انتقل إلى المحتوى

مجلة المقتبس/العدد 69/بين الفيحاء والشهباء

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة المقتبس/العدد 69/بين الفيحاء والشهباء

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 11 - 1911



عمران حلب القديم والحديث

كان أجدادنا يقطعون المسافة بين دمشق وحلب في تسعة أيام على الدواب وها قد أصبحنا نقطعها في ست عشرة ساعة بالقطار وهو يمر مر السحاب ولو وجدت الشركة داعيا قويا لقطعت اليوم في ساعة فبفطر الراكب في الصباح في الفيحاء ويتعشى في حاضرة سورية البيضاء لأن المسافة تقل عن أربعمائة كيلو متر يتيسر قطع الخمسين كيلو مترا في ساعة واحدة من رياق إلى حلب والخط بينهما من النوع العريض وقطاراته منظمة أكثر من قطارات بيروت - دمشق - حوران أو يافا - القدس أو حيفا - دمشق - المدينة.

أتيت الشهباء أو عاصمة سورية البيضاء لأول مرة فرأيت فيها الصورة التي كانت تتخيلها المخيلة إلا قليلا وذلك لأن القدماء والمحدثين اشبعوا الكلام عليها أكثر من كل بلد سواها ولان الحكومات التي توالت عليهم أرفعت من شانها وأعلت من بين البلدان ذكرها. وناهيك ببلد كان ينزله ويمدحه ويحن إليه مثل البحتري والمتنبي والصنوبري وكشاجم والمعري والخفاجي وابن جبوس والوزير المغربي وأبي العباس الصفري وأبي فراس والحلوي وابن سعدان وابن حرب الحلبي وابن النحاس وابن أبي حصينة وابن الحداد وابن العجمي والملك الناصر وياقوت وغيرهم من رجال الأدب والعلم. وما قاله الشعراء في مدحها يكاد يقترب مما قالوه في أختها الفيحاء فقد قال كشاجم:

أرتك ندى الغيث آثارها ... وأخرجت الأرض أزهارها

وما أمتعت جارها بلدة ... كما أمتعت حلب جارها

هي الخلد تجمع ما يشتهى ... فزرها فطوبى لمن زارها

وقال البحتري:

أقام كل ملث الودق رجاس ... على ديار الشام ادرس

فيها لعلوة مصطاف ومرتبع ... من بانقوسا وبابلي وبطياس

منازل أنكرتنا بعد معرفة ... واوحشت من هوانا بعد إيناس

يا علو لو شئت أبدلت الصدود لنا ... وصلا ولان لصب قلبك القاسي

هل لي سبيل إلى الظهران من حلب ... ونشوة بين ذاك الورد والأس وقال المتنبي:

كلما رحبت بنا الروض قلنا ... حلب قصدنا وأنت السبيل

فيك مرعى جيادنا والمطايا ... وإليها وجيفنا والنميل

أول من استوطن بقعة حلب بنو حام بن نوح وكانوا ينزلون من شط بغداد إلى مصر وقد كانت فرقة منهم فيها قيل أنها تسمى الكيتا فسكنت بقعة حمص وحماة وحلب. وسكن حلب إبراهيم الخليل ثم جاء بعده بنو أرام بن لوط من بني سام واستولوا على تلك البقعة واخرجوا منها أولاد حام فسميت مملكة الآراميين والسريانيين وقسموها إلى ثلاثة أقسام الأولى جزيرة الآرام وهي من الخابور إلى الفرات والثانية المملكة الشامية وهي دمشق وما قرب منها الثالثة مملكة آرام صوبا وهي الجبول من ضاحية حلب وما قرب منها.

ووصفت حلب بالشهباء لأن القادم إليها تتراءى له بيضاء من بعيد بخلاف غيرها من البلدان. ويقولون أنها منم بناء العمالقة بدليل الكتابة التي وجدت على الحجر الأسود في الحائط بظاهر جامع القيقان داخل باب انطاكية مكتوبة بالخط الهيروغليفي بلغة الكيتا أو الحماتيين وكانت هذه الكتابة مصطلحا عليها في أيامهم وكان اسم حلب بلغتهم هليون وهلبه واستمرت بأيديهم إلى إن أتى ملوك الفراعنة من مصر وحاربوهم وملكوها منهم وهم توتمس الأول وتوتمس الثاني وسيأتي ورعمسيس الأول وذلك قبل التاريخ المسيحي بألفين وخمسمائة سنة إلى ثلاثة آلاف سنة ثم استردها الكيتا منهم صلحا واتى بعدها ملوك بابل وحاربوا السريانيين وملكوها وذلك قبل التاريخ المسيحي بستمائة وستين سنة وقد عثروا في قرية من قرى جبل سمعان قرب حلب اسمها كفرنابو على الصنم الذي كان يعبده البابليون ومعنى نابو بلغتهم اله فيكون معنى كفرنابو قرية الإله وفي سنة 860 ق. م حارب شلمناصر الرابع الحماتيين وملك حلب في جملة ما ملك من البلاد فظل ملوك الحماتيين تحت سلطة البابليين إلى إن أتى ملوك العجم واستولوا على البلاد فاخرجوا البابليين منها وبقيت بأيديهم إلى إن جاء لاسكندر وأخذها منهم فصارت مسكنا للروم اليونانيين يقولون لها ما خيله ولما حولها خلبن بالخاء المعجمة وكانوا يقولون لها بروبا لأنها فيم أقيل تشبه إحدى مدنهم ولعلها عربية من قولهم بريرى لأن الناظر إلى البر من قلعة حلب يراه ممتدا إمامه.

وجدد سلوقس تيكاتور احد ملوك الرومان قبل المسيح بثلاثمائة واثنتي عشرة سنة بناء نحو النصف من مدينة حلب وبنى القلعة وأمر اليهود إن يختلفوا إليها التجارة ويقيموا بها فكثرت دورهم حتى بلغت نصف ساعة طولا ثم استولى الروم على حلب وجعلوها كرسي مملكتهم مع سورية وإنطاكية.

وأراد السلوقيون أن يزيدوا في بناء حلب ثم عدلوا موثرين لقنسرين لأنها كانت أعظم والتجار يختلفون إليها أكثر فكانت تأتيها القوافل من البحر إلى الفرات ومن الفرات إلى البحر عن طريق قنسرين ولم يكن في حلب ما في قنسرين من الصناعات وغيرها حتى إن تجار أوروبا كانت تأتي إليها من السويدية في طريق إنطاكية ويأتي إليها تجار العجم من الفرات بطريق بالي (مسكنة) ولم تكن الطريق في ذلك الوقت سالكة إلى حلب إلا من يقصد الذهاب منبج (هيرابلس).

وقنسرين هي التي نسب إليها احد أجناد الشام الخمسة وهي جند فلسطين وجند الأردن وجند دمشق وجند حمص وجند قنسرين والجند هنا بمثابة الفيلق في أيامنا يتجمع فيه الجند ويقبضون أعطياتهم قال ابن جبيرة: إن قنسرين بلدة شهيرة في الزمان لكنها خربت وعادت كان لم تغن بالأمس فلم يبق إلا أثارها الدراسة ورسومها الطامسة ولكن قراها منتظمة لأنها على محرث عظيم من البصر عرضا وطولا وقد فسر ياقوت سبب خرابها ووصف موقعها فقال أنها كورة بالشام منها حلب فتحت على يد أبي عبيدة بن الجراح سنة 17هـ - وكانت مدينة بينها وبين حلب مرحلة من جبهة حمص بقرب العواصم وبعضهم يدخل قنسرين في العواصم ومازالت عامرة آهلة إلى إن كانت سنة 351 وغلبت الروم على مدينة حلب وقتلت جميع من كان بربضها فخاف أهل قنسرين وتفرقوا في البلاد فلم يكن بها في القرن السادس إلا خان ينزله القوافل وعشار السلطان وفريضة صغيرة وذكر ابن جبير الخانات من حلب إلى قنسرين إلى باقدين إن خانات هذا الطريق كأنها القلاع امتناعا وحصانة وأبوابها حديد وهي من الوثاقة في غابة

والعواصم حصون موانع وولاية تحيط بها بين حلب وإنطاكية وقصبتها إنطاكية كان قد بناها قوم واعتصموا بها من الأعداء وأكثرها في الجبال فسميت بذلك وربما دخل في هذا ثغور المصيصة وطرطوس وتلك النواحي ولم تزل قنسرين وكورها مضمومة إلى حمص حتى زمان يزيد بن معاوية فجعل قنسرين وانطاكية ومنبج وذواتها جنداً فلما استخلف الرشيد إفراد قنسرين بكورها فصيرها جندا وإفراد منبج ودلوك ورعبان وقورس وإنطاكية وتيزين وما بين ذلك من الحصون فسماها العواصم لأن المسلمين كانونا يعتصمون بها فتعصمهم وتمنعهم من العدو إذا انصرفوا من غزوهم وخرجوا من الثغر وجعل مدينة للعواصم منبج واسكنها عبد الملك ابن صالح في سنة 73 فبنى فيها أبنية مشهورة ذكرها المتنبي في مدح سيف الدولة فقال:

لقد أوحشت أرض الشام طراً ... سلبت ربوعها ثوب البهاء

تنفس والعواصم منك عشر ... فيوجد طيب ذلك في الهواء

جدد الملك كيرويس الشرواني ما انهدم من سور حلب وقت حرب العجم وعمر بالقرب من باب إنطاكية بيتا للنار لأنه كان ممن يعبدونها فاشتملت حلب إذ ذاك على أربعة أنواع من الديانات وهي اليهودية والنصرانية وعبدة الأوثان وعبده النار ثم دخل الإسلام وكانت حلب في المذاهب الإسلامية تختلف باختلاف الدول عليها شانها ذلك شان دمشق فتارة توالي عليا وأصحابه وأخرى توالي غيره.

ولما أراد بدر الدولة أبو ربيع سلمان ابن عبد الجبار بن الرق صاحب حلب بناء أول مدرسة للشافعية في هذه المدينة لم يمكنه الحلبيون إذ كان الغالب عليهم حينئذ التشيع وكان أهل حلب كلهم سنية حنفية حتى قدم شخص إلى حلب فصار فيهم شيعية وشافعية وهو الشريف أبو إبراهيم الممدوح.

وقد أتى صلاح الدين يوسف بن أيوب وخلفاؤه على التشيع في حلب وكان المؤذنون في جوامعها يؤذنون بحي علي خير العمل وحاول السلجوقيون الأتراك مرات القضاء على التشيع في هذه الديار فلم يوفق لذلك إلا الملك الناصر صلاح الدين كما ضرب على التشيع في مصر وكان على أشده فيها على يد الفاطميين بحيث لا يكاد عالم مصري يصرح بمذهبه إذ ذاك ولا يزال إلى اليوم أثر من آثار التشيع بادياً على حائط صحن المدفن الذي في سفح جبل الجوشن بظاهر الشهباء وفيه ذكر الأئمة ألاثني عشرية وكان حكم بني حمدان وهم شيعة من جملة الأسباب التي نشرت التشيع في حلب وجوارها وابتدأت حكومتهم سنة 333 هـ وانقرضت سنة 381 وفي سنة 141 ظهر في حلب قوم يقال لهم الرواندية خرجوا بحلب وحيران وكانوا يزعمون أنهم بمنزلة الملائكة وصعدوا تلا بحلب فيما قالوا ولبسوا ثيابا من حرير وطاروا منه فانكسروا وهلكوا.

ولقد كان لحلب كما كان لغيرها من أمهات المدن الإسلامية غرامة وشدة في التعصب على المخالفين ويعد في سيئات الجامدين تاليهم على الشاب السهروردي الحكيم الإلهي العالم فقد حاورهم فبزهم في حضرة صاحب حلب الملك الظاهر غازي بن الملك الناصر صلاح الدين يوسف فلم يروا واسطة لإهلاكه أحسن من الاستشفاع بوالد مليكهم فكتبوا إليه محضرا وبالغوا في عاقبة أمر السهر ودي حتى صدر الأمر إلى الملك الظاهر بقتل هذا الفيلسوف فاختار إن يلتقي الله بمنع الطعام والشراب وعنه وهلك في قلعة حلب فيما بلغني معروف إلى اليوم ناعيا على الدهر أولئك المتلاعبين بالدين والمتعصبين لأهواء نفوسهم زاريا على العصور الظلمات ولو كره السفسطائيون عادا ذلك سيئة لصلاح الدين وان كانت أعمال هذا كلها حسنات وأيامه غررا محجلات. قضى السهروردي ولم يتجاوز السادسة والثلاثين من عمره وكم مثله من حكيم قضت عليه أهواء معاصريه ولو عمر لملا الدين علماً وعقلاً.

وبعد فقد كان شان حلب في العهد الإسلامي شان سائر مدن الشام دخلت في حكم بني أميه ووليها عمالهم ثم انتقلت إلى أيدي بني العباس ووليها صالح بن علي سنة سبع وثلاثين ومائة فنزل حلب وابتنى بتا خارج المدينة من شرقها قصرا بقربه يقال لها بطياس بالقرب من النيرب وأثاره باقية ذكرها البحتري وغيره في أشعارهم وقد كان جماعة بني أمية اختاروا المقام بناحية حلب وآثروها على دمشق ومنهم هشام ابن عبد الملك انتقل إلى الرصافة وسكنها واتخذها منزلا لصحة تربتها ومنهم عمر بن عبد العزيز أقام بخناصرة واختارها منزلا ومنهم سلمة بن عبد الملك سكن بالناعورة وابتنى بها قصراً بالحجر الصلد الأسود.

ومازال عمال بني العباس يتولون من أمر حلب ما يتولون من سائر بلاد الخلافة حتى ولي المعتصم اشناس التركي الشام جميعه والجزيرة ومصر وجاء القرامطة حلب سنة 290 فقاتلهم أهلها ودخل الاخشيد حلب وافسد أصحابه في جميعه النواحي وقطعوا الأشجار التي كانت ظاهر حلب كانت كثيرة جدا وقيل أنها كانت من أكثر المدن شجرا. وقال ابن الخطيب: وكانت حلب كثيرة الأشجار وكان موضع باتقوسا (احد أحيائها اليوم) أشجار كثيرة كما ذكر ابن الملا في تاريخه أيضا فقد كان الإخشيد إذا نزل حلب يقطع أشجارها ويحاصرها فإذا أخذها ورجع إلى مصر جاء سيف الدولة بن حمدان وفعل ذلك الفعل وتكرر ذلك منهما حتى فني ما بها من الشجر ولذلك لما أمر الملك المؤيد شيخ بتسقيف قصر القلعة أمر إن يقطع له من الأخشاب من بلاد دمشق فقطعت وجيء بها إلى حلب في غاية الطول ونهاية الغلظ وقيل إن بعض الأخشاب المذكورة كانت من بعلبك ولما جاء الصليبيون حلب سنة 518 اخذوا يقطعون الأشجار من جملة ما أتوه من تخريبها وحدائقها المشجرة اليوم قليلة ليس بينها وبين ضخامة المدينة نسبة.

وتشرب حلب من نهر قويق وهو نهر ينبعث على ستة أميال من دابق ثم يجري إلى حلب ثماني عشرة ميلا ثم إلى قنسرين عشرين ميلا ثم إلى المرج الأحمر عشر ميلا ثم يصب في بحيرة المطبخ وذلك في زمن الشتاء وقال يافون إن مخرجه من قرية تدعى سبتات وقيل إن مخرجه من شناذر قرية على ستة أميال من دابق ثم يمر في رستاتيق حلب ثمانية عشر ميلا إلى حلب ثم يمتد إلى قنسرين اثني عشر ميلا ثم إلى المرج الأحمر اثني عشر ميلا ثم يفيض في أجمة هناك فمن مخرجه إلى مفيضه اثنان وأربعون ميلا وماؤه أعذب ماء وأصحه فيما قال ياقوت إلا انه في الصيف ينشف فلا يبقى إلا نزور قليلة وإما في الشتاء فهو حسن المنظر طيب المخبر وقد وصفه شعراء حلب بما ألحقوه بنهر الكوثر ومن أمثال عوام بغداد يفرح بفلس مطلي من لم ير دينارا وقد أحسن القيسراني في وصفه قوله:

رأيت نهر قويق ... فساءني ما رأيت

فلو ظمئت وأسقي ... ت ماءه ما رويت

ولو بكيت عليه ... بقدره ما اشتفيت

واسم قويق القديم شالوس وسبب تسميته بقويق إن رجلا من رؤساء عشائر التركمان في القرن الرابع للهجرة اسمه قويق آغا انشأ لهذا النهر عدة دود ليجري جرية حسنة فأطلق اسمه على النهر من ذاك الحين وأرباب الرقاعة يسمونه أبا الحسن وهو ينبجس اليوم من قرية اسمها جاغد يغين من إعمال عينتاب ويجري إلى قرية تبعد عن حلب ثلاث ساعات اسمها حيلان ويصب نحو ثلثه إلى حلب تجري إليه فيه عدة ينابيع مجداول من قضاءي عينتاب وكليس وينضم إليه نبع عين التل وعين البيضا المنسجمتين من جوار حلب وفي الشتاء تجري بقاياه إلى خان طومان من اعلي جبل سمعان وتكون من مياهه بحيرة تجف بحرارة الصيف

قال أبو فراس:

الشام لا بلد الجزيرة لذتي ... وقويق لا ماء الفرات منائي

وأبيت مرتين الفؤاد بمنبج ... السوداء لا بالرقة البيضاء

ويرى بعضهم إن نهر الساجور الذي كان إجراء ارغون إلى حلب ليزيد به نهر قويق إذا أضيف إلى ماء قويق تخصب أكثر ضواحي حلب واصل نهر الساجور من عينتاب وتجتمع إليه عيون أخر من بلاد تل باشر ثم ينتهي إلى الفرات ويصب فيه ويرى آخرون إن خير ذريعة لتكثير ماء حلب اقتطاع ترعة من الفرات وهو من حلب على 18 ساعة ولا يمنع انخفاض مجراه عن الانتفاع به في حلب على علوها وكيف كان الحال فمتى زاد عمران الشهباء يفكر أبناؤها في تكثير مائها.

وبعد فقد كانت الحرب سجالا بين سيف الدولة ابن حمدان والروم منذ استقرت له ولاية حلب سنة 336 إلى حين وفاته سنة 356 فكان يغزوهم ويغزونه فتخرب حلب ثم تعمر واستولوا عليها سنة 351 وحرقها الدمستق وعاث فيها بالقتل والنهب والسبي وبعد تسعة أيام رحل عنها ولم تكن حكومة سيف الدولة مباركة على حلب بقدر ما صورها شعراؤه الذين كان يغدق عليهم هباته ليقطع ألسنتهم ويشغلهم عنه ومن جملة ما قراناه من مظالمه إن أبا الحصين علي بن عبد الملك الرقي ولي قضاء حلب وكان ظالما فإذا مات إنسان اخذ تركته لسيف الدولة وقال: كل من هلك فلسيف الدولة ما ترك.

استولى الروم على معظم البلاد المجاورة كمرعش وأدنه وطرسوس إلا إن حلب لم يستولوا عليها وكذلك استولى الصليبيون على كثير من عمالاتها مثل إنطاكية والسويدية ولم يقدر بودوين اجدلا ملوكهم إن يستولي عليها سنة 1124 م ومازالت حالتها حال بلاد الشام على عهد الدولة الأيوبية حتى وافاها التتر وحاصروها سنة 658 حصارا شديدا وقتلوا من أهلها كثيرا وقتل هولاكو أهل حارم عن آخرهم وسبي النساء وخرب أسوار قلعتها عن آخرها وجاء قازان التتري سنة 699 فحاصر حلب وخربها وقتل واسر كثيرا من أهلها وجاء تيمورلنك سنة 803 وأجرى في حلب ما أجراه في دمشق من الفظائع والنهب والقتل والسبي وفي سنة 863 وقع الطاعون بحلب فاحصي من مات بها وبضواحيها فأربى على مائتي ألف إنسان وكادت تخرب بالفتن الأهلية سنة 896 عن آخرها كتب ابن بطلان إلى هلال بن المحسن الصحابي في نحو سنة 440 هـ في دولة بني مرداس حلب فقال أنها بلد سور بحجر ابيض وفيه ستة أبواب وفي جانب السور قلة في أعلاها مسجد وكنيستان وفي البلد جامع وست بيع وبيمارستان صغير والفقهاء يفتون على مذهب الأمامية وشرب أهل البلد من صهاريج مملوءة بماء المطر وعلى بابه نهر يعرف بقويق يمد في الشتاء وينضب في الصيف وفي الوسط دار علوه صاحبه البحتري وهو بلد قليل الفواكه والبقول والنبيذ ومن عجائب حلب إن في قيسارية البز عشرين دكانا للوكلاء يبيعون فيها كل يوم متاعا قدره عشرون ألف دينار مستمر ذلك منذ عشرين سنة والى الآن وما في حلب موضع خراب أصلا.

قلنا وقد اشتهرت حلب في عامة أدوارها بإتباع تجارتها لوقوعها في طريق القوافل وتوسطها من بلاد الروم والجزيرة والعراق والشام ولذلك لم تنحط صناعة البز الو الأقمشة حتى في أيامنا هذه كما انحطت في معظم بلدان الشام لأن لها من بلاد الروم مصارف تنفق فيها سلعا ويعتقد أهل الروم الخير في تجار الشهباء فلا يعاملون غيرهم للألف والعادة وذكر المقدسي إن من التجارات التي كانت تجمل من حلب القطن والثياب والاشنان والمغرة.

قال ياقوت ولأهل حلب عناية بإصلاح أنفسهم وتثمير الأموال فقلما ترى من ناشئتها من لم يتقبل أخلاق إبائه في مثل ذلك فلذلك كان فيها بيوتات قديمة معروفة بالثروة ويتوارثونها ويحافظون علي قديمهم بخلاف سائر البلدان هذا ما وصف به الحلبيون منذ نحو سبعة قرون وهي أخلاق لم تبرح متسلسلة في أعقابهم إلى يوم الناس هذا ولذلك صح إن يقال أن الحلبيين أغنى من الدمشقيين والبيروتيين والحمويين والحمصيين والطرابلسيين والنابلسيين والمقدسيين والعكاريين واليافاويين والحيفاويين.

وصف ابن حوقل مدينة حلب في القرن الرابع فقال إنها مدينة جند قنسرين وكانت عامرة جدا غاصة بأهلها كثيرة الخيرات كان لها سور من حجارة لم يغن عنهم من العدو شيئا فخرب الروم جامعها وسبي ذراري أهلها واحرقها وكان بها قلعة غير طائلة ولا حسنة العمارة فلجا إليها قوم من أهلها فنجوا وهلك بها من المتاع والجهات للغرباء وأهل البلد وسبي بها وقتل من أهل سوادها ما في أعادته ارماض من سمعه ووهن على الإسلام وأهله وكان لها أسواق حسنة وحمامات وفنادق ومحال وعراص فسيحة وهي الآن كالمتماسكة ولم تنزل أسعارهم في الأغذية وجميع المأكل قديما واسعة رخيصة وعليهم ألان للروم في كل سنة قانون يؤدونه وضريبة تستخرج من كل دار وضيعة معلومة وكأنهم معهم في هدنة وليست وان كانت أحوالها متماسكة وأمورها رضية بحال جزء من عشرين جزءا مما كانت عليه من قديم أوقاتها وسالف أيامها.

ووصف ابن جبير حلب في القرن السادس فقال: إن هذا البلد موضوعة ضخم جدات حفيل التركيب بديع الحسن واسع الأسواق كبيرها متصلة الانتظام مستطيلة تخرج من سماط صنعة إلى سماط صنعة أخرى إلى إن تفرغ من جميع الصناعات المدنية وكلها بالخشب فسكانها في ظلال وارفة فكل سوق منها تقيد الأبصار حسنا وتستوقف المستوفز تعجباً وأما قيساريتها فحديقة بستان نظافة وجمالا مطيفة بجامع المكرم لا يتشوق الجالس فيها مرأى سواها ولو كان من المراي الرياضية قد اتصل السماط خزانة واحدة وتخللها شرف خشبية بديعة النقش وتفتحت كلها حوانيت فجاء منظرها أجمل منظر وكل سماط منها يتصل بباب من أبواب الجامع المكرم.

وقصارى القول فان عمران حلب القديم يشبه عمرانها الحديث إلا قليلا ومن أعظم ما يجعل الشبه كثيرا بين أدوارها المختلفة ذاك الحجر الأبيض المتين بني الحلبيون به بيوتهم وحوانيتهم وخاناتهم وتكاد تظن الشوارع والحارات والمساكن قطعة واحدة لأنها كلها مبلطة معمولة من صنف واحد من الحجارة تنبسط له النفس بخلاف الحجر الأسود الكثيب المستعمل في النداء بدمشق وحمص وغيرها.

وقد أصاب حلب من مقوضات دعائم العمران في القرون الأخيرة ما أصاب غيرها من بلدان سورية ومنها الزلازل والأوبئة التي انتشرت فيها عقيب استيلاء السلطان سليم العثماني عليها سنة 922 بعد وقعة دامت ست ساعات بين جنده المؤلف إذ ذاك من ثمانين ألفا وثمانمائة مدفع وجند الغوري الجركسي سلطان مصر والشام الذي كان ضعيف التدبير قليل النظام وذلك في مكان يعرف بمرج دابق على بضع ساعات من حلب ونهض الحلبيون ففتحوا أبواب مدينتهم للفاتح بزعامة خيري بك والي حلب من الجراكسة كما تلقاه أهل دمشق كذلك لأن الناس كانوا سئموا في مصر والشام من الجراكسة وعلقوا الآمال الطويلة بدولة ابن عثمان الفنية القوية وقد استولى السلطان سليم على مليوني ذهب ومهمات كثيرة كان أذخرها الغوري في خزانة حلب ليقوى بها على محاربة العثمانيين والاستيلاء على القسطنطينية منهم فجعل الله بهلاك الغوري وانفض الناس حوله وأبقى السلطان العثماني البلاد على حالتها الأولى من حيث الإدارة في حلب وخطب فيها له لأول مرة تلقبا بخادم الحرمين الشريفين.

والظاهر مما في أيدينا من تواريخ حلب أنها لم ترتق ارتقاء محمودا على العهد العثمانيين بعد إن كانت في عهد العباسيين تضاهي بعظمتها بغداد والموصل على قول شيخ الربوة وكان جيش الانكشارية (بكي جرى) وغيره من اكبر أدوات التخريب ينسفون العمران ولا نسف المصائب السماوية ولم ينتظم لها أمر بحكومة الاقطاعات والنهب إلا عندما جرى تأليف الولايات على النسق المتعارف اليوم في السلطنة سنة 1283 هـ -.

فدخلت الحكومة في طور قليل من النظام وأصبحت الحال تحسن بإحسان الولاة الذين يتولونها فإذا كانوا أعفة قادرين على الإدارة يزيد عمران حلب وإلا فيقف أو يتقهقر وممن ساعد على عمرانها الحديث وتنظيمها وفتح الشوارع الجديدة فيها على الأصول المدنية جميل باشا ورائف باشا.

ويكتفي في تقدير غنى حلب في القرون الوسطى والقرون الحديثة إيراد دخلها من الجباية والعشور وغيرها والمقابلة بينها. هذا مع غلاء النقود إذ ذاك ورخصها في الأيام الأخيرة فقد كان ارتفاع حلب سنة تسع وستمائة في الأيام الظاهرية دون البلاد الخارجة عنها والضياع والأعمال ستة ألاف ألف وتسعمائة ألف وأربعا وثمانين ألفا وخمسمائة درهم وذكر ابن شداد تفصيل هذه الارتفاعات من الزكوات والعشمر وضرائب البقول والفواكه والخيل والجمال والبقر والغنم والرقيق والصناعات والغلات والحطب والفحم والخشب والحديد والقنب وغير ذلك من الحكورة والمواريث وغيرها فكانت في بعض النسخ 7. 305. 000 درهم.

وقال يايقوت ومسافة ما بيد مالكها في أيام الملك العزيز من المشرق إلى المغرب مسيرة خمسة أيام ومن الجنوب إلى الشمال مثل ذلك وفيها ثمانمائة ونيف وعشرون قرية ملك لأهلها ليس للسلطان فيه إلا مقاطعات يسيرة ونحو مائتين ونيف قرية مشتركة بين الرعية والسلطان وهي بعد ذلك تقوم برزق خمسة آلاف فارس مزاحي العلة موسع عليهم. قال الوزير الأكرم ابن النفطي وزير صاحبها لياقوت الحموي: لو لم يقع إسراف في خواص الأمراء وجماعة من أعيان المفاريد لقامت بارزاق سبعة آلاف فارس لأن فيها من الطواشية المفاريد ما يزيد على ألف قارس يحصل للواحد منهم في العام من عشرة آلاف درهم إلى خمسة عشر ألف درهم ويمكن إن يستخدم من فضلات خواص الأمراء ألف فارس وفي أعمالها إحدى وعشرون قلعة يقام بذخائرها وأرزاق مستحفظيها خارجا عن جميع ماذكرناه وهم جملة أخرى بسبحة ثم يرتفع بعد ذلك كله من فضلات الاقطاعات الخاصة بالسلطان من سائر الجبايات إلى قلعتها عنبا وحبوبا ما يقارب في كل يوم عشرة آلاف درهم وقد ارتفع إليها العام الماضي وهو سنة 625 من جهة واحدة وهي دار الزكاة التي يجبى فيها العشور من الإفرنج والزكاة من المسلمين وحق البيع سبعمائة ألف درهم وهذا مع العدل الكامل والرفق الشامل بحيث لا يرى فيها متظلم ولا متهضم وهذا بن بركة العدل وحسن النية وقد بلغ دخل حلب سنة 1322 شرقية من ضريبة الأملاك والبدل العسكري والأغنام والجمال والأعشار وغيرها 4564586 غرشاً صحيحا ودخل لواء حلب كله 29، 167، 416 غرشاً وبلغ دخل ولاية حلب كلها في تلك السنة ويدخل في ذلك لواء أمر مرعش وأورفة 41، 322، 107 قروش صيحة أنفقت الحكومة على جندها وموظفيها وغير ذلك 6، 715، 344 غرشاً هذا مع إن الجباية لعهدنا فاحشة والضرائب متعددة أكثر من الأدوار السالفة. ويقدرون قيمة الدراهم اليوم بثلاثة قروش صحيحة.

غنى حلب ولغتها ومعاهدها وتدليها

لما كانت حلب في طريق قوافل الهند أصبحت ممتازة بموقعها منذ القديم بين البلدان ومعدودة قاعدة شماليي سورية وقد كان الإفرنج ولا يزالون فيها أكثر عددا مما هم في دمشق لأنها اقرب منفذ لاتصال الشرق بالغرب فكان تجارهم يأتونها من ثغر السويدية يتجرون مع أهلها ويقايضون محصولاتهم ومحصولات الشرق ولا سيما الهند وفارس والعراق.

وكانت فرنسا والبندقية أول البلاد الأوربية التي اتجرت مع حلب وأقامت معها الصلات المهمة والمكاتب التجارية ثم جاء الانكليز في القرن السادس عشر وتلاهم الهولانديون ولا يزال الإفرنج فيها إلى اليوم يقربون من عدد إخوانهم نزلاء بيروت وبعضهم تناسلوا في حلب وارتاشوا وتأثلوا وعدوا كأنهم من أهلها. وقد كان البنادقة يتجرون بالبهار يأخذونه من حلب بكميات وافرة كما كانوا يجلبون منها الشب والقطن.

واهم ما أصاب حلب من الزلازل زلزلة سنة 1170م على عهد نور الدين محمود بن زنكي فقام يرممها وقلعتها وقد أصيبت بزلزال مدمرة في قرون مختلفة وآخرها زلزال سنة 1822 الذي خرب به ثلثها وزلزال سنة 1830 ونهضت حلب على عهد حكم إبراهيم باشا المصري من سنة 1831 إلى 1840م إذ جعلها معسكراً له.

لا يتجاوز سكان حلب في التعداد الرسمي ال - 30 ألفاً وربما كانوا في الحقيقة نحو 180 ثلثاهم أو أكثرهم من المسلمين والباقون روم ويهود وأرمن وموارنة وكاثوليك وبرتستانت ولكل طائفة من الطوائف الغير إسلامية عدة مدارس ابتدائية والمسيحيين متشبعون باللغة العربية أكثر من إخوانهم المسلمين النهم أكثر عراقة في التعلم بفضل مدارسهم والإفرنجية. أما المسلمون فان المتعلمين منهم يتعلمون على الطريقة التركية ليعيشوا عالة على التوظف اللهم إلا بضع مئات من الأتراك الأناضوليين الذين ينزلونها للتجارة أو الموظفين الذين يأتونها لخدمة الحكومة.

وليس للمسلمين مدارس أهلية راقية والمدارس التي تصبغ المأمورين هي المدرسة السلطانية وكانت إعدادية من قبل فقبلوا اسمها كما قبلوا أيم كثير من أسماء المكاتب الإعدادية في أمهات المدن العثمانية والمكتب الرشدي العسكري ومكتب الصنائع وفيها 92 كتابا ومدرسة ابتدائية أميرية و39 مدرسة لغير المسلمين و32 مدرسة دينية وبعضها عامر و3 مكاتب للإناث و7 خزائن كتب عامة كما إن فيه 16000 منزل ونحو 8000 دكان مخزن و117 خانا و106 أحياء و169 جامعا و 182 مسجدا و19 تكية وزاوية و40 حماما و21 كنيسة وديرا و4 بيع و29 طاحون ماء و128 طاحونا على الدواب و3000 نول و112 فرنا و 8 مدابغ و27 معمل مناديل وزهاء 100 قهوة و12 معمل صابون و50 خمارة و1885 حديقة.

وحلب برزخ بين البلاد العربية والتركية وعلى نحو أربعين كيلومترا من شمالي حلب يقل المتكلمون بالعربية وتصبح البلاد تركية محضة وان كان من أقضية حلب القريبة من لا يعرفون غير التركية من الفلاحين أسكنتهم الحكومة هناك مهاجرين من بلاد بعيدة. فمعظم أقضية لواء حلب يتكلم أهلها بالتركية كما إن أهلي لواءي اورفة ومرعش يتكلمون بالتركية وبعض العشائر في لواء مرعش يتكلمون بالكردية وفي بعض الأقضية من التركمان والعرب.

ويمكن إن نلخص من ذلك إن جهات الغرب من حلب كلها عرب وهي عبارة عن أقضية الدب وحارم وجسر الشغور ماعدا بعض قرى من إعمال حارم سكانها جركس وسكان العمق أكراد ومن الشمال من حلب إلى قبيل كليس عرب وتتكلم بعض قراهم بالتركية والعربية ومن كليس إلى اورفة فصاعدا كل السكان أتراك ومن الجهة الشرقية جميع السكان عرب وكل قضاء الباب في الشرق الشمالي من حلب عرب وفيهم قليل جدا من التركمان والأتراك والأكراد والجراكسة وكل قضاء منبج جركس نزلوه حديثا وفيهم عرب وقضاء الرقة عرب وقضاء المعرة في الجنوب عرب كله ويقال إن أهلي قضاء عينتاب يتكلمون بالتركية وقضاء كليس وان تكلم أهل المركز بالتركية فان النواحي يتكلم أهلها بالعربية والتركية والكردية.

وأهل قضاء اسكندرونة يتكلمون على الأكثر بالتركية والأرمنية وأهل إنطاكية منهم من يتكلم بالتركية ومنهم من يتكلم بالعربية فيصح أن يقال فيهم أن تركيهم تعرب وعربيهم تترك وأهالي ادلب كلهم عرب وكذلك أهالي حارم وفي بعض قرى هذا القضاء مهاجرون من الأتراك والجركس والتاتار وأهالي قضاء بيلام يتكلمون بالتركية وأهل أقضية المرة والباب وجبل سمعان وأهالي مركز قضاء جسر الشغر وناحية المضيق عرب وناحية أردوا أتراك وأكثر أهالي قضاء منبج من مهاجري الجراكسة وأهل قضاء الرقة عرب وأهالي قضاء جران منهم من يتكلم بالعربية ومنهم الكردية.

هذه هي اللغة الغالبة على حلب وأعمالها وليس اليوم في هذه المدينة ما يستحق الذكر من أعمال العمران سوى بناياتها الجديدة التي أقيمت إلا قليلا على مثال أبنية الأمم الراقية منفردة بعضها عن بعض ليتخللها الهواء والشمس بعيدة عن الطرق العامة لأن السكان من عاداتهم اليوم أن يؤخروا بناء بيوتهم وحوانيتهم ما أمكن ويعطوا فضل أراضيهم للشارع حتى يكبر بحسب الخريطة التي تريدها البلدية ولذلك تجد الإحياء الجديدة مثل العزيزية والجميلية فسيحة عريضة كأنها بنيت في يوم واحد أو هي لرجل واحد وكان من ذلك أن صرفت واردات البلدية القليلة وهي لا تتجاوز الستة آلاف ليرة مسانهة على تنظيف المدينة وتطهيرها وتنويرها.

ولقد كنا نود أن نرى في الشهباء نهضة علمية راقية لما عرف في أهلها من الذكاء والمضاء والحساب للمستقبل ولكن رأينا الخاصة الذين يرجى منهم إن يسيروا في المقدمة متشاغلين بخويصة أنفسهم ومن كان على خطتهم من المتأدبين دأبهم النيل من الكبراء وأرباب النفوذ والثراء ممن يتوفرون على اعنات الفقراء واجتجان الصفراء والبيضاء وربما صح أكثر هذه الشكوى ولكن لا حيلة فيمن اعجزوا الحكومة وعرفوا كيف يصرفونها على ما يشاؤون. وعندنا أن يترك الطعن جانبا ولتعارف الطبقة المستنيرة إلى الطبقة القابضة على زمام البلاد من الأعيان الموسرين ليتسنى بذلك النهوض بالشعب المسكين وتثقيف عقول الناشئة ومادام الاختلاف مستحكما بين المنورين والموسرين فالغرباء يجدون سبيلا إلى التلاعب وينطبق ذلك مع رغائبهم.

نحن نعتقد انه ربما كان من أرباب اليسار من جمعوا ثرواتهم الطائلة من طرق غير مشروعة في حكومة عبد الحميد ولكننا نعتقد أن منهم من جمعوها بالاتفاق كان تتوالى سني الجدب - والخصب قلما يدوم سنتين كثيرة في حلب وعملها - فيأتي الفلاح باكيا شاكيا إلى ذاك الوجيه يتخلى له عن كل ما يملك من عقار وارض ليعوله وعياله ويدفع عنه الضرائب والعشور التي يتعذر عليه جدا في غير سني الخيران يقوم بها حق القيام.

وسواء جمع أرباب اليسار ما يملكون الطرق القانونية المشروعة أو من السحت البحت وإرهاق الفلاح والعبث بمصلحة الفقير فان من ملك ملك ومن هلك هلك وليس من وسيلة الآن لنزع ما ملكوا من أيديهم فالا حجي أن تحسن سياستهم في الجملة للانتفاع من أموالهم تصرف على أعمال الخير وإنشاء الكتاتيب والمدارس وما نظن أكثرهم إلا قانعين من الطبقة المستنيرة بالسكوت عما مضى. وما تم في الغابر هو لا جرم نتيجة ضعف الحكومة وفسادها ولو عرفت منذ القديم كيف تحسن سياسة الرعية وتدفع الناس بعضهم عن بعض لما اختل النظام ولرضي الخاص والعام.

نحن نعلم أن أموال الأغنياء هنا بل وفي كل مكان تصرف على الأكثر فيما لا يرضى عنه الأدب والأخلاق وان أبناء الطبقة الوسطى أمضى عزائم وأجمل أخلاقا ولكن ليست المهارة في النقد من بعيد بل المهارة بدخول المجتمع وإصلاح ما أمكن من مفاسده ومهلكاته. أن في التباعد جفاء وفي الاجتماع حسن تفهم وكم من عدو لك بتحكك به ينقلب على الزمن صديقا وكم من صديق يكون بابتعادك عنه عقوقاً.

أن ما رأيناه من حلب وهي ماهية من عظمتها وغناها وما نقل لنا وشهدناه من تنوع ضروب الفجور والملاهي فيها أبكانا على قاعدة من أهم قواعد الشام وكهف عظيم من كهوف الإسلام ودعانا إلى إن ننسب القصور للعالمين والجاهلين على السواء فلا يخلص من تبعه هذا الانحلال عاقل اللوم يلحق العالم أن ينال الجاهل.

تالله لو صرفت حلب ربع ما تنفقه في سبيل اللهو والموبقات على المعارف والآداب الرافعة لأصبحت في بضع سنين ذات مدنية راقية. وبعد أليس من العار أن تكون نابلس في فلسطين وهي مشهورة بانغماسها في حماة الجهالة بعدد نفوسها اقرب إلى التعلم من حلب دخل من أبناء أعيانها بضعة وعشرون ليدرسوا في المدارس الأستانة العالية وبضعة قصدوا ديار الغرب ولا نرى إلا عددا قليلا من الحلبيين يقصدون الأستانة ليتخرجوا في مدارسها ليجيء منهم اتكاليون من عباد الوظائف وعبيد الحكومة ولا نرى في الغرب من أبنائهم سوى اثنين أو ثلاثة فقط وبهذا نرجو النهوض ونتوسل بأسباب الارتقاء.

أليس من العار أن يكون بلد يبلغ بمساحته ضعفي مساحة دمشق وفي غناه التجاري من أهم المدن التجارية في البلاد العثمانية وفي طيب مناخه من أجود البقاع وفي مضاء سكانه مثلا مشهورا ثم لا تشهد فيه صحيفة عربية واحدة تصدر باسم رجل مسلم من أهلها بعرف طرق الإصلاح ويحسن المطالبة به. ولا مدرسة ابتدائية أهلية تعلم ابن الفلاح والتاجر والصانع ما يلزمه في دينه ودنياه ولا ناديا ولا جمعية ولا شركة تنفع في التعارف والتعاطف والتكافل.

أن معظم البلاد استفادت من نعمة الدستور فهبت تتعلم وتفكر في الإصلاح ولكن حلب على ما ظهر لنا في مؤخرة البلدان التي لم تدرك حتى الآن ما يراد بالحرية.

أن تلك الطائفة التي تعتز اليوم بأموالها وبينها سيجيء عليها زمن تدثر هي وما جمعت ومن جمعت لهم أن لم تعالج ذاك الضعف المميت بقوة العلم والأخلاق ويستخلف ربنا غيرها في أرضهم ممن يصلحها شانه في خليقته منذ دحي الأرض ورفع السماء.

قلعة حلب

أصاب الآثار القديمة في هذه المدينة ما أصاب اثأر غيرها من البلدان فلم يبق منها إلا أنقاض تنبي بمغالاة السلف في تجويد البناء وإحكامه ومن أهم هذه العاديات قلعة حلب فهي أفخم ما في الديار الحلبية من القلاع بنيت وسط المدينة على أكمة ربما كانت صناعية ويحيط بها خندق عظيم كان القدماء يملئونه ماء ليتعذر الوصول إليها إلا من مدخلها وهذا من أحصن ما يتصور العقل ويقال أن مدينة أي حلب القديمة كانت كلها مبنية في هذه القلعة وقد تعاورتها الأيدي بالبناء في قرون مختلفة وظلت مسكونة إلى سنة 1822م أيام خربت بالزلازل.

يسير الداخل إلى القلعة على جسر بديع أقيم فوق الخندق فيبلغ برجا خارجا جعل في واجهته أنواع من نوافذ الحديد البديع قيل انه من عهد الملك الظاهر لما وجد في مدخله من كتابة تاريخها سنة 605 مع بعض الآيات الكريمة وقد بذل بعض علماء الآثار قدرا وافرا من المال لقلع تلك النوافذ واخذ حديدها وأحجارها إلى متاحف أوربا فلم تقبل الحكومة ولا تزال تحظر الدخول إلى القلعة إلا برخصة لأنها جعلت فيها مستودعا لبعض المهمات العسكرية وفي دهليز القلعة المتعرج عدة كتابات ونقوش بارزة على الحجر ومنها صورة نمرين على الباب ويساره من أجمل ما زبرت أيدي الناقشين على الصخور فإذا دخل المرء من الباب وجد ساحة وأثار عدة شوارع وركاما من الأنقاض بعضها أنقاض جامع ومأذنة وأخرى أنقاض أروقة وأخرى محال لرصد العدو وفي الوسط صهريج كبير يستقى منه إلى اليوم ماء عذب والغالب انه من ماء المطر. والناظر إلى حلب من قلعتها يدرك عظمتها ويتجلى له برها الفسيح البديع ولا سيما زمن الربيع وقد اكتست السهول والجبال بجللها السندسية.

قال ابن الشحنة أول من بنى قلعة حلب سلوقس الذي بنى مدينة حلب وهي على تل مشرف على المدينة وعليها سور محكم البناء وفي وسطها بئر ينزل إليها بمائة وخمس وعشرين درجة قد هندست تحت الأرض ويقال لها الآن ساطوره وكان بها دير للنصارى ويقال أن في أساسها ثمانية آلاف عمود ولما ملك كسرى حلب بنى بها مواضع ولما فتحها أبو عبيدة في أيام عمر بن الخطاب (رض) رمم أسوارها لأنها خربت بسبب زلزلة كانت أصابتها قبل الفتح فاخر بت أسوار البلدة والقلعة. ولما استولى نقفور ملك الروم على حلب سنة 351 امتنعت عليه القلعة ولم يكن لها يومئذ سور محكم ومن ذلك الوقت اهتم الملوك بعمارة القلعة وتحصينها فبنى سيف الدولة وابنه سعيد الدولة وبنو مرداس وعماد الدين اق سنقر وابنه عماد الدين زنكي وابنه نور الدين محمود وابنه الملك الصالح ولما ملك الملك الظاهر غياث الدين غازي حصنها وحصنها وبنى بها مصنعا للماء ومخازن للغلات وبنى سفح تلها بالحجر الهرقلي واعلي بها إلى مكانه ألان وبنى على الباب برجين لم يبن مثلهما قط وجعل لها ثلاثة أبواب حديد ولما تسلم التاتار القلعة أخربها وأخرب أسوارها واخذ ما كان بها من الذخائر والزردخانات والمجانيق ولم يبقوا بها مكانا للسكنى واستمرت خرابا إلى أن جددت عمارتها في أيام الملك الاشرف خليل بن قلاوون ولما أتى التمرلنك أخرب أسوار البلد والقلعة واحرقها واستمرت خرابا إلى أن جاء الأمير سيف الدين حكم نائبا من قبل الملك الناصر فرج برقوق فأمر ببناء القلعة وألزم الناس بالعمل في الخندق وأزال التراب منه حتى انه عمل بنفسه واستعمل وجوه الناس بحيث كان الأمراء يحملون الأحجار على ظهورهم.

هذا أجمل تاريخ لهذه القلعة البديعة اكبر قلاع سورية واهما إلى القرن العاشر وما نظن العثمانيين جددوا فيها شيئا بعد إلى يومنا هذا وقد وصفها ابن جبير في رحلته فقال: ومن كمال خلالها المشترطة في حصانة القلاع أن الماء بها نابع وقد صنع عليه جبان فهما ينبعان ماء فلا تخاف الظمأ ابد الدهر والطعام يصير فيها الدهر كله وليس في شروط الحصانة أهم ولا أكد من هاتين الخلتين ويطيف بهذين الجبين سوران حصينان من الجانب الذي ينظر للبلد ويعترض دونهما خندق لا يكاد البصر يبلغ مدى عمقه والماء ينبع فيه وشان هذه القلعة في الحصانة أعظم من أن ننتهي لي أوصفة وسورها الأعلى كله أبراج منتظمة فيها العلا لي المنيفة والقصاب المشرفة قد تفتحت كلها طيقانا وكل برج منها مسكون وداخلها المساكن السلطانية والمنازل الرفيعة الملوكية.

وهذا أخصر وصف للقلعة زمن عزها وعمرانها أيام كان بها يضرب المثل في الحسن والحصانة لأن مدينة حلب في وطاء من الأرض وفي وسط ذلك الوطاء جبل عال مدور صحيح التدوير مهندم بتراب صح به تدويره والقلعة مبنية في رأسه ولها خندق عظيم وصل بحفره إلى الماء وفي وسط هذه القلعة تصل إلى الماء المعين وفيها جامع وميدان وبساتين ودور كثيرة

وما أحرى هذا الحصن بقول البحتري من قصيدة يصف بها إيوان كسرى:

لو تراه علمت أن الليالي ... جعلت فيه مأتما بعد عرس

وهو بنبيك عن عجائب قوم ... لا يشاب البيان فيهم بلبس

ليس يدري اصنع انس لجن ... سكنوه أم صنع جن لأنس

عمرت للسرور دهرا فصارت ... للتعزي رباعهم والتأسي

فلها أن أعينها بدموع ... موقفات على الصبابة حبس

ذاك عندي وليس الدار داري ... باقتراب منها ولا الجنس جنس

زراعة حلب

ليس في ظاهر حلب من الحدائق الأنيقة ما يبلغ نحو عشر ما في ظاهر دمشق على كثرة الماء وجودة التربة هنا. أما في أعمالها فتنبت أكثر الحبوب وتجود معظم الثمار ولولا قلة الري التي تحدث بعض السنين بقلة الغابات وتدرجها نحو الفناء وما يعشش في أرباضها من الجراد في معظم السنين لكانت زراعتها كزراعة بلاد دمشق وأكثر ومع هذا فان أقضية دمشق لا تعادل أفضية حلب في زيتونها قال المهلبي: وتجلب من كور حلب وضيعها ما يجمع جميع الغلات النفيسة فان بلدة معرة مصرين وجبل السماق بلد التين والزيتون والزبيب والفستق والسماق والحبة الخضراء وقال ابن شداد وفي بعض ضياع حلب ما يجمع عشرين صنفا من الغلات. وقال ابن الشحنة ومما اختصت به حلب ماء الورد النصيبي الذي يستخرج بالباب من إعمالها فانه لا يوجد في الدنيا مثله بحيث لا يقاربه شيء مما يجلب إلى الديار المصرية من الشام مع أن المجلوب من دمشق عند المصريين في غاية العظمة بحيث يصفه أطباؤهم للمرضى فيقولون ماء ورد شامي. وقال ياقوت ويزرع في أراضيها القطن والسمسم والبطيخ والخيار والدخن والكروم والذرة والمشمش والتين والتفاح عذبا لا يسقى إلا بماء المطر ويجيء مع ذلك رخصاً غضاً روياً يفوق ما يسقى بالمياه والسيح. وقال ابن حوقل أن ما حول معرة نسرين من القرى أعذاءٌ ليس بجميع نواحيها ماءٌ جار ولا عين وكذلك أكثر ما بجميع جند قنسرين أعذاءٌ ومياههم من السماء وقال ابن جبير في بلاد المعرة وهي سواد كلها بشجر الزيتون والتين والفستق وأنواع الفواكه ويتصل التفاف بساتينها وانتظام قراها مسيرة يومين وهي من أخصب بلاد الله وأطهرها أرزاقاً.

ويصدر من حبوبها اليوم الحنطة والشعير والأرز والقطن والحمص والعدس والبقلاء وبذر الكتان والاينسون والسمسم والخردل والكزبرة اليابسة والماش والقصب والدخان وغير ذلك ومن الثمار الفستق الجيد في أفضية حلب وقلعة الروم وعينتاب ويجود الزيتون كل الجودة في أفضية حلب وإدلب وكليس وحارم وعينتاب وإنطاكية وجسر الشغر ونزيب ويجود الليمون والبرتقال بين إنطاكية واسكندرونة وفي حلب والباب يجود الرمان وفي أريح الكرز والوشنة كما يجود في حلب وإعمالها أنواع الثمار والبقول على اختلاف ضروبها.

ويجود التوت في أفضية إنطاكية إسكندرونة وبيلان وحارم بكثرة فيكون منه حرير جيد وفي أفضية الولاية ولواء مرعش مثل أفضية جسر الشغر وإنطاكية وبيلان وكليس وإسكندرونة وقلعة الروم من أعمال اورفة تخرج غابات كثيرة كالبلوط والدر دار والصنوبر والعفص والدفلة وغيرها وف جبال البستان تخرج على أطراف الأنهار والجداول أشجار برية من الحور والصفصاف وفي السهول عرق السوس ففي داخل الولاية يكثر التين والعنب والأجاص والدراق وفي السواحل الليمون والبرتقال والكراد والطورنج ويكي دنيا وفي هذه الولاية يكثر البصل والثوم ويجود البطيخ الأحمر (الجبس) من وراء العقل وتزرع البطاطا في بعض الأنحاء كما أن الكماءة تستخرج من باديتها وسهولها.

هواء حلب وصحتها

يبلغ ارتفاع حلب خمسمائة متر عن سطح البحر وبالنظر لتعرضها لحرارة الشمس من جهاتها الأربع وعبث الرياح التي لا يحول دونها حائل من الأشجار أو غيرها كان بردها شديداً وحرها على تلك النسبة فهوائها اقل اعتدالا من هواء دمشق يزيد في ذلك قلة مياهها في الدور كما هي في دور الفيحاء المشهورة بقاعاتها وأحواضها فهواء حلب جاف معتدل للغاية ولولا بناء منازلها بالحجر لضاقت أنفاس سكانها أيام القيظ وقد تبلغ درجة الحرارة الأربعين أو أكثر بالميزان المئوي وقد نزلت الحرارة في الشتاء الماضي إلى تحت الصفر بخمس وعشرين درجة.

ومع ذلك نجد لأهل حلب رجالا ونساء من صحة الأجسام ونضرة الوجوه مالا تكاد تجد مثله في معظم البلاد الداخلية من سورية. قال المهلبي وأما أهل حلب فهم أحسن الناس وجوها وأجساما والأغلب على ألوانهم الدرية والحمرة والسمرة وعيونهم سود وشهل. قلنا إما البياض الناصع فهو كثير للغاية ويزيده رونقا في بعض النساء تلك الحبة التي تخرج على الأغلب في الوجوه وتترك أثرا في الخدود بحجم الريال يزيدها رونقاً وحسناً.

وهذه الحبة يقال لها في هذه البلاد حبة حلب وهناك يقال لها حبة السنة وليست في الحقيقة خاصة بأهل حلب بل يشترك فيها سكان الشرق حتى بلاد فارس واختلف العلماء في تعليلها فقال قوم إنها تخرج بخاصية في ماء حلب ولو صحت هذه النظرية لكان أهل عينتاب وروم قلعة (قلعة الروم) وبيرة جك (البيرة) واروفة (الرها) وخربوت ودباربكم والموصل ودير الزور وبغداد ناجين منها والحال أنها تصيبهم كما تصيب الحلبيين حذو القذة بالقذة. وقال قوم أنها منبعثة من الماء ولو كان الأمر كذلك لاقتضى من ذلك أن تطلع في سكان القرى البعيدة ساعتين عن حلب على انك لا ترى لها فيهم أثراً.

وأغلب الأطباء على أنها من الإمراض السارية ودليلهم على ذلك أن إبراهيم باشا المصري لما قدم حلب كان في حملته رجل من قرية بشلمون في لبنان فأصيب بالقرحة المذكورة وقيل أن بئرا منها عاد إلى بلاده فعدى بها أهل قريته ويقال أنها لا تزال إلى اليوم موجودة ويقال لها الحبة الشامونية.

والحقيقة أن أمر هذه القرحة لم يبرح سرا غامضا على الأطباء ومرضا جلديا يصاب به الأطفال في الطفولة وبعض الغرباء الذين ينزلون حلب في الكبر ويقيمون فيها سنة وقد ينجون منها وإعراضها عبارة عن بثور تظهر في طرف من أطراف الجسم ويكون في الوجه أو اليد أو الرجل غالبا حتى إذا شفيت بدون أن ينشا عنها وجع تترك اثأرا ونوبا بيضاء ويصاب بها الغرباء والوطنيون على السواء كما يصاب بها الكلاب والقطط وكثيرا ما تخرج بعد أن يغادر المرء البلاد بزمن.

متنزهات حلب

تتغير أسماء المتنزهات كما تتغير أسماء البلدان بتغير الأزمان فمن متنزها تحلب القديمة اشمونيث قال أنها عين في ظاهر حلب في قبلتها تستقي بستانا يقال له الجوهري وان فضل منها شيء صب في قويق ذكره منصور بن مسلم بن أبي الخرجين يتشوق حلب

أيا سائق الإظعان من ارض جوشن ... سلمت ونلت الخصب حيث تزود

إلى أين عنها تشف مآب من الجوى ... فلم يشف مآبي عالج وزرود

هل العوجان الغمر صاف لوارد ... وهل خضبته بالخلوق مدود

وهل عين اشمونيث تجري كمقلتي ... عليها وهل ظل الجنان مديد

إذا مرضت ودت بان ترابها ... لها دون اكحال الأساة برود

ومن جرب الدنيا على سوء فعلها ... يعيب ذميم العيش وهو حميد

إذا لم تجد ما تبتغيه فخض بها ... غمار السر أم الطلاب ولود

بابلا قرية كبيرة بظاهر حلب بينهما نحو ميل وكانت عامرة آهلة في أيام ياقوت قال الوزير أبو القاسم بن المغربي.

حن قلبي آلة معالم باب ... لا حنين الموله المشغوف

مطلب اللهو والهوى وكناس ال ... خرد العنين والظباء الهيف

حيث شطا قويق مسرح طرفي ... والاسامي مؤانسي وأليفي

بطياس قال ياقوت أهل حلب كالمجمعين على أن بطياس قرية من باب حلب بين النيرب وبابلا كان بها قصر لعلي بن عبد الملك بن صالح أمير حلب وقد خربت القرية والقصر قال البحتري:

يا برق أسفر عن قويق فطرتي ... حلب فأعلى القصر من بطياس

عن منبت الورد المعصفر صبغة ... في كل ضاحية ومجني الأس

ارض إذا استوحشت ثم أتيتها ... حشدت على فأكثرت إيناسي

وقال أيضاً:

نظرت وضمت جانبي التفاتة ... وما التفت المشتاق إلا لينظرا إلى ارجواني من البرق كلما ... تنمر علوي السحاب تعصفرا

يضيء غماما فوق بطياس واضحا ... يبض وروضا تحت بطياس اخضرا

وقد كان محبوبا إلى لو انه ... أضاء غزالا عند بطياس احورا

تل ماسح قرية من نواحي حلب ذكرها امرؤ القيس في شعره:

بذكرها أوطانها تل ماسح ... منزلها من بربعيص وميسرا

جوشن جبل مطل على حلب في غربيها في سفحه مقابر ومشاهد للشيعة وقد أكثر شعراء حلب من ذكره جدا فقال منصور ابن مسلم بن أبي الخرجين النحوي الحلبي من قصيدة:

عسى مورد من سفح جوشن نافع ... فاني إلى تلك الموارد ظمآن

وما كل ظن ظنه المرء كائن ... يحوم عليه للحقيقة برهان

وقال ابن سنان الخفاجي:

ابرق طالع من ثانية جوشن ... حلبا وحي كريمة من أهلها

واسأله هل حمل النسيم تحية ... منها فان هبوبه من رسلها

ولقد رأيت فهل رأيت كوقفة ... للبين يشفع هجرها في وصلها

قال الخفاجي ومن هذا الجبل كان يحمل النحاس الأحمر وهو معدنه حربنوش قرية من قرى الجزر من نواحي حلب قال حمدان بن عبد الرحيم الجزري:

الأهل إلى حث المطايا إليكم ... وشم خزامى حربنوش سبيل

دابق قرية قرب حلب من أعمال عزاز بينها وبين حلب أربعة فراسخ عندها مرج معشب نزه كان ينزله بنو مروان إذا غزوا الصائفة إلى ثغر المصيصة وبقربها قرية أخرى يقال لها دويبق قال عيسى بن سعدان الحلبي

ناجوك من أقصى الحجاز وليتهم ... ناجوك ما بين الحص ودابق

أمفارقي حلب وطيب نسيمها ... يهنيكم أن الرقاد مفارقي

والله ما خفق النسيم بأرضكم ... ألا طربت من النسيم الخافق

وإذا الجنوب تخطرت أنفاسها ... من سفح جوشن كان أول ناشق

الدارين هو ربض الدارين بحلب ذكره عيسى بن سعدان الحلبي في مواضع من شعره فقال: يا سرحة الدارين آية سرحة ... مالت ذوائبها علي تجننا

أرسى بواديك الغمام ولا عنا ... نفس الخزامى الحارثي وجوشنا

أمنفرين الوحش من أبياتكم ... حبا بظبيكم أسا أو حسنا

اشتاقه والاعوجية دونه ... ويصدني عنه الصوارم والقنا

وقال الأعشي:

وكاس كعين الديك باكرت خدها ... بفتيان صدق والنواقيس تضرب

سلاف كان الزعفران وعندما ... يصفق في ناجودها ثم يقطب

لها أريج في البيت عال كأنه ... الم به من بحر دارين اركب

دير حشيان بنواحي حلب من العواصم ذكره حمدان بن عبد الرحيم فقال:

يا لهف نفسي مما أكابده ... إن لاح برق من دير حشيان

وان بدت نفحة من الجانب ال ... غربي فاضت غروب أجفاني

وما سمعت الحمام في فنن ... إلا وخلت الحمام فاجأني

وما اعتضت مذ غبت عنكم بدلا ... حاشا وكلا ما الغدر من شأني

كيف سلوي أرضا نعمت بها ... أم كيف انسي أهلي وجيراني

لا خلق رقن لي معالمها ... ولا اجتني انهار بطنان

لكن زماني بالجزر اذكرني ... طيب زماني به فأبكاني

ديرمارنين يعرف أيضا بدير السابان وهو بين حلب وانطاكية مطل على بقعة تعرف بسرمد وهو دير حسن كبير وكان خرابا في القرن السادس وآثاره باقية وفيه يقول الشاعر:

ألف المقام بدير رومانينا ... للروض ألفا والمدام حزينا

والكاس والإبريق يعمل دهرا ... وتراه يجني الأس والنسرينا

ديرعمان بنواحي حلب وتفسيره بالسريانية دير الجماعة قال فيه حمدان بن عبد الرحيم الحلبي:

دير عمان ودير سابان ... هجن غرامي وزدن أشجاني

إذا تذكرت منهما زمنا ... قضيته في عرام ربعاني

ومر أبو فراس بن أبي الفرج فقال مرتجلا: قد مررنا بالدير دير عمانا ... ووجدناه دائرا فنجانا

ورأينا منازلا وطلولا ... دارسات ولم نر السكانا

وارتنا الآثار من كان فيها ... قبل تفنيهم الخطوب عيانا

فبكينا فيه وكان علينا ... لاعليه لما بكينا بكانا

لست أنسى يا دير وقفتنا في ... ك وان أورثتني نسيانا

من أناس حلوك دهرا فخلو ... ك وأمسوا قد عطلوك ألامنا

فرقتهم يد الخطوب فأصبح ... ت خرابا من بعدهم اسيانما

وكذا شيمة الليالي تميت ال ... حي منا وتهم البنيانا

حربا مالذي لقينا من الده ... ر وماذا من خطبها قد دهانا

نحن في غفلة بها وغرور ... وورانا من الردى ماورانا

دير مرقس من نواحي الجزر قال حمدان بن عبد الرحيم يذكره:

الأهل إلى حث المطايا إليكم ... وشم خزامى حر بنوش سبيل

وهل غفلات الدهر في دير مرقس ... تعود وظل له فيه ظليل

إذا ذكرت لذاتها النفس عنكم ... تلاقي عليها وجدة وعويل

بلاد بها أمسى الهوى غير أنني ... أميل مع الأقدار حيث تميل

وذكر ابن الشحنة في تاريخ حلب طرفا صالحا من متنزهات حلب فقال أنها كثيرة فمنها ما يقصد في أيام الأعياد والمواسم ويستوي فيه الخاص والعام كباب المقام داخلا وخارجا يجعل فيه فيالات وتعمل فيه أنواع الفنون وتعقد به الحلق لأرباب الصنائع ويباع فيه أنواع المآكل وكذلك خارج باب النيرب وخارج باب الفرج إلى ارض الماتين والمجدية وخارج باب النصر وظاهر بانقوسا وظاهر باب قنسرين مادا إلى جسر الأنصاري. وإما ما يقصد في سائر الأيام والأوقات التي تخطر للمتنزهين فأولها من جهة القبلة الأبيض ثم مرج الخالدي وعين مباركة وعين اشمونيث وهي المعروفة بعين أشمول وارض بطياس والسعدي وهو قضاء فياح تجري فيه انهر متشعبة من نهر واحد بحافتيها مروج خضر وبها من الزهر المختلف مالا يبلغه الوصف ثم الجوهري وهو بستان قديم وصفه الشعراء والبلغاء ومنها الأنصاري وجسراه المعروف احدهما بحقل ابن رافع والفيض وجندبات وزاوية عباس ومنها ارض الخوابي وطواحين السلطان ومشهد الزرازير وبستان شمس لولوا وجبل جوشن والقلوت وجسر الطواشي وبستان البقعة وبستان العجمي والكهف وبستان الجزيرة والحبشي وقيصر ومرجة الفرايين وجسر باب انطاكية وجسر باب الجنان وجنينة المهمندار المعروفة آخر وقت بابن نجيح وبستان الوزير وجهرة الانكليس ومنها بابلى وهي قرية قريبة متصلة أرضها بأرض بانقوسا بها عدة جواسق وبحرات وجنينات وغير ذلك. ومنها قرنبية وجبل البختي والهزازة والميدان الأخضر ومشهد سيدي فارس وقسطل الحاجب وبعادين ومرجة أغلبك وارض بالصفراء وعين التل والأرض المسماة بالجوز سميت به لأشجار جوز عظام كثيرة الظل على شاطئ النهر ممتدة إلى حيلان وحوش البدوية وهو مكان فياح على نشر من الأرض ينبت فيه الشيح والقيصوم والقرنفل والصعتر ومنها الخناقية وكتف الأزرق والأرض المجدبة وجورة الأسقف التي بها بستان النصيبي وتجاه مرج السلحولية ثم جنينة عبيد والناعورة وارض الحلبة ورأس الطابق والنهريات وهي مسافة يومين من اول المسلمية إلى تل السلطان.

وللصنوبري الشاعر قصيدة طويلة في وصف بعض متنزهات حلب وقراها القريبة جاء فيها:

حبذا الباات باءا ... ت قويق وراها

بانقوساها بها ... باهى المياه حين باها

وببا صفرا وباب ... لا وبا (؟) مثلي وتاها

لاقلي صحراء نافر (؟) ... قل شوقي لأقلاها

لاسلا أجيال باسل ... ين قلبي لا سلاها

وبباسلين فليب ... غ ركابي من بغاها

والى باشقليشا ... ذو التناهي يتناها

وبعاذين فواها ... لبعاذين وواها

بين نهر وقناة ... قد تلته وتلاها

ومجاري برك يجل ... وهمومي مجتلاها

ورياض تلتقي آ ... مالنا فيما التقاها زاد اعلاها علوا ... جوشننا لما أعلاها

وأزدهن برج أبي الحا ... رث حسنا وازدهارها

واظبت مشرف الحص ... ن اشتياقا واطناها

وأرى المنية فازت ... كل نفس بمناها

ازدهواي العوجان السالب ... النفس هواها

ومقيلي بركة الت ... ل وسيبات رحاها

بركة تربتها الكا ... فور والدر حصاها

كم غراني طربي حي ... تانها لما غراها

إذ تلا مطبخ الحي ... تان منها مشتواها

بمروج اللهو ألقت ... غير لذاتي عصاها

وبمغنى الكاملي أس ... تكملت نفسي مناها

وغرت ذا الجوهر ال ... مزن غيثا وغراها

كلا الراموسة الحس ... ناء ربي وكلاها

وجزى الجنات بالس ... عدى بنعمى وجزاها

وفدى البستان من فا ... رس صب وفداها

وغرت ذا الجوهر ال ... مزن محلولا غراها

واذكر دار السليما ... نية اليوم إذ كراها

حيث عجنا نحوها العب ... س تباري في براها

وصفا العافية المو ... سومة الوصف صفاها

فهي في معنى اسمها حذ ... وبحذو وكفاها

وصلا سطحي وأحوا ... ضي خليلي صلاها

وردا ساحة صهري ... جي على سوق رداها

وامزجا الراح بماء ... منه أو لا تمزجاها

حلب بدر دجى أن ... جمها الزهر قراها

للرحلة صلة