مجلة المقتبس/العدد 73/هل تسترد اللغة العربية أمجادها
مجلة المقتبس/العدد 73/هل تسترد اللغة العربية أمجادها
(تتمة ما في الجزء الأول)
نهضة العرب في الإسلام
لندع جزيرة العرب الآن إلى ثلث القرن السابع الميلادي لميلاد المسيح ثم لنعد إليها بعد ذلكم ولنحدث عما نرى
أمة متفقة الكلمة مجتمعة الرأي متحدة اللغة والدين قد قوي اجتماعها واشتد أسره حتى صار كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً وقد كفوا سيوفهم عن أنفسهم وشهروها في وجوه عدوهم من الفرس والروم فطردوا كسرى من المدائن وأجلوا قيصر عن الشام.
سلوني أين ذهب ما كانت توصف به الأمة من تفرق الكلمة وتشعب الرأي ومن تعدد الدين وتنوع اللهجات. .؟
أين شريعة موسى وتعليم عيسى. .؟
أين الوثنية وعقائد الصابئة والمجوس. .؟
أين حمية الجاهلية وعصبيتها. .؟
أين تلكم الضغائن التي كانت تثير الحفائظ وتأكل القلوب. .؟
كل ذلكم قد ذهب به الإسلام أيها السادة فلم يبق له في الجزيرة العربية أثراً ولست أريد أن ابحث عن مصدر ذلكم لأني إنما أحاضر في تاريخ اللغة لا في تاريخ الشعب.
القرآن
كان القرآن للعرب شمساً نسخت عنهم ظل الجاهلية وأضاءت منهم ظلمة النفوس ونقلت اجتماعهم من حال إلى حال فقد جاءهم بضروب من القول لم يعهدوها وفنون من الكلام لم يعرفوها مشتملة عَلَى أمتن قواعد الاجتماع وأصح أصول التشريع ممتلئة بنافع الحكم ونابغ الكلم وجيد الوصف والتشبيه وصادق القصص والتاريخ وقد أنكروه إذ سمعوا بادئة الأمر ولكنهم لم يلبثوا أن خضعوا له وأذعنوا لسلطانه طوعاً أو كرهاً بعد أن بهرهم جماله وسحرتهم روعته واصبحت قلوبهم حكمته وهذبت نفوسهم آدابه وظهر لهم الحق من ثناياه جميل الصورة وطلق المحيا يفتن رواؤه القلوب ويخلب الألباب ولست أريد أن أطيل في وصف القرآن لأن ذلك يحتاج إلى محاضرة خاصة وغنما أقول أنه قد غير العرب تغييراً تاماً فلم يات عليه خمس وعشرون سنة إلا وقد أَلان من القوم قلوباً قاسية وصفى طباعاً جافية وأَرق كباداً غليظة وهذا ألفاظاً فجة ونقل الأمة من البداوة إلى الحضارة ومكن لا في الأرض وهيأها للفتح والتغلب عَلَى الجملة أنشأ من العرب خلقاً جديداً.
هنالك خضعت اللغة لمؤثرين كبيرين أحدهما الإسلام والثاني الفتح.
فأما الإسلام فقد صنع بالقوم ما عرفتم فحسنت لغتهم ورقت ألفاظهم وظهرت عليها بشاشة الدين وطهارة النفوس.
وأما الفتح فقد استأثر عواطف القوم بعد كمونها وأطلق ألسنتهم بالخطب الرائعة والشعر الجميل نصراً للحق وزوداً عنه.
مذهبٌ باطل
وهنا يجب علي أيها السادة أن أبطل مذهباً اجمع عليه كافة المؤلفين في آداب اللغة من المحدثين يتبعون فيه رأي المؤرخ ابن خلدون رحمه الله.
زعموا أن الآداب العربية ولاسيما الشعر قد وقفت أيام النبي والخلفاء الراشدين لأن العرب قد شغلوا عنها بالدين والفتح وتأسيس الملك فلما استقر الأمر لبني أمية نهضت الآداب من كبوتها واستيقظت من غفوتها إلى آخر ما يقولون.
خطأ جداً هذا المذهب أيها السادة لأنه لا يستند عَلَى حجة ولا يعتمد عَلَى دليل.
نعم إنهم لم يجدوا عَلَى ذلكم برهاناً إلا شيئين اثنين الأول أن لبيد بن ربيعو وهو من فحول الشعراء المخضرمين قد ترك الشعر في الإسلام اعتداداً بالقرآن واحتفالاً به وقد بعث عمر بن الخطاب إلى عامله عَلَى الكوفة استنشد من قبلك من الشعراء وابعث إلي بشعرهم فدعا العامل لبيداً وأبا النجم وأبلغهما أمر عمر فأما أبو النجم فقال
أرجزاً تريد أم قصيدة ... طلبت شيئاً عندنا موجودا
وأما لبيد فقد رجع إلى بيته ثم غدا عَلَى الأمير بلوح قد كتب فيه سورة البقرة وقال هذا شعري.
الثاني أن محمد بن سلام وهو من علماء القرن الثالث للهجرة قال في كتابه طبقات الشعراء أن العرب في صدر الإسلام قد شغلوا بتأسيس الملك عن قول الشعر وروايته.
والحقيقة أيها السادة أن ترك لبيد للشعر لا ينهض حجة عَلَى العرب كافة قد تركوه أو قصروا فيه وإن ابن سلام رحمه الله قد أخطأَ في الأولى وأصاب في الثانية فإن العرب قد شغلوا عن رواية شعر الجاهلية في أيام الفتح والفتن ولكنهم لم يشغلوا عن قوله يوماً ما ولذلكم ضاع كثير من شعر الجاهليين بل من شعر المخضرمين لكثرة من استشهد من الرواة في أيام الردة والفتح وأيام الفتن السياسية الكبرى.
وإذا كان أبو بكر رضي الله عنه قد أشفق عَلَى القرآن الكريم أن يضيع بعد أن قتل من المسلمين خلق كثير في حروب الردة فكيف يكون حال الشعر. .؟
وكيف يشغل العرب عن قول الشعر والنبي ﷺ كان يسمعه ويدعو إليه ويأمر شعراءه أن يدفعوا عنه بقصائدهم وأشعارهم والخلفاء الراشدون كانوا يكثرون استشهاده والبحث عنهم والقول فيه بل كيف يشغلون عن قول الشعر ومصادره الحقيقية قد كانت كثيرة موفورة فإن صدر الإسلام لم يخل من حروب ينشد فيها الشعراء قصائد المدح للقواد المنتصرين والرثاء للشجعان المستشهدين وتحريض الأولياء وهجاء العداء والفخر بحسن البلاء ولو أن هؤلاء المؤلفين قرأوا التاريخ في كتبه المطولة المبسوطة واستظهروا ما تشتمل عليه سيرة النبي وتاريخ الخلفاء من متان القصائد وجياد الأراجيز في فنون الشعر المختلفة ما استطاعوا أن يسجلوا عَلَى أنفسهم هذا القول ولا أن يصموا القرآن الكريم بأنه قد كان سبباً لانحطاط الآداب العربية يوماً ما.
الخطابة
كان شأن الخطابة في صدر الإسلام أرقى بكثير من شأنها في الجاهلية لأنها كانت صناعة الخلفاء والأمراء وحرفة الجيش والذادة عن الثغور فقد سن النبي ﷺ للمسلمين صلاة الجماعة وجعلها من حق الخليفة يقيمها في حاضرة الدولة ويستخلف عليها الأمراء في الولايات فكان يجب عَلَى الخليفة والأمراء أن يخطبوا المسلمين يوم الجمعة من كل أسبوع ولم تكن هذه الخطبة مقصورة عَلَى الوعظ والدين كما هي الآن بل كانت تتناولهما وتتناول الشؤون الاجتماعية والاقتصادية والسياسية فكان اجتماع المسلمين في مساجدهم يوم الجمعة أشبه شيء باجتماع المجالس النيابية الآن إلا أن مجامعهم كان يرأسها الخليفة المسئول أمام الصغير والكبير ولم يكن يكره الخليفة أن يقوم له الرجل من أطراف المسجد فيرد رأيه أو ينافس خطبته بل كان ذلك لهم مصدر سرور وإعجاب.
وكما أنكم ترون الآن وزارات المم الراقية لا تستطيع أن تنهض بعملها إلا بعد أن تعرض خطتها السياسية عَلَى مجلس النواب كذلك كان الخلفاء الراشدون لا يستطيع أحدهم أن ينهض بأعباء الخلافة حتى يجمع المسلمين ويخطبهم خطبة يبين فيها نموذجاً لسياسته التي سيتبعها في أيام خلافته عَلَى أن حادثاً كبيراً قد حدث للعرب فاثر في أخلاقهم وآداب لغتهم ولاسيما الشعر والخطابة وهذا الحادث هو الفتنة التي ابتدأت بقتل عثمان ولم تنته آثارها إلى الآن.
منشأ الفتن الإسلامية
منشأ الفتن الإسلامية أيها السادة شيء واحد هو النزاع بين الملكية والجمهورية وقد بدئ هذا النزاع بعد موت النبي ﷺ فكان بنو هاشم يرون الملكية الشورية ويعدون أنهم أحق الناس بوراثة الملك عن النبي ﷺ ولسان هذا الحزب علي والعباس وكان أبو بكر وعمر وعامة الصحابة يرون الجمهورية عَلَى أن تنحصر في قريش لأن القرآن لم يجئ بوراثة الملك ولأن النبي قد قال الأئمة من قريش وقد انتصر هذا الحزب عَلَى جماعة الأنصار الذين كانوا يريدون أن يكون منهم أمير كما انتصر عَلَى بني هاشم أيضاً فبويع لأبي بكر وعمر ومن بعده لم يتخلف عن البيعة بنو هاشم لأنهم كانوا يرجون أن يؤول الأمر إليهم بعد موت هذين الرجلين ولما وضع عمر قاعدة الشورى بويع عثمان وجد بنو هاشم في أنفسهم وبايعوا مكرهين لأن بني أمية وهم رهط عثمان كانوا أكثر قريش عصبية وأشدها قوة وكان يخشى منهم أن ينهضوا فيثبتوا الملك لأنفسهم بالسيف ولذلك لم تمض عَلَى بيعة عثمان أعوام حتى ثارت أطراف الدولة عَلَى الولاة وكثر الطعن في الخليفة والنعي عليه ثم أقبلت وفود العراق ومصر إلى المدينة وقد اضمروا الشر واستشعروه فحصروا دار عثمان ولم يتركوها حتى قتلوه وبايعوا علياً وكان هذا أول عهد الإسلام بالفتنة ولما قتل عثمان وبويع علي خرج عليه طلحة والزبير وعائشة يطالبون بدم عثمان فكانت بينه وبينهم موقعة الجمل ولم تكد تخمد هذه الثورة حتى خرج عليه معاوية وأهل الشام يخلعونه ويطلبون قتلة عثمان ويردون الأمر شورى بين المسلمين فكانت بينه وبينهم مواقع صفين ولما التحم القتال بينهما ولجأوا إلى التحكيم خرج طائفة يقولون أن علياً ومعاوية ومن تبعهما قد كفروا بالله ومرقوا من الدين فحلت لنا أموالهم وأنفسهم ونساؤهم وهكذا انقسم المسلمون أقساماً وتحزبوا أحزاباً.
تفرقوا شيعاً فكل جزيرة ... فيها أمير المؤمنين ومنبر
قتل علي وتم الأمر لمعاوية ولكنه لم يمت حتى عاد الانقسام إلى المسلمين أشد مما كان ونشات فتن تمزقت لها وحدة الأمة وتفانت من أجلها القوى ولست أريد أن أذكر الفتن وأخبارها ولا أن أشرح غوامضها وأسرارها بل يكفي أن أذكر لكم الأحزاب التي أوجدتها هذه الفتن فأولها حزب الشيعة وهم أنصار بني هاشم وهؤلاء انقسموا قسمين كبيرين فمنهم من دعا إلى بني علي ومنهم من دعا إلى بني العباس - الثاني حزب الأمويين وهؤلاء انقسموا قسمين أيضاً فمنهم من دعا إلى بني ومعاوية ومنهم من دعا إلى بني مروان - الثالث حزب الزبيرية وهم أنصار عبد الله بن الزبير وكل هؤلاء يطلبون الملك ويطمعون فيه. الرابع حزب الخوارج وهؤلاء قد انقسموا اقساماً كثيرة ولكنهم يطلبون الجمهورية - الخامس حزب المرجئة ومه جماعة لم يظهروا الميل إلى حزب من الأحزاب ولم يحكموا عَلَى أحد بكفر ولا بإيمان وغنما تركوا ذلك لله وقد أظهروا الطاعة لكل ملك عادل من أي حزب كان. . . وكل هؤلاء الأحزاب كانت تحتكم إلى السيف والقوة وتدافع عن آرائها بالشعر والخطابة وقد سلكوا بالشعر في تلكم الأيام مسلك الصحف السياسية الآن وأنا أترك لكم تقدير ما ينال الشعر والخطابة في اثر ذلكم الاختلاف من علو المنزلة وسمو المكانة ولكني أقول أن الخطب قد طالت وتنوعت مناحيها وسلك بها الخطباء طرقاً جمة في الجدال وقد رقت ألفاظها واستعارت من القرآن الكريم شيئاص من رشاقة الأسلوب ومتانته ولم تكن تحسب الخطبة إلا إذا رصعت بشيء من آي الذكر الحكيم عَلَى طريقة الاقتباس وقد اختصت الخطابة في هذا العصر بوجوب ابتدائها بحمد الله والصلاة عَلَى نبيه فإذا لم تبدأ بالحمد فهي بتراء وإذا خلت من الصلاة فهي شوهاء وهذه هي المعذرة التي حملتني عَلَى أن أخالف في هذه الخطبة عادة العصر الجديد.
الآداب العربية في أيام بني أمية
تمالملك لبني أمية آخرة الأمر وقد ورث العرب أرض الفرس والروم وتهيأت لهم أسباب الثروة والغنى فسكنوا القصور الشامخة واتخذوا نضائد الحرير وسطور الديباج وطعموا في آنية الذهب والفضة وصحت فيهم نبوة أبي بكر رضي الله عنه حين قال لعبد الرحمن بن عوف والله لتتخذن نضائد الحرير وستور الديباج ولتألمن النوم عَلَى الصوف الأذربي كما يألم أحدكم النوم عَلَى حسك السعدان فلم يكن لأنفسهم بد من أن تتأثر بهذه الحضارة ولم يكن لألسنتهم مندوحة عن أن تخضع لهذا التأثر فرقت الألفاظ والمعاني ورشقت الأساليب والتراكيب وقد أعرب القوم عن أهواء أنفسهم وعواطف قلوبهم بالغناء ونشأت فيهم طبقة من الشعراء لم تحسن إلا ذكر النساء والتشبيب بهن وطبقة أخرى لم تجد إلا وصف الخمر والإشادة بمحاسنها وآخرون نبغوا في المدح والهجاء والوصف والرثاء والفخر والوعظ وغيرها من فنون الشعر وقد ظهر ميل القوم إلى العلم فأخذوا يبحثون عنه ويسعون إليه وبدأوا يضعون علوم الدين واستعاروا كثيراً من الألفاظ الأجنبية لكثير من المعاني المحدثة ولكن خطراً كبيراً قددهم اللغة ولم يكن إلى اتقائه من سبيل فلندع العرب الآن في جزيرتهم ولنقف آثار اللغة في مواطنها الجديدة لتعرف هذا الخطر من مصدره ونتبين ما أعدوه له من الدواء.
كيف انتشرت اللغة العربية
خرجت اللغة العربية من جزيرة العرب مع جيش المسلمين فصادفت لغة الفرس والروم في الشام والعراق فطردتهما ثم انتقلت إلى مصر فصادفت لغة الروم والقبط فطردت الأولى ومحت الثانية ثم أخذت طريقها في شمال أفريقية فلقيت لغات البربر فحصرتهن في رؤوس جبال الأطلس ثم جاوزت إلى الأندلس فالتقت باللاتينية والغوطية فحصرتهما في الكنيسة وبيوت المسيحيين.
كل ذلك في مدة لا تتجاوز خمسة وثمانين عاماً فمن أين لها هذه القوة وذلكم البأس الشديد. .؟
هنا يجب أن نسير في البحث عَلَى مهل وأناة لأننا بإزاء شبهة عصرية ترد عَلَى الدين واللغة معاً.
قالوا أن دين العرب ولغتهم لم يسودا إلا بالقوة والسيف ولست أريد الآن أن أذود عن الدين فربما أديت هذا الواجب في محاضرة أخرى وغنما أريدأن أدافع عن اللغة التي هي موضوع بحثنا الآن.
اعتذر بعض القديسين من ظلم الكنيسة في القرون الوسطى فقال يضطهد الأشرار من يكرهون ولكن الكنيسة تضطهد من تحب.
أما أنا فأقول أيها السادة أن الإسلام لم يضطهد حبيباً ولا عدواً وإذا كانت حضارة الفرنج ومدنيتهم قد أباحتا لهم أن ينشروا لغتهم وهمجيتهم وعلومهم وآدابهم بالقوة والبأس فإن بداوة العرب وهمجيتهم لم تبيحا لهم شيئاً من ذلك في صدر الإسلام وكذب من يزعم أن في التاريخ العربي الجميل إشارة ما إلى أن اللغة العربية قد التجأت في سؤددها إلى القوة أو اعتمدت عَلَى السيف.
وكيف لا يكذب ودواوين الحكومة الإسلامية في الشام والعراق ومصر بقيت أعجمية إلى عصر عبد الملك بن مروان أي إلى الزمن الذي استعربت فيه الناس وأصبح من خطل الرأي وسوءا السياسة معاملتهم بغير اللغة التي يفهمونها.
إذاً فما هي الأسباب الحقيقية التي نشأ عنها انتشار اللغة وسؤددها. .؟
إن لبعض الأمم قوة طبيعية تمكنها من القهر والتغلب ومن الفوز والانتصار المادي والأدبي أَنى وجدت وإذا أردت لهذا النوع من المم فلن أجد له مثالاً الآن أصدق من الإنكليز في أمريكا.
أولئك الذين يسحقون شخصية الأمم ويمحقون جنسيتها في أميركا ويغلبون عليهما جنسيتهم ولغتهم ودينهم من غير اعتماد عَلَى قوة ولا اعتداد بسلاح وقد كان العرب من هذا النوع فتمكنوا من التغلب الأدبي ولولا أن لغتهم صادفت من أهل الفرس عداءً وحقداً ومن لغتهم قوة وشدة لأتت عليها في وقت قريب.
وهناك سبب آخر لانتشار اللغة العربية وهو الدين العربي الذي يأخذ كل مسلم بالصلاة ومعنى ذلكم أنه يأخذ كل مسلم بحفظ شيء من القرآن الكريم وليس عَلَى الدين من ذلك بأس فإن الله لم ينزله إلا ليجعل الناس أمة واحدة كما أنه لم يسد بالقوة ولم ينشر بالإكراه.
ولقد نشأ عن اختلاط العرب بالعجم ومصاهرتهم شيء من فساد الألسنة واعوجاجها وظهر اللحن في اللغة من لمولدين والمستعربين وهذا هو الخطر الذي أشرنا إليه آنفاً ولما أحسه العرب في القرن الأول للهجرة نهضوا لإصلاح رسم المصحف ووضع النحو والصرف وجمع اللغة وتدوينها ولكن انقضت الدولة الأموية ولما يحصلوا من ذلك عَلَى شيءٍ كثير.
الآداب العربية في أيام بني العباس نهضت دولة بني العباس والعرب قد سئموا الغزو وزهدوا فيه لطول ما قاتلوا في الفت والفتوح فمالوا إلى الخفض والدعة واطمأنوا إلى الترف والتعليم.
وقد نضج العقل العربي فنزع إلى البحث والتفكير ورغب في النظر في أنواع الموجود فانقسمت الأمة إلى قسمين كبيرين قسم ينل الحضارة ويهذبها وقسم يترجم العلم ويزيد فيه والخلفاء يشاركونهم في كل ذلكم ويشجعونهم عليه فلم يأت عصر المأمون رحمه الله حتى بلغت العرب من العلم والحضارة ما لم تبلغه الأمم ولم تصل إليه الشعوب.
الخطابة
ولعلكم لم تنسوا تلك الأحزاب السياسية التي أوجدتها الفتن الإسلامية واشرنا إليها آنفاً فقد أضعفت قوة العباسيين أمرها بالمشرق وفلت عزمها فاستحالت إلى احزاب دينية خالصة وقد تركت السيف والسنان ولجأت إلى القلم واللسان واعتمدت عَلَى الجدل والمناظرة معتدة بالعدل والحكمة معتزة بالفلسفة والمنطق فكان للخطابة من ذلكم جمال وروعة لم يكونا لها من قبل ولاسيما بعد أن عرفوا أصول الخطابة عند اليونان بما ترجموه من كتب أرسطوطاليس. . وقد أصبحت الخطابة في أيام بني العباس صناعة تعلم وقد انفرد لدرسها جماعة أشهرهم إبراهيم بن مخزنة السكوني وبشر بن المعشمر وقد وضعوا لها أدباً وشرائط خاصة دون بقية انواع القول واشتد حرصهم عَلَى مراعاة الآداب والشرائط ولكن ذلك كله قد تهيأت له الأسباب في أواخر أيام بني أمية كما هي القاعدة الفطرية فإن تغير الأحوال الأدبية وغيرها لا يحدث بقيام دولة وسقوط أخرى وإنما هو نتيجة تغير خفي في أفكار الأمة وعقائدها ومكوناتها.
وهذا التغير الخفي هو المؤثر الحقيقي في جميع ما يحدث للأمة من الاستحالات الأدبية والسياسية الخلقية.
وقد انحصرت الخطابة لذلك العهد في تلكم الأحزاب السياسية التي استحالت إلى دينية وسميت بالمتكلمين ولاسيما بعد أن استهان الخلفاء بصلاة الجماعة والخطابة وقد بدأت هذه الخصلة في أيام بني أمية وأول من أحدث ذلك فيما أعلم هو الوليد بن عبد الملك الذي أهمل أول أدب من آداب الخطابة فخطب جالساً عَلَى المنبر ولم يكن للناس بذلكم عهداً وكثيراً ما لها الخلفاء بجواريهم عن صلاة الجمعة وأنابوا عليها القواد ورجال الحاشية وقد تحدث صاحب الأغاني أن الوليد بن يزيد اصطبح يوم الجمعة فلما نودي للصلاة كره أن يفارق الكأس فبعث إلى الناس في المسجد الجامع بجارية تؤمهم في الصلاة.
ومما أبدع الوليد في الخطابة أنه شرب في يوم الجمعة فلما أردا الصلاة قال لندمائه والله لأخطبن الناس شعراً ثم صعد إلى المنبر فقال
الحمد لله ولي الحمد ... نحمده في يسرنا والجهد
ثم استمر في أرجوزته حتى أتمها.
لذلكم فقدت الخطابة منزلتاه السياسية وعظم شأنها الديني عند المتكلمين فتنبغ فيها واصل بن عطاء وغيره وقد أدخل المتكلمون في الخطابة كلمات خصها العلماء بهم وحظروها عَلَى غيرهم فقالوا أليس وليس يريدون الإثبات والنفي وقالوا لاشى المادة يريدون جعلها لا شيء وقالوا ماهية الحيوان يريدون حقيقته وقالوا كيفية الجسم يريدون شكله وصورته إلى غير ذلكم مما يخطئ في كتابنا حفظهم الله يستعملونه بغير حق وما هم في استعماله إلا ظالمون وقد تحدث الجاحظ رحمه الله أن بعض المتكلمين سمع في مجلس بعض الخلفاء رجلاً يتكلم ويقول أليس وليس فكاد يطير فرحاً ويتقد غيظاً فأما الفرح فلأنه سمع كلمته الاصطلاحية وأما الغيظ لأنه سمعها من غير متكلم أي من غاصب لها معتد عليها ولم يأت عصر المعتصم بن الرشيد حتى اعتمد العلماء عَلَى الكتابة وأخذ ظل الخطابة في الزوال وربما كان آخر الخلفاء الذين خطبوا الناس من بني العباس هو المتوكل بن المعتصم.
نستفيد ذلك من قول البحتري في تهنئته بالعيد. .
ووقفت في برد النبي مذكراً ... بالله تنذر مرة وتبشر
الشعر
أما الشعر فقد رقي في أيام بني العباس حتى كاد يفنى حسناً ولطفاً وقد تصرف في أنواع من القول وتعددت مذاهبه ومناحيه باتساع الحضارة واستفحال العمران وكبر العقول والمدارك وأظنكم تفهمون مقدار الفرق الكبير بين الشعر العباسي وغره من أنواع الشعر العربي إذا سمعتم قول بشار في الشورى
إذا بلغ الرأي المشهورة فاستعن ... بحزم نصيح أو نصيحة حازم
ولا تجعل الشورى عليك غضاضة ... فإن الخوافي قوة للقوادم أو قوله في المدح
إذا أيقظتك خطوب الزما ... ن فنبه لها عمراً ثم تم
أو قول أبي نواس في الغزل
دمعة كاللؤلؤ الرط ... ب عَلَى الخد الثيل
ذرفت في ساعة الب ... ين من الطرف الكحيل
إنما يفتضح العشا ... ق في وقت الرحيل
أو قول البحتري في الاستعطاف
سيدي أَنت ما تعمدت ذنباً ... فأجازى به ولا خنت عهداً
أتراني مستبدلاً بك ما عث ... ت بديلاً أو واجداً منك ندا
حاش لله أنت لتن ألفا ... ظاً وأحلى شكلاً وأصلح قدا
أو قوله في وصف عواطف الحب والبغض
إذا احتربت يوماً ففاضت دماؤها ... تذكرت القربى ففاضت دموعها
شواجر أرماح تقطع بينهم ... شواجر أرحام ملوم قطوعها
عَلَى أن القرن الثالث للهجرة لم يكد ينصرم حتى ذهب معه جمال الشعر العربي وأخذ الشعر يبدو في منظر سمج ومعرض رث.
الكتابة
بقيت صناعة من صناعات الآداب العربي لم نتكلم عنها في الجاهلية ولا في جميع الأعصر العربية إلى الآن وهي الكتابة وأظنكم تعلمون أن الجاهليين لم يكونوا عَلَى شيء منها لمكانهم من الأمية فأما في صدر الإسلام وأيام بني أمية فقد كانت الكتابة موجزة مجزاة إلى أن جاء عبد الحميد كاتب مروان بن محمد آخر الخلفاء من بني أمية فأطال فيها وترسل قفى أثره كتاب العباسيين ولكنهم بالغوا في الأطناب وأغرقوا في الترسل وظهرت في رسائلهم صبغة الفلسفة التي اصطبغت بها عقولهم وقد أخذوا عن اللغات الأخرى كثيراً من الأساليب الجديدة ونبغ فيهم أمثال ابن المقفع والجاحظ وابن وهب ولم يأت القرن الرابع للهجرة حتى أخذت الكتابة العربية في الانحطاط وأخذ التكلف والمحاولة مكان الترسل والسهولة الفطرية.
العلوم في أيام بني العباس
اشرنا في أيم بني أمية إلى ما أصاب اللغة من اللحن والتحريف وقلنا أن العرب أشفقوا عَلَى اللغة أن تفسد وعَلَى الكتاب أن تعبث به الألسنة فنهضوا لوضع النحو والصرف وجميع اللغة وتدوينها ولكن ذلك لم يتم الا في أيام بني العباس إذ نهض ائمة البصرة والكوفة فأخذوا اللغة عن قبائل العرب الخلص الذين وثقوا منهم بعد مخالطة الهند والفرس والروم والحبش والقبط ثم دونوها في الكتب فاستنبطوا منها قواعد الألفاظ من نحو وصرف واشتقاق ووضع الخليل بن أحمد علم العروض والقافية وأصلح الخط ووضع شكله المعروف إلى الآن مقتطفاً الفتحة من اللف والكسرة من الياء والضمة من الواو كما يظهر ذلكم في مقابلة هذه الحركات إلى تلكم الحروف وقد توسع سيبويه في النحو والصرف فألف كتابه المعروف الشائع إلى الآن وألف الخليل بن أحمد أول معجم لغوي وهو كتاب العين وأخذ العلماء يصنفون الكتب الأدبية يجمعون فيها أطرافاً من جيد الشعر وبارع النثر ليستظهرها الطلاب فيستعينوا بها عَلَى تقوية الملكة العربية وتقويم الألسنة وتفرغ قوم لرواية الحديث وآخرون لرواية المغازي والتاريخ وأيام العرب وغيرهم من الأمم وانفردت طائفة لاستنباط الحكام وتشريع القوانين وتدوينها وآخرون لرواية القرآن وعام القراآت واختصت جماعة بنقل الكتب الفلسفية في العلوم المتنوعة عن المم المختلفة وشرحها والزيادة عليها وعَلَى الجملة لم تجد اللغة العربية عصراً كهذا العصر أصبحت فيه لغة العقل واللسان والوجدان والدين ولكن ما ينفعها ذلكم وقد أصابتها الخطر الداهم الذي لا دافع له ولا مندوحة عنه فقد أصبح فساد الألسنة عاماً وأصبحت اللغة الفصحى في الحواضر مقصورة عَلَى العلماء والخاصة وأما عامة الناس فأخذوا يتكلمون بلغة سيئة اللهجة فاسدة التركيب سوقية الأسلوب وظهر إن ذلكم الدواء الذي التجأ إليه العرب لم ينفع إلا في حفظ اللغة والكتاب من الفساد فأما تقويم اللسنة وتهذيب المنطق فلم يكن قادراً عليهما قد أخذ العامة يخترعون لهم فنوناً خاصة من الشعر لا يزال كثير منها باقياً إلى الآن وهو الذي يدور عَلَى السنة العامة والمغنين ولم يأت القرن الرابع حتى بدأ عصر الانحطاط.
سقوط اللغة العربية
ففي ذلكم القرن بدت بوادر العلة عَلَى اللغة فذهبت نضرتها وتصوت زهرتها ومال الكتاب إلى السجع البارد والازدواج الفاتر والتكلف الممقوت وأخذ العلماء يستنبطون علوم الأساليب كالبيان والمعاني فلهوا بالقديم من جيد الكلام عن أحداث الجديد من أمثاله وقد اخذ الشعراء يتعلقون بأهداب البديع ويتشبشون بمحسنات اللفظ ويغلون في المجاز والاستعارة حتى صار لشعرهم معرض رث ومنظر سمج ولعل لآخر من أجاد من الشعراء في هذا القرن عَلَى الطريقة الفنية الصحيحة المبرأة من العيب والنقد هو الشريف الرضي رحمه الله فأما المتنبي وأبو العلاء فقد عنيا بالمعاني أكثر مما عنيا بالألفاظ عَلَى أنهما كانا يحاولان الإجادة اللفظية فيقعان في التكلف الممقوت ليظهرا أنهما قادران عَلَى اللغة ومحيطان بها وحسبكم من ذلكم لزوميات أبي العلاء وما فيها من اصطناع الحواشي واتخاذ الطرق الوعرة.
فأما المتنبي فلا أَستطيع أن أحصي سرقاته واستعاراته الباردة وتكلفه الممقوت وشغفه بالمحسنات اللفظية ولقد أحفظ من شعره ما لو أنشدتكم إياه الآن لظننتموه لغة فارسية أو هندية عَلَى أن كل ذلكم لا يغض من
قدر الرجلين في الحكمة والفلسفة أما الخطابة فلم يبق لها أثر في ذلكم العصر وأما الكتابة فقد كثر فيها السجع والتكلف وكما قلنا وقد الفت كتب كلها عَلَى طريقة السجع وقد استعجمت الألفاظ ونشا في هذا العصر نوع من الكتابة ليس له نتيجة إلا الدلالة عَلَى المقدرة اللغوية كمقامات الحريري التي لا أريد أن أُصفها إلا بان كلام الجاهلين اقرب منها فهماً وأسوغ منها مذاقاً وأحسن في الإسماع وأدنى في الانطباع ولم يأت القرن السادس حتى لزمت اللغة العربية كلها وأخذت في الاحتضار وهنا يصعب علي أيها السادة أن أرافق اللغة وهي تحتضر فلأدعها الآن ولبحث عن أسباب نموها وسقوطها.
أسباب نمو اللغة العربية
في اللغة العربية مزايا ثلاث هن أسباب نموها وارتقائها وهن الاشتقاق والمجاز والتعريب.
فأما الاشتقاق فهو تغيير مادة الكلمة تغييراً قريباً أو بعيداً أو أبعد إلى صور مختلفة للدلالة عَلَى معان متنوعة فكلمة الرفع مثلاً تدل عَلَى العلو فإذا غيرت إلى الفرع دلت عَلَى الغصن وإذا غيرت إلى العرف دلت عَلَى الطيب وإذا غيرت إلى العفر دلت عَلَى التراب ثم لنا أن نأخذ منها رفع بالتحريك للدلالة عَلَى الماضي وكذلكم يرفع ورافع ومرفوع الخ.
وأما المجاز فهو إطلاق الكلمة عَلَى غير معناها لعلاقة بين الجديد والقديم مع قرينة تمنع من إرادة المعنى الأول فنستطيع أن نطلق الغيث عَلَى النبات لأنه سببه وأن نطلق النبات عَلَى الغيث لأنه مسبب عنه وأن نطلق العين عَلَى الرجل لأنها جزء منه وأن نطلق الأسد والبدر عَلَى الشجاع والجميل لن بينهما مشابهة ومشاكلة وأما التعريب فهو نقل كلمة أجنبية إلى اللغة العربية واصطلاحها حتى تصير عَلَى الوزان المقبسة المعروفة وهذا النوع كثير في كلام الجاهليين وفي القرآن الكريم وكثرته في عصر الأمويين والعباسيين مدهشة. . . فهذه المزايا الثلاث التي توجد في اللغة العربية أكثر مما توجد في اللغات الأخرى وقد جعلت اللغة مستعدة للنماء والارتقاء قابلة لكل جديد مرحبة بكل طريف لا تضيق بها مهما كان أمره ولذلك استطاعت أن تسع حضارة الفرس والروم وأن تحيط بأنواع العلوم عَلَى اختلافها من غير أن تشكو فقراً وتظهر احتياجاً.
وفي اللغة العربية عيبان عارضان وهما كثرة الترادف والإغراق في الاشتراك أما الترادف فهو دلالة الألفاظ الكثيرة عَلَى معنى واحد وأما الاشتراك فهو دلالة اللفظ الواحد عَلَى معان كثيرة.
الترادف والاشتراك طبيعيان في كل لغة ومصدرهما اختلاف الأذواق وتباين المشارب في الواصفين وهما من أقوى الأدلة عَلَى أن اللغة من وضع الإنسان فهما ليسا من عيوب اللغة وإنما كثرتهما هي العيب وقد وجدت هذه الكثرة في اللغة العربية وبلغت حداً فاحشاً حتى أن بعض المعاني ليدل عليه المئات الكثيرة كما أن بعض الألفاظ بما دل عَلَى عشرات المعاني.
ومع السرور أيها السادة أقول أن هذا العيب ليس طبيعياً في اللغة العربية وإنما هو عارض محدث وأول عهد الناس به بني أمية وبني العباس فقد علمنا أن العرب كانوا ذي لهجات متباينة ولغات متباعدة في الجاهلية ثم غلبت لغة قريش عَلَى اللغات بواسطة السواق وظهور الإسلام فلما نهض الأئمة لجمع اللغة وتدوينها اخذوا لغات القبائل الصريحة عَلَى علاتها وخلطوها من غير تفريق ولا تمييز فنشأ من ذلك كثيرة المعاني للفظ الواحد وكثرة الألفاظ للمعنى الواحد وهذان هما الترادف والاشتراك.
هذه هي أسباب نمو اللغة العربية وثروتها وأنتم ترون بأنها كافية بان تجعل اللغة العربية من أقوى اللغات وأقدرها عَلَى الحياة كما أنها قد جعلت في اللغة كثيراً مما لا حاجة إليه.
أسباب سقوط اللغة
أما سقوط اللغة فلم يكن عن ضعف فيها أو فتور في طبيعتها وغنما هو نتيجة سبب لا أعرف غيره وهو تغلب العجم عَلَى العرب وتعمدها إشهار الحرب عَلَى اللغة والدين والجنسية العربية حتى أتوا عليها جميعاً فأنتم تعلمون أن طبيعة الإنسان وتوجب عَلَى الأمة الغالبة أن تبذل قوتها في أن تجمع السيادة للغتها ودينها وآدابها ومن حسن حظ الإسلام أن الأمم التي تغلبت عَلَى العرب لمتلبث أن دانت به واتخذته ديناً ولولا ذلك لحاربته وناوأته كما حصل ذلكم في بلاد الأندلس أيام تغلب الفرنج عَلَى المسلمين فقد استحالت المساجد فيها إلى كنائس ولم يبق للإسلام بها أثر قليل ولا كثير ومن حسن حظ اللغة العربية أن الإسلام لا يستطيع أن يستغني عنها لأن القرآن عربي والسنة عربية والفقه القديم عربي ولولا ذلكم للحقت اللغة العربية بأخواتها القديمة الدارسة أو لأصبحت لغة صناعية كاللاتينية واليونانية القديمتين.
نهضة اللغة العربية في العصر الجديد
اقبل هذا العصر الجديد وقد أتت لغة الترك عَلَى اللغة العربية في الشام والعراق وبلاد العرب وطردتها فارس من بلاد الفرس فظلت لغة الدين في بلاد الدولة العلية وبها حديث العامة مع تحريف قبيح بلهجات سيئة يمقتها المصري وإن كانت لغته وقد أصابها من التحريف شيء كثير أنا الفرس فينطقون بها القرآن الكريم عَلَى غير ما نطق به النبي ﷺ يفخمون حروفاً ويرققون أخرى وربما لم يتيسر لهم الإعراب في التلاوة وقد ناهضت لغات الإفرنج والبربر عربية المغرب في شمال أفريقية فشوهت محاسنها وجعلتها بحيث لا تكاد تفهم.
نعم إنها لا تزال لغة المساجد والدين ولسان العامة ولكن الفرنج قد أتوها من ناحية لا تأمن معها الفناء فأخذوا يعلمون لغتهم للأحداث ويهملون تعليمهم اللغة العربية حتى ينشأ أحدهم وهو لا يعرف من لغته إلا الرطانة السوقية التي يصطنعها العامة في أحاديثهم وهي خليط من العربية والبربرية والفرنسية والإسبانيولية فقد ظهرت نتيجة هذه الحرب الضروس فكره شبان الجزائر لغتهم وزهدوا فيها حتى أن كتب الدين الإسلامي ربما ألفت لهم بالفرنسية.
أما في مصر فلم يكن نصيب اللغة من الفساد قليلاً بل كان كثيراً غالباً في الكثرة وحسبكم أن من العسير جداً أن تجدوا كاتباً مصرياً يجيد الإعراب في هذه العصور الأخيرة التي تنتهي قبل الآن بأقل من نصف قرن غير أن الأحوال قد تغيرت في مصر والسام تغيراً غير قليل في هذه الأيام فنهض من القطرين رجال حاولوا إتقان اللغة والنبوغ في فنونها فأدركوا من ذلكم نصيباً موفوراً ثم عكفوا عَلَى إحياء اللغة بنفس الطريقة التي اصطنعت أيام بني العباس وهي طريقة النقل والترجمة وليس من السهل ولا من المفيد أن نبحث عن أي القطرين كان أسبق إلى ذلكم وأحرص عليه ولكن يكفي أن نشير إلى أسباب النهضة ومقدماتها وذلكم غير عسير.
للنهضة اللغوية في نمصر زعيمان لكن منهما ركن يأوي إليه ويعتز به أما أولهما فالمرحوم رفاعة باشا نهض لإحياء اللغة بفضل الأمير الجليل رأس الأسرة المالكة في مصر فقد أتقن العلم باللغة ونبغ في كثير من الفنون واخذ يترجم ويأمر أقرانه وتلاميذه بالترجمة ويصلح كثيراً من راجمه حتى وجد في اللغة العربية كثير من الكتب المختلفة في أنواع العلوم وكل ذلك يرجع الفضل فيه إلى الوفود العلمية التي كان يبعثها ذلكم الأمير الجليل إلى بلاد الفرنج لتدريس العلم وتعود إلى مصر فتنقله إليها بلسان عربي مبين.
نعم عن ذلكم لن يتيسر كل التيسر فإن كثيراً من تلكم الكتب يشينها سوء السبارة وغموضها وسوقية اللفظ وسقوطه ولكن صدق المثل القائل ماش خير من لاش عَلَى أن هذه النهضة لم تكن إلا مقدمة فمن الخطأ أن نتمنى لو كانت راقية كل الرقي أو بالغة الكمال.
أما الثاني فهو الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده رضي الله عنه ومعينه هو الوزير الخطير المرحوم مصطفى رياض باشا فقد نشا الأستاذ رحمه الله محباً للعلم عاكفاً عليه وكان كما تعلمون ذكي القلب ثاقب البصيرة ماضي العزم شديد الصريمة فلم يلبث أن نبغ في كثير من الفنون وبلغ ما لم يبلغه مصري قبله ولا بعده وعلي لا أغلي إذا قلت في جميع أيام التاريخ حتى الآن.
وقد أتقن رحمه الله اللغة الفرنسية وعرف ما تشتمل عليه من العلوم فاخذ يحث مريديه عَلَى ترجمة الكتب النافعة ويشجعهم ويعمل هو لذلك بقد رما يستطيع وأخذ يجد أيضاً في إحياء كثير من الكتب العربية القديمة وحسبكم أن كتاب المخصص في اللغة الذي ألفه ابن سيدة الأندلسي إلا أثراً من آثاره مساعديه من رجال الإصلاح المخلصين وقد مات رحمه الله وله عَلَى اللغة فضل كثير وقد أصلح من لسان الحكومة غير قليل فحل منه عقدة كان معها أعجم لا يبين.
أما الآن فقد أصبحت نهضة اللغة في مصر فوضى ليس لها من زعيم ولذلكم كثر التخليط في الألفاظ والأساليب فالشعراء والكتاب يسترسلون في التعبير عن ضمائرهم غير جارين عَلَى قاعدة ولا معتمدين عَلَى قياس في كثير من الأحيان.
الأزهر
أجمع المؤلفون في تاريخ الآداب العربية من أبناء هذا العصر عَلَى أن الأزهر الشريف كان هو المعقل المنيع والحصن الحصين الذي احتمت فيه اللغة العربية من إغارة اللغات الأخرى عليها.
واسمحوا لي أيها السادة بان هذا خطأ ليس له من الحق نصيب ولست أريد أن أستدل عَلَى ذلكم بل يكفي أن ترجعوا إلى كتاب المحاماة الذي ألفه الأستاذ الجليل فتحي زغلول باشا فإنكم ستجدون فيه من كلام العلماء وفيهم الأدباء المنشئون ما يضحك الثكلى ويسلي هم الحزين فإن أعياكم هذا الكتاب فارجعوا إلى كتب الأزهر بين انسهم فإنها تستطيع وحدها أن تبرهن عَلَى ما أدعيه فإن أعياكم فهم هذه الكتب فكتاب صغير يباع بثمن قليل اسمه إنشاء العطار أرجوا أن ترجعوا إليه فإنكم ستجدون فيه أحسن فكاهة لكم في أوقات الفراغ ولا تزال لغة الأزهر الشريف إلى الآن مع الأسف متأخرة عن لغة غيره من المدارس ومعاهد العلم وحسبكم دليلاً عَلَى ظلم الأزهر للغة العربية أن كتاباً واحداً من كتب الدب واللغة لم يكن يدرس فيه فلم جاء الأستاذ الإمام أنر أن يقرأ فيه كتاب الكامل للمبرود ولكنه لم يكد يخرج من الأزهر حتى ألغيت قراءة الكتاب إلى أن جاء شيخ الأزهر الحالي فارجع الأمر كما كان.
والنظام الجديد هو الذي أدخل في الأزهر آداب اللغة كما أدخل غيره من العلوم الحديثة.
المدارس
نخطئُ كل الخطأ إذا اعتمدنا عَلَى المدارس في تقويم الألسنة وإصلاح المنطق فإن هذه لمدارس لا تزيد عَلَى تلقن الطلاب شيئاً من قواعد النحو والصرف والبلاغة وليس ذلك بمغن عنا شيئاً وإنما السبيل والواضحة إلى ما نريد هي تمرين الطلبة عَلَى الإصابة في القول والإعراب في النطق مع درسهم مادة اللغة وأساليبها واستظهارهم الكثير الجيد من آداب القدماء وقد سلكت مدرسة القضاء شيئاً من هذا في أول أمرها فحظرت عَلَى الطلاب أن يتكلموا فيها إلا باللغة الفصحى وقال الأستاذ الجليل عاطف بك بركات فيما كتبه عن المدرسة في سنتها الأولى أنها إذا استمرت عَلَى السير في هذه الطريقة لم تلبث أن تصير قطعة من الحجاز في صدر الإسلام ولكن يظهر أنها قد أخطأت الطريق وجرت مع غيرها من المدارس في مضمار واحد.
نهضة اللغة في العصر الجديد
الصحف
ولقد نخطئ خطأ كبيراً إذا جحدنا فضل الصحف عَلَى اللغة فقد جاهدت في ترقية اللغة وإصلاحها بما تخيرت من شريف الألفاظ والأساليب عَلَى انها لم تلبث أن التجأت كارهة إلى إدخال كثير من الأعجمي فيها وكثيراً ما تتعلق بالسجع وتتمسك بأهداب البديع حتى صار كثير مما ينشر فيها نوعاً من الأوابد والألغاز عَلَى أن المجيدين من كتابها قليلون.
الصحف الرسمية
يسوءني أيها السادة أن اقرأ في صدر الجريدة الرسمية الأمر العالي يختم باسم مليك مصر وارى في المجموعة الرسمية حكم القاضي مصدراً بهذا الاسم الكريم ثم أنظر في ألفاظهما فلا أرى من الفرق بينها وبين ألفاظ العامة إلا قليلاً ويسوءني أيضاً أن اقرأ في الصحف الرسمية رسائل الحكومة وقراراتها ثم أقران بينها وبين ما كان يصدر عن الحكومية العباسية والأموية من رسائل الصابئ وعبد الحميد فأرى الفرق بينهما كالبعد بين الأرض والسماء ولئن حق الاعتذار عن الحكومة في الأيام الماضية فإني لا أجد ما اعتذر به عنها الآن فقد أصلح الأستاذ الإمام رحمه الله جريدتها الرسمية وحلاها بمثير من الفصول النافعة ولكنه لم يكد يتركها حتى اقتطع نصفها وعادت إلى ما كانت عليه فيه من سوء اللهجة وفساد العبارة.
وإنه ليحسن بالحكومة التي تعمل عَلَى إصلاح اللغة في البلاد أن تصلح لغتها قبل كل شيء حتى يثق الناس أنها إنما تعمل ذلك في بنية صادقة وعزم صحيح.
الشعر
لم يكن للشعر العربي أن يرقى بعد فساد السليقة اعوجاج الألسنة لذلكم انحط في الأيام الماضية حتى يكاد ينسى ولكنه الآن قد ارتقى بعض الشيء عَلَى أنه لا يزال منحطاً بالقياس إلى الشعر العربي القديم وإلى رقي الإنسان في هذا العصر وإن كان بالقياس إلى شعر القرن الماضي في أرقى الدرجات عَلَى أن العامة قد سلكوا في التعبير عن شعورهم مسلك الإسجال والأوزان البلدية وانقطعت العلاقة بينهم وبين الشعراء الذين اصطنعوا اللغة الفصحى كما قلت في أول المحاضرة.
الخطابة
أما الخطابة فهي الآن قسمان أحدهما خطابة المسجد وهي عبارة عن ألفاظ فارغة قد ملئت بها كتب كثيرة يحفظها أئمة المساجد ويتلونها عَلَى الناس من غير أن يكون لها أثر محمود وأنا أترك لكم تقدير نكبة المنابر الإسلامية بهؤلاء الخطباء بعد أولئكم المصاقع المناطيق.
ومن المضحكات أن القاعدة في صدر الإسلام هي اعتماد الخطباء عَلَى السيوف في البلاد التي فتحت عنوة وعَلَى العصي في البلاد التي افتتحت صلحاً فلما خلف هذا الحلف أصبح أئمتنا يعتمدن الآن عَلَى سيوف من خشب عَلَى نحو من التقليد الممقوت.
الثاني خطابة الأندية والجماعات عَلَى حد سواء كانت سياسية أو علمية أو أدبية وهذا النوع كثيراً ما يشتمل عَلَى المباحث المفيدة ولكن آداب الخطابة العربية قد تنوسيت فيه واستبدلت منها آداب جديدة بين العامية والإفرنجية وقد استباح الخطباء لأنفسهم في الخطابة أشياء لم تكن مستباحة من قبل بل كانت محظورة عَلَى الخطباء كالسعال وشرب الماء وغيرها أما لغة الخطابة فليست بتلكم اللغة الراقية وإنما هي عامية في كثير من الأحيان وبما يخلط الخطيب بين اللحن والإعراب ومصدر ذلكم أنه لم يحسن درس اللغة حين بدأ في تعلمها.
طريقة الإصلاح
لا اعرف في إصلاح اللغة إلا طرقاً ثلاث قديمة غير جديدة أي أني لست مبتدعاً لها بل قد سبقني لها المصلحون الأولى نشر الآثار القديمة للعرب وإحياء ما ألفوه من كتب العلوم والآداب ليقراها الناس فيحصلوا عَلَى نتيجتين لازمتين إحداهما معرفة الأساليب العربية الصحيحة واستظهار الألفاظ المتخيرة والوقوف عَلَى مبلغ ما كان للقوم من سعة المدارك والعقول - الثانية شعور القراء بفخامة ذلكم المجد الضائع والشرف المفقود شعوراً يدفعهم إلى النهوض لاسترداده وإعادة ما كان له من منزلة سياسية ومكان رفيع ويلحق بهذه الطريقة ترجمة الكتب النافعة مما ألفه الفرنج لنتسع بها العقول وترقى النفوس وقد جرى الأستاذ الإمام رضي الله عنه في هذه الطريق شأواً بعيداً فألف جماعة إحياء الكتب العربية التي نشرت المخصص وغيره من الكتب فلم يمت رحمه الله حتى نقض عقدها ولم يبق لها أَثر في الوجود وقد قرأت للحكومة في السنة الماضية قراراً في هذا الموضوع بفضل أستاذي الجليل أحمد زكي باشا وكن مضى عليه العام ولم تظهر له نتيجة أو أني لأخشى أن يكون قد لحق بأمس الدابر - الثانية تأليف جماعة من أُولي العلم باللغة والبصر بمادتها وأساليبها تقوم بما يحتاج إليه هذا العصر من تنمية المحدثات عَلَى إحدى الطرق التي أرت إليها آنفاً وهي الاشتقاق والمجاز والتعريب وتعمل عَلَى استبدال كثير من الألفاظ العامية بمرادفاتها من اللغة الفصحى وتشرف عَلَى أساليب الكتابة والشعر والخطابة فتذود عنها ما يدخله عليها الواغلون من أدعياء الشعراء والكتاب وإنما احتجنا إلى هذه الجماعة الآن لما تعلمون من أن اللغة الفصحى قد أصبحت الآن صناعية فلن تبلغ مكانتها الأولى إلا إذا وجدت لها من أهل السلم أطباء حاذقين يحسنون الطب لدائها والتلمس لدوائها وقد وجدت منذ سنين لسيء من هذا العرض في نادي المعلمين فاستبشرنا ورجونا الخير فاستقبلتها الصحف بالحمد والإغراق في الثناء ولكنها لم تلبث أن غطت في نوم عميق وأملها الآن تحلم بحسن الظفر وتحقيق الآمال.
الثالثة تعويد الأطفال من أول عهدهم الإصابة وتخير الجيد من القول عَلَى الطريقة الممكنة حتى يشبوا وقد قويت السليقة العربية قلم يحتاجوا إلى القواعد إلا من حيث أنها نوع من الفلسفة اللغوية كما هو عملها الحقيقي ولست أرى لأكفأ لهذا العمل ولا أقدر عليه من الأستاذ أحمد أفندي القطان في بستانها الصغير الذي خطبكم فيه منذ أيام فإذا استطاع هذا الأستاذ أن يعدني بأنه سينشئ اللغة الفصحى في هذا البستان كما ينشئ الخلاق والعقول فقد حق له عليّ الثناء الجميل وقد حق علينا جميعاً أن ننهض ونبذل ما نستطيع لإيجاد هذا البستان وأمثاله وبهذه الطرق الثلاث التي فصلتها الآن تفصيلاً نستطيع أن نضمن للغة استرداد مجدها القديم.
طه حسين