكام التي يصدرها صاحبها عفو القريحة وبادئ الرأي.

وكنت أود لوسمح لي الزمان بتعلم مبادئ من لغة الطليان الرقيقة لأخاطب العامة كما أخاطب الخاصة بلغتهم نفسها واسمع تصوراتهم والقي عليهم الأسئلة وادرس أحوالهم بالنفس ولكن المدة التي قضيتها لا تكفي لان يتعلم المرء القدر الكافي للتفاهم بهذه اللغة مع قربها جداً من الفرنسية ولولا الخوف من علماء أصول اللغات لقلت أن الايطالية تحريف الفرنسية أو هذه تحريف تلك.

ثبت كل الثبوت بعد الرحلة إلى ايطاليا أن مسالة اللغة من أهم المعضلات الاجتماعية التي يصعب حلها إلا بان يتعلم المشتغل بالعلم والتجارة عدة لغات من اللغات الحية كما يفعل الغربيين اليوم وان العامة أيضاً لأغنية لهم عن تعلم مبادئ طفيفة من لغة راقية منتشرة وان من كان يبيع منا أفكاره الصائبة بان الموظف يستطيع أن يحكم في لد لا يفهم لغة أهله وان التاجر يستطيع بواسطة الترجمان أن ينفق سلعته ويربح ويستفيد من كان لم تكن أفكاره أرقى من انفه إذ لم يستند فيها إلى تجارب ولا إلى تاريخ واجتماع.

وها نحن نتكلم على نهضة ايطاليا فنقول: قضى مركز ايطاليا الجغرافي أن تكون في الأزمنة القديمة مركزاً عظيماً من مراكز المدينة لتوسطها بين الشرق والغرب وكانت رومية نقطة هذا الاتصال وواسطة هذا العقد منذ قام الرومان الأول واخذوا يدوخون الأمم والشعوب لسلطانهم. ولما وضع الشعب اللاتيني أول جسر على نهر التبر وهو نهر رومية المقدس ومن اكبر انهار ايطاليا أصبحت رومية مطمح الأنظار وصار هذا الجسر الذي ك بناؤه اقرب إلى الفطرة مما يستهوي قلوب شعوب الشمال للإغارة عليه لان منه يخلص المرء إلى ساحل البحر المتوسط على أيسر سبيل. ولما دفع اللاتينيون عن جسرهم غارات الاتروكسين واليونان أصبح مقدساً ومن ملكه كان هو الزعيم بلا مدافع.

تمثلت بالقرب من هذا النهر ثلاثة مطالب أساسية للمرء والمجتمع وهي ضمانة الحياة المادية وموافقة الحياة الأدبية والصعود إلى الحياة العقلية بمعنى أن المرء يعيش ويحب ويعرف وان يكون في المجتمع قانون ودين وعلم.

قارب الرومان القدماء هذه المظاهر الثلاثة ولكن الحياة المادية كانت أتم عندهم لأنهم محاطون بأعداء إن لم يحاربوهم بالمادة يهلكون لا محالة. وكانت الحياة العقلية في كثير من ادهارهم تامة بالنسبة لتلك الآباء ونظام الأسرة ثابت الدعائم وحب الجندية مغروساً فيهم حتى كان الوالد يقدم ولده للخدمة العسكرية في السادسة عشرة ليعفى منها في السادسة والأربعين وعلى قلة عدد السكان إذ ذاك وهو كما قال المؤرخون (150) ألف نسمة في رومية وذلك قبل المسيح بخمسة قرون في ارض ذرعها 450 ميلاً مربعاً كان للرومان جيش مؤلف من ثلاثين إلى أربعين ألف نسمة يخرجون بهم من فتح إلى فتح.

وكان الرومان إذا فتحوا بلاداً يقبلون في الحال ما يتراءى لهم حسناً من عادات أهلها وصناعاتهم وأسلحتهم وهذا سر وضع القانون الروماني الذي هو ابن الأوضاع الكثيرة وسليل شعوب عدة ألاف في قرون وتعاورته الأيدي بالشرح والتذليل والإنقاص حتى أصبح دليل الحكمة الرومانية بل هو مجلة الحقوق الإنسانية التي لا تتغير. وكانت تلك الحروب الرومانية من مجددات حياتها وحماستها الوطنية حتى لقد قال ليكورك الخطيب الأثيني ليس أحسن عاملاً من الحرب في تقوية الشعب لأنها تعلمه احتقار الأخطار والإخلاص لسلامة غيره ولأسرته ووطنه.

ولما تخلص الرومان من السيزيلبيين كاد القرطاجنيون أن يهلكوهم فظفر الرومان بهم وورثت رومية مجد قرطاجية التي سقطت بعد الحروب البونيكية وقضت رومية على انيبال القرطاجني الذي جاء وهددها في عقر دارها وكان فتح الرومان لمصر وكثير من أقطار أسيا ومنها الشام من اكبر دواعي قوتهم فجلبوه به ثروة واعلاقاً نفيسة وكان من أكثر المشوقات للعسكر الذي أخذت رومية تستخدمه بالأجرة إن كان يعطى له شيء من الأنفال والغنائم لا كما كان في القديم يستأثر بها الزعيم أو رب الأسرة.

ولما جعلت رومية بلاد اليونان ولاية رومانية أخذت عنها الذوق في الفنون الجميلة وكلما كان الرومان يجابون من كورنت وأثينا أثراً من أثار الهندسة والنقش والجواهر كانت تتربى أذواقهم ولم يكتفوا بالآثار بل جلبوا معها مؤثريها من مثل الخطباء والسفسطائيين من الحكماء فأصبح للخطابة شان مهم في الحياة العامة وصار ملعب الفووم المشهور الباقية إلى اليوم آثاره عكاظ الرومان يخطبون فيه ويتناقشون واخذوا يبعثون بفتيانهم إلى أثينا يتعلمون على حكماء الوقت إذ ذاك ما ينفعهم ثم هاجر كثير من العلماء الاثنين إلى رومية وانشئوا يعلمون كل طالب وبلغت النهضة أشدها على عهد الإمبراطور أغسطس وسقطت بعده بقليل شان أكثر مدنيات العصور السالفة كانت من عمل حاكم أو أمير أو بضعة حكام ثم يتناسى الأمر ويزهد فيه.

جاءت أزمان ادخل فيها اليونان على الرومان أموراً أضعفت من سلطة الوالد على أولاده وتركت الحياة الجندية وأخذت الشبه والشكوك تسري إلى العقول وكثرت الموبقات بكثرة الرفاهية فكان بذلك انهيار ذاك البناء وخراب العالم الروماني فقضي على رومية وذهبت تلك المدينة كما ضعفت في النفوس آثار الوثنية واخذ الاضطراب يدخل في نظام تلك الحضارة ويبعثرها وكثر الانتحار واليأس من الحياة ومن لم يحبوا الانتحار يؤثرون العزلة وسرى اليأس من الطبقة الممتازة والأغنياء إلى البائسين والخدمة ولما كانت الحال على ذلك والنفوس تضيق من هذه المظاهر جاءت النصرانية على أنقاض المدينة الرومانية وكان لها من النساء اكبر عون على الانتشار فرأى فيها من دانوا بها عزاء لهم وسلوى. والدين وازع قوي في الدنيا والآخرة.

اضطهد القائمون بالدعوة الدينية أيضاً أمثال نيرون يظلم ولا يبقي على احد وبينما كان يحرق المتنصرين أحياء ليضيء بهم حدائق الفاتيكان كنت ترى أولئك المتنصرين يذهبون إلى الحرق باسمين لاعتقادهم بان في العالم الآخرة حياة سامية لا يخيب من قضى في سبيلها. وكلما كانت الشدة تنال أولئك المضطهدين كنت ترى أشباههم يكثرون.

وكان النزاع بين الإمبراطورية الرومانية والدين المسيحي من أعظم ما ذكره التاريخ حتى دان الإمبراطور قسطنطين بالدين الجديد فكان من انتشار الدين بعد الوثنية منافع مهمة في البلاد خصوصاً والدين اخذ يوافق ميول المتدينين به وحاجاتهم. توطد أمر ايطاليا بعد ذلك وأخذت تقطع أشواطاً في سبيل جمع شملها وتتناسى ما نالها في سبيل انتشار النصرانية التي عمت ايطاليا. وبينا الأمر على ذلك كان برابرة الشمال يتجمعون ليغزوا ايطاليا للاستفادة من مادياتها وقد أهلكهم الجوع ولم يكن لرومية طاقة بدفعهم فجاءوا يغشون العالم المتمدن ولكن من أولئك البرابرة من لم يلبثوا أن دانوا بالدين الجديد وتطوعوا بالدعوة إليه في القاصية بيد أنهم لنقص فيهم حرفوا ما تلقنوه ولم يعملوا بتعاليمه فاتوا مظالم كثيرة حتى اضطر الباباوات أن يجعلوا لهم سلطة مدنية فعمدوا إلى القوة علماً منهم بان سلطان الروح لا يؤثر كثيراً إن لم يكن وراءه سلطان القوة.

وهذا كان مبدأ مزج الدين بالسياسة خصوصاً على عهد شارلمان وليون الثالث وهما الملكان اللذان حاولا هذا المزج وحرصاً عليه ثم كثرت البدع والإلحاد وقاومها الباباوات بالشدة وان جاء من هؤلاء أنفسهم من لم تحمد سيرتهم أحياناً.

ولقد كانت ايطاليا خلال القرون الوسطى ميدان العراك بين الباباوية والإمبراطورية فنتج عن ذلك تمازج بين العناصر المختلفة في الغرب ثم جاءت الحروب الصليبية على الشرق وكان الدافع إليها دينيا ثم انتهت بالماديات وبعد ألف سنة للمسيح حدثت حوادث غيرت معالم العالم الغربي وكانت الدواعي إلى الحماسة الدينية حب الظهور والإتيان بالغرائب ولاسيما في نفوس العامة والزعماء من الأمراء. ولكن حرب المسلمين قرنين باستعادة الأرض المقدسة لم ينتج منه إلا أن جمهوريات ايطاليا أصبح لها مكاتب تجارية على شواطئ البحر المتوسط وباختلاط ايطاليا بل أوروبا بالمدينة الشرقية البديعة عاد إلى الغرب شيء من الحياة أصيبت به الصناعة والآداب وكان اثر الحروب الصليبية في ايطاليا اثر تقاليد اليونان المغلوبين على أمرهم في مدينة روميا.

ايطاليا في القرون الوسطى

جاء عهدان على روميا طمحت فيهما إلى أن تحكم العالم فالأول على عهد عظمة قياصرة الرومان وقد تم لها ذلك بعض الشيء والثاني على عهد التحمس الديني وبلوغ سلطة الباباوات حدها. وكان من اثر الحروب الصليبية ورؤية القوم للفنون القديمة البيزنطية والمغربية أن تمت لهم مقدمات النهضة الأولى. ثم إن المقاطعات تحررت من سلطة من كانوا يرهقونها من أمرها عسرا فأخذت تتنافس في إقامة الأبراج وتحب كل منها أن تكون كنيستها أوسع وأكثر بهجة واغني وخطيبها أشهر ومتفنن أشهر. وأنشأت تبحث عن الرجل الذي يكون اقدر من غيره على التغني بأمجادها في أشعاره وتعظيم أعمالها الصناعية وبدائع النقش والرسم. وبفضل هذه المباراة اغتنت المدن والقرى من معاهد البديعة فكنت ترى الكنائس الكاتدرائية في كل مكان تناطح الجوزاء والقصور تسمو من الأرض إلى الأجواء.

وانتشر في شبه جزيرة ايطاليا ميل حقيقي للجمال فحدث منه ازدهار الفنون التي لم تزل تيهرنا إلى اليوم فكان هذا العهد مناسبا لتكوين أعاظم الرجال ليستطيعوا أن يحثوا أعمالا غريبة باقية وكان للقديسة كاترين ديسين والقديس توما دي أكيك والقديس فرانسوا داسيز في القرنين الثالث عشر والرابع عشر اثر يذكر في السياسة والعلم فكانت هذه النهضة الايطالية الأولى متشبعة بالفكر الديني إلا أنها كانت تحوي في مطاويها بذورا انبتت بعد النهضة الثانية.

وقام على الأثر الشاعر دانتي الايطالي واضع أساس اللغة الايطالية الحديثة واخذ ينادي في شعره ونثره بفصل السلطتين المدنية عن الدينية. ينطق في ذلك بلسان طبقة كبيرة في عصره فلم يكد يصرخ صرخاته حتى جاوبه على الأثر أرباب الأفكار الحديثة ممن اخذوا ينزعون ربقة الدين بل ينحون على جوهره. وكان في هذا القرن أناس من أرباب الفنون الجميلة يؤمنون بما يصورون ويريدون به خدمة الدين ومنهم من كانوا يصورون وينقشون حبا بالمجد والشرف والمال خصوصا وهم يرون كم كانت أسرة ميدسيس إذ ذاك تغدق الهبات على أرباب تلك الصنائع. حتى لقد قيل أن رافاييل المصور رفض انيكون بابا واثر العمل بالتصوير. وهذا العصر يسمونه بعصر ليون العاشر الذي كان من أكرم الباباوات وأكثرهم علما وعصره كعصر أغسطس قام فيه أرباب الأفكار الحديثة واخذوا يشرون من طرف خفي بتحكيم العقل في المسائل فأصبح أهل العلم والأدب مرغوبا فيهم أكثر مما يرغب في الأمراء. وساعدهم اختراع الطباعة إذ ذاك فاخذوا يبثون أفكارهم في روح القوم على صور مختلفة حتى غدا أمثال بوج وفيللف وارتين الحاكمين المتحكمين بالافكار في عصرهم يصرفونها كما يشاءون.

في ذاك العهد أيضا نشا للطليان أمثال المؤلف لورانزو فالا فخدم الآداب والتاريخ والخطابة والفلسفة خدما تذكر له على الدهر ومثله جيوردانوبرنو الذي احرق بأفكاره الفلسفية وكان عالما كاتبا مؤثرا وبينا كانت الأفكار تتمخض على هذه الصورة قامت حركة الإصلاح الديني في القرن السادس عشر ومنشئها من بيع الغفرانات واستئثار الباباوات بالسلطة المركزية يريدون أن يتم كل شيء في رومية في الأمر الدينية والملوك يريدون من حيث السياسة أن ينزعوا هذا العبء الثقيل عنهم والتخفيف من وطأة الارتباط بالمقام البابوي والفلاسفة والأدباء يريدون أن يحرروا العقل من قيوده وكلما كان المجتمع يدخل في طور الكمال كانت الحالة تستدعي تقسيما اكبر في العمل وتوجيه المناحي وجهاتها حتى أن أكثر من واحد من المتدينين جدا قد طلبوا التفريق بين السلطتين وبعد شؤون وشجون انفصلت ألمانيا وانجلترا عن روميا.

كان العلم في أواخر القرن السادس عشر قليلا وقام أمثال غاليلة الذي قال بدوران الشمس حول الأرض فوذي لما نادى باراه العلمية وأن التجربة هي الشرط الضروري في تحقيق المسائل العلمية وقد طبق ليونارد في عقله العجيب هذا الأسلوب على جميع المسائل المبحوث فيها واخذ مكيافيللي واضع فن سياسة الخداع يتشبع بها في كتبه السياسية وكما كان الشاعر دانتي يطالب بضرورة فصل السلطة المادية عن الدينية كان العالم غليلة يثبت بان العالم العلمي يجب أن يكون منفصلا ومستقلا على الاعتقاد الديني وهكذا لم يبرح غاليلة يؤكد مع شدة احترامه للدين أن العلم أمران مختلفان ليس بينهما تناقض ولا ارتباط. ويرى أن الكنيسة هي الحاكمة في المسائل الدينية وليس لها أجنى سلطة في المسائل العلمية وينبغي لها أن تحاذر من الحكم في مسائل هي غريبة عنها تماما.

رأت الكنيسة بعد عصر دانتي أن تحافظ على كيانها الأساسي بالقوة وأرادت ابعث غاليلة أن تحافظ على كيانها العلمي بالتعليم خصوصا يعد أن شاهدت النتائج التي تمت على أيدي اليسوعيين باتخاذهم العلم آلة للدين. واتحدت الكنيسة مع الأمراء وأخذت تلقم الناس الطاعة والخضوع فلم تحدث بعد ذلك ثورات وامن الناس ولكن ظهر بعد قرنين من انتشار الإصلاح الديني بقيام لوثيروس ونزع ألمانيا وانجلترا من الكنيسة الكاثوليكية أن الانحطاط اخذ يبدو على الشعوب التي ظلت كاثوليكية على اختلاف في عناصرهم ومناخ بلادهم وأحوالهم الاجتماعية والسياسية وذلك لان التعليم كان محدودا عند هؤلاء الشعوب ومقصورا على بعض الطبقات والعدل فيه شدة وضعف والطاعة أبدا يرغب فيه فقلت في هذه الشعوب القوة المبدعة على أن الرفاه المادي كان مضمونا بما انشأ فيها من المعاهد الخيرية ولكن كل ذلك لم يخرج الشعب عن حالة التنبيت والتراجع.

وعلى عهد مل هذه الإدارة ينزل ميزان العقل من كل وجه فقد أمست الصناعات والآداب والعلوم لا ترتقي إلا ببطء حتى أن الشاعر كيودي المتوفى سنة 1712 من أعظم شعراء ذاك القرن كان يتغنى بمدح عصره معرضا بالجفاء البربري الذي كان يشاهد من خلال إهمال قبائل رومية القديمة الذين لم يكونوا يحلمون إلا بفتح العالم. ومن حسن الحظ أن ايطاليا لم تعد في ذلك الدور أناسا ينهضون هنا وهناك يثيرون العواطف وينادون قومهم بان ما هم فيه باطل لا بد له من التجديد وان هذا العالم ليس عالم الأموات. فقام بتروميكا بالدفاع عن تورينو وقام فيليكايا يتغنى باغانيه الحربية لينبه سكان هذه الشبه الجزيرة المتخدرة ونهض الأمير اوجين دي سافوا يحمل أمجاد الحرب والسياسة واخذ كاريا يقيم الحجة على فظائع المحاكم وقام غيره بأعمال كثيرة نبهوا فيها العقول من رقادها ما أمكن.

ايطاليا في القرن الحديثة

بينا كانت ايطاليا غارقة في هذا السبات كانت أفكار غاليلة قد وصلت إلى انكلترا فتلقاها الفيلسوف باكون وعادت إلى ايطاليا منعكسة من طريق فرنسا في كتابات الفيلسوف ديدو وأخذت السلطة الدينية تضعف أمام حقوق العقل وجاء انتشار دائرة المعارف سنة (1751_1772) فاحدث حركة في أهل الطبقة المستنيرة وساعد فيها أهل الطبقة الوسطى من لفرنسيس أملين أن يروا منها سلاحا يحاربون به رجال الكهنوت والإشراف إما العامة فقد استعملوها واسطة للإرهاب. وقد كفت فرنسا ثلاثون سنة حتى تأتي أفكار دائرة المعارف بعملها في التخريب وذلك لان فرنسا كانت مستعدة أكثر من كل امة لقبولها لان السلطة كانت فيها على اشد ما تكون ثم أن صلاتها مع الشعوب البروتستانتية كانت مستحكمة العرى أكثر من غيرها.

فكانت ألفاظ الحرية المساواة الإخاء يؤثر السياسية. الأعظم من القوم فتدفعهم إلى الإعمال الخارقة في باب الرجولية ولما ظفرت جيوش الفاتحين من لفرنسيس بفتح شبه جزيرة ايطاليا 1796 كانت حالة الأفكار في فرنسا مخالفة كل المخالفة لحالتها في ايطاليا ففي الأولى مضاء واعتماد على النفس وفي الثانية ضعف وخضوع ولذلك كان الأمراء يهزمون من وجه الجيوش الفرنسية على صورة بشعة بل ربما ركبوا عار الفرار قبل أن تحتل بلادهم فلما استحكمت سلطة لفرنسيس في ايطاليا قلبوا كثيرا من أوضاعها باسم الحرية ووضعوا لها القانون الفرنسي لايطاليا في أوائل القرن التاسع عشر قد نبهها من ثباتها العميق وحدا بها أن تعقد مع سائر أوروبا الممدنة علائق ولم يفهم العامة من الطليان ما يراد بهم فكانوا يساقون كالأنعام ولكن الطبقة المستنيرة ورجال الإعمال بعثت هممها حالة لفرنسيس فأخذت تدرك أماكن إعادة الوطن وتأليف شمله المبدد وتبحث عن الطرق لتحقيق هذه الأمنية فلم تمض على ذلك خمسون سنة حتى أثمر جهاد أرباب الأفكار تأليف الوحدة الايطالية الحديثة. وحدة قوامها المساواة أمام القانون ومنح الحرية السياسية.

عاد رجال السياسة في مؤتمر فينا خريطة أوربا إلى ما كانت عليه قبل سنة 1789 وعاد الباباوات والملوك والدوجات والأمراء إلى سابق أمجادهم تحميهم الحراب الأجنبية ولكن استحال الرجوع إلى الحالة الأصلية لان رجال الشعور الخارق للعادة ومن تؤهلهم الجاذبية العقلية الشديدة إلى أن يتحرروا من الوراثة والمحيط قد عدلوا في وجهة الأفكار وجددوا ميدان أعمالهم فكان الشعراء وأساتذة الكليات والقس والإشراف المتعلمون في مقدمة مكن تبدلت عقولهم بتأثير الحوادث وما تم لفرنسا من المجد قد افهمهم معنى الجمال الذي ينطوي في مدارج القوة. وتراجع الإيمان بالحق الإلهي وعادت الفلسفة فتأثرت بتأثيرات المجددين وضربت معتقد الكنيسة الرومانية ضربة قاسية وتحمس الأذكياء وأرباب القلوب لفكرة أن وطنهم سيستعيد بهائه ويعود عظيم جميل فاخذوا يعملون بمضاء وحماسة تدعوا كل من اطلع على أعمالهم أن يحترمهم ويمجدهم.

وكثر تجدد الطبقات من الشعراء أخذت على عاتقها أن تنبه بلسان الشعار والحانة الرخيمة شعبا متناغما منذ قرون فتناول الشاعر جيو ستي صوت الهباء الذي سقط من يد باريني واخذ يضرب به وتحمس الشعراء بلاليكو ومانزوني ونيكوليني حماسة الفيري المفجعة. وساعدت قصائد فوسكولو واغاني برشت الوطنية على هذا النشور.

بيد أن الدعوة الأدبية لا تستطيع أن تعمل إلا في الأفكار المستنيرة وادلو قليلا فاخذ الأشراف والطبقة الوسطى من الأحرار يدركون ضرورة نشر هذه الحركة بين العامة فانشئوا يدخلون التعليم إلى القرى. وكان تكثير سواد القائلين بفكر التجدد وضم الشمل في المدن قد تسهلت أسبابه بارتقاء مستوى العقل في الشعب واستعداده لقبول الجديد ولكن بث الدعوة كان خطرة ولطالما أعار بعض الكتيبين مؤخرة حوانيتهم لعقد الاجتماعات ليتهامس فيها المتهامسون بأفكارهم وإعمالهم وأحلامهم في المستقبل ونهضة البلاد.

ثلاثة عوامل أعانت على تخمير هذه الثورة الجديدة وتنمية بذورها كبار الضباط والموظفين على عهد نابليون والجمعيات السرية ورجال الشرطة ومعظمهم كانوا دخلوا في الجمعية الماثونية فتعلموا فيها أساليب الاجتماع وجمع الشمل وحب النظام وبالنظر لحالة البلاد إذ ذاك لم يتأتى أن تنعش من سقطتها إلا بجمعية سرية وذلك لما عرى الأخلاق من انحلال وضعف ولقلة عدد أرباب الشخصيات الراقية فكثرت الجمعيات السرية من اجل ذلك في البلاد كلها وكان أشياعا بإكثار أولا بالكليات فدخل فيها أبناء الطبقة الوسطى وكثير من أبناء الأسر الكبرى وجماع الإسرائيليين وكان أكثر الداخلين مدفوعين إلى ذلك بعامل المنفعة الشخصية الممكنة وكلهم يرمون إلى جمع شمل الوطن.

كان للإسرائيليين في هذه الحركة الكعب المعلى فإنهم وان كانوا في ايطاليا اقل حيفا من حيث مادياتهم خلافا لما كانوا عليه في سائر أوروبا لكنهم كانوا خاضعين لقانون يحرمهم من الوصول إلى المناصب التي يؤهلهم إليها ذكاؤهم وثباتهم المتواصل على العمل ولقد علمهم احتقار الناس لهم فضائل تجرد منها ظالموهم فكانوا محتقرين وسذجا في الصورة الظاهرة ويتذكرون أحيانا شيئا من الخير الذي نالهم ولكنهم لا ينسون على الدوام العار وهم على ثباتهم وحسابهم للعواقب قد أصبحوا متضامنين بداعي مقاومتهم للعدو المشترك يكتمون أمرهم ويسرون ما يجول في قلوبهم وهم قد اثروا إثراء مهما فكانت منهم قوة لا تعادلها قوة لمقاومة نظام سياسي تكرهه نفوسهم.

فلم يكونوا يعتقدون في وحدة ايطاليا قلب الأوضاع التي طالما قاسوا منها الأمرين بل كانوا يرون فيها صورة من صور الانتقام من انكلترا المسيحية في رومية الباباوات ولذا يمكن أن يقال في ذلك العهد أن جميع الماسون في ايطاليا لم يكونوا كلهم إسرائيليين فان جميع الإسرائيليين كانوا ماسوناً وإذ كانت القوانين والعادات تبعدهم عن الحياة العسكرية فقدوا الشجاعة التي تورثها صناعة حمل السلاح فكانت معاونة الإسرائيليين ما عدا بعض الشواذ مالية أكثر منها شخصية وعظمت معاونتهم المالية في هذا السبيل حتى أن الحكومة المؤقتة في ميلان بالنظر لما ادروا عليها الإسرائيليون من المال بعد مغادرة النمساويين للبلاد قد شكرتهم على إعاناتهم الكريمة في سبيل الحرية.

وما كان القسيسين غرباء عن هذه الحركة فان أول من صاح ايطاليا واحدة وحرة كان قساً فمات في هذا السبيل وأخر من قضى في هذا المقصد هو قسيس أيضا كان في صحابة إسرائيلي. وكان هذا شأن جميع المستنيرين من عامة طبقات ايطاليا يريدون أن يحيوا وطنهم ولا يبقوه ارض الأموات. وما صادقته هذه الدعوة من العواطف في طبقة رجال الدين لا يعجب منها إذا علم أن البابا يبوس السابع كتب إلى الكونت بورو بمناسبة أعضاء جمعية الكاربوناري الثورية: أنهم يحبون ايطاليا وأنا أحبها مثلهم وكذلك كان الأشراف الذين لم تكن لهم مناصب تشغلهم في الحكومة وأقصاهم الملوك عن قربهم فإنهم شاركوا في الحركة الجديدة حق المشاركة.

قلنا الكاربوناري وهي جمعية اشتقت من الجمعية الماسونية وأعضاؤها من الجند والضباط على عهد نابليون فقامت منذ سنة 1820 بثورات عسكرية في مملكة نابولي أولا ثم في معظم إمارات ايطاليا ولكن قلة عدد أعضائها وفقدان المرددين لأعمالها غادرت حركاتها قاصرة. ولما قام مازيني الكاتب الذي كان متأثرا يرمي إلى إنهاض ايطاليا وجد أنصارا وأعوانا وان كان العيب الوحيد انه كان يتعجل قطف الثمرة قبل نضوجها. ويضيق المجال إذا أردنا إحصاء من دعوا إلى هذه الوحدة ومنهم الراهب فنسانزو جيوبرتي الذي اغضب الكنيسة بعمله فقضى أخر أيام حياته شريدا في باريس لأنه قال بضرورة فصل السلطة المدنية عن السلطة الدينية ومنافع ذلك للسياسة والأخلاق.

وكانت نيران الثورة تشتعل تارة وتخمد أخرى فيظن أن البلاد عادت إلى حالتها من الأمن والطمأنينة ثم لا تلبث فوهة البركان أن تقذف حممها وقد انفجرت لأخر مرة يوم قامت فرنسا وقلبت الملكية ونادت بالجمهورية وأخذت تهتز أعصاب أوربا فتحركت ايطاليا من أقصاها كأنها متأثرة بمجرى كهربائي فقامت قيام الرجل الواحد من بلاد الألب إلى صقلية أي من الشمال إلى الجنوب وظهر أن الملوك تظاهروا بالاشتراك بالحركة والبابا كذلك وان شئت فقل انه كان أكثر من غيره وتنازل عن سلطتهم المطلقة ومنحوا دساتير لشعوبهم والكل يريدون أولا طرد النمساويين من البلاد التي كانوا احتلوها.

ولقد تمثلت الثورة العامة في سنة 1848 في جميع الطبقة الوسطى لمناهضة السلطة المطلقة فصادقت أولا عطفاً من البابا فلما تحقق مقاصدها مزقت الدساتير المعطاة وأعيدت البلاد إلى نظامها السابق فلم يثبت من ولايات شبه الجزيرة سوى البيمون وكان لها فقط جيش يحسن الكر والفر وله نظام بزعامة الملك الجديد فيكتور عمانوئيل الثاني وما كانت المهمة التي انتدب إليها هذا الملك بالأمر السهل بل كانت تحتاج إلى سلاح ماض وطرق مواصلات منظمة ومعارف منتشرة وضم شمل أحرار الطليان وتهدئة الكاثوليك وهم كثار متحمسون في إقليم البيمون وإقناع أوربا التي لا تصدق أو هي معادية لهذا الفكر واتخاذ أنصار من حكومات أوربا ليفتوا في عضد العدو العظيم. كل هذا ولا مال لتلك المملكة الصغرى وهي مدينة بمليارين من الفرنكات هذا المركز من أحرج المراكز ولحل مشاكله يجب له نابغة من الرجال وهذا الرجل الذي تهيأ له هو كافور.

قام هذا السياسي العظيم العظيم وعرف بما خص به من حسن لانتفاع أن يستخدم أمثال غاريبالدي ومازيني للمقصد الذي ترمي إليه فكانا يريدان المناداة بالجمهورية لا بالملكية. ومن دهاء الرجل انه بعث من إقليم البيمون جنداً إلى الحرب القريم يعاون الدول الأوربية التي عاونت الدولة العلية إذ ذاك فعد العالم عمله خرقا في الرأي على الأمة صغيرة فقيرة مثقلة بالديون ولكن هذه المناداة هيأت لايطاليا بل لمملكة البيمون مركزاً بين الدول وصار لها الحق أن تبعث بمن يمثلها في مؤتمر باريس. ولا عجب فالإعمال بمقاصدها ونتائجها.

أتم النابغة كل ما كان يظن انه مستحيل ولا يعرف اليوم مذا كانت الحال ايطاليا لولا قيام هذا الرجل. وقد جبر بدهائه ما بدر من الضعف في الجمعيات السرية التي اندمجت في جمعية جيوفاني لان عملها لم يؤد إلا إلى فظائع فقام كافور يربط بحكمته القلوب حول عرش صاحب بيمون وغدت أسرة سافوا محط رحال الآمال وساعد أن كان الإمبراطور نابليون الثالث الفرنساوي من أعضاء جمعية الكارتوني منذ صباه فاضطر إلى مساعدة ايطاليا ولما أيقن الملك فيكتور عمانوئيل بمعاضدة الجيش الفرنسي نهض بالعمل بصورة أفخم وأعظم وأعلن الحرب على النمسا وقد قال لوزرائه عندما وقع على إعلان الحرب أني سأكون بعد عشرة أشهر ملك ايطاليا والمسيو سافوا.

ظفرت الجيوش الفرنسية في مونتبولو وبالسترو وماجنتا وسولفيرينو وبموجب معاهدة زوريخ تركت لومبارديا المملكة البيمون وقامت طوسقانة رويدا رويدا على دوجها الكبير وأعلنت انضمامها إلى البيمون. ونزل غار يبالدي إلى صقلية وتآخى مع سكانها وكانوا مربوطين بعهود الإخاء من قبل مع جمعية مازيني السرية ثم اجتاز المضيق ودخل ظافراً إلى نابل وكاد يزحف على رومية ليفتحها وبعد أيام أعلنت جزيرتا صقلية انضمامها إلى الوحدة الايطالية وفي 18 شباط 1861 اجتمع البرلمان في تورينو ونادى بالملك فيكتور عمانوئيل الثاني ملكا على ايطاليا وتوفي كافور بعد بضعة أسابيع كأنه انتظر حتى أتم عمله المجيد مخلفاً لقومه شعاره الكنيسة الحرة في المملكة الحرة.

وبقيت البندقية ورومية فقط لم تفتحا فقام أخلاف كافور وعقدوا مع بروسيا فاخذوا البندقية وسمح استدعاء الجنود الفرنسيين من ايطاليا سنة 1870 للجيش الايطالي أن يدخل ظافراً إلى رومية مقاتلاً جيش البابا الذي قاوم بعض المقاومة ولكن ما حيلته أمام هذا التيار العظيم وإرادة الأمة في نزع السلطة المدنية من يد صاحب السلطة الدينية فحصرت سلطة البابا بعد ذلك في دائرة معينة لا تتعدى حد السلطة الروحية

ايطاليا بعد الوحدة

ها قد القينا نظرة مجملة على ماضي ايطاليا وأصول مدينتها وأمجادها ودرس الماضي عون على فهم الحاضر. ولقد ترك كل دور دخلت فيه البلاد طابعا في صورة ايطاليا الحديثة كما أثرت فيها المؤثرات الجوية والجغرافية والعنصرية ولم تقوم التربية إلا على تغيير قليل فيها ونشأت مؤثرات أخرى نفعت في نهوضها كل النفع وهي سرعة المواصلات وكثرة التنقل والصلات المتواصلة مع الأمم الأخرى وغير ذلك وبعد أن صرفت ايطاليا كل جهادها الماضي إلى سنة 1870 في تكوين الوحدة الايطالية وإلغاء الامتيازات الأشراف ورجال الدين وتأسيس ملكية ديمقراطية وجب عليها أن تنظم هذه القوة فاختارت القانون الأساسي الذي كان معمول به في إقليم البيمون مع بعض تعديل أخذته عن القانون الفرنسي.

ولقد حق على القائمين بهذه الوحدة من أهل الطبقة الوسطى وأبناء إشراف من الدرجة الثانية والإسرائيليين والماسونيين والبيمونيتيين وكل من وجدوا مصلحته في قيام هذه الوحدة أن يرعوها فلم يجدوا أمامهم إلا العامة يتقوون بهم فانشئوا لهم مسائل الاشتراكية والنقابات الصناعية واعديهم فيها بوعود خلابة اقلها أن الجمهور يعيش بدون أن يعمل وكل ذلك بمناهضة الأشراف ورجال الكهنوت ففقدت طبقة الأشراف كل موازنة ولم تبقى لها تلك المكانة المعروفة لها قديما إما رجال الدين فاحتفظوا بمراكزهم وذلك لأنهم يمثلون شيئا لا يبرح حيا في نفوس الشعب ولان لهم قانون يضم شملهم.

التفتت الحكومة بعد الوحدة إلى تنظيم الجيش وكانت الفكر الحربي مفقودا من معظم طبقات الشعب فما برحت تزيد فيه وكان عدده على عهد أوائل الوحدة مئة ألف نسمة وأصبح ألان خمسمائة ألف نسمة منظم مدرب حين السلم وثلاثة ملايين وخمسمائة ألف جندي زمن الحرب يدخلوا فيهم البوليس وكل ايطالي بلغ سن العشرين يدخلوا الجندية فيخدموا فيها ثلاث سنين ويكاد السكر لا يعرف في الجيش وضباط يقومون على تدريب الجندي بإخلاص ويلقنوهم الفضائل الحربية ولذلك ترى مجلس النواب الايطالي يمنح ميزانية الحربية وهي 364 مليون فرنك كل سنة دون أن ينظر فيها ثقة منه بأنها تصرف في سبيلها على أبناء الأمة. ومما يعمل لنفع الجندي بأنهم انشئوا بالقرب من بعض الثكنة في البلاد دروسا زراعية عملية يتعلموا فيها العسكر مدة خدمتهم ما ينفعكم من التعليم العسكري إذا رجعوا إلى قراهم من العمليات الزراعية.

إما البحرية وميزانيتها 186مليون فيمكن أن يقال على الجملة أن ايطاليا لما تكونت لم يكن فيها اثر في القوة البحرية فأخذت منذ سنة 1873 تنظم بل توجد بحريتها ليكون لها شان في البحر المتوسط والبحر الادرياتيكي ورجال البحرية الذين يتخرجون من مدرسة ليفورنا يبدون كل إخلاص في تخريج الجند البحري.

وهكذا تعمل ايطاليا على تحسين بريتها وبحريتها لتستطيع بذلك أن تجد موردا لامتها التي يكثر نسلها وتريد أن تجد لها مرتزقا في الأرض ولاسيما بعد أن طلبت بعض الحكومات التي تكثر مهاجرة الطليان إلى أرضها أن يحمي العملة من غير الطليان الحماية الكافية التي تخولهم عدم منافسة العامل الايطالي وان ايطاليا المضطرة بحكم الطبيعة أن تكون امة بحرية من الدرجة الأولى لان شطوطها على البحر المتوسط تبلغ 6000 كم على حين ليس لفرنسا سوى 600.

وتناسل السكان

وتناسل السكان والخوف من إغلاق أميركا ذات يوم في وجه المهاجر الايطالي دعا ايطاليا إلى إن تفكر في فتح طرابلس وبرقة حيث يجد أبنائها ولا سيما في الجنوب مناخا يشبه مناخ بلادهم ويكونون على مقربة من أرضهم أو مسقط رؤوسهم مما دعاهم إلى الغارة على شمال إفريقيا ذكرى إن أجدادهم الرومان فتحوا تلك البلاد واستعمروها أيام عزهم قد كلفت هذه الحرب 927 مليون فرنك. ربما كان الإيطاليون من الأمم الأوربية حبا بالهجرة ذلك لان بعض الجنود من بلادهم فقير بزراعته لأنك لا تجد في ايطاليا طبقة وسطى على الأغلب فإما الفقير معدم يولد له كل سنة ولا يجد في أرضه من الموارد الاقتصادية ما يقوم بعيشه أو غني كبير وهم قلائل ولذلك لم يبق إمام الإيطاليين إلا الهجرة فقد كان عددهم سنة 1861 أي بعد الوحدة بقليل 21 مليون وهم اليوم 35 مليون بحسب الإحصاء الأخير دع الطليان المنبثين في أقطار العالم وعدد سكان من يقطنون في كل كيلو متر مربع 122 ساكنا أي أكثر من معدل السكان في ألمانيا وفرنسا ولا يفوق ايطاليا كثرة عدد السكان بالنسبة لمساحة الأرض من الممالك الأوربية إلا البلجيك وانكلترا وبلاد القاع (هولندا).

وأكثر المهاجرين يهاجرون هجرة مؤقتة وقلائل منهم من يهاجرون هجرة قطعية بل إن المهاجرين من يقضون الشتاء في أمريكا ويأتون في الصيف يحصدون أرضهم ويقطفون ثمرات أشجارهم ولولا النقد الذي يحمله أولئك المهاجرون من أميركا يضعونه في المصارف وصناديق التوفير ربطت حركة ايطاليا الاقتصادية لان النقد قليل فيها حتى تضطر الحكومة بل الأمة إن تجري أكثر معاملتها بالورق ولا تكاد تجد الذهب إلا نادرا. وقد بلغ من هاجروا ايطاليا من أبنائها في الشهور التسعة الأولى من هذه السنة 325، 335 مهاجرا ولا يقل عدد المهاجرين كل سنة عن 500 الف ومنهم من يهاجرون إلى البلاد المجاورة ولا سيما جنوبي فرنسا ومنهم إلى أمريكا.

والعامل الايطالي قنوع للغاية يقتصد جانبا من هجرته ومنهم من يعودون برؤوس أموال إلى بلادهم المتعلقون بحبها فالعامل الإيطالي يقبض دولارا ونصف في الولايات المتحدة فيصرف النصف دولار ويقتصد الباقي حتى إذا عاد إلى قريته تحدثه نفسه إن يبتاع له أرضا يبني فيها سكنه لذلك ارتفعت أسعار الأراضي في القرى أكثر من ارتفاعها في المدن الكبرى ولا سيما بعد ناشات جمعيات ومكاتب للمهاجرين ومنها ما أسسته الحكومة ومنها ما أسسه الإفراد لتسهيل المهاجرة ووقاية المهاجر من التلاعب به. وليس لايطاليا من المستعمرات ما عدا طرابلس وبرقة غير اريتريا وبنادر والصومال الايطالية وهي مجاورة فيهما لفرنسا وانكلترا وايطاليا جاءت إلى عالم الاستعمار بعد وحدتها وقد تقاسمت أوربا مغانم إفريقيا واسيا وتوزعت ممالكها بينها.

احتاجت ايطاليا بعد وحدتها وتأليف هذا الجيش الضخم البحرية القوية إلى موارد كثيرة فالتفتت فلم ترى أحسن موردا من الزراعة وثلث الايطاليين يعملون بها في ارض مزروعة تقدر بنحو 20 مليون هكتار تخرج سنويا 100 مليون هيكتولتر من الحبوب حنطة وذرة وارزأ و40مليون هيكتولتر من الخمور و10ملايين قنطار من الزيت والثمار. دع إعمال الألبان وتربية الحيوانات والحرير الخام وغيرها من الموارد التي تعد في جملة الزراعة يبلغ مجموع قيمتها نحو خمس مليارات فرنك كل سنة وزراعة الشمال راقية على الطرز الحديث قد أدهشنا ما رأيناه من بدائع في ضواحي فلورنسا وضواحي بولونيا ذلك لان إقليم طوسقانة وعاصمته فلورنسا عامر منذ القديم وهو مقر أمجاد الطليان وكذلك حال العمران من سفح جبال الألب إلى طوسقانة فان أرضها حدائق غناء وهذه البلاد الشمالية تختلط كثيرا بالأمم الراقية المجاورة لها مثل السويسريين والفرنسيين إما سكان الجنوب ولا سيما في صقلية وسردينيا وغيرها من الأقاليم الجنوبية فان المناخ مؤثر في أخلاق أهلها وليس لهم نشاط سكان الشمال ولا معارفهم وسكان الجنوب أشبه بالأمم الشرقية النازلة على الشواطئ البحر المتوسط وصناعة ايطاليا وتجارتها راقية على نسبة زراعتها فقد كان لهذه المملكة سنة1860 - 2198 كم من الخطوط الحديدية فبلغت سنة 1909 - 18000 كم يضاف إليها 5000كم من الترامويات والاتوبوس. وكانت الطرق العادية على عهد الوحدة 48000كم فتجاوزت اليوم 140000 وكان لايطاليا سنة 1862 - 57 سفينة بخارية تجارية تحمل 10، 228 طنا و9، 356 سفينة شراعية تحمل 643، 996 فأصبح لها سنة 1908 - 626سفينة بخارية تحمل 566738 و4701سفينة شراعية محمول 453، 334 طنا وبلغ عدد السفن الايطالية التي خرجت ودخلت في الموانئ الطليانية 190، 555 سنة 1861 وبلغت في سنة 1909 - 246. 246 وكان إذ ذاك عدد الداخل والخارج إلى الموانئ الطليانية من بواخر الأجانب 23، 83 فبلغ في العهد الأخير 17، 434 واشتركت في ذلك جميع موانئ ايطاليا وفي مقدمتها جنوا ثم تجيء نابل وليفورنه والبندقية وبارمة. وكان لايطاليا عام 1860 - 8000 كيلو متر من الأسلاك البرقية ولها الآن 54 ألف كيلو متر تضف إليها الأسلاك البحرية والتلغرافات اللاسلكية مع مالها من الخطوط التلفونية ولم يكن البريد الشيء الذي يذكر في بعض أصقاع ايطاليا على عهد الوحدة فبلغ وارده سنة 1886 - 16 مليونا وفي سنة 1900 بلغ 107 ملايين فرنك.

وكانت الصناعة أيام الوحدة غير موجودة إلا في أقاليم البيمون ولومبارديا فعمت الآن أقاليم ايطاليا كلها ولا سيما في الثلاثين سنة الأخيرة فقد كان سنة 1889 معمل واحد للسكر في جميع ايطاليا فأصبح لها 32 معملا وارتقت صناعة حياكة الصوف والقطن والحرير والحديد الاتومبيلات ارتقاء هائلا.

ووجدت الكهربائية في ايطاليا محيطا حسنا للغاية بالنظر لما خضعت به هذه البلاد من الأنهار السريعة جريتها ومن هذه القوى النافعة تخدم الصناعة اجل خدمة وربما أوصلت الكهربائية إلى مسافات متناهية ولا تسل عن معامل الأسلحة وبناء السفن مثل معمل انسالدو في مقاطعة جنوه وغيره كثير. وإذا ضم ما يرد ايطاليا من صناعتها إلى ما تأتيها به زراعتها بلغ مجموع تلك الثروة 75 مليارا من الفرنكات يصيب كل فرد 3200 فرنك.

ويستدل على الرفاهية والغنى مما يودعه الأهلون في صناديق التوفير فقد بلغ ما أودع في الصناديق العادية مليارين ونصف مليار من الفرنكات يضاف إليها ما أودع في صناديق توفير البريد وهو 1700 مليون هذا غير ما يضعه العالم في المصارف وجمعيات التعاون مما يعد جزءا عظيما من ثروة الأمة. وما كانت البيوت المالية تعرف في ايطاليا إلا في إقليم البيمون قبل الوحدة الايطالية وقد كثر عددها اليوم وهي من الدرجة الأولى بين المصارف مثل بنك ايطاليا وبنك نابل وبنك صقلية وبنك رومية وغيرها وكلها تشغل بزهاء مليارين من الفرنكات ماعدا أموالها الاحتياطية النقدية التي تبلغ مليارا ونصف.

وفي ايطاليا مصارف زراعية ومصارف عقارية وشركات تجارية مساهمة وشركات صناعية تعاونية وغيرها وعددها يكثر كل سنة كثرة هائلة.

وقد بلغت ميزانية الحكومة من كل ذلك مليارين ومائتين وستة عشر مليون فرنك في سنة 1911 في قسم النفقات ومليارين وثلاثمائة وأربعة ملايين في قسم الواردات.

أصيبت ايطاليا بأزمة سياسية شديدة سنة 1890 أثرت في ماليتها كل التأثير فكان شان المضاربين على الأراضي للبناء في المدن الكبرى شانهم في مصر منذ بضع سنين فقدوا ثرواتهم إلا قليلا بسقوط أسعار تلك الأراضي وذلك لان بعض المدن الايطالية أرادت أن تجدد أبنيتها على الطراز الحديث فأخذت طائفة كبيرة من أبناء الأسرات القديمة ومنهم من يعتقد بان له الكفاءة في كل شيء يبتاعون من تلك الأراضي والأبنية القديمة للهدم فكان بها خرابهم وخراب كثير من أرباب رؤوس الأموال الصغيرة ومن المصارف وبسبب هذه الأزمة عرض الوزير كريسبي الايطالي على البرنس بسمارك الألماني أن تكون ألمانيا وايطاليا يدا واحدة فأحست فرنسا بالمر من الغد فلم تر أحسن من إخفاق مسعى ايطاليا وأشغالها بقطع الموارد المالية عنها وكانت ايطاليا إذ ذاك لا تعتمد في افتراضها وتجارتها إلا على بيوت المال والتجارة في باريس فاخذ هؤلاء يرفعون ثقتهم من ايطاليا ويشمون عليها بالمال فحدثت تلك الأزمة التي منشأها الحقيقي من أناس ما خلقوا ماليين ولم يستعدوا لمعاناة الشؤون المالية بالعمل.

وعلى العكس كان من قانون الوراثة والمحيط أن هيا الإسرائيليين ليعملا أعمالا عظيمة في ايطاليا وللإسرائيليين اختصاص بالشؤون المالية ولا نجاح إلا بالإحصاء.

فإنهم اختصوا بالتجارة ومعاناة المال فنشأت مهارة لهم لا نظير لها وقد بقيت سلطة الأب على أولاده محترمة عندهم بخلاف القوانين الحديثة الاجتماعية التي قللتها عند غيرهم وترى النظام في بيوتهم التجارية والصناعية أتم مما هو عند غيرهم والاعتصابات قليلة وأعمالهم ناجحة أكثر مما عداهم لأنهم يحسنون الانتفاع من القوى والأشياء أكثر من كل الطوائف ومنشأ ذلك كونهم كان مضطهدين فاحظروا ببطء صفات يولدها الاضطهاد فيمن يؤخذون به. وهذه الصفات هي قوة المقاومة والشعور بالتضامن واللين والمرونة في أسباب الحياة.

وعلاوة على ما للإسرائيليين في ايطاليا من النفوذ العظيم الاقتصادي قد كان لهم في المسائل السياسية مكانة لا تنطبق مع قلة عددهم ولكن لها ما يشفع بها بما قاموا به من معاونة ايطاليا في وحدتها بالمال وما أبدوه من الصفات الحسنة التي ابانو عنها في تقلدهم إدارة المسائل العامة وطالما كان منهم رؤساء الوزارة والولاة فاظهروا من البراعة في الأمور السياسية ما يحق لهم أن يفاخروا به بل أن حاكم رومية نفسها هو اليوم إسرائيلي وكذلك أكثر الولايات التسع والستين الايطالية فان ولآتها من أبناء إسرائيل لا يأتون ما يمس عواطف الأكثرية من الكاثوليك بل كثيرا ما كان نوابهم ووزراؤهم في جانب المحافظين إذا أريد وضع قوانين واحدة وأحداث أمور جديدة من شانها إثارة الرأي العام مما دل على أن الإسرائيلي في ايطاليا خلافا لما هو عليه في سائر الممالك ايطالي أولا ثم إسرائيلي وفي غيره هذه الديار إسرائيلي قبل كل شيء وفي المظهرين تفاوت عظيم كما ليخفى.

ايطاليا وعلومها وفنونها

كان علينا وقد وصل بنا البحث إلى هذا الحد أن نتكلم على امتيازات به ايطاليا من دون سائر بلاد أوروبا من التفنين في الفنون الجميلة والتبرير في مضمارها على جميع الأمم الغربية مهما قالوا بانحطاطها عندهم بالنسبة للقرن السادس عشر والسابع عشر وذلك مثل الكلام على التصوير والنقش والهندسة والموسيقى ولكن ذلك يحتاج إلى فصول كثيرة لا تتسع لها هذه العجالة ولا تنطبق مع أذواق أكثر القراء ومع هذا فنتكلم على الآداب الطليانية في العهد الأخير من وكيف ارتقت حتى عم أهل القرى أثرها.

يعتبر تاريخ اللغة الايطالية الحديثة منذ عهد دانتي الشاعر فإنها بعده لم يعد ينقصها شيء من الألفاظ للتعبير عن التفكير ومضت القرون الثلاثة التالية يعده فأصبحت البلاد لقلة المواصلات وكلا مقاطعة لموقعها الجغرافي لا تعرف ما عند جارتها فنتج عن ذلك تعدد اللهجات وفتحت هذه صدرها لكل الألفاظ الحديثة في حين ظلت الايطالية الأدبية جامدة تقرا في المدارس كما تقرا اللاتينية واليونانية أي كأنها لغة ميتة لا حية.

ودام الحال على ذلك إلى قبل خمسين سنة وبفضل توفر المواصلات والخدمة العسكرية التي تقضي بتنقل الجنود في البلاد أخذت الايطالية الحديثة تفهم في كل مكان وبقيت اللهجات التي تعوق ولا شك دون نشر لغة عامة تفي بمطالب الفكر الحديث وأصبح عنهم لغة يتكلم بها تؤثر فيها اللهجات المحلية ولغة ايطاليا مكتوبة يحسنها الكتاب والمؤلفون.

في ايطاليا نحو 14 لهجة لا يفهم أهل هذه لهجة أولئك وأفصح اللغات لغة طوسقانة ومنها سرت إلى رومية. ولغة ساردينا تشبه اللاتينية كثيرا وتختلف عن لغة صقلية وابن رومية لا يفهم لغة ساردينا واهم اللهجات الايطالية اللهجة البيمونتية واللومباردية والليكورية والبندقية والرومانية والنابولية والبولية والكالابرية وتعدد اللهجات مما عمت به البلوى لا في اللغة العربية فقط بل في لغات أوروبا التي يسعى أهل العلم والسياسة إلى توجيها منذ زمن طويل فمن ذلك أن في سويسرا ثماني لهجات ألمانية لا يتفاهم أهلها بعضهم مع بعض بها بل أن أهالي ألمانيا لا يفهمون لهجات سويسرا مثل لاهاي بافيرا ووتمبرغ وهيس وهكذا الحال في فرنسا وغيرها من البلاد التي يظهر إن لها لعنة واحدة والحال أنها مختلفة اللهجات لا يكاد يفهم المتناءون لغة بعضهم بعضا.

اقتضت وحدة الروح الايطالية أن يكون لايطاليا لغة كتوبة واحدة فقام بهذا الغرض من الشعراء والكتاب في أوائل القرن التاسع عشر أمثال مانزوني وبلليكو وكاردوشي فأفادوا على اختلاف في طرق الأداء في بث اللغة الصحيحة في الشعب.

ومن الشعراء الكتاب العاصرين الذين اشتهروا في الأفاق دانونسيو وباسكولي وفوكازاروودي سانكتيس وفريرو ومن النساء اللاتي نافسن الرجال في صناعة الأدب سيرا رو وواساني ودللادا ومنهن من تفردن في القصص التمثيلية وأخريات في القصص الروائية وغيرها في الصحافة.

كان من توفر أسباب الرفاهية في الشعب الايطالي أن اخذ عدد المختلفين إلى المسارح الخاصة بالتمثيل يزيد اليوم بعد الأخر ومن نشر العلم وقلة عدد الأميين سنة بعد سنة أن كثر عدد الصحف وقراؤها وكان ذلك من مواد ثمينة لتعجيل كمال اللغة المحلية لان التمثيل كالصحافة إذا أراد القائمون بها أن يفهموا وجب عليهم أن يتكلموا بلغة تتناولها عقول الكافة وإذ بعض من هذه الجوقات التمثيلية تطوف بلاد الأقاليم اقتضى لها إن تعدل من لهجتها في كل محل بحيث تتناولها الأذهان على أيسر سبل. وعند الطليان مؤلفون كثيرون للروايات التمثيلية لا يقلون عن غيرهم من الأمم الراقية كالفرنسيس والألمان.

إما الصحافة فهي تشبه صحافة فرنسا وغيرها من الممالك في الصورة والشكل وكل يوم نزيد العناية فيها بالخيار المنوعة المؤثرة وثقل مادتها من الانتقاد الجدي والموضوعات الأدبية فالصحافيون هنا مثل غيرهم في البلاد الأخرى يبيعون من الجمهور ما ينفق عليه ويروج عنده. وقال في صفاء المكان وذلك بان يكون المكان الذي هو فيه خاليا من الأصوات عاريا عن المخوفات والمهولات والطوارق وان يكون مع ذلك مكانا رائقا معجبا رقيق الحواشي فسيح الأرجاء بسيط الرحاب غير هم ولا كدر فإن الضم إلى ذلك ما فيه بسط للخاطر من ماء وخضرة وأشجار وإزهار وطيب رائحة كان ابسط للفكر وانجح للخاطر وقد ذهب بعضهم إلى انه ينبغي خلو المكان من النقوش الغربية والمرائي المعجبة فإنها وان كانت مما ينشط الخاطر فان فيها شغلا للناظر فيتبعه القلب فيشتت له.

وليس للصحف الكاثوليكية رواج كثير كالصحف غيلار الكاثوليكية وأعظم صحف ايطاليا وأهمها جريدة كورريه دلاسييرا أي بريد المساء وهي تصدر في ميلانو من عواصم العلم القديمة أو العاصمة الأدبية كما يسمونها وتجيء بعدها جريدة التربيونا أي المنبر وهي نصف رسمية. ومن خبرة جرائدهم جريدة ايديا ناسيونالي أي الفكر الوطني وهي تمثل الفكر الوطني. وقد سارت صحافتهم كما هو شان الصحافة في كل مكان على توحيد الفكر واللغة كان السبب الرئيس في كل ما تقدم من ذرائع الارتقاء نشر التعليم بين جميع طبقات الشعب فقد كانت الحكومة الايطالية خصصت سنة 1861 مليون فرنك للمعارف العمومية وهاهي الآن تنفق مثله مليون لهذا الغرض كل سنة وأرقاء كهذا في البذل على المعارف تنشا منه تلك الوطنية والوحدة دع المدارس المنوعة التي أنشاها الجمعيات الدينية أو الإفراد وزاد عدد الطلاب ضعفي ما كان عليه عام 1861 فبلغ في السنة الماضية زهاء ثلاثة ملايين ومع هذا ايطاليا من أكثر البلاد الأوروبية أميين بعد روسيا ولاسيما في القرى وان كان التعليم لابتدائي إجباريا إلا انه لا يعمل به كثيرا وبالنظر لما وقع بالنزاع بين الحكومة والاكليروس انتهت الحال بان المدارس لا تعلم التعليم الديني إلا لولد يطلب ابوه ذلك والإباء قلما يحفلون بهذا الطلب. وقد تعطي الحكومة أحيانا إعانات للمدارس والأخويات الدينية ماله صفوف عالية وله الحق بان يكون لتلاميذه بالامتحان حقوق تلامذة مدارس الحكومة ومن المدارس ما يريه اليسوعيون وان ألغيت مدارسهم في ايطاليا منذ زمن طويل. ومدارس الجمعيات الدينية خاضعة إجمالا لتفتيش الحكومة وتترفع عن البحث في السياسة.

بعد كناية ما تقدم اطلعنا على خطاب ناظر المالية الايطالي وقد جاء فيه أن ايطاليا ستصرف هذا العام على المعارف 148 مليون فرنك وتفيض المال الكثير على معارف الولايات ليطبق بالفعل قانون التعلم الإجباري في البلاد وقد بلغت الحركة الدولية في المقايضات خلال الأحد عشر شهرا من السنة الماضية 1913 5516 مليونا أي زيادة بمقدار 44 مليونا عن مثلها في السنة الماضية وقلت الواردات 48 مليونا وزادت الصادرات 92 مليونا وزادت السفن التجارية الداخلة إلى موانئ ايطاليا وزادت كمية المعادن ومداخيل الضريبة على السكر والحديد والتبغ ودخل السكك وكثر الإنفاق على المصارف وإعمال الري والأسباب الصحية كثيرا والحكومة الايطالية ستزيد ميزانيتها البحرية والبرية وكل هذا بدون أن تستدين وتبادل الدخل والخرج على طريقة ماهرة في الأمور المالية يقسم التعليم الأوسط في ايطاليا إلى فرعين مختلفين. الفرع المدرسي وهي دروس المدارس المعروفة بالجمباز والتعليم العملي وهو يدرس في المدارس والجمعيات الفنية وقد كان عدد تلامذة الفروع الأولى على عهد الوحدة 12 ألفا فأصبحت في السنة الماضية 41 ألفا والدروس العملية التي يتخرج منها الشبان والذين يتمحضون لفروع الصناعات الكثيرة قد بلغوا سنة 1911 - 100000 وما كانوا منذ خمسين سنة أكثر من 6000 وفي الفرع المدرسي من تعلم اللغتان اليونانية واللاتينية وفي الفرع العملي تعلم اللغات الحية إما عدد تلامذة المدارس الوسطى للمدارس الخاصة فلا يقل عن ستين ألفا ويؤكد بعضهم أن المدارس التي يعلم فيها الرهبان والقسيسون أكثر نجاحا من التي يعلم فيها العلمانيون لان فتيان القس ممتازون بإنكار الذات والتشبع بالروح الدينية أكثر من غيرهم من الأساتذة.

إما التعليم العالي فان ايطاليا منه سبع عشر كلية تتنافس فيها بلاد الأقاليم ولمن معظم هذه الكليات لا تخرج رجال عمل بل أكثرهم خيالون من أرباب النظر ويضاف إلى هذه الكليات مجامع العلم العالي الكثيرة لتدريس الآداب والعلوم في كل مدينة عظمى والحكومة تمدها بالمال. والمدارس العليا على كثرة ما تستلزمه من النفقات لا تتناول من مال الأمة أكثر من أربعة ملايين فرنك مساهمة مما يستبان منه أن الحكومة توفر العناية بالتعليم الأوسط والابتدائي أكثر مما عداهما. وعدد تلامذة الكليات والمجامع العلمية العليا نحو سبعة عشرين ألفا وكان الطلاب المدارس العليا في القرن التاسع عشر يصرفون أوقاتهم في الأعمال الوطنية أكثر من العلم إما الآن وقد استقرت حالة البلاد السياسية فإنهم اخذوا ينصرفون إلى أبحاثهم ودروسهم ليكون لبلادهم ما حرزته ألمانيا وانكلترا وفرنسا في مضمار العلوم والآداب.

هذا جمال ما يقال في التعليم إما الاختراعات والاكتشافات فلم يقصر فيها علماء ايطاليا أسوة غيرهم من أمم الحضارة الحديثة فقد اكتشف لامي طبيعة الأمراض الميكروبية وهي النظرية التي خلصت الجراحة والمداواة من الأوهام التي كانت تعوقها. وكذلك كان شأنها في الكهربائية وساعدها على ذلك كثرة شلالاتها وتيسير إرسال الحرارة والنور والأعمال الكيماوية والميكانيكية إلى أبعاد شاسعة ومن مخترعيهم باشنتوفي وماركوني مخترع التلغراف اللاسلكي وغيرهم من الذين شاركوا في الأعمال العلمية فاختلط الأمر وأصبح من الصعب التمييز بين المتقدم والمتأخر من مكتشفي العلماء في أميركا وانكلترا وألمانيا وفرنسا والنمسا والبلجيك وهولندا وسويسرا وروسيا وغيرها من ممالك المدينة

والنجاح كما قال الأمير جيوفاتي بور غزة في كتابه إيطاليا الحديثة واعتمال عقلي. بعض ما تقدم من هذا البحث إعلاء الوسط على الدوام ليتأتى للكائنات العليا أن تظهر بمظهرها وتثير الجموع بكلامها ومثالها وإعلاء الوسط يكون بتنشيط الشبيبة على القيم بجميع الأعمال الشريفة التي يخولهم ظغياها مظهرهم.

ومن الخطأ العظيم في عصرنا أن تجعل قيمة الشعب على نسبة ما أحرز من الارتقاء العقلي.

إن التعليم على اختلاف ضروبه يساعد على ظهور المدارك الاجتماعية وفي الكتابة والقراءة معنى جديد يجعل بيننا وبين الفكر العام صلة ولكن التعليم بدون تنظيم طبيعي من جهة وتربية أخلاقية من أخرى لا يتولد منه إنشاء رجال تامة أدواتهم في جمل لتنشأ على أيديهم عظمة مملكة وإذا نظرنا إلى ارتقاء إيطاليا نراها دخلت في ثلاثة أدوار هي أدوار النشوء الشخصي فالدور الأول الدور المادي والثاني النفسي والثالث العلمي وكان بدء الدور الأول على أوائل تأسيس روميا وفي سنة 700 قبل المسيح أي بعد 7 قرون كان عصر أغسطس وهو عصر مجدها وبعد ذلك ب3 قرون عندما نقلت عاصمة المملكة الرومانية إلى القسطنطينية تراجع أمر الدور المادي والنفسي والروحي هو دور ظهور النصرانية التي توفر الإمبراطور قسطنطين على نشرها وجعل عاصمة بلاده القسطنطينية فمضى 7 قرون على ذاك العهد تنصرت أوروبا وتم عمل الدين إلى أواخر القرن العاشر للميلاد.

وفيا 14 بدأت تظهر تباشير دور النهضة التي أريد بها تحرير العقل الإنساني من قيوده. والدور الثالث هو الذي نحن فيه والقرن الأخير كان أرفا أيامه وبه ظهرت إيطاليا بمظهر الدول العظمى واستقامت لها حياتها السياسية وتبعتها ثائر الأشياء ولا تستقيم حياة أمة بدون أن تستقيم حياتها السياسية واستقامة السياسة نتيجة ارتقاء العقول وارتقاء العقول لا يكون بغير قبول المدينة الحديثة والأخذ بأساليب التي اتخذها السابقون في مضمار التحضر.

ومن أمعن النظر في هذه النبذة يدرك أن كل نهضة غير متعذرة وأن أمم بلغت من الشقاء مبلغا كبيرا وتيسر لها بقوة الإرادة وإخلاص المستنيرين من الوطنيين أن تغلبت على جميع العوائق وكونت مجموعا يفتخر به وحررته من قيوده الثقيلة ومن رأى إيطاليا أمس يجوس النمساويون أو الفرنسي خلال دياره أو يستعبدون أبنائها ويرى الطليان اليوم وقد آلفو مجموعا حيا ودولة قوية وهم في حكومتهم الملكية أكثر حرية من الفرنسيين في حكومتهم الجمهورية على رأي بعضهم - من رأى ذلك لا يقول بان في العالم شيئا مستحيلا. وان قوة العقل والثبات على العمل تفعلان أكثر من كل قوة في الأرض.

في ايطاليا الحديثة عيوب كما في سائر الممالك وهذا يتعذر على السائح الشرقي في بلادها أن يدركه ولا يحل له أن يخط فيه حرفا لأنه لا يرى إلا الظواهر خصوصا ما عدم معرفته لغة البلاد فانه يبقى كالأصم الأخرس وليس ارتقاء الطبقة المستنيرة هو الميزان الوحيد في معرفة أقدار امة وكم عند الطبقة الوسطى والدنيا من الفضائل ونقيضها ما تؤخذ منه حقيقية شعب وذلك لا يتيسر إلا لمن عاشر الطبقات كلها وصرف زمنا طويلا في أصقاعهم المختلفة وحكم العقل والإنصاف في ما يكتبوا بعد درس العادات والأخلاق والتنظير بينهما وبين ما يماثلهما من الشعوب الأخرى.

وغاية ما يستطيع المفكر أن يقول به إذا رأى ايطاليا أن بينها وبين الشرق القريب من الفروق أكثر مابين مصر أو الشام أو السنغال أو بلاد نيامنيام يشهد هنا بكل شيء قياما وقانونا من خرج عنه ضل واهتدى ويجد نشاط الإفراد على أتمه ليس له ما يعوقه من سلطة جائرة وقانون غير معقول فالشقي يشقى بصنعه والسعيد يسعد كذلك ولكن السعادة أوفر مما يناقضها بدرجات السرور تقراه في الوجوه والبسطة في الغنى والرفاهية تشهده على الأكثر في سكان الأقاليم الوسطى والشمالية ولكل صقع من الأصقاع خاصية لا يكاد يشركه فيها الصقع الأخر فهذا اشتهر بعاداته وأثاره وذاك بحدائقه وأنهاره وهذا بتجارته وذاك بصناعته وأخر بزراعته وغيره بسكونه وأخر بحركته وتكاد ترى المواهب مقسمة بين البلاد. فلفرنسا مدينة الزهور وعاصمة طوسقانا وأثينا القرون الوسطى ومسقط رأس دانتي وتبرراك وبوكاس وغاليلة ومايكل أنجلو وليوناردو دافنشي وغيرهم من نوابغ الطليان في الشعر والموسيقى والنقش والتصوير والهندسة والعلم من المزايا ما ليس لرومية وذلك لأسباب تاريخية واجتماعية كثيرة فان جمهوريات طوصقنا بينما كانت في القرون الوسطى تحسن الاندفاع من جميع العناصر الحيوية في الشعب كانت رومية تمحل بما قام فيها مكن المنازعات من الأسر الكبرى والذهاب في الدجالات المذهبية مذاهب. ولذلك كان المجد كله لمدينة فلورنسا التي هي اليوم إحدى الولايات الإيطالية.

هذا شأن المدن الداخلية وكذلك الحال في المدن الساحلية فإنك تجد مثلا للبندقية من المزايا مالا تجده لجنوى ونابل كلها مما يستجدي الغريب ويستهويه لنزول هذه الديار ودرس آثارها الكثيرة بل التي لا تدخل في عد لكثرتها وقد اتخذ ت الحكومة الجديدة أنواع الراحة لجلب سياح الأرض لغشيان بلادها وفي ذلك من الفوائد المادية ما لا يقدر فلو انقطع سياح الغرب سنتين عن زيارة إيطاليا لأحست بفقر شديد وذلك لما يبزره أولائك السياح من الأوائل في جميع فروع الإنفاق. ولها أمثال في تاريخ إيطاليا وقد نشأ حين إذ وقوف تجارها عن طريق البر التي كانت تعمل الجمهوريات حتى إذا قام الإصلاح الديني في أوروبا وفصل جزء عظيم في هذه القارة عن البابوية كل ما كان يرد مدة زمن طويل إلى إيطاليا من الأموال بالطبيعة فافتقرت.

إن كل كنيسة من كنائس إيطاليا حرة بأن يقصدها السائح للفرجة من القاصية وقد وقع ألي من الدهشة عندما رأيت كنيسة الدوم في فلورنسا مثلما وقع لي من الدهشة عندما زرت كنيسة القديس بطرس في روميا مقر البابوية وهوى أفئدة البابويين في الأرض ولكل مكان ميزته.

امتازت روميا بكثرة كنائسها العجيبة كما امتازت بكثرة عيونها وكثرة تماثيلها في كل جادة مما يستهوي الغريب ويستدعي دهشته كما امتازت جنوا بمقبرتها لتفنن الجنوبيين منذ القديم لتصوير الأموات على الرخام وهم بين أهلهم وفي آخر ساعات حياتهم والمقبرة هناك 3 طبقات كما أن أكثر الأبنية هي الآن في إيطاليا 6 طبقات ويضيق المقام لو أردت فقط الألم لما في روميا وحدها من العاديات والقصور ولا سيما حديقة بنشيو العامة فإنها خصت لكل أنواع الملاحة والراحة وهي مجمع الحسان الرومانيات كل عشية وفيها تتجلى عظمة الطليان وتتبدى طبقاتهم الاجتماعية وكل ما يقع نظرك عليه في هذه المدينة الأزلية صاحبة المدينتين الرومانية والنصراني تقرأ فيه روح التفنن وتقدير العلم والنشاط وحب التسامح إلا قليلا دخلت مع أحد إخواني من مستشرقي الطليان لازور كنيسة البانتويون فدهشت لما رأيت واليك البيان: كنيسة البانتويون هي الكنيسة الوحيدة الباقية من عهد روميا القديمة بنيت معبدا في سنة 27 قبل المسيح ولما رسخت قدم النصرانية في رومية جعلت كنيسة وكان يشترط على كل شيخ في مجلس الشيوخ في القرن الثامن للميلاد من جملة ما ينبغي له الاحتفاظ به كنيسة البانتويون. وكان يدفن بها بعض قديسيهم وأعاظم رجال الدين عندهم وماراعني إلا وقد رأيت إلى جانب أضرحة رافاييل المصور النقاش التوفي سنة 1520 والمصور دانيال كاراشي المتوفى سنة 1609 وغيرهما من كبار المهندسين والمصورين الطليان ضريح الملك فيكتور عما نوبل الثاني المدعو أبو الوطن لأنه أقام الوحدة الايطالية وخلف لذريته من بعده التاج الايطالي بعد أن كانت أسرته لا تحكم على غير إقليم البيمون فقط وضريح ابنه همبرت الأول والد الملك الحالي الذي اغتيل سنة 1900

نعم أعجبت لضريح المهندس والنقاش ويكون في مقام التكريم إلى جنب القديسين والشهداء وهذا في تلك القرون التي كنا نظن فيها أوروبا متوحشة وراقني أن يجيء ملوك ايطاليا اليوم ويحبون أن يدفنوا إلى جنب أولئك الصناع النوابغ. أن لحد بولس هو اكبر دليل على حب الباباوات لرجال الفنون الجميلة ولحد ملكين عظيمين إلى جنبهم هو أيضا مما يدل على روح التسامح الحديث وعلى أن لرافاييل ليس في مكانته في خدمة أمته ليس اقل من فيكتور.

فان كانت باريس قد أقامت كنيسة البانتويون لتفن فيها رفات العظماء في العلم والسياسة في أوائل القرن الماضي فان رومية تفاخر بأنها خصت بانتونها لهذا الغرض منذ زهاء أربعة قرون. بانتيون باريس يضم رفات ميرابو وفنيلون وكوفيه وفولتيرو وروسو ونابليون وبانتيون رومية يحوي أمثالهم من إبطال الطليان. فمتى ترى يقوم ف الشرق القريب أعاظم من أبناء هذه الأجيال الحديثة يكونون في عقولهم وإعمالهم على مستوى أولئك الأبطال لتقوم بهم مدينتنا على أحسن الدعائم كما قامت مدينة الطليان في هذه الأزمان.