انتقل إلى المحتوى

مجلة المقتبس/العدد 82/أخبار وأفكار

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة المقتبس/العدد 82/أخبار وأفكار

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 12 - 1912



حفظ المكاتب

يحسن أصحاب المكاتب صنعاً إذا أرادوا بقاء كتبهم سالمة أن يقوموا باحتياطات الآتية: يقون أولاً استعمال الخزائن ذات الزجاج ما عاد بعض الكتب الثمينة جداً التي تنفض عَلَى الدوام وذلك لأن الهواء لا يتخللها ويبقى جوها محصوراً مما يساعد الحشرات الضارة كالأرضة عَلَى الإضرار بها وتكون مستوبلاً للعفن والجراثيم. ثم أنه يجدر وضع وراء الكتب بعض قطع من الجوخ أو الصوف مغموسة بروح صمغ البطم التربنتين والبنزين وحامض الفنيك أو عصير التبغ بحسب ما يتيسر للإنسان. وهذا الاحتياط إذا جدد من حين إلى آخر يعطي نتائج حسنة.

أوائل المعادن

نشرت المجلة الأسبوعية مقالة في أول استعمال للمعادن قالت فيه ما ترجمته: يجب الرجوع إلى ما قبل التاريخ أيام استخرج الإنسان من الحجر والقرن والعظام مواد صناعته واكتشف اكتشافاً رنَّ في العالم صداه ونعني به المعادن فكان باكتشافه إياها كأنه ظفر بالطبيعة واتجهت أعمال البشر بعد إلى وجهة لا تزال إلى اليوم تتكاثر فوائدها فقد بدأ عصر المعادن حوالي نحو العشرين قرناً من الميلاد ولا تبرح سلسلته آخذة بالتسلسل حتى يأتي العلم عَلَى تسجيل موارد الأرض. فيطلق الكيماويون اسم معدن عَلَى جسم بسيط قابل للتأكسد إذا أصابه الأوكسجين ويرى الاقتصاديون في المعدن أداة نقدية غلاؤها ناشئ من ندرتها ويرى أرباب الصنائع الاختراعات المتنوعة التي ظهرت من مادة مختلفة كان حسن استعمالاتها عَلَى الدوام أن تكثر الغنى وتدمث العناصر وتستخدمها.

كان الذهب أول معدن استعمل في حين أن الفضة عَلَى كثرتها في أيامنا لم تستخدم إلا مؤخراً وآخر معدن اكتشف هو الراديوم وبين المعدن الأول والمعدن الأخير زهاء خمسة وخمسين معدناً منوعاً دخلت في الاستعمال وأصبحت مساعدة عَلَى المدنية عَلَى اختلاف الأعصار.

إننا إذا أردنا الوقوف عَلَى تاريخ المعادن مدققاً يجب علينا الرجوع إلى العهد الذي كان الناس يعملون من الحجر سلاحهم وهذا لا يقل عن خمسة آلاف سنة وبفضل بحث العلماء تبين أن الذهب كان يستعمله القدماء إذ وجد في مقابرهم مطرقاً عَلَى صورة حلي وبالنزر لندرة الذهب في الجملة لم يدخل في استعمال الأدوات العادية بل اقتصروا عَلَى جعله صلة بين العصرين العظيمين العصر الحجري الذي انقضى والعصر النحاسي (البرونزي) الذي أدى الإنسان إلى اكتشاف الحديد أي إلى أبواب الأزمان التاريخية. ثم ظهر النحاس وعم استعماله في أشياء كثيرة ولكنه قليل البقاء فقد اعترف مطرقوه بادئ بدء بينه فمزجوه بغيره ليقوى فخلطوه بالزرنيخ والأنتيمون أولاً ثم بالقصدير. عَلَى أن ظهور المعادن في العمل يوافق بحسب ما يظهر أول عهد عدنت فيه المعادن وليس الأمر كذلك لأن المناجم سابقة ذاك الحادث المهم فإن البشر مذ عرفوا يصقلون الحجر قبل أن يعرفوا المعادن بأزمان بحثوا في الأرض وكان من المعدنين الأولين أن استثمروا أولاً حجر الصوان فكانوا يحفرون الآبار والدهاليز برؤوس الأيائل ليستخرجوا منها المعادن وكان من الحركات الجيولوجية التي ساعدت عَلَى تأليف الكرة الأرضية غنية برؤوس عروق المعادن فظهرت عَلَى سطحا وأخذت المياه الغزيرة الجارية إلى قرارة الأنهار تلقي عَلَى الضفاف أجزاء معدنية فلم يكن المعدنون بل الباحثون الذين حملوا إلى بوتقة الإنسان الأول المعادن الأصلية المخلوطة بالأتربة وغيرها. ومنذ ألوف من السنين جرى تعجين كثير من المعادن في طور سيناء بالشرق وفي كونرال في إنكلترا وفي مورييهان وإليه والبكرزو في فرنسا بلا كما جاء في كتاب علم الآثار قبل التاريخ أنه انتشرت من البحر المتوسط الشرقي معرفة مزج المعادن في بلاد الغرب بواسطة الطرق التجارية التي فتحت في العصر النحاسي وأحدث العصور قبل العصر الحجري الصنائع في أوربا الجنوبية وانتقلت تجارة المعادن من قبيلة إلى أخرى عَلَى شواطئ الأتلانتيك حتى بلغت الجزائر البريطانية وفي هذا أيضاً اكتشفت مناجم غزيرة نفق ما استخرج منها في أسواق الشمال والغرب بل والجنوب.

وقد انتقل تطريق المعادن من الشرق إلى الغرب ودلت بعض الآثار التي وجدت مصورة في صورة تصفية بارزة من عهد الدولة الخامسة المصرية وبعض ما وجد من الأثقال الحديدية في سويسرا بأنه كان في ذاك العهد مقاييس قابلة للوزن وأن التجارة كانت تربط إذ ذاك جمعاً من البشر أو من الأجناس.

المالوش

قرأت أخيراً في مجلة المقتبس ما كتبه البحاثة اللغوي ساتسنا في العنجوس فازددت بفضله معرفة وبأبحاثه العديدة شغفاً منها بحثه في تلك الحشرة الفاتكة مما شف عن تفانيه في خدمة لغتنا العربية ونهضتنا الحديثة.

وفي بحث العنجوس اللغوي حقه فوفر عَلَى طلاب الزراعة عناء تنقيب كثير ثم وصف خلق العنجوس جيداً وذكر بعض طرق إتلافه وما يتعلق من البحث بالزراعة العملية وجيزاً. لذلك أحببت تفصيل ما أجمل في ذلك ملماً بأطراف الموضوع، ذاكراً أصدق الوسائل المتخذة في ديار الغرب لمحاربة ذلك العدو ليعجب الزراع ويفيد البقاع إن شاء الله فأقول:

المالوش أو العنجوس أو الشبث أو الكاروب أو ما يسمى في الشام بالحالوش حشرة من رتبة المستقيمات الأجنحة من جنس الجداجد (الصراصير) تسميه عامة الفرنسويين تارة بالحراثة وطوراً بسرطان الأرض وأخرى بالخلد الجدجد. واسمه العلمي الخلد الجدجد العام لأن يدي هذه الدويبة القبيحة عريضتان مفلطحتان قويتان جداً تشبهان دي الخلد ويقيم الخلد بالأراضي المزروعة ضيفاً كريماً ويفضل حدائق البقول والمغارس الشجرية والحقول الخفيفة التربة والأماكن الرملية الرطبة كالأباطح والمنخفضات فيحقر ليلاً سراديب سطحية عديدة يطول بعضها كثيراً ويسير عَلَى الدوام في تلك الدهاليز المحددة للأمام ولا يلوي عَلَى شيء فيمزق بفكيه الجذور الدرنية كالبطاطة والجزر والشمندر فتكون له تلك السراديب ميادين يطارد فيها مختلف الحشرات. أما المواضع التي خددها المالوش فتعرف باصفرارها وذبول نباتاتها.

اختلف علماء الحشرات كثيراً في مأكول هاته الحشرة فقال بعضهم: أنها من آكلات النبات والحيوان معاً ومنهم المهندس العالم الزراعي غينو أحد مؤلفي دائرة المعارف الزراعية الكبرى. وقال آخرون: أنها من آكلات الحشرات فقط ولكنه قد يأكل بقايا النبات والحشرات المخلوطة وفرقة ذهبت إلى أنها لا تأكل سوى الحشرات والديدان منها الأستاذ بيكار فقد برهن عَلَى قوله بعدة تجارب ناطقة بفساد مذاهب الآخرين وقد امتحنت هذه الحشرة في عطلتي الصيفية الحاضرة بأن وضعت مالوشين في إناء وتركتهما في الجوع الشديد ثلاثة أيام مع النبات الأخضر ثم بعد ذلك فحصت النبات فإذا هو كما وضعته لم يتغير ثم أتيت للمالوش الكبير ببعض ديدان التفاح فكان يلتهمها بنهم وسرعة.

كذلك اختلف علماء الحشرات والزراعة في ضرر المالوش ونفعه والمذهب المعتدل أن العناجيس نافعة في الأرض المزروعة حبوباً لا يأكلها الديدان والحشرات الضارة وعد إضرارها بالحبوب ضرراً يذكر ولكنها ضارة جداً فيما إذا كانت كثيرة في بساتين الخضر فقد تتلف الزرع برمته إذا كانت قليلة في الأرض فتستوي كفة نفعها مع كفة ضررها ثم لنفرض أنها مفقودة فإن الدويبات الضارة التي كانت تلتهمها في وجودها تتسلط عَلَى النباتات في غيابها ولربما كان مما تفترس ما هو أضر في بعض البلاد منها فتنتفع الأراضي كثيراً ولما كانت بلادنا العربية لم تعتد بعد محاربة هذه الحشرات الفتاكة اعتيادها الحروب الدينية التي أخرتنا قروناً كثيرة. باضت الحشرات لا تبالي، وفرخت خالية الهم والبال حتى صارت من ألد أعداء الفلاحة الشرقية وأكبر مصائب الزارعين ولذلك وجب علي أن أشرح أصدق الحيل المتخذة في ديار الغرب لإتلافها وهي:

1ً - أن تسقي الأرض قليلاً لإخراج الحشرات منها عند الهجيرة لأن هذه المواليش تعشق الماء والرطوبة ومتى صارت عَلَى سطح الأرض سهل التقاطها وإهلاكها وقد ذكر لي رفيقي في درس الزراعة هاشم أفندي البهلوان المعري من أبناء طرابلس الشام أن فلاحي القرى الطرابلسية كالمنية وغيرها يتخذون هذه الطريقة في قتل المواليش.

2ً - أن تصب في ثقوب سراديب المواليش الخارجية بعض السوائل الخاصة كالزيت وكبريت الفحم أو مستحلب البترول والصابون وتستحضر المستحلب بأخذ 40 جزءاً من البترول وجزءٍ من الصابون و20 جزءاً من الماء والصابون يقطع قطعاً صغيرة ويغلى في الماء حتى يذوب فيرفع عن النار ويزاد عليه البترول ويحرك جيداً وهو سحن حتى يختلط البترول بمذوب الصابون وعند الاستعمال يمزج الرطل بعشرة أرطال ماء ويصب في ثقوب المواليش ويعد هذا المستحلب من قاتلات الحشرات بأنواعها فليستعمل لضربة الليمون برش الأشجار بالمضخة.

3ً - يهلكون كل سنة في الأراضي الرملية حوالي برلين أكثر من مئة ألف من هذه المخربات وذلك أنهم يملئون قصريات (شقفات الفخار للزهور) ماء يصبون عليه أربعين نقطة من زيت النفط (خلاصة التمر تينا) ويدفنون هذه القصريات في عمق خمسة سنتيمترات في الأرض فتتباهت المواليش لتموت في مائها غرقاً وقد ذكر هذه الطريقة الألمانية الأستاذ لاربالترية مدير دار الاستحضار الزراعية في مقاطعة الألب المنخفضة وأحد أساتذة مدرستنا.

4ً - أما في الأراضي المزروعة تبغاً (توتون) فقد ظفر المفتش الزراعي العثماني في ولاية آيدين بطريقة نجح بها كل النجاح في إبادة المواليش وهي: أن تسلق عرانيس الدرة وترفعها من المرجل والقدر قبيل النضج وبعد تجفيف الذرة تطحن حبوبها مع حامض الزرنيخوس وتذر الدقيق عَلَى الأرض ثم يدفن فيها بواسطة المشط قبل الزراعة الدخان بعشرة أيام وعندئذ يجب إبعاد الطيور الداجنة عن تلك الأرض المسمومة. وإني أوصي أهالي جبل عامل ولواء اللاذقية بهذه الطريقة الناجحة الفعالة.

5ً - أن لا تهمل التفتيش عن أوكار المواليش في أشهر أيار وحزيران وتموز تظهر مثل كتل من التراب مرتفعة محاطة ببعض النباتات الجافة وحينئذ تحفر في هذه الكتل مقدار 65 سنتيمتراً فتجد فليجة (شرنقة) من التراب يابسة فتأخذها بعناية واحتياط لئلا تكسر الفليجة فيقع بيض المالوش عَلَى الأرض ثم تسحق الفليجة كل السحق والأحسن أن تطرحها في النار.

6ً - ذكر بعض كبار المزارعين في فرنسا حيلة تتمكن بها من إتلاف هذه المواليش من الأرض بتاتاً في مدة سنتين أو ثلاث وأرى طريقته هذه أنفع الحيل المتخذة في حين أنها قليلة النفقات ولا تضايق المزروعات وهي أن تحفر في الأرض قنوات معوجة يكون بين القناة والأخرى ثلاثة أو أربعة أمتار وعمقها يختلف من 25 إلى 30 سنتمتراً. ثم يمل تلك الأقنية سرقيناً زبلاً خالطه قش ويعمره سواء كان سرقين خيل أو بقر ثم تغطي الجميع بالتراب فإن سرف المواليش تهرع للقنوات كي تدفأ في السرقين وتتخذه لها مشتى حيث تدخل في دور النطور والاستحالة وينبغي فتح القنوات في شهر أيار المقبل برفع السرقين بالتدريج فتجد أن تلك المواليش بالغة والسرفات التي لم يتم بعد تطويرها فتبيدها عن آخرها.

وفي الأرض كثير من الحشرات تأكل بيوض المواليش. والبيض ينقف بعد ثلاثة أسابيع أو أشهر عن فراخ بيضاء صغيرة. وقد زعم بعض علماء الحيوان أن المالوشة تأكل جزءاً من فراخها وأثبت قوم أنها تدافع بالعكس عنها وتفتش لها عَلَى ما يغذيها والغالب أن المالوشة تموت بعد ما تبيض كأكثر الحشرات المنظورة. أما البيضة فصفراء بحجم بزرة القنب (القنبزة) وقشرتها متينة جداً توجد متلاصقة مع أخواتها. أما الفراخ فإنها تعيش العيشة الاشتراكية مدة شهر ثم تتفرق فتتطور إلى ثلاثة أطوار إلى آخر تشرين الأول وحينئذ يكون طول الذويبة سنتمتراً ونصفاً فإما أن تحفر لها حفرة أو أن تلتجئ للمزابل لقضاء فصل الشتاء في حالة التخدر والسبات الطويل فتبقى كذلك للربيع القادم وفيه تتطور أيضاً طورين ثم تبلغ في أيار أو حزيران وفيها ترتكب هذه المواليش أكبر فظائع التخريبات في المزروعات.

أوريزون (فرنسا) // عز الدين شيخ السروجية.

اليابان والأفيون

ذكرت الصحف الأوربية عام 1853 مع الأسف أن عادة تدخين الأفيون لم تقتصر عَلَى بلاد الصين بل تعدتها إلى إنكلترا تقل إليها استعمالها أناس من البحارة الصينيين كانوا مستخدمين في إخراج شحن البواخر أما اليوم فقد اختلفت الأحوال كل الاختلاف فما من بلد في الغرب إلا سرى إليها استعمال هذا المخدر المضر فسرت إلى أوربا عدوى فاحشة إذ ثبت في أحوال مدهشة أن المواني الغربية تؤدي أموالاً طائلة في سبيل الحصول عَلَى الأفيون الذي انتشر في مواني ألمانيا بواسطة بحريتها كما سرى إلى مواني فرنسا. وأميركا الشمالية مصابة به كثيراً حتى ثبت الدكتور ورخت بالإحصاء أن 5800 رجل من البيض في نيويورك يستعملون الأفيون وزهاء 8000 في شيكاغو يستعملونه عَلَى الرغم مما يبذلونه في محاربة هذا المخدر المضر.

ولم تنتج سوى مملكة واحدة من هذا الخطر. ومن الغريب أنها اقرب جارة للصين ونعني بها اليابان المتصلة معها عَلَى الدوام مباشرة. وقد ألف المسيو مرابن كتباً ممتعاً يفهمه العامة ولا ينفر منه الخاصة يقصد به إثارة حرب صالحة صحية عَلَى الأفيون أبان فيه أن الياباني الذكي العفيف لاحظ بادئ بدء السقوط الشخصي وضعف الجنس الناشئين من هاتين الرذيلتين: الأفيون والألكحول. ولذا عفت نفس الياباني عن أن يكون حشاشاً وسكيراً.

ولم يخطئ حكام تلك البلاد الاهتداء للجادة المثلى في اتقاء هذا السم الهائل ومنعه من التسرب إلى بلادهم بل صدرت الأوامر لأول العهد بأن يعاقب بالقتل كل متعاط للأفيون وإلى اليوم يجازى شاربه بالأشغال الشاقة وضربت عقوبات وغرامات شديدة عَلَى من يهرب الأفيون حتى لم يعد يجرأ صاحب سفينة أن يحمله.

والأحسن من ذلك أن يابان لما ملكت بلاد فورموز وكوريه شرعن في العمل لما من شأنه إبطال استعمال الأفيون فيهما عَلَى أسلوب بطئ ينقذ السكان من تلك المفسدة فجعلت التدخين بالأفيون عَلَى المصابين به من قبل متوقفاً عَلَى رخصة ينالونها ليستطيعوا الجري مع شهواتهم وهذه الرخصة تحدد الكمية التي يسمح لهم بأخذها. واحتكرت الحكومة عمل الأفيون وبيعه وهي لا تبيعه لغير من ألف شربه وثبت في لجنة خاصة أنهم مبتلون به وذلك بأثمان فاحشة تضطرهم إلى إبطال استعماله.

قالت الطان الباريزية بعد إيراد ما تقدم: وهذا خير مثال في الوقاية الاجتماعية قامت به مملكة الشمس المشرقة عَلَى ما رأيت. أنا نحن فنقول أن الحكومة المصرية عَلَى محاربتها في الظاهر لاستعمال الحشيش ما برح شائعاً في أهلها ويا للأسف عَلَى اختلاف طبقاتهم أما فتح العثمانية والمصرية صدر بلادهما لما يرد من بلاد الغرب من المشروبات الروحية المختلفة الصنع والاسم فإنه مما نسأل الله منه السلامة عَلَى صحة السكان وعقولهم وآدابهم وبينا نرى عجائب في الشرق الأقصى من سهر حكومته عَلَى كمال سكانه نشهد العكس من حكومات الشرق الأدنى بتساهل فقيما يورث أهله النقص والانحلال.

عصابة ضد الجنون

الجنون من أعظم النوائب التي اشتدت وطأتها عَلَى الجنس البشري فقد أثبت الإحصاء في جميع البلدان أن معدل المختل شعورهم أخذ بالتضاعف إلى حد يدهش المفكرين وجميع طبقات المجتمع يصاب منها أفراد وكثير من الناس يعلمون أسبابه ولا يتقونها. يعلم الشبان والشيوخ والكهول أن كثرة التأثر ومجارات الشهوات من أعظم العوامل في الجنون ومع هذا تراهم لا يتوقفون عن إتيان الرذائل التي تقودهم إلى المستشفيات فالموت الزؤام. وما من أحد لا يعلم أن الإفراط في استعمال الألكحول والمشروبات مدرجة إلى اختلال الشعور ومع هذا ترى السكارى مدمنين عَلَى أقداحهم وأهل الشهوات في مسراتهم وأفراحهم وهذا ما حدا القائمين عَلَى الصحة والآداب في الغرب أن يحابوا تعاطي المسكرات بكل ما في وسعهم وأنشأوا لذلك النقابات والجمعيات فانتفع من ذلك كل من إنكلترا وإيرلاندا وفرنسا ورأت جمعية التعاون الأميركية أن نشر التعليم العلمي النفسي بين العامة أنجع الذرائع في القضاء عَلَى الجنون أو عَلَى الأقل في تخفيف ويلاته وذلك لأن الإنسان إذا لم يكن أبله يؤثر الصحة عَلَى المرض والحرية عَلَى السجن في ملجأ فعمدت إلى استعمال الطريقة التي كانت استعملت في نشر التوراة بين الخاصة والعامة.

وقد ترأس تلك الجمعية مديرو المستشفيات والمصالح وأشهر أطباء العته وأخذت تنشر بمئات الملايين نشرات فيها بيان ما يصيب المرء بتسامحه في تعاطي المسكر الذي يؤدي إلى الجنون فتتداولها الأيدي ويقراها بإمعان الشبان والأطفال والبالغون والبنات والنساء والأمهات فتتم ثل لأعينهم هذه البلية وتنهال أمثال هذه النشرات عَلَى الأطباء ونظار المدارس ورجال الكنائس ومديري المعامل والمصانع والنجار الذين يستخدمون الرجال والنساء وأرباب المطاعم والفندق وباعة المسكرات والمرتزقة مشفوعة بالرجاء إليهم أن يساعدوا تلك العصابة الشريفة عَلَى بث دعوتها في العامة وقد ثبت مؤخراً أن معدل الداخلين الشهري إلى المستشفيات من المعتوهين والمعتوهات قد نزل عن ذي قبل.

قلنا ألا يليق بمن عدوا أنفسهم منا في زمرة الخاصة القائلين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يفكروا في مثل هذه الإصلاحات الاجتماعية ومداواة العلل التي حدثت فينا من انتشار الو بقات والمسكرات بدلاً من أن يكثر بعضهم عَلَى بعض عَلَى غير طائل ويسعوا للشهرة من غير أبوابها ناسين بأعمالهم هدي كتابهم وسنة رسولهم وهيهات أن يرزق العقل السليم من حاد عن سنن الشرع السمح والمدنية الصحيحة.

جيش السلام

مات في إنكلترا رجل غريب الشأن من رجالها وهو القائد نوت مؤسس جيش السلام توفي عن 81 سنة قضاها في خدمة الإنسانية وكان أجير خياط في السنة الخامسة عشرة من عمره ثم بلغ به تقواه وحنانه الغريب عَلَى نحو ما يكون عليه بعض أهالي مذهبه فقام في ذهنه أن يدعو قومه وأبناء نحلته خاصة إلى العطف عَلَى البائسين ومواساة المنكوبين ووعظ السكيرين والفاسدين واللاعبين وغذ كان هو من أسرة فقيرة وعرف معنى الفقر بالعمل جاء لندن سنة 1848 وتوطن في أفقر أحيائها بين المحاويج من أبنائها وبدأ يعظهم بعملهم ويبث دعوة الإنجيل فيهم فاستمال ببلاغته قلوب الشعب وتعدى من الوعظ الخاص لأبناء مذهبه إلى الوعظ العام فاخذ يطوف إنكلترا وينشر الكلم الطيب ويؤاسي من أخنى عليهم الدهر ويدخل أناساً في جمعيته ولم يلبث أن خرج عن أهل مذهبه وأسس له مذهباً جديداً وذلك عقيب زواجه فنشر في الناس تعلماً مسيحياً كان أيضاً نظاماً عسكرياً فكسا رجاله كسوة الجند وأوجد رتباً ووزع مناصب وأدخل في جيشه الرجال والنساء ثم أنشأ عدة جوقات موسيقية وجريدة وأخذ ينشر الإعلانات الكثيرة عن مذهبه.

ولقد سخر القوم بصاحب هذا المشروع لأول مرة ولكنه ثبت عليه فأخذ ينمو السنة بعد الأخرى وكثر أشياعه وجيشه في أقطار الأرض ودخل فيه حتى الزنوج وقد اضطرت فيكتوريا ملكة إنكلترا أيام ملكها أن تستدعي إلى قصرها القائد بوت وتلتمس معونته في الهند وأوستراليا فقام في هذا السبيل بأعظم الخدم للأمة الإنكليزية.

هذا ما قرأناه في الصحف الإفرنجية وقد ذكرت مجلة التواريخ السياسية والأدبية نبذة في وصف جيش السلام بقلم أحد أعضاء المجمع العلمي الكونت دوسونفيل قال فيها: إن هذا الجيش كان سبب السخرية منه لأول مرة وإنك لا تتمالك من الضحك عندما ترى ضباطه يلبسون في رؤوسهم قبعات من القش صغيرة سوداء تحيط بها شريطة حمراء ومنذ تأسيس هذا الجيش سنة 1878 عَلَى يد القائد بوت ما يزال عرضة للمعارضة الشديدة الوحشية بل بالاضطهاد ولاسيما في البلاد البرتستانتية من إنكلترا فتغلب هذا القائد عَلَى جميع هذه المصاعب بنشاط غريب وحقق جزءاً عظيماً من نياته التي ألم بها في كتابه الشقاء ببلاد إنكلترا وهو كتاب يبين ما في مطاوي المدنية الإنكليزية من الجروح النغارة وما في نظامها السياسي المدهش من النواقص فتمكن بذلك أن يجعل من جيش السلام جمعية زاهرة غنية يلجأ إليها الناس من حكومات وبلديات وجمعيات.

والذي يزيد قوة جيش السلام في لندرا وغيرها هو أنها تجمع في إدارة واحدة الأعمال المختلفة التي يتمم أحدها الآخر ولها الآن في عاصمة إنكلترا نحو خمسين معهداً مختلفة المقاصد منها ما يؤوي الأمهات ومنها ملاجئ للبائسين يبيتون فيها ومنها مخابز ومعامل للمعاونة بالعمل وملاجئ للنساء وللأولاد والغاية الأساسية التي يرمي إليها هذا الجيش أن يقوي ملكة الأخلاق في أفراده ويرى والحق معه فيما يراه أن المرء الذي صار إلى البؤس بصنعه أو بتأثير الأحوال فيه فعاش فقيراً يتكفف الأيدي لا يعود إلى حالة حسنة إلا بالعمل فإيجاد عمل للداخلين في جيش السلام هو أعظم هم الجمعية لأنها ترى أن العمل يرفع الإنسان ويساعده عَلَى التخلق بالأخلاق الفاضلة.

ولهذه الجمعية في لندرا سبعة معامل للمعاونة بالعمل في الصناعات المختلفة وفي تنوع الأعمال مجال للانتفاع لكفاآت البائسين عَلَى اختلاف ضروبهم ممن لا عمل لهم فلهم معمل نجارة عظيم لا يعمل إلا بتوصية ما يطلب منه من الأعمال وجميع مصنوعاته حسنة وله معمل كبير يجمع فيه الخرق البالية من شوارع لندرا فتسير كل صباح 21 عربة إلى جهات مختلفة تحمل قمامات المدينة ولاسيما الورق القديم والمقوى العتيق والجرائد البالية والخرق والكساحة عَلَى أنواعها فتحملها إلى فناء المحل فتوزع عَلَى غرف تنقيها ثم تجعل أكداساً ترسل إلى فرنسا والولايات المتحدة تباع من معامل الورق. ويعمل في هذا المعمل ثلثمائة نسمة يعيشون من حاصلات عملهم.

ولهذا الجيش معامل للنساء كما له معامل للرجال وهي معامل المعونة بالعمل وملاجئ الليل ومعامل النساء للخياطة وغسيل الثياب. ويستخدم في إدارة هذه المعامل ستمائة امرأة ولكل منها رتبة من رتب الجندية ففيه كما في الرجال قائدة عشرة وأخرى قائدة مائة وأخرى قائدة ألف وغير ذلك مما قالوا ن السبب في إطلاقه عَلَى أفرادهم وأفرادهن حفظ النظام والطاعة وهذا القانون يشبه قانون الجمعيات الدينية عند الكاثوليك ولكنه جاء في صورة أخرى والجميع يعلمون الإحسان والشفقة عَلَى بني الإنسان ومن النساء الداخلات في الجمعية من هن من بنات الطبقة الأولى طبقة الأشراف وفيهن من أهل الطبقة الوسطى يتأدبن كلهن بآداب الإنجيل عَلَى مذهب مؤسس طريقتهن القائد بوت.

الشعب الإنكليزي

في المدينة الغربية رذائل وفضائل ومن الأسف إننا أخذنا في الشرق رذائلها قبل فضائلها فتسربت إلى أبنائنا وكادت تقوض أركان مجتمعنا وكل يوم نحن منها في شأن ولكن الحضارة في العادة تدخل ويدخل معها كل شيء فإذا ارتقى فرع من فروعها يتبعه الفرع الآخر وإن كان لا علاقة له به أو هو يخالفه من كل الوجوه والفرق بيننا وبين الأمم الغربية أن خاصيتهم هناك يحاربون تلك الجراحات بمواعظهم وأقلامهم وجمعياتهم وحكوماتهم ونحن معها سكوت لا نتكلم كالبله المتناومين ومن نسميهم منا الخاصة لا يحلمون بغير منافعهم ومظاهرهم.

الشعب الإنكليزي باتفاق الآراء أرقى شعوب الأرض أخلاقاً وأكثرهم حرية واستقلال أفكار ومع هذا ترى الجنون يزيد معدله فيهم بهذه الحضارة وتكثر أمراضهم من آثارها وذلك لانتشار المسكرات بينهم وشدة الجهال في الحياة ثم أن العهر يزيد عَلَى معدل ذلك الشقاء المستحوذ وقلة الاحتفال بالدين مع أن الشعب الإنكليزي من أكثر الشعوب تمسكاً بالأديان.

ظهر في باريز تاريخ الشعب الإنكليزي في القرن التاسع عشر للمسيو هالفي من علماء الفرنسيس وفيه العجب العجاب من أحوال البريطانيين قال فيه أن أخلاق هذه الأمة غريبة الشكل في المحاكم فإن منظر الجلسات في المسائل الجنائية يدهش به الغريب وذلك ترى أن مكتب القاضي غاصاً بالزهور وكذلك مكتب كاتب المحكمة ويحمل الضباط المحضرون باقات الزهور أيضاً ويجعل القاضي عَلَى رأسه شعراً مستعاراً فإذا أراد إصدار حكمه يخلي سبيله للناس فيسمح بدخولهم وفيهم كثير من الجميلات المعشوقات من بنات الولاية أو المقاطعة فيقفن فيستمعن للأحكام ومنها ما يكون الإعدام شنقاً فيتظاهرون بالتأثر ثم يخرجن من هناك ولا يلبثن أن يرقصن رقصهن اللطيف والمحكوم عليه يفكر في صدور الحكم عليه وهو بين ذاك الجمع من ربات الدلال والظرف.

وكذلك ترى الغرابة في الانتخاب لمجلس العموم فإنها تدوم خمسة عشر يوماً ويدفع المترشحون جميع نفقات الناخبين ومن انبسطت يده بالعطاء أكثر ورد أطعمته وأشربته فاستطابها منتخبوه كانت غلبته للنيابة مضمونة ويكفي أن يقال أن ثلاثة مرشحين عن يوركشير سنة 1807 أنفقوا لنيل كرسيين في مجلس النواب خمسمائة ألف ليرة إنكليزية حتى إذا ظفر اثنان منهم لم يسلما من إهانة الأمة التي كانت تلقى عليها الأوساخ والأوحال فكان الإنكليز بذلك يقتدون بإجراء طرق الرومان في رومية ممن لم يكونوا يصعدون القلعة يوم مبايعتهم قبل أن ينالهم خصومهم بأنواع السخرية والشتائم.

وليس تاريخ الإنكليز غريب فقط بل هو معلم أيضاً وفيه مثال واضح من تغالي القوم في الأمور الاقتصادية حتى أدى ذلك إلى مفاسد لم تحمد مغبتها وهو أنهم يريدون أن تخرج من معملهم أعمال مهمة بقليل من الوقت والنفقة ولذلك اضطر أربابها إلى استخدام النساء بدل الرجال لخضوعهن أكثر من الرجال ولقلة أجورهن قال المؤلف وهناك فوائد أخرى وهو أن النساء قد يستخدمن في جلب رضا أرباب المعمل والزائرين له والأخذ في عنان الشهوات ثم أن المعامل ما يستخدم صغار الأولاد في الأعمال الخفيفة فيدخلون تلك الأماكن الرطبة يعملون خمسة عشرة ساعة فتتأثر صحتهم وأناملهم ويصابون بعاهات تشوه وجوههم وتضر عقولهم.

ولقد كاد حب الذات في أرباب الأعمال الاقتصادية يزيد في المعامل عدد المشوهة أجسامهم الفاسدة أخلاقهم لو لم يفكر القوم باتخاذ الدواء الناجع فلما رأوا ما حل بتلك الطبقات مما وصف أعراضه الشعراء والأدباء والصحافيون ورجال السياسة ووعاظ الدين عَلَى اختلاف مذاهبهم قاموا كلهم يداً واحدة ليزيفوا هذا الضرب من العبودية وخف بعض أباب المعامل العاقلين فقللوا من ساعات العمل وأكثروا من أجور العمال مع مراعاة النسبة بين دخلهم وخرجهم وبذلك وجد الإنكليز بعض المسكنات لتلك الأدواء ولعل عقول خاصتهم تهديهم إلى معالجة غيرها وإلا فتوشك أن تصاب المدنية الإنكليزية بما أصيبت به المدنية الرومانية وغيرها.

الخوف

خطب إرنست لفيس علامة الفرنسيس خطاباً في الخوف في مدرسة نوفيون ىن تيراش (فرنسا) قال فيه أن من النقائص التي يجب أن تتغلب عليها التربية نقصاً تتساهل فيه المدرسة والأسرة معاً وذلك لأن المدرسة لا يبدو فيها هذا النقص خصوصاً وأن غير المطيع والطائش من التلامذة يلقي الاضطراب في نظام المدرسة أكثر من الجبان فهذا وديع والمعلمون يقدرون وداعة التلامذة قدرها أما الأسرة فغالباً قد ترتكب غلطاً كبيراً باعتمادها عَلَى الخوف أداة من أدوات التربية ولقد نشأت من الخوف شرور كثيرة لأن صاحبه يخشى الألم والموت بل إن حياته كلها معذبة بنتائجه وليس الذنب عَلَى الأولاد بل عَلَى من ربوهم وأورثوهم خلة الخوف فإن لقانون الوراثة تأثيراً كبيراً في الخوف سواءٌ كان فيلا الإنسان أو في الحيوان والخوف قديم كقدم الإنسان وليس فيه عار عليكم معشر الطلبة.

ولقد قال ديكارت الفيلسوف العظيم: لا تكفي الإرادة لبث الشجاعة من مرقدها ونزع الخوف من أصوله بل تجب العناية في النظر إلى المعقولات والمحسوسات والأمثولات التي تقنع المرء بأن الخطر غير عظيم وأن الأمن يكون في الدفاع أكثر منه في الفرار وأن المجد والسرور في الظفر في حين لا يتوقع الأسف والعار من الفرار.

إنكم يا هؤلاء تخافون في العادة من البر والصاعقة والقعقعة المسموعة والأشباح المرئية في الظلمة والكلب الذي تصادفونه في الشارع والبقرة التي تحدق النظر فيكم بينا أنتم تجتازون إحدى المراعي ولكن قولوا لي كم بقرة نطحتكم وكم عدد الكلاب التي عضتكم فإن الأشباح التي ترونها في ظلام الليل الدامس قد لا تكون إذا وقدتم النور + + فسطانكم أو سراويلكم وكم من قعقعة سمعتموها ونشأ عنها ظهور لص أمامكم والرعد كم من مرة أهلككم.

لا جدال بأنه قد تحدث صواعق وسرقات واعتداآت ولكنها لا تخرج عن كونها حوادث تحصى وتنشر في الصحف إذا عراكم الخوف فاذكروا بأنكم شعرتم به أكثر من مرة ولم يصيبكم منه شيء فهو إذاً قد هزأ بكم فقولوا له: يا هذا أنا عارف بك فدعني مستريحاً. إذا فعلتم ذلك فأنتم ولا شك سائرون في طريق الشجاعة.

أريد أن أقنعكم الآن بالقاعدة التي سنها ديكارت بأن الأمن قد يكون مع الدفاع أكثر مما يكون في الهرب. وهذا الكلام مؤيد بالمثل القائل بالخوف لا يتوقى الخطر (العرب يقولون من التوقي عدم الإفراط في التوقي) بل إن الخوف كثيراً ما يحدث الخطر.

الكلب دائماً ينتصب عَلَى رجليه لأنه اعتاد ذلك فإذا وضع أنفه في الأرض وشم حيواناً يسرع في العدو والبقرة إذا خلصت من رعيتها تنظر بعينيها أمامها فيظن الولد أن الكلب يتأثره والبقرة تريد أن تبطش به من عدا أمام الكلب والبقرة كان أقرب إلى الخطر عَلَى نفسه. ولعل الوقت قد حان لأن يدرس الأولاد في المدارس الابتدائية دروساً في الشجاعة يكون أول عمل لها التغلب عَلَى الخوف والدهشة.

ولكن كل تربية لا تأثير لها إذا لم تؤازروها أنتم أنفسكم يجب عليكم أن تقنعوا أنفسكم بالجرأة أنكم إذا قستم أنفسكم بأناس من أترابكم لا يرون إلا ما يقع نظرهم عليه مباشرة ولا يحاولون الهروب تؤكدون أنكم دونهم في القدرة عَلَى السير وضعاف في النظر وإياكم أن تفوتكم وسيلة لغرس الشجاعة في نفوسكم.

إنكم لا تتمكنون من التغلب كل التغلب عَلَى الخوف بل تتخلصون منه بعض الشيء وإني طالما كنت في طفولتي وإلى الآن أخاف الرعد لأنني رأيت صاعقة انقضت عَلَى بضعة أمتار مني وأخشى الفئران إلى اليوم وقرضها الخفيف وإن قيل لي عندما كبرت أن الحيوانات الصغيرة لا تأكل الكبيرة. فما يطلب منكم اليوم هو أن لا تخافوا بتة بل أن لا تخافوا من خوفكم وأن تحاربوه وتغلبوه وبعد ذلك تحرزون مكافأة حسنة. تحرزون المجد والسرور كما قال ديكارت والمجد من شأن الكبار أما أنتم معاشر الصغار فالسرور خاص بكم لاسيما إذا وقعت أبصاركم عَلَى الشجعان فإن نفوسكم تحدثكم بأنكم لا تغارون منهم لأنكم صرتم شجعاناً بصنيعكم وأصبحتم معجبين بعملكم إعجاباً لا يمازجه هزؤ أبناء هذا الزمان بل إعجاباً يستحثكم في الأوقات الضنكة بمجرد الاعتماد عَلَى نفوسكم.

إذا اهتزت عظام أرجلكم وسوقكم خوفاً وهلعاً فخاطبوا ما علا فوقها من جثمانكم خاطبوا العقل وقولوا له أن له هيكلاً عظمياً إذا اضطرب فإن جزءنا الأعلى مأوى العجب بأنفسنا ومقر الشعور بالواجب ومنهما بلغ من حالتنا في حياتنا فقد تعرض لنا أحوال تدعونا إلى أن نختار طريق الشرف أو غيره فلنبتعد عن الجبن يسير في طريقه ولنسر في طريق السلامة.

أيها الأطفال الأعزة إن هذا هو شعور عظمتنا الشخصية وشرفنا وواجبنا الذي يحدث الشجاعة في كل فرد منا ويقويها هذا هو الشعور نفسه الذي يمازجه حب الوطن فيدعو إلى الشجاعة الوطنية. للأمم ساعات من الخطر. فإنكم تسمعون الحين بعد الآخر أنه ستنشب الحرب غداً نعم إن الحرب حادث عظيم مدهش إن فرنسا التي غلبت وهي تشكو من جرح لا يزال فيها نغاراً تعرفه حق المعرفة ولكنها مع ذلك لا تبدي حراكاً هي ليست دون سائر المم في إعجابها بنفسها واحتقارها لها ولكنها في الباطن تعرف قيمة نفسها تشعر بأن فيها فضائل وقوى أخرجتها عن ما مر في القرون لماضية من الهوى التي ظن بأنها تدهورت فيها تاريخها عظيم مجيد بسلاحها محيد بعقلها. إنها كسائر الأمم قد أتت شيئاً من الشر فاستحقت عليه بعض الأحايين اللعنات ولكنها كفرت عن سيئاتها بحسنات كثيرة فقد حررت شعوباً من رقهم لا يزالون يذكرون لها يدها عليهم وأوحى عليها عقلها السمح المستنير فلقنت أناساًَ من بلاد مختلفة قيمة الإنسان ولم يبرحوا يذكرونها بعملها فهي تعرف نفسها شريفة بين الأمم معم إن العالم حولها قد تغير كثيراً من نصف قرن فقام شعب بالقرب منا يذكرنا كل حين بلسان البغضاء والقحة بأنه عظيم قوي. ومع أن هذا الشعب عظيم وقوي فإن فرنسا التي تهدد أحداً لا تخاف أحداً بتاتاً بل تعلم إنها فرنسا عَلَى كل حال.

الإفرنج والنزهات

لا تكاد تطلع عَلَى صحيفة سياسية وعلمية من صحف الإفرنج في الصيف غلا وتجدها ملأى بوصف المنتزهات والحمامات والجبال والبحيرات والغابات وأخبار الرحلات الخاصة منهم إلى الأصقاع ذات البهجة والرياض الممرعة الخصيبة فمن قائل مثلاً أن جان جاك روسو الفيلسوف هو الذي سن للفرنسيس سنة التنقل في البلاد وحبب إليهم عيش الخلاء وعشق الطبيعة ومن مدع أن برناردين دي سان بيير هو داعية ذلك ومن زاعم أن شاتو بريان كان أمتن وأحكم في دعوته ومن قائل أن من حبب الحمامات البحرية إلى الناس هما الأب بوهورس ومامونتل ومن حبب التصعيد في الجبال هو لاروشفو كولد الحكيم والخلاصة فإن للغربيين غراماً في الطبيعة يريدون أن يرجعوا إليها في مآكلهم وملابسهم وأجسامهم ومنامهم ورياضتهم. وكل واحد من خاصتهم يبحث في فرع من هذه الفروع ويتفانى في حث قومه عَلَى جلب المصالح ورد المفاسد والأخذ بحظ وافر من هذا الوجود اغتناماً للصحة قبل المرض واستدامة للنعمة والرخاء والرفاهية وحباً بصد الناس عن غشيان المدن الكبرى مخافة أن تفرغ الحقول والقرى لأن سكنى العواصم مضر بالصحة مضعف للأبدان مقصر للأعمار وعمران هذا العصر في عواصمه عَلَى كثرة ما فيها من أنواع الراحة والرفاهية أقرب إلى إفساد الصحة وإنهاك القوى مما كان في العصور السالفة ومكيف يطيب الهواء في مدينة كباريز سكانها ثلاثة ملايين ولندرا سكانها سلعة ملايين هذا ما يخوض أدباء الغرب وعلماؤه عبابه فما قول سادتنا الخاصة في مصر والشام والعراق وتونس فمن منهم خاض في مثل هذه الموضوعات وحبب إلى الناس النزهات والرحلات عَلَى طريقة الغربيين ليحبب إليهم أوطانهم ويعرفهم رجالهم ويبحث عن أمور لا يتيسر لكل إنسان أن يحصل عليها ويتعب المفكرون في جمعها ونشرها فيأخذها جمهور القراء هينة لينة.

الحج المشوق

الإفرنج عَلَى تغاليهم بالبحث عن شؤونهم الداخلية وعاداتهم ورجالهم وأعمالهم وبلادهم لا يغفلون عن شؤون غيرهم وقد أصاب بلادنا حظ وافر من عنايتهم فكانت بلاد العرب أو مصر والسام والجزيرة والعراق واليمن والحجاز ومراكش والجزائر وتونس وطرابلس وبرقة موضوع أبحاثهم العلمية والأثرية والتاريخية والاقتصادية مما نخجل من كثرته إذا سمعنا بأسمائه ولا نكاد نجد الفرد والفردين منا يتوفرون عَلَى البحث في النافع من حالات بلادنا وآخر ما كتب عن الأرض المقدسة رحلة للمسيو كومز كاريللو ذكر البلاد التي نشأ منها عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام وزارها وكان زار من قبل بلاد اليونان والصين واليابان وكتب فيها رحلات كثيرة وقد وصف مسيره من دمشق وما رآه من جلالة موكب الحجاج القاصدين إلى بيت الله الحرام فوصف الأماكن التي حط فيها رحاله حتى بلغ القدس وقال أنه لم يبق من طبرية عاصمة الأردن غير خرائب وقصور هيرودوت والبحيرة المقدسة ووصف قنا والناصرة وما يتخلل تلك الربوع من الجلال والجمال الروحاني وذكر في رحلته ما تهم معرفته من أحوال البلاد ولم يكثر من التفاصيل المملة وقال أنه بات في قصر أحد باشاوات سورية واستغرب من عظمة ذاك القصر كيف لم تكن فيه امرأة تؤنس ربعه وتدخل السرور عَلَى ساكنيه.

وقد وصف مواكب الحجاج من دمشق وقال أنهم مجموعة منوعة من العادات واللغات والقوميات وأن التركي يريد العثماني - والعثمانيون كما قال أكثر المسلمين تأثراً بالمدنية الغربية - يضع عَلَى رأسه منديلاً أبيض مزيناً بالزهور يجعله عَلَى طربوشه ثم وصف الفارسي والعربي وعبابه وأبناء جبل طوروس والتتر من أهل تفليس وأزوف وسباستابول وغيرهم وقال لابد أن يكون بينهم من يملك القصور الفخمة والحدائق الغناء ويعيش عيش الكبراء في الرخاء ومع هذا إذا قصدوا إلى الأماكن الطاهرة يتناسون كل هذا العيش الخضال ويساوون الفقراء من الحجاج في مآكلهم التي لا يوجد منها إلا الجشب الغليظ في البادية وينامون في العراء لا يبالون بحماوة القيظ ولا صبارة القر وعجب الرحالة من قوم لا تربطهم جامعة غير رابطة الإيمان وقال ما أعجب صفوفهم وكتائبهم وهي تسير عَلَى هذا النحو وعجب من وساخة الآسياويين من الحجاج وكيف يتواكلون من صفحة واحدة وفيهم ذو العاهة ولا يأنف الباقون ولا ينكر المنكرون وقال أنه لو كان بعض لك في الغرب لقامت القيامة فالشرقي في نظره لا يحسن النظافة وقال أنه علم من بعض علماء دمشق أن المسلمين لا يحجون كلهم فلو كان من كتب عليهم الحج ستين مليوناً مدة خمس عشرة سنة لاقتضى أن يحج كل سنة أربعة ملايين في حين لا يجتمع في عرفات أكثر من مائة ألف وقال إن إخلاص المسلمين في العبادة يوم يقصدون الحج لم ير مثله في كنيسة القديس بطرس في رومية يوم يحضر المسيحيون من أقطار الأرض في الحفلات العامة ولا في البيع الكبرى القديمة في ساجان دي كومو بوستل أمام ضريح الرسول (الحواري) ولا في لورد من أعالي جبال البيرنيه وهي محج كثيرين ولا في أشبيلية في الجمعة المقدسة ولا في روسيا يوم يأتي فلاحوها المتعصبون يضربون رؤوسهم وجباههم عَلَى بلاط المعابد ولا في أية مدينة مسيحية. وهكذا استرسل في وصف تقوى المسلمين وتفانيهم في إقامة شعائر دينهم نقل بعضه عن أحد علماء دمشق وبعضه مما عليقه عنده وقال أن المسلمين مولعون بلقب حاج أكثر مما أولع أهل المملكة العثمانية بلقب بك أو باشا وفي الكتب أمور حرية بالتدبر فكأن كاتبه مغرم بإظهار فكره في شأن البلاد التي دخلها والمعاهد التي زارها وقد حمد مقامه في فلسطين في أديار الفرنسيسكان ووصفهم بالطبع أجمل وصف.

حياة بابل

ذكرت بعض الصحف العلمية أن التوراة ترجع تاريخ بابل إلى أكثر من سبعة وثلاثين قرناً قبل المسيح وكانت عَلَى عهد ملكها العظيم بختنصر أي قبل الميلاد بستة قرون عاصمة العالم بأجمعه وسكانها خمسة وعشرين مليوناً وهي من الارتقاء عَلَى جانب عظيم جداً وموقع بابل عَلَى الفرات وقد اشتق اسمها حديقة الحدائق من خصبها وأمراعها. دمرها الفرس عَلَى عهد قورش وخلفائه وتركوها أنقاضاً ينعق فيها غراب الدمار وها هي اليوم منذ أكثر من ألفي سنة عبارة عن قفر يجيء بعض العلماء فيستنطقون آثاره ويتعرفون أخباره.

وسكان هذا المكان الذي طالما بكى في أرجائه أبناء صهيون الإسرائيليون هم أناس من العرب الرحالة ولكن ذلك لم يطمس من ذكرى حضارتها معلماً فقد ذكر هيرودوتس المؤرخ أن بابل أخصب البلاد بحنطتها تأتي حبتها مئة وزيادة بيد أن العلم الحديث حل هذا المعمى في خصب بلاد تلك الأصقاع وهو أنه كانت تروى كلها فلو تهيأت لها خزانات وسدود كما كان لها عَلَى عهد سعادتها كما تهيأ لمصر خزان أسوان فروى النيل عشرات الألوف من الأفدنة التي كانت محرومة من السقيا لعاد إلى بابل خصبها المدهش وأتت السنبلة مئة سنبلة وزيادة.

ولقد وقع في ذهن الإسكندر الكبير في آخر عهده أن يعيد إلى ذلك الصقيع بهاءه القديم فأنشأ ترعتي بالأكوبوس والنهروان وطول الواحدة 480 كيلومتراً وطول الثانية 256 كيلومتراً ليجلب مياه دجلة إلى داخل المدينة إلا أن أخلافه غفلوا عما بدأ بعمله فعادت البلاد باهتة خربة وهاان السير ويليام ويلكوكس الإنكليزي قام في ذهنه منذ سنين أن يعيد ما كان بدأ به الإسكندر المقدوني فوضع مشروعاً في الري عَلَى صورة أوفق من المشروع القديم وهو يكلف 750 مليون فرنك ويقسم تلك البقعة إلى ست مناطق تحيا الأولى بعد الثانية وكل ما تم لإحداها أمر سقياها تقوم بنفقات ما صرفته عَلَى أعمال الري فيها وبذلك تحيا الراضي الواقعة عَلَى شاطئ دجلة والفرات فالبذار يزرع في الخريف فترويه الأمطار حتى إذا جاء آذار ونيسان وفاض الرافدان دجلة والفرات تسقى تلك الأراضي بمياههما الصيف كله فهل تتحقق يا ترى هذه الأحلام ويعود لبابل عزها في سالف الأيام أم يبقى أنر ري العراق في عالم الخيال أو كلاماً في كلام.

خمر الشام

اكتشف بالقرب من مدينة بوردو الفرنسية ناووس من القرن الأول للميلاد وشوهدت عَلَى مقربة من هيكل العظام رجاجة مستطيلة وشكلها يخالف شكل الزجاج المعمول في بلاد غاليا وقد حلل العلماء ما فيها فرأوه خمراً واستدل الباحثون أن هذا الخمر من صنع سورية إذ كانت خمرها تحمل إلى جنوبي فرنسا كثيراً ويستطيبها الناس كل الاستطابة وذلك بفضل ما كان من الصلات التجارية المستحكمة القديمة بين بلاد الشام وفرنسا.

المدنية

كتب أحد علماء فرنسة في المجلة الباريزية مقال تحت عنوان هل المنية في ارتقاء أو انحطاط قال فيها: إن الناظرين إلى المدنية فريقان فريق يرى ما فيها من العظمة والمنافع المادية التي سخرها الإنسان لأمره وآخر يذهب إلى أن الارتقاء عَلَى عمومه لا يتأتى له إلا أن يسير عَلَى الدوام سيراً سريعاً. ويرى هذا الفريق الأخير أن كل شيء ينمو من حسن إلى أحسن وأن البشر يبذلون الجهد للوصول إلى هذه الغاية النافعة ويقولون أن العالم ارتقى في مدارج النشوء والنمو حتى صار الإنسان إلى ما صار إليه فورث قوى عاملة وما نشوء نظام الكون إلا نشوء العقل البشري والانقلابات الشديدة تحث اضطراباً مؤقتاً ولكن ينشأ عنها ما يبعث الكفاءات من مرقدها ويضم القوى المبعثرة ويحملها عَلَى أن تتجه وجهة جديدة يستقيم جريها وبالإجمال فالمدنية لا تعود القهقرى ولا تقف في مركز واحد بل هي سائرة عَلَى الدوام بيد أن التاريخ علمنا أن الأعالي تسفل والاستعباد يزول وفكر العظمة والانحطاط متلازمان تلازم الجبال والأودية والليل والنهر والشباب والهرم والحياة والموت.

إنه من المتعذر الوقوف فإما الارتقاء متواصل أو سقوط تام وبقدر الصعود يكون النزول فالولد الذي يكذب مرة يقوى في المرة الثانية أكثر عَلَى التفوه بالأكاذيب فتضعفه أخلاقه عَلَى تلك النسبة ويعود ويرتكب أفظع من ذلك وكذلك الحال في الاجتماعات فإن من يغوي فتاة يغوي فتى وهذان يغويان آخرين ومن تسومح في عقابه من المجرمين يعود فيبث دعوته في العقول ويكثر سواد أصحابه فيكثر في المجتمع الفاسدون.

الرجل المتحضر لا يقابل الرجل المتوحش أي الذي يعيش وحده بعيداً عن المجتمع نعم إن المدنية لا أثر لها إذا فقدت الصلات الاجتماعية ولكن الحياة الاجتماعية تستلزم عادات كثيرة وأشكالاً منوعة من الحياة وأساليب منوعة الصفات والحالات فقد قال اللغويون أن اللغويون أن المدنية هي مجموعة آراء وأخلاق تنشأ من الهمل المتبادل في الصناعات والديانات والفنون النفيسة والعلوم. وزاد بعضهم عَلَى هذا التعريف ما يلحق ذلك من المناحي العديدة في الصلات الاجتماعية كتبادل المحاصيل وتبادل العواطف والأفكار. بل أن هذا التحديد لا يشعر بأن المدنية كذا كاملة فرب شعب ذي مدنية ولكنها جميلة أو قبيحة رائقة أو غير رائقة إنسانية أو ظالمة عَلَى نحو ما يكون للمرء خلق حسن أو رديء فالصناعات قد تكون جميلة أو رديئة والأديان سليمة أو خرافية والعلوم نافعة أو ضارة.

كل شيء يرتقي مع هذه المدنية في مآكلها ومشاربها وملابسها وسائر حالاتها وما ننس لا ننس أن ألفاً وستمائة شخص غرقوا في باخرة واحدة (تيتانيك) وكان منهم من دفع 22000 فرنك أجرة سفره خمسة أيام ونصف يوم ليركب في حال من الكبر والتفخل ليس بعدها غاية. إن الحرص عَلَى هذه المدنية هو الذي أورث أمراضاً وهموماً وأفقد العالم الحياة الطبيعية فكثرت الأمراض العصبية وداء المفاصل والبول السكري وضعف المجموع العصبي بل لقد كثر الجنون حتى أكد أحد العارفين من أطباء الإنكليز وقد هاله تكاثر عدد المختل شعورهم من أمته في العهد الأخير أن إنكلترا سيعادل عقلاؤها مجانينها بعد ثلثمائة سنة.

إن المدنية أتت عَلَى الكثير من محسنات الطبيعة وعادات الأجداد الفاضلة فانتزعت من النفوس وفي هذه الحركة الاجتماعية يقول بعضهم كلما كثر عدد الناهضين يزيد عدد الساقطين. لا جرم أن التجارة ول لم توجد لما عرف الإفلاس ولو لم تنشأ السكة الحديدية لما وقعت هذه الوقائع المزعجة في المصادمات وغيرها ولكن الشعب الأعرق في المدنية هو الذي يقلل من الإفلاس بين التجار وبين المصادمات في الخطوط الحديدية بدون أن يوقف حركة التجارة ولا حركة القطارات بل يفعل ما بينهما ويجعل أعمالهما في مأمن. ومثل ذلك يقال في كل شيء. يقال في التعليم والصحافة وحقوق الانتخاب والمضاربات والأدب والصناعة بل ينطبق عَلَى كل ما في حركة المدنية من قمح وزوان ونظام خلل وجرأة وجبن. إن تغلب الأجسام عَلَى العقول هو انحطاط في المدنية. إن ضعف نظام الأسرة وروابطها واحتقار الخيار والتنصل من التبعات والزهد في التقاليد والخلاص من كل شكيمة ووازع هو دليل انحطاط المدنية.

إننا إلى نظرنا إلى المتمدنين وهم الأقلية في العالم نراهم فيلا معاملة المتوحشين هم دونهم عَلَى ثلاثة ضروب فمنهم من يعاملون من هو الأحط منهم باستثمارهم ومنهم باستعمارهم ومنهم بتمدينهم وهم قلائل جداً فالمستثمرون يبحثون عن مورد ثروة عند الأمم التي يبيعونها مصنوعاتهم والمستعمرون ينقبون عن زيادة ثروة ونفوذ بأن يحملوا بالتدريج الأمم لمنفردة عَلَى الاشتراك بالحياة الاقتصادية والتشبه بالنازلين عليهم وهؤلاء يدوم لهم استعمار الأرض طويلاً بالنسبة لغيرهم. أما الساعون في تمدين أمة فهم الذين يلقنوها معنى الحياة السامية والعمل لما فيه نشر الفضائل والسلام في الأسر وبث الوطنية والدين عَلَى نحو ما كانت تعمل الأمم القديمة في أيام عزها.

ولقد قيل أن فرنسا لم تحسن استثمار من وضعت أيديهم عليهم من الأمم وهذا مما يدعوا إلى مدحها لا إلى القدح فيها وذلك لأن فرنسا ليست من الطمع عَلَى جانب عظيم غيرها وهي رحيمة بمن تغلبهم عَلَى أمرهم. ويقولون أيضاً أنها لا تحسن الاستعمار وفي هذا الكلام شيء من الحق وذلك لأن أولادها ليسوا كثاراً فلا تستطيع أن تبعث إلى القاصية منهم بمن يستحقون اسم المستعمرين الحقيقيين وإنها في البلاد التي أرسلت غليها أبناءها كما هو الحال في الجزائر وتونس قد عملت والثقة ملء صدرها ما تستطيع أن تري أعدائها وأحبابها النقاط الضعيفة منه ومم لا ينكر عَلَى لغتنا أنها كانت ولا تزال في مقدمة من يحمل علم المدنية والتمدين وذلك لأن أبائها يستهينون بالأتعاب ويبذلون قلوبهم وحياتهم لنشر ما يعتقدونه. إن مستعمرينا يعلمون من يستعمرونهم الذوق عَلَى العمل واحترام المرأة والبعد عن المسكرات (؟) ومرسلينا يعلمون السود والصفر تعاليم التوراة يضاف إليها تلقينهم الاعتدال والفضائل البيتية ومثال الإحسان لأنهم يجمعون أيتامهم ويعنون بمرضاهم ويلقنون معنى التوفر عَلَى الزراعة وتربية الحيوانات والبناء ويمهدون السبيل للعاملين. فالمدنية إذا لم تمدن أبداً فإن لها بانتشارها عَلَى هذه الصورة المقام الأول بين وسائطنا في الحضارة فإن من لا يمدن يستعمر استعماراً رديئاً ومن لا يستعمر لا يأمن أن تكون له قدرة عَلَى الاستثمار طويلاً وبالجملة فإن كل أمة لا تحتفظ بسلسلة المراتب في طريق العمل والنفوذ عَلَى أساليبها الثلاثة بل إن لكل أمة تلقي الاضطراب في ذلك تدخل عليها جراثيم من الانحطاط تنمو اليوم بعد اليوم.

ها قد انقضى الزمن الذي كان يعتقد فيه المعتقدون أن لا سبيل إلى الكسب من شعب إلا بإفقاره للمنافسة بين المعطي والآخذ وهذه القاعدة منافية للحقيقة لأن من يفقر رعاياه والتابعين له ومستعمريه بل وجيرانه يفتقر هو أيضاً وما يغني التاجرين في المقايضات يغني المتقاضيين في المدنيات والاستعمار الذي يذل البعض يفسد الآخرين وكلاهما يتأثران منه. شعرت بذلك الممالك الكبرى في القديم وكذلك كان الحال في إسبانيا والبرتقال: نعم إننا نعرف اليوم كيف تضاعف المقايضات والتجارات ولا نطلب أكثر من أن نرى الزنوج يغلون من نبات المطاط لنربح منه ما نبتاع به قطناً كثيراً وأدوات نشغلها. لا نطلب أكثر من أن نرى شواطئ دجلة والفرات وقد أصبحت من الخصب بما تستطيع معه أن توصل في بلادنا عَلَى خطوط حديدية وقاطرات. ويا ليت شعري هل يجد أولئك الشعوب أسباباً تمكنهم من بناء عاصمة كبابل التي كان محيطها المسور يستغرق محيط مدينة باريز وسان ديني وسان جرمان وإذا وفقوا لذلك حفظها زمناً من الانحطاط كما احتفظ بها أسلافهم. إن أول قدم يخطوها السائر نحو المدنية هو إصلاح الأسرة وإعداد طبقة مختارة من الأمة وتكثير عددها وتجديد أعمالها وما السلام إلا في البيوت والمدن والمعابد وعند الأمم ومتى أثبتت الأفعال أننا بلغنا الغاية فيها يتيسر لنا أن نقول أن من ينشأُ في ارتقاءٍ.

جراثيم البيض

يقول العارفون أن البيض النظيف عقيم لا ينقف وأن البكتريا لا تدخل إلا في البيض المشقوق أو المكسور الذي تكون قشرته ملوثة بالأوساخ ممسوسة بالأيدي وبفتح البيضة يدخلها الهواءُ وقد تدخله الجراثيم الضارة فالأجدر بربات المنازل أن تتحامى استعمال البيض المكسر ولو كانت طرية لأن من استعمالها قد تنشأُ مضار ولا يخشى البيض إذا كان خارجه سليماً من الوسخ والماء الغالي. فالبيضة التي تؤكل نصف مسلوقة عَلَى الصورة المذكورة لا يخشى من تناولها.

نبات السود

خاضت المجلات العلمية بالنبات البديع الذي يكثر في النيل الأزرق والنيل البيض ويسمى السود ولم يعرف أحد يحسن الانتفاع من هذا النبات حتى الآن حتى قام عالمان ألمانيان وأثبتا أنه ينفع للوقود بدل الفحم وذلك بأن يقصل ويجمع كالقش حزماً ويحمل في النيل ولا يلبث أن ينشف ويقطع ثمن كل طن ثمانية وعشرين فرنكاً في حين تباع مثل هذه الكمية من الفحم بمائة وأربع فرنكات ويرجي باستنبات هذا النبات والاستكثار منه أن يكون ثمنه أرخص من ذلك وقد أُنشئ في الخرطوم عاصمة السودان أول معمل لإحضار هذا النبات الذي يخدم الصناعة خدماً كثيرة.

أضخم الكتب

قالت المجلة تملك المكتبة الملوكية في استوكهلم كتاباً مخطوطاً عرف باسم توراة الشيطان ويدعى أيضاً مارد الكتب بسبب حجمه العظيم فإن طوله 90 سنتمتراً وعرضه 50 ويقتضي ثلاثة رجال لحمله ويحتوي عَلَى 390 صفحات ينقصها 7 صفحات وفي كل صفحة عمودان وقد حسبوا ما اقتضى لهذا المخطوط من الرق فكان جلد 460 حماراً. وجلده من البلوط الفارغ سمكه أربعة سنتمترات ونصف وله لسان من المعدن.

وفي سان فرنسيسكو بأميركا كتاب يعد من مردة الكتب أيضاً وهو الذي عرضته تلك المدينة أيام معروضات كليفورنيا ليكون سجلاً توضع عليه أسماء الزائرين الذين بلغوا 135 ألفاً وضعوا تواقيعهم عَلَى سبعة آلاف صفحة. وطول كل صفحة 775 سنتمتراً ووزنه 250 كيلوغراماً.

نفقات حرب عامة

حسب الأستاذ شارل ريشه ما تكلفه حرب عامة إذا نشبت في أوربة فكانت كل يوم 274 مليوناً ونصف مليون من الفرنكات تنفقها الدول العظمى فقط.

نجاح أميركا

كانت رؤوس الأموال التي وضعتها الولايات المتحدة منذ سنة 1900 إلى 1910 في الأعمال الزراعية فقط 20439000 دولار فبلغت 40991000 دولار أي أنها تضاعفت وتجاوزت رؤوس الأموال التي وضعت في المشاريع الزراعية في العشر سنين المذكورة من 8975000 دولار إلى 18429000 دولار أي زادت عن الضعف أما الأموال التي استخدمت في السكك الحديدية فكانت سنة 1900 1263000 دولار فأصبحت سنة 1910 1437000 فتأمل.

جرحى الحروب

قالوا أن الخرطوش في العهد الجديد يقل القتل به أكثر من الخرطوش قديماً ولكن الإحصاء دل عَلَى خلاف ذلك فقد قتل في حرب ألمانيا سنة 1870 واحد من كل خمسة أشخاص واليابان في منشوريا قتل لهم واحد من كل ثلاثة فقد كان المحاربون الألمان عَلَى ذلك العهد 650 ألفاً فبلغ مجموع جرحاهم 116 ألفاً ومجوع محاربي الروس 590 ألفاهم فبلغ جرحاهم 170600 واليابان في منشوريا 540 ألفاً جرح منهم 220 ألفاً.

مالية الدولة العثمانية ها قد مضى زهاء نصف قرن عَلَى عقد الدولة العثمانية قرضاً لها وذلك عَلَى عهد حرب القريم فكثرت سنداتها في العشرين سنة التالية في أسواق الشرق ولما بهظتها ديونها توقفت سنة 1876 عن الدفع خمس سنين تألفت إدارة الديون العمومية فكان أول حجر أساس المالية العثمانية. وبمناسبة الحرب بين الدولة وحكومات البلقان الأربع كثر تحدث الاقتصاديين في مالية دولتنا وهاك خلاصة ما قالوه مؤخراً قال بعضهم:

لا تزال مواد القراطيس العثمانية في أسواق غريزة ويؤخذ من الخزينة العثمانية الأخيرة أن الدين العثماني الموحد كان في أول آذار الماضي 126 مليوناً و9391 ليرة يضاف إليها مليون ليرة اقترضته بلدية الآستانة والشطر الرابع من قرض ولاية بغداد وهذا بيانه: 50. 146. 757 الدين الموحد والسندات 18. 275. 620 دين مضمون بجزية مصر وقبرص 2. 319. 944 قرض تتناول ضمانته مباشرة 30. 763. 414 قرض مضمون بدخل صندوق الدين 24. 603. 656 قروض تديرها الحكومة.

وينبغي أن يحذف من هذه القروض قرض سنة 1855 وفائدته 4 في المئة وقرض 91 وفائدته 4 بالمئة أيضاً وقرض 94 وفائدته 3 ونصف بالمئة لأن هذه مضمونة بجزية مصر وزيادة دخل جزيرة قبرص وهي من أضمن القروض في نظر حملة القراطيس.

ثم أن قروض 93 و94 تدفع شركة حصر التنباك وشركة السكك الحديدية الشرقية ضمانتها للمصارف مباشرة وعليه يكون الباقي قرض الموحد العثماني وقروض سندات اليانصيب العثماني وهذا قد خص بهما بموجب أمر سلطاني بعض الموارد كالثمغة ورسوم الكحول والحرير والملح والدخان يتولى إدارتها صندوق الديون العمومية وقد أربى الدخل كثيراً عَلَى النفقة اللازمة للصندوق والأسهم.

ففي سنة 1910 إلى 1911 بلغ دخل صندوق الدين 5 ملايين و61. 335 ليرة أخذ منها لنفقات الإدارة 964. 237 ليرة وبقي 4 ملايين و97. 091 ليرة يؤخذ منها لاستهلاك الأسهم المخصصة بهذه الموارد ولدفع سندات اليانصيب مليونان و157. 375 ليرة فتكون زيادة الدخل مليوناً و939. 723 تعطي الحكومة الثلاثة الأرباع والربع الآخر يعطى لخزانة صندوق الدين.

هذا ويظل الدخل أكثر من النفقة ولو حذفنا نقص دخل الصندوق من الولايات التي احتلتاه الحكومات البلقانية فقد جاء في الكتاب الذي قدم للسفراء في شهر ك1 الماضي أن معدل دخل تلك الولايات في العام 713051 ليرة يضاف إليه مبلغ 48990 ليرة من أثمان الملح فيكون المجموع 762005 ليرات أي عبارة عن 22 بالمئة من مجموع الدخل وإذا افترضنا نقص الدخان من هذه النسبة كان مجموع النقص مليوناً و48305 ليرات وقد ذكرنا قبلاً أن زيادة دخل الدين الصافية هي مليون و939723 ليرة وعليه تكون الزيادة الباقية حتى بعذ حذف دخل الولايات التي يحتلها البلقان 865418 ليرة.

وقال بعضهم: لا ينكر أن الدولة العلية بفقدها الولايات الأوربية قد خسرت 20 في المئة من دخلها لكن من عرف أن هذه الولايات كانت تستهلك في السنوات الثلاث الأخيرة 23 في المئة من مجموع نفقات السلطنة يرى أن خسارة مدخولها لا تؤثر في حال الخزينة. ثم أن الحرب الأخيرة لم تضطر العثمانية إلى أن تنفق أكثر مما كانت تنفقه عندما كان لها 60 ألفاً من الجنود في ألبانيا لإخماد ثورتها و50 ألفاً في أزمير ومن 60 إلى 70 ألفاً في طرابلس الغرب ومثلهم في اليمن ولم يتأخر رعايا الدولة عن دفع الأموال المفروضة عليهم حتى أن زيادة الدخل في بيان نظارة المالية الأخيرة بلغ 2. 509. 731 ليرة عثمانية وبلغ مجموع ضريبة الحرب في شهر واحد 422. 495 ليرة عثمانية. وعليه إن الحكومة العثمانية تحتاج إلى المال فما ذلك إلا لسد العجز السابق.

مدارس الفلاحة في الدانيمرك

نشرت المجلة الفرنسوية مبحثاً مهماً تحت هذا العنوان بقلم العقيلة لونر كروبي فآثرنا ليضم إلى ما سبق لنا نشره من نوعه في سني المقتبس السابقة قالت الكاتبة: عَلَى شاطئ بحر البلطيق بلاد صغيرة سعيدة وأعني بها الدانيمرك التي تضاعفت تجارتها الخارجية في الخمس عشرة سنة الأخيرة لتوفرها عَلَى استثمار أرضها وقيامها عَلَى تربية الماشية حتى أصبح لديها الألبان دافقة كالسيل المنهمر وجمعت بواسطة معامل اللبن منها ما تجعله جبالاً من الزبدة والسمون ترسله إلى إنكلترا فتتناول أثمانه ذهباً وهاجاً. تقسمت في هذه البلاد الثروة تقسيماً كثيراً ومع هذا لا ترى الفلاح يعجز عن القيام بالأعمال الكبرى التي يقتضي لها رؤوس أموال عظيمة قد تألفت شركة تعاون ضمت إليها نحو تسعة أعشار أرباب الأراضي وغدت البلاد تستثمر بأدق قواعد العلم الحديث فيحلل اللبن مرتين في الشهر في معامل التحليل التي تشعر صاحب الملك بأقل تغيير يحدث في حالته وتبين له ما يجب إدخاله من التعديل في تغذية الماشية. وبهذه العناية والحذق في اختيار أجناس البهائم أصبح معدل السنوي للبقرة الدانيمركية يزيد عن واحد من خمسة في خلال العشر سنين الأخيرة.

وهكذا تفحص التربة أيضاً فحصاً في المعامل ويجري إصلاحها عَلَى هذا النحو والفلاحون هم الذين يتولون أعمال هذه الشركات بأنفسهم يحاسبون أربب الأملاك ولا يقع حيف عَلَى أحد ولذلك لا تقام دعوى ولا يحد خصام بينهم. وهؤلاء الفلاحون العاملون عَلَى غاية الأخلاق يرأسون بيوتاً وأسرات وكل ولد يولد لهم يكون مادة رزق جديدة ودرجة تعلمهم أرقى من عملة المدن بل أرقى من أهل الطبقة الوسطى. فتجد لكل قرية حتى الصغرى منها قاعة لإلقاء المحاضرات يتباحث فيها الفلاحون عَلَى الدوام في المسائل الاجتماعية والزراعية السياسة والدينية وأحياناً تجد لكل قرية قاعة للاستحمام وداخل بيوتهم عَلَى غاية من الذوق والنظافة. والفلاح الدانيمركي المتعلم يفهم المصالح الاقتصادية فيدل عَلَى ذكاء وبعد نظر في مستقبل بلاده الذي هو في الألبان والسمون والبيض. وقد استطاع الفلاحون الدانيمركيون الذين يؤلفون السواد الأعظم من الأغنياء وأرباب الأملاك أن يقبضوا بذكائهم عَلَى قياد بلادهم وأن يكون لهم في مجلس النواب الأكثرية المطلقة التي تتصرف بالبلاد كما تريد وتتولى مناصب الحكومة وكم من فلاح يبحث في أعوص المسائل فيحلها في حقل عقل وتجارب. فالفلاح الدانيمركي وحيد في هذا الباب في أوربا بفضل التربية التي ربيها أولئك الفلاحون في المدارس العليا فدخل فيها 47 في المئة من مجموع السكان وتلقنوا التربية العقلية والأخلاقية اللازمة للحقول. وما القائمون بالشركات الزراعية إلا تلامذة تلك المدارس التي بنيت بأموال الفلاحين فهي مدارس خاصة يبذل لها الفلاحون عن سعة مع ما عرف به الفلاح من الاقتصاد في كل هذه البلاد. ولذا ترى كل كورة من كور الدانيمرك أن من موجبات شرفها أن يكون لها مدرسة عليا ومن لم يدخلها في عرف الفلاحين يكون من الطبقة الدنيا ليس له من أسباب الشرف لا قليل ولا كثير.

أنشئت المدرسة العليا في الدانيمرك ممثلة لأفكار ممثلها غروندفيج الذي عاش من سنة 1783 إلى 1872 ولقب بنبي الشمال وبروحه قامت وارتقت وإنك لترى إلى اليوم في المدارس التي أحدثها خطبه وأشعاره وكتاباته تقرأ وتشرح باحترام يوازي ما تقرأ به التوراة وتفسر به. حتى أن الأساتذة يرون أن من الواجب الاحتفاظ بتعاليمه وإنك لترى صورته معلقة في كل قاعة من تلك المدارس وهو شيخ يجري أبيض اللحية كبيرة السحنة تظهر عليه الشهامة والنشاط.

وكان هذا الرجل من بيت أدب وعلم وكتب في التاريخ والأساطير والشعر القديم والتراجم ما بلغ ثلاثين ألف صفحة وهو عمل عظيم حتى عَلَى من عاش 91 سنة مثله ممتعاً بصحته وتقواه. وكانت أمه من بيت علم وأبوه واعظاً دينياً فتعلم من والدته في صباه حب القديم والميل إلى القصص ولطالما غنت له الأغاني الوطنية والأناشيد الدينية التي كان بها في حياته الفرد المقدم فأصبح شاعراً بما لقنته إياه أمه من الشعور وبواسطة الأناشيد الدينية التي ينشدها الفلاحون كل يوم أثر في أفكار فلاحي بلاده وتعلم اللاتينية وكان يحمله معلمه عَلَى الاختلاف إلى بيوت الفلاحين فاستفاد من هذه الزيارات أكثر مما استفاد من دروس النحو والصرف فتعلم كيف يحب الفلاح وكان إذ ذاك عَلَى غاية الفقر وشعر بتنمية حبه للطبيعة والخلاء مما كان أحد مصادر شعره. لبس ثياب الوعظ وانخرط في سلك المبشرين وبعد سنين خلع ثيابه وذهب إلى لندرا فأثرت هذه الرحلة تأثيراً شديداً فيه إذ لم يكن قبلها يعيش إلا عيش الكتب والدفاتر فأخذت نفسه بما رآه في الإنكليز من الحياة العملية والنشيطة وما خصوا به من الذوق في الرياضات الطبيعية وتأصل فيهم حب الاستقلال الشخصي ولاسيما ما عرف عن مدارسهم من حيث إعداد الخلاق شبانهم ورجع من هذه السياحة والشمس في عينه وعالم جديد في قلبه وأخذ ينسج في أشعاره باللغة الدانيمركية الدارجة عَلَى مثال قدماء شعراء الإنكليز وهي ترمي إلى أنه ليس من شعور وطني بدون شعور ديني وأن الأدوار التاريخية التي خلت من الإيمان هي أدوار لا مجد لها وكل يقظة مسيحية هي يقظة وطنية وعلى هذا المحور يدور المترجم به في أشعاره وكتاباته كلها وأعماله الاجتماعية ولقد صرح في إحدى المجتمعات أنه من العبث أخذ السلاح للدفاع عن الوطن إذا لم يكن المرء متشبعاً بالشعور الديني. فمن ثم كان يرى إثارة الشعور الوطني والإيمان في مدارسه الجديدة.

وفي سنة 1832 نشر لأول مرة في مقدم كتابه الميثولوجيا الكبرى فكرة مدرسته وفي سنة 1844 في اجتمع حضره بضعة ألوف من الفلاحين الوطنيين خطب القوم فأثرت خطبته في النفوس فراح وهو عَلَى أبواب الشيخوخة يعزي نفسه بأنه سيرى أعماله تكلل بالنجاح ولو كان في هذه السن إذ له أسوة حسنة يستوف كولمب الذي ذهب ففتح العالم الجديد وقد ابيض فوده وعارضه. دعا بخطابه امته إلى إحياء الشعور الديني والوطني وإن أنقى مصادر الحياة العقلية والأدبية يجب أن تكون منه عَلَى طرف الثمام تتناولها عَلَى أسرع وجه وأن ينشأ في المدارس الجديدة تعليم حي عصري وطني لنسى الدانيمرك ما أصابها من المصائب والهزائم وانسلاخ أراضيها وانفصال النروج عنها وضياع مقاطعة شلشويق وكانت الدانيمرك تشعر بحاجتها إلى النهوض وأن تدافع عن الفكر الوطني في النفوس لأن تيار الشعور الألماني يدفق عليها فاقتضى لها أن تحمي حمى لغتها الدانيمركية وعلى هذا الفكر أنشئت مدرسة روديج التي أصبحت بعد كلية أزوف ومنها انبعث نغمة الوطنية الدانيمركية واللغة الدانيمركية ورأى غروندويج في مدرسته أن تجري عَلَى غير الأسلوب الفني المتعارف وأن يقصد منها تربية العقول وتفتح أمام التلاميذ كل السبل الجديدة ويقوي الشعور الوطني والديني والأخلاقي والجمالي ويعلم وطنيين مستنيرين مستعدين إذا خرجوا من بيوتهم أن يتعلموا الزراعة أو صناعة أخرى ولذلك سمى مدارسه كلية الشعب تعلم تعليماً جديداً ولا تخول المتخرج منها امتيازاً ولا تعطيه شهادة. فلم يطلب هذا الرجل من مدرسته أن تخرج تلامذة عَلَى النحو الذي تخرجه مدارس الحكومة فيمتاز متخرجها بما ناله من الدرجة بين أقرانه ومجتمع أخوانه بل يكون من تخرج منها عَلَى استعداد للرجوع إلى المكان الذي غادره ولكن بروح غير روحه الأولى.

أفق غروندويج ونجح وإخفاقه لم يزده إلا مضاءً حتى بلغ عدد مدارسه العليا من سنة 1864 إلى 1904 (71) مدرسة ولطالما شكا من أن الأشعار التي نشرها محتذاة من الإنكليزية أو من اللغة الدانيمركية القديمة لم تؤثر إلا في طبقة مستنيرة من الشعب في حين يؤثر أن تراها تفعل في عقول الفلاحين ولكن نفعت في إحياء لغة القوم عَلَى نحو ما نفعت كليات الحكومة ومدارسها عَلَى أن تلك الأشعار لم يكن يمض يوم ولا ليلة إلا وتنشد في البلاد اشتركت في الإقبال عليها مدارسه ومدارس الحكومة وكنائس الدانيمرك وأديارها.

يبقى التلميذ إلى الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة من سنه في المدرسة يتقن فيها اللغة الدانيمركية ثم يعود إلى المدرسة العليا فيزيدها إحكاماً كما يبالغون في تعليم التاريخ الدانيمركي وبذلك انبعثت الوطنية الدانيمركية من مرقدها ولا يسأل كل تلميذ في مدارسه سوى سؤالاً بمفرده بل يوجه إلى التلاميذ كلهم سؤال واحد يجيبون عليه ومدارسه تدفع أجورها وأجرة كل تلميذ من 200 إلى 250 كوروناً (الكورون فرنك واحد وأربعون سنتيماً) ويجتهد المعلمون أن لا يضغط التلامذة عَلَى أولادهم ويضطروهم إلى الذهاب للمدرسة حتى المعلمين إذا رأوا التلميذ يريد الهرب يفتحون له الباب ولا يسألون عنه عَلَى أن ذلك من النوادر.

وصف غروندويج فكر مدرسته بما يلي: يجب أن تحسن تعليم التلامذة معنى الحياة البشرية وطبيعتهم الخاصة وأن يلقنوا الفروض المتجثمة عَلَى الوطني ويعرفوا واجبات الوطن وأن يؤثر فيهم ببسيط الكلام فيعلمهم التاريخ والإنشاد الحي والإعجاب بما هو عظيم وجميل وبالاجتماع يلقنهم العمل المتبادل المشترك والابتهاج السليم واللذة واللعب.

وقد قاوم طريقته كثير من أهل العلم والطبقة العليا والفلسفة في بلاده وقالوا أن طريقته تخرج تلامذة محدودة عقولهم في حين يجب تعليمهم تعليماً أوربياً يحتوي أموراً كثيرة ولطالما هز بهذه الطريقة الفيلسوف العظيم كيركجارد وقال عبثاً يحاول غروندويج نشر التعليم عَلَى هذا الأسلوب ولذا أخفقت طريقته في المدن ولم تجد لها مكاناً إلا في قلوب الفلاحين وهذا ما كان يتناغى به صاحبها.

ز رت إحدى مدارس الفتيات عَلَى طريقة غروندويج في فريدريكسبورغ وفيها مائتا فتاة وكان الوقت شتاءً وفي الشتاء تعمر المدارس لأن الحقول لا عمل فيها فرأيت الدار ساذجة لا زينة فيها ولكنها البهجة بين النضرة والخضرة والنباتات المعرشة ويدخل الهواء العطر من النوافذ المفتحة والتلميذات يستمعن إلى ما يقلى عليهن من المنبر وهن في الغالب لا جمال لهن بل هن شقر الوجوه والشعور فيهن ظرف ولطف وحسن صحة وكلهن عَلَى غاية من النظافة وحسن الهندام ويلبسن فساطين من القماش الزاهي. وهن من طبقة لا تجد فيهن شريفة ولا من بنات الأعيان بل هن أجيرات في الحقول والمزارع وخادمات وترى أيديهن مسمرة عَلَى نحو مما تشاهد أيدي كل الفتيات في بلاد السكندنافيا حتى تلميذات الكليات العليا لأنهن عرفن بحبهن للرياضيات البدنية فيتلو عَلَى مسامعهن الأستاذ قطعة في تاريخ الدانيمرك كوصف معركة فريدريسيا التي قضى فيها القائد ري وكان فيها الظفر مؤقتاً وعقبه ضياع مقاطعة شلشويق هولستاين ويذكر الخطيب تذكارات مؤلمة وقد حضر الاجتماع مستمعات من مقاطعة شلشويق عَلَى الرغم من حظر الحكومة الألمانية عليهن الحضور. حضرن ليأخذن ما لا يتيسر لهن في مقاطعتهن من الآداب الدانيمركية فكن موضوع التأثر كما كان كلام الخطيب وانكفأن كلهن يبكين وينتحبن ويرفعن أصواتهن متأثرات ولاسيما عندما يختمن الجلسة بإنشاد النشيد الدانيمركي القديم وبعد ساعة عادت البهجة إلى المدرسة إذ انتقل الفتيات إلى قاعة الألعاب الرياضية لهذه الألعاب في هذه المدارس العليا كما هو في جميع سكندينافيا مكانة عظمى في حياة كل فرد عَلَى نحو ما يرى في الألعاب الأولمبية في استوكهلم. ومنذ عشر سنين زاد الإقبال عَلَى الرياضات الجسمية حتى أنك لتجد العملة والمستخدمين والفلاحين ذكورهم وإناثهم يعمدون إلى التريض بعد عملهم واقتنع القوم بفائدة هذه التربية الطبيعية حتى أخذ كثير من أساتذة الألعاب الرياضية في الدانيمرك يلقون دروساً مجانية في الليل عَلَى من يريد إنسانية منهم ووطنية. ومن عرف أن هؤلاء الفتيات يصبحن بعد أمهات وتلد الواحدة من ستة إلى ثمانية أولاد وهي في صحة تامة يوافق بأن للألعاب الرياضية مكانة وطنية حقيقية. وكما أن للعب مقاماً سامياً في المدارس العليا للبنات فكذلك الإنشاد والغناء يروحن ب نفوسهن ويتعلمن الأفكار السديدة بما يتسرب إليهن من الحكم خلال النغم. ويتعلمن بالإنشاد الصوتي كيف يكون النظام والاجتماع وما أناشيدهن إلا مظهراً من مظاهر حسن أخلاقهن وصحتهن واتفاق إرادتهن ومتى انتهت الرياضة يتفرقن في الحديقة فيأخذ بعضهن يخيط وأخريات يقرأن وغيرهن يركبن الدراجات وهي الرفيقات التي لا تفارقها المرأة الدانيمركية. ولا يشتغلن بالحديقة لأن مؤسس هذه الطريقة كان يرى أنهن إذا تعاطين هملاً يدوياً لا يبلغن العمل العقلي إلا وهن متعبات. ويدققن في هندامهن ولا شيء يحول دونهن أو يحظر عليهن فحريتهن تامة مطلقة يعشن مع أساتذتهن ومعلماتهن وأسرات معلميهن ومعلماتهن عيشاً بيتياً مشتركاً لا شيء يشق عليهن ويحسن استعمال ما يخولن من الحقوق. قال أحد أساتذة هذه المدارس أنني قضيت حياتي برمتها في هذه البيوت فلم أسمع فيها قط كلمة هجر تنافي الأدب ولم أشهد خصاماً رديئاً وهذا ناشيء من شيئين وهما امتياز هذا الشعب الوديع اللطيف المعتدل واللسان المهذب الذي يستعمله الأساتذة منذ أول يوم مع التلاميذ والتلميذات فيبلغون به شغاف القلوب ولامرأة مدير المدرسة تأثير في جعل حياة الفتيات مفرحة لطيفة والمدير يكون مستشار الأسرات عَلَى كثرتها لأن أولادهم درسوا في مدرسته.

أما مواد التعليم فتدور عَلَى التاريخ والجغرافيا وعلم الأدب واللغة الدانيمركية والرياضة البدنية وحفظ الصحة والاقتصاد الاجتماعي ومبادئ التاريخ الطبيعي والنفسي والكيمياء وتعطى دروس خاصة لم يتأخرن وهم نوادر في نفوس النحو والحساب وإذ كان من الصعب في بضعة أشهر من السنة تعليم مختصرات من هذه العلوم دع المطولات كانت الدروس تلقى بصفة محادثات تنبه شعور التلميذ وتبعثه أن يدرس بواسطة المكاتب العامة المملوءَة بأنواع الكتب كل ما يغلب عليه من الفنون وتكون المحاضرات مما يعين عقله عَلَى التفكير والعمل ولذلك كانت المسامرات والأحاديث التي يلقيها القائمون عَلَى تلك المدارس منوعة الأساليب. وشخصية المدير تؤثر في إدارة المدرسة بنوع خاص فمن المديرين من يغلب عليه التاريخ فيخاطبون العواطف في طلبتهم ومنهم من تغلب عليهم الاجتماعيات فيخاطب العقل ومنهم الدين ومنهم العلم فالتعليم منوع الأساليب ويرجع إلى دائرة واحدة. وتقبل بعض المدارس تلاميذ من كلا الجنسين اللطيف والنشيط وقد أكدت مدرسة أسكوف وفيها أربعمائة تلميذ وهي في مدينة وعليها شيء من مسحة الارستوقراطية أن تعليم الجنسين قد أسفر عن نتائج حسنة عَلَى نحو ما أكد غيرها من المدارس التي اتبعت هذه الطريقة وبين معلمي مدارس الحكومة ومعلمي هذه المدارس صلات كبرى ومن أو لئك من يحضر دروس معلمي المدارس العليا عملاً بقاعدة مؤسسها من أن التعليم العلمي عند من أخذوا أنفسهم بتعلم الأدب وتمحضوا له يضل جادة الصواب أن لم يشفعه تعليم حالة الشعب فيتعلم المتعلم الحياة ويقف عَلَى الحركة الحاضرة قال وهكذا الحال في التعليم الأهلي فإنه يفقد مكانته عَلَى أسرع ما يمكن ويكون قشوراً ل لباب فيه إن لم يمزج عَلَى الدوام بالدرس العلمي.

يعيش المعلمون في هذه المدارس مع أسراتهم ويذهبون خلال العطلة المدرسية وهي ثلاثة أشهر في السنة إلى جميع أماكن الاجتماع. يختلفون إلى الأعياد الدينية والمحاضرات والأسواق الكبرى وإلى كل مكان يعلمون أن أناساً فيه يجتمعون فيتكلمون عن مدرستهم ويدعون الفلاحين إليها في الخريف. وبذلك يستكثرون من الطلبة والحكومة لا تراقب هذه المدارس وتدفع لكل واحدة أتى عليها ثلا سنين إعانة نقدية من 3 إلى 4 آلاف كورون والمعلمون من الطبقة الراقية في علمهم ويكونون في الغالب ممن شعروا بميل إلى صناعة التعليم وهم في سن العشرين ولهم اجتماعات ونقابات فلا يدخل في سلكهم ضعيف ولا ساقط في فضائله وعلمه والشعب يعرض عن كل من لا يسوغ أن يتولى تربية بنيه ممن عرف بالإلحاد ولم يترب بآداب الدين. وفي كل سنة تدعو المدرسة من تخرجوا في مدارسها من الفتيان والفتيات وأسراتهم فيأتون من كورتهم مسرعين يصرفون اليومين والثلاثة في الغناء والرقص وسماع المحاضرات ومن كان منزله بعيداً ينام في المدرسة.

وبهذه الطرق التي تعمد إليها المدارس العليا وفقت للتأثير في الأفكار فصار الفلاحون في الدانيمرك ألف كورون وأعطيت لمدير المدرسة لقاء وصل بسيط يتصرف فيها كما يشاء نعم إن المعلمين والمديرين يعيشون عَلَى ما يجب في هذه المدارس التي نجحت بأفضالهم وفضائلهم فأخذوا يحتكون بالفلاح عَلَى حين تجد أمثالهم في الممالك الأخرى قد يترفعون عنه واستماتوا في تربية الشعب فبذلوا كل قوتهم وبإرادتهم المتجمعة ودعواتهم التي لم يملوا من بثها نبهوا الفلاح الدانيمركي من غفلته التي كان فيها منذ قرون. وكل بلد يقوم فيها مثل هذا النشاط تخصب في ربوعها العلوم والآداب لا محالة.

مدينة لا ذباب فيها

أجمعت الآراء عَلَى ضرورة قتل الذباب ولكن لم يظفروا حتى الآن بالطرق للخلاص من هذا الضيف الثقيل المخطر الذي ينشر جراثيم العدوى بدخوله في كل مكان وتلقيحه في كل مادة مضار عدواه. وقد وضع مؤتمر الصحة في ولاية إنديانا إحدى الولايات المتحدة قاعدة أوصى فيها بإبادة هذه الآفة وهي اقتلوا الذباب بأي صورة كانت ولكن اقتلوه جملة يرددونها في كل صفحة من صفحات كتاب الصحة. وكانت مدينة ويلمنتون في أركانساس أكثر البلاد ابتلاء بهذه الهوام تنشر من الأوبئة أشياء منها فعمد رجال الصحة فيها إلى استعمال الأدوية كلها للوقاية فيها فخابت مساعيهم. وقد قررت لجنة خاصة أن الواسطة الوحيدة أن تطهر أماكن العدوى وأن يحارب الذباب بكل حيلة فعهدت البلدية إلى أحد الأخصائيين أن يعد دواءً ناجعاً للقضاء عَلَى العفن فأكثر في المدينة من حب حمض البيرولنجين ويحدد رشه أربع مرات في النهار ودامت هذه الحرب شهراً فلم يبق بعده أثراً لهذا العدو الهائل وتخلصت المدينة من الذباب فخفت حمى التيفوس بذلك عَلَى التدريج وجادت الصحة أي جودة وبذلك يفهم أن الحكومات إذا أرادت أن تعمل الحسن للأمم توفق له مهما كان صعب الطريقة.

نادي المعمرين

أنشئ حديثاً في طوكيو عاصمة اليابان ناد للشيوخ الذي لا يقل عمرهم عن التسعين سنة برئاسة الكونت إوليما الياباني ويقال أن بين من يضمهم النادي الآن اثني عشر عضواً عمر الواحد منهم 110 سنوات وقد قيل شبيه الشيء منجذب إليه. إن الطيور عَلَى أشكالها تقع.

إزالة الحبر عن البسط

إن أسهل طريقة يمكنك بها إزالة الحبر عن الطنافس أو البسط أن تأخذ شيئاً من الملح الناعم وتذره عَلَى الحبر وتى اسود الملح ترفعه وتضع غيره مكانه.

أحياء الأزهار ميتة

إن الطريقة لإحياء الأزهار بعد ذبولها هي أن تقطع قليلاً من أصولها ثم تغمس هذه الأصول في ماء يغلي فالحرارة الشديدة تنبه الزهرة تعد إليها الحياة التي أوشكت أن تفقدها وتجعلها كأنها مقطوفة منذ هنيهة.

أكلة الخبز

في الإحصاءات الأخيرة أن كل دانيمركي يأكل في السنة 287 كيلوغراماً من الخبز والبلجيكي 274 كيلوغراماً والفرنسوي 234 والسويسري 212 كيلوغراماً والألماني 209 كيلوغرامات والإسباني والنمساوي 195 كيلوغراماً والإيطالي والبرتقالي 102 كيلوغرامين. أما العربي فليس له محل من الإعراب في هذا الإحصاء ولعله من أكثر الأمم تنازلاً للخبز إذ ليس عنده الآن إلا الخبز القفار وربما جاء زمن لا يحصله فيكتفي بأكل البقول والثمار.

ثروة سويسرا

أحصى الأستاذ ستيجر ثروة سويسرا عَلَى وجه التقريب فكانت نحو 14528 مليون فرنك وأغنى مقاطعاتها مقاطعة برن التي بلغت ثروتها العامة 2444 مليوناً ثم مقاطعة فود 1742.

نساء فنلندة

تبين بالاستقراء أن المرأة في فنلندا لما صار له شأن في توظيف الشرطة في بلادها قل الفجور بل كاد يقضى عليه كل القضاء وذلك أن من وظيفة الشرطيات الفنلنديات أن يسهرن عَلَى أخلاق الفتيات وأن يسعين في إيجاد أعمال ومحال يأوي إليها المهملون أو اللقطاء والعجائز.

العناية بالمرأة

لما كان للمرأة بولاية كولورادو في الولايات المتحدة حق الانتخاب كالرجل منذ زمن طويل فقد وفقت إلى وضع قانون لحماية الأمومة في البلاد ذلك أن كل الأمهات اللائي لا مورد لهن يعشن سواء كن عازبات أو متزوجات أو أيامى يقبضن من خزانة الحكومة معاونات مالية مهمة تسمح لهن بتربية أولادهن عَلَى ما يجب.

الأنسجة الجديدة

آخر الأزياء الجديدة من ألبسة النساء الفساطين المصنوعة من الخرز المنسوج الذي يشبه الحرير بلمعانه ومرونته وقد اخترع هذا النسيج في النمسا وألوانه عَلَى غاية من اللطف تختلف بين الأبيض والأخضر والوردي والبجلي (الليلكي) والأصفر وله لمعان كلمعان الماس. وتصنع أيضاً أقمشة من ألياف معدنية معمول من أحجار ليفية لطيفة عَلَى اللمس جداً ومتينة للغاية. ولهذه الألبسة امتيازاتها يمكن تنظيفها عندما تتجعد أو تتسخ ويكفي لذلك أن تكوى. ويصنعون أيضاً جوخاً يدعونه جوخ الحديد يستعمله الخياطون لعمل قبات الثياب. ويعمل هذا الجوخ من الصوف المعمول من الحجر الكلسي وهذا الحجر يمزج ببعض المواد الكيماوية وينشف في تنور أو يطلق عليه مجرى هواء شديد الحرارة فيستحيل إلى مادة بيضاء صوفية تكون عند إخراجها من التنور ملونة الأشكال معمولة طويلة وقصيرة عَلَى نحو ما يعمل الجوخ والثوب أو السروال المعمول من هذا الجوخ الحديدي لا يتلوث بلوثات من الدهن ومرونته تشبه مرونة أدق صوف الماعز. ومن جملة الأصناف الجديدة من هذا النوع نسيج الورق أو الحطب أو القنب فإن نسيج الورق قد خدم اليابانيين خدمة نافعة خلال حربهم مع الروس وهو أحسن ما يكون لصنع الأزياء العسكرية الرسمية وتعمل منه اليوم فساطين للسهرات وألبسة للحمامات وأن مدينة طوكيو عاصمة اليابان لتصدر إلى إنكلترا وألمانيا وفرنسا كميات وافرة منه. ويعمل اليابانيون من هذا القماش قفافيز للأيدي أيضاً. أما قماش القنب والحطب فيكون متيناً للغاية يمزج مع بعض المواد الكيماوية التي كتم مخترعوها أسرارها فيباع بكميات رابحة في المستعمرات البريطانية.

ذكاء الحيوان

كان للناس منذ القديم آراء متناقضة في مسألة ذكاء الحيوان فقد قال بيكورس الفيلسوف اليوناني أن للحيوانات روحاً كالإنسان وقال أرسطو والرواقيون من فلاسفة اليونان أن ليس للحيوانات ذكاء يعتد به ورأت النصرانية مثل هذا الرأي الأخير فأثبت لهم الغريزة ونفت عنهم العقل الذي لا حاجة لهم به واعتبر الفيلسوف ديكارت الحيوانات بأنها أدوات بسيطة تعمل من نفسها ولا تعرف ما تعمل وكانت فلسفة القرن الثامن عشر مناقضة لهذا الرأي ونسب الفيلسوف لايبنز للحيوانات عملاً نفسياً منحطاً عن القوى الإنسانية وذهب الماديون من الفلاسفة مذهب أبيكورس مثبتين أن النفس متعلقة بالدفاع وأن النفس البشرية غير خالدة كالحيوان وذهب مثل هذا المذهب أيضاً ملاحدة القرن التاسع عشر فأثبت كارل فونت ولويزنجتر فكراً سامياً للحيوان في الذكاء وقال داروين وهو الذي يرى أن الإنسان مرتق عن الحيوان بترقي الأنواع بأن غريزة الحيوان هي الممثلة لصفاته القوية التي هي قوية في الحيوان وقد بلغت في الإنسان أرقى طبقاتها. واقترب العلم الحديث من هذه النظريات بان أثبت للحيوان قوى ودرجه بحسب أجناسه وأصوله بأن وضع في الدرجة ذوات الثديين التي هي سلم الكائنات قريبة من الجنس البشري فاعترفوا بأن للكلب شعوراً من العقل والذكاء اللذين طالما أقام البراهين عليها وثبت أن حصان هانس يحسب ويجمع ويطرح بلا غلط ويجيب عَلَى المسائل العويصة بإشارات لا خطئُ وذبك ثبت بأن للحيوان نفوساً كما للإنسان وإنها من الذكاء عَلَى جانب.

الإتحاد الأوربي

تكتب المجلات الكبرى في الغرب الحين بعد الآخر مقالات في الدعوة إلى اتحاد أوربي عام تكون به دول أوربا يداً واحدة في الخصام والسلام ومن ذلك ما نشرته إحدى المجلات الإنكليزية الخطيرة قالت مؤخراً أن من الأمور الثابتة أن الحالة الحاضرة في أوربا ليست مما يبعث عَلَى الرضى فهي تفقد عَلَى التدريج المكانة وإن كانت لها فيما سلف من الأيام عَلَى حين تنشأُ أمم أخرى أمامها ونبلغ بالتدريج الدرجة الأولى. والسبب في هذا الانحطاط هو أن ممالك أوربا لا تبرح عَلَى الدوام مسلحة بعضها عَلَى الآخر سواء كان للدفاع أو للإغارة. والإفراط في التسليح عَلَى هذا النحو يدل بصراحة عَلَى ما بينهن من الحذر والحسد فإن أوربا تنفق كل سنة عشرة مليارات من الفرنكات لإطعام جيوشها فإذا نشبت الحرب تحتاج إلى ثلاثة أضعاف هذا المال لنضرب العدو المفاجئ. والطريقة التي جرت عليها أوربا ستقودنا لا محالة إلى حرب وإنا إذا نظرنا إلى حالة الأمم المختلفة نجد ألمانيا بعد حروب كثيرة قد وفقت إلى تأييد سلطانها ولكن من يحميها من المشاكل مع البلاد الخارجية إن لم تكن قوائم سيوف أبنائها. وهكذا الحال في فرنسا وغيرها من الممالك. فإن نزع السلاح من أوربا لا يمكن الحصول عليه إلا بعقد اتفاق عام وائتلاف ثم إذا فرضنا أن ذلك ميسور فكم ينبغي له من الوقت وكم تدوم مدته عَلَى أن المتحتم عَلَى أوربا أن تشبه من حيث الاقتصاد الولايات المتحدة الأميركية فيكون إذ ذاك نفوذها عظيما ويتيسر لها أن تقاوم المهاجمات وتخرج ظافرة من جميع حروبها. يبحث الآن في عقد اتفاق بريدي عام في تأليف مكتب للعمل دولي وأشياء من هذا القبيل مما يكون من وراءه إعداد المواد لعقد التحالف الأوربي العام ونحن نقترح الجمع بين أُسرة كبيرة أوربية تكون ممالكها الجنوبية أبناء ذاك فسكون هذا مؤلفاً من ست دول وهي تدعو سائر الدول إلى الاشتراك معها ويدور محور التحالف عَلَى الاحتفاظ بالحالة الحاضرة ولا شك أن كثيراً من الأمم تفادي بمصلحتها العامة وإذ كانت الحكومة لا تحكم بدون مظاهرة الشعب فعلى الشعب أن يعد الأفكار لقبول هذه الدعوة للإتحاد العام.

تبدل المناخ

تنبأ كثير من العلماء بإمكان تبدل يطرأ عَلَى الأرض وقدروا بأن كثرة ما ينفق من حامض الكربون في الهواء لكثرة إنفاق الفحم سيكون السبب في ذلك وقد أكد أحد أساطين العلم مؤخراً بأن المناخ يتغير والحرارة تشتد مستشهداً لذلك بترقي البشرية في صرف الفحوم وزيادته سنة عن سنة وأن كمية الحامض الكربوني تنمو عن ذلك المعدل وقد أُحصي ما أنفق من الفحم سنة 1899 فكان 823. 287. 454 طناً ولم يكن المنفق منه قبل عشر سنين أكثر من 511. 518. 258 في القرن العشرين بمليار طن عَلَى سرعة الزياد ويدعو إلى تقدير ما سينفق من الطنات في القرن العشرين بمليار طن فتتضاعف كمية الكربون في الهواء وتحفظ الكرة حرارتها فتكون الحرارة في الأرض كلها أكثر من الأول. والعلماء يتوقعون فيما إذا كانت هذه الزيادة في الحرارة تضر بوجود الهواء.

الأشجار التاريخية

في سنة 1860 غرس البرنس دي غال في حديقة نيويورك الوسطى بيده شجرة دردار أميركية وشجرة بلوط إنكليزية احتفالاً بمرور خمسين سنة عَلَى معاهدة غاند ومنذ ذلك العهد نجحت هاتان الشجرتان وأصبحتا من الجمال بحيث لا تضاهيهما شجرة من نوعهما وعمرهما. ومن الأدواح الضخمة التاريخية في العالم شجرة البارون همبولد القائمة في وادي أرغوا في جمهورية فنزويلا فإنها اكتشفت في القرن السادس عشر ولا تزال إلى اليوم عَلَى مثل ضخاتها يوم اكتشافها وكانت استدارة أغصانها 561 قدماً وهي الآن كذلك. ومن الشجار الضخمة في العالم الشجرة المعروفة بشجرة التين في أوروتثا التي ما برح طائفة الكواتش في تنريف تعظمها وقد ثار إعصار هائل سنة 1871 فألقى بها إلى الأرض وكان قطر جذعها 46 قدماً. ويقال أن يونان لم تبرح فيها الشجرة التي كانت تظلل بأغصانها أفلاطون وهو يحادث سقراط. ومن الشجار التاريخية ثلاثة شجرات في جزيرة القديسة هيلانة التي نفي إليها نابليون وبين جذوعها قضى هذا الفاتح. ومنها نخلة جورج واشنطن محرر أميركا ولا يقل عمرها عن قرنين وهي أجمل مثال في الأشجار التاريخية.

سكر النبا

النبا نوع من النخيل ذو ورق كبير مركب عل شكل ريش أو مشط مجتمع في رأس ساقها. وهو يكثر في عدة أصقاع من الأرض ولاسيما في جزائر الفلبين ويستخرج منه الكحول بلغ دخله في العام الماضي زهاء 80 ألف هكتولتر ويستعمل ورقه في نسج الحلفاء كما تصنع منه أغطية للدور وورق للفائف ويؤكل ثمره نيئاً أو مطبوخاً وقد أنبأ المكتب العلمي في مانيلا جمهور الزراع والصناع أنه اكتشف طريقة يمكن معها استخراج مادة سكرية تنافس سكر القصب وتفوقه بالرخص. وتعيش شجرة النبا خمسين سنة وكل فدان زرع من النبا يعطي غلات وافرة جداً. ولعل بهذا السكر يرخص سكرنا.

أعاجيب الحاسبين

ظهر في المكسيك حيسوب من أعاجيب الدهر هو فتى الآن في الثامنة من عمره اسمه ميشيل ألبرتو مانتيلا وهو ابن صراف في تلك البلاد ومنذ سنتين كان كأقرانه ليس فيه شيء من خوارق العادات بينا كان أبوه ذات ليلة يجتهد في حساب أحد التواريخ ليكون مطابقاً ليوم أحد دهش لما رأى ولده يجيبه في الحال عَلَى هذه الأشكال وإذ رآه يحسن الإجابة عاد فسأله عن يوم 24 كانون الثاني 1839 أي الأيام كان فأجابه الطفل بعد تفكر ثانيتين أنه كان يوم خميس. وعند ذلك دعا والد الطفل جيرانهما لإلقاء الأسئلة عليه فكان من جملة ما سألوه عنه أي يوم يكون يوم 24 كانون الثاني سنة 2000 فأجاب يوم الاثنين وقد فحصت المجامع العلمية هذا الولد فأعجب به إذ لم تجد في قواه النفسية شيئاً فوق العادة لأنه كاد يقرأ ويكتب قراءَة وكتابة بسيطة.

ولهذا الولد أمثال فإن في جامعة هارفرد الأميركية تلميذاً اسمه ويليام جايمس سيديس كان منذ الخامسة من سنه يحسب الأيام والسنين بحساب سريع عقلي وفي إيطاليا ولد أُمي جاء باريز فأدهش العلماء بسرعته في الحساب وقد سأله ومن جملة الأسئلة أن يخرج لبهم الجذع المكعب للرقم 27 فحل هذا الإشكال في عشر ثوان. وجاء في القرن الماضي حيسوب زيراه كولبورون اشتهر أي شهرة فسئل وكان في السادسة من عمره إذا كانت الساعة الدقاقة تدق 156 مرة في اليوم فكم دقة تدق في مائتي سنة. وسألوه عن مكعب الرقم 1449 وأي مبلغ إذا ضرب بنفسه يكون حاصله 998000 فكان جوابه لا يطول عَلَى كل سؤال من هذه الأسئلة أكثر من أربع ثوان.

وجاءَ في الفرنسويين هنري موندر فأدهش لمجامع العلمية وكان مرة ذاهباً إلى تور من طريق الحقول فصادف فتاتين غريبتين وكان هو في الخامسة عشرة من سنه فسألهما هل لكما أن تقولا لي سنكما بتقدير السنين وأنا أقول لكم كم يبلغ من الثواني فقالت له إحداهن أن سني تسعة عشرة سنة فقال لها في الحال إنك عشت 599 مليون ثانية و184 ألف ثانية. وممن يحشر في هذه الزمرة فيتو مانجيا ميل الذي حرز في نصف دقيقة ما هو الجذر المكعب من عدد 3. 596. 416 والحيسوب المشهور الألماني زخريا داز الذي كان في الخامسة عشرة من عمره يعمل جلسات عامة يسأل فيها هذه الأسئلة المشكلة مع القلم والدواة. ومثلهما جديدياه بركسثون الذي كان يجد بواسطة الحساب العقلي الجذع المكعب من عدد 60 رقماً. ومن الغريب أن هؤلاء الأولاد الخوارق الذين يحصرون أبداً أذهانهم في هذه الموضوعات ليسوا في الأغلب إلا أبناء فلاحين لا يقرأُون في لا يكتبون وهم بينما يعرفون ما لا يتصور العقل أصعب منه من المسائل لا يحسنون معرفة طريق البلدة التي عاشوا فيها وهم يعمرون حافظين لقواهم العقلية فسبحان من خص ما شاء بما شاء.

فن الإعلانات

لا يعرف منشأ الإعلانات حق المعرفة فقد اكتشف في ثيبة إعلانات عَلَى ورق البردي كتبت منذ زهاء ثلاثة آلاف سنة. واستعمل اليونان واسطة لطيفة للإعلان فكانوا يخرجون منادياً ينادي في الشوارع يكون من أهل الفصاحة والبلاغة ليأخذ بمجامع القلوب في الأزقة والجواد ويختارونه ممن خفت مشيته وكان جميل الشكل ويصحبونه مع هذا بموسيقار ليلفت الأنظار عَلَى طول الشوارع بأدواره ونغماته وهذه العادة بقيت في أوربا بقية إلى اليوم عند المعلنين. واستعمل الرومانيون الإعلانات ليعلنوا عن دور التمثيل وقتال المتصارعين وكانوا يلصقونها في بومبي تحت الأروقة. ولقد تألفت في فرنسا منذ القرن الثاني عشر نقابة للمنادين ينوبون عن الإعلانات وعن السماسرة وتستخدمها الحوانيت والحانات للمبالغة بمديح بضائعها فيسير المنادون في الشوارع العظمى ومصباح في أيديهم وقد ملؤا سروراً وظرفاً وزاد اختراع الطباعة في انتشار الإعلانات كثيراً فمنذ انتشرت الصحف الأولى زادت الإعلانات. وافتتح بارتولوزي واشياعه في القرن السابع عشر عهد الصور والنقوش بماء الفضة وظلت طريقتها وحيدة بصنعها. ثم جاء فاتو الذي تفنن في الإعلانات عَلَى ما رزق من قريحة وقادة وأحسن ما صنع من هذا القبيل لرجل إسكافي بيع مؤخراً من إمبراطورية ألمانيا. ونحو سنة 1870 ظهر جول شيريه وكان آية في فن الإعلانات ورسمها وجاء بعده غراسه الذي برع وأي براعة في نقش الزجاج وجلود الكتب والبطاقات فانتشر فن الإعلان عند الفرنسيس سنة 1890 وعنهم شاع في إسبانيا وألمانيا وبلجيكا وإنكلترا كم شاع في أميركا وهكذا كان تفنن الإفرنج في الإعلانات حتى صار البارع في وضعها وصنعها يعد من المفضلين عَلَى الإنسانية مثل مخترع الطباعة ومخترع البخار ويعيش عيشة حسنة بما ينهال عليه من الأجور والرواتب.