مجلة المقتبس/العدد 67/البكتيريا
مجلة المقتبس/العدد 67/البكتيريا
البكتريا والباشول أو الميكروبات كلمات حديثة الوضع للدلالة على الأحياء الصغيرة التي كشفها مؤخراً المجهر المسمى بالميكروسكوب.
وهذه الأحياء ليست حييوينات كما يتبادر إلى الذهن من تسميتها بالأحياء بل نباتات في منتهى الصغر فلا ترى بالعين المجردة لأن معظمها خالٍ من الكلوروفيل أي المادة الخضراء التي تتلون بها النباتات فضلاً عن تناهيها في الصغر حتى لا يمكن لأحد من الناس بصراً أن يرى أكبرها بدون أن يستعين بالآلة المعظمة أو المجهرة وهي الميكروسكوب أو المجهر الذي ظهر إلى عالم الوجود في القرن الماضي. وذلك فالعلماء الذين عاشوا قبل القرن التاسع عشر لم يعلموا شيئاً عن عالم الأحياء هذه التي أصبح درسها الآن علماً قائماً برأسه كثير الفوائد للإنسان والحيوان من قبل الوقاية الصحية والفوائد الزراعية على ما سيجيء في هذه المقالة التي ضمناها زبدة أبحاث العلماء ذوي الاختصاص حتى سنتنا الحاضرة.
صفة البكتيرا وماهيتها وانتشارها: هي أحياء نباتية ذات خلية أو حويصلة واحدة شفافة اللون غالباً، مستديرة أو أسطوانية أو مستطيلة الشكل تبعاً لأنواعها، تنمو بالانقسام الآتي فتمتاز عل غيرها بفقد القوة التناسلية العادية ويخلو جرثومها من النواة. ومعدل قطر حجم جرثومتها الحويصلية نحو جزء من ألف من الميليمتر. والمليمتر جز من ألف من المتر.
وهي قديم العد جداً كما تدل على ذلك آثارها في الأحافير المتحجرة في عصر تكوين الفحم الحجري وما قله. وتود في البرك والأنهر والبحار، وتكثر في المراحيض وكوم الزبل، وفي التراب، وحيث تلقى المواد العضوية فتتعفن، وفي جميع السوائل كالدم واللبن والبيرا والماء على أنواعه، وفي المواد الغذائية الجامدة كاللحم والخضر وغيرهما. وكل مادة من هذا القبيل إذا ظلت مدة معرضة للهواء تنتابها البكتيريا وتتوالد فيها بسرعة وكثرة هائلة. ولذلك فهي منتشرة في كل مكان تحت سطح الأرض وعليه وفي الهواء وداخل الأجسام الحية. فهي عالم يعاشرنا ويعد بملايين الملايين ولم نكن نعلم عنه شيئاً يذكر حتى أواسط القرن الماضي.
ويقل انتشار هذه الأحياء في الأعالي والبلدان المفتوحة الجوانب خصوصاً ي الشمال حيث تقل جداً بالقرب من القطبة الشمالية وتعدم بتاتاً. وينقى منها هواء الأبحر والأقيانوس لأنه في تقلبه كثيراً ما يلامس الماء فيلقيها فيه ولذلك فهواء البحار أقل نقلاً للمرض والعدوى به. وكلما ارتفعنا به في الجبال قل وجوها حتى تكاد تفقد على علو600 متر فما فوق ذلك. ولهذا السبب تنسب مناعة أهل الجبال على بعض الأمراض كالهواء الأصفر وغيره مما لا تنقل ميكروباته إلا محمولة على ذرات الغبار التي تقل جداً في هواء الأماكن المرتفعة.
وتعيش الميكروبات على الحيوانات في درجات مختلفة من الحرارة. والنبات أقل ملاءمة لنموها لما فيه من السوائل الحامضة. إلا أنها تكثر أيضاً في الجذور والأغصان ذات الغدد تحت الأرض وفوقها. وهي تكثر في القناة الهضمية إلا حيث تجتمع المفرزات الحامضة لأن الحامض عدوها ولذلك يحسن معاطاته في أوقات انتشار الأوبئة. وقد علق بعض العلماء مكان كبرى على استعمال اللبن الرائب لما فيه من الحامض حتى نسب طول الحياة إلى طول استعماله غذاء.
تولد الميكروبات ونموها فعلاً: تتولد الميكروبات بالانقسام الذاتي فتتخذ أشكال أنواعها المتعددة بين مستدير وضمني وخيطي الخ. والمعتاد أن يكون انقسامها عرضاً لا طولاً فتنشق كالبراءة إذا نصفناها بالشق طولاً.
وقد امتحن بعضهم سرعة تولد هذه المخلوقات الصغيرة فزرع حويصله خويطية منها في مرق الساعة 11 صباحاً وكانت أشبه شيء بنقطة ترسم برأس إبرة فتضاعفت بعد ساعة بالانتفاخ وأفرخت عن الساعة 3. 5 بعد الظهر وصارت عشرة أضعاف حجمها الأصلي عند الساعة 8. 5 اتخذت شكلاً مستطيلاً معقداً وعند نصف الليل كان قد بلغت 12 عقدة كل منها حويصلة مستقلة. وبعد ذلك بدأت تنقسم عند ثلثها الأعلى انقساماً جانبياً بشكل قضبان دقيقة.
وهذا الانقسام كثيراً ما يحدث في بعض الأنواع بعد نصف ساعة من زرعها وما يشتق منها يعود فينقسم أيضاً بمثل هذا الوقت فيبلغ عدد ما يتولد منها في 24 ساعة ملايين الملايين كما لا يخفى على الحساب. وبعد هذا الإيضاح نعلم شدة الخطر جلياً من كثرة تولد الميكروبات الضارة داخل الجسم بمثل هذه السرعة. ولا يكون على الجسم خطر منها إلا إذا كانت من الأنواع التي تترك في الدم مفرزات أو بقايا سامة أي لا تلائم بطبيعتها الدم لاختلاف مادة عن مادتها اختلافاً عظيماً.
أما فعل البكتيريا في الجماد والأحياء فعلى غاية الشأن. لأنها هي التي تخمر العجين والخل والخمر وسائر المشروبات وتعدل المواد السائلة من دم وماء فتضر أو تنفع تبعاً لكيفية هذا التعديل وهي التي تفتت الصخور وتسحل وجه الأرض وتساعد على نمو النبات وحياة الحيوان بل قد عدها بعضهم أصل جميع الكائنات العضوية. إليك أخص فعلها في الحيوان والنبات والجماد.
فعلها في الحيوان: أهم أفعال الميكروبات بالنظر إلى حياة الحيوان ما تحدثه من المنفعة والضرر. فهي تفيد الحيوان من أوجه عديدة لا يتسع المقام لإيرادها هنا بالتفصيل ويكفي لتقدير نفعها مكانة وجودها في الماء الذي نشربه لأنه إذا خلا منها بالتقطير صار ضاراً وإذا خلت مياه أي نبع منه خلواً تاماً منها انقلبت سماً نافعاً كما يعلم ذلك من اختبار الينابيع الشديدة الصفاء في بعض أنحاء العالم فانه تضر شاربيها ضرراً بليغاً إذا انتفى منها وجود الميكروبات.
وقد ثبت بعد امتحانات باستور أن لا حي يتولد من غير الحي ولذلك فلا يفسد اللحم ولا تختمر السائلات على أنواعها إلا بفعل هذه الميكروبات ومفرزاتها. فهي التي تهيئ لنا ما نتمتع به من المشروبات المختمرة كالخمر والبيرا واللبن الرائب والجبن والزبدة وغيرها مما لا يحيط به العد. فلو فرضنا فقد هذه الميكروبات فجاة لانقلبت أحوال المعيشة انقلاباً يهولنا تصوره. لأنها هي التي يتم بواسطتها الاختمار والتعفن ودبغ الجلود وتحضير النيل والتبغ وسائر ما له اتصال برغد العيش خصوصاً انتماء الزرع كما سيجيء. فمعظمها نافع لذات الحياة.
غير أن بعضها يفرز في الدم مادة سامة فيمرض أو يهيئ للمرض. وقد ثبت الآن أن جميع الأمراض وفي جملتها القروح والبثور وغيرها مسبب عنها. ولا نستثني من ذلك العلل الناجمة عن فعل حييوينات ضارة.
وبعد كشف كيفية هذه الميكروبات صار من السهل شفاء الجراح بحفظها سليمة من الفساد وما الفساد إلا فعل هذه المخلوقات الصغيرة في الدم. فكل ما يميتها من الأدوية والعقاقير يسمى مطهراً لأنه يمنع إفساد الدم.
وميكروبات الأمراض تختلف كثيراً في شكلها ومدة حياتها. فمنها ما هو ضمي الشكل كميكروب الكوليرا ومنها ما هو بيضوي أو مستدير أو غير ذلك. وبعضها لا يعيش بضعة أيام كميكروب الكوليرا الذي علم أنه يموت بعد أسبوع من ولادته أو أقل من ذلك. وغيره كميكروب الخناق أو الدفتيريا قد يعيش سنة كاملة. وميكروب السل يعمر أيضاً وتساعده المواد الحامضة على الفتك بالناس ليس لأن الحامض يلائم طبعه بل لأنه يهدم جدران الخلايا الرئوية المسلولة كما أعادتها التغذية المقوية إلى حالة كلسية. ولذلك فلا يجوز للمسلول تناول الأطعمة الحامضة مطلقاً. وإذا اقتصر على الأغذية القلوية ساعد الطبيعة على شفائها.
فعلها في النبات: في التربة أنواع من البكتيريا لا تعيش إلا على المواد النباتية كما أنه يوجد غيرها مما يعيش على المواد المعدنية. فميكروبات النبات تتناول من الهواء المادة الكربونية فتمثلها أي تهضمها وتقتات بها فتفصل بذلك النيتروجين وتبثه في جذور النبات. ومنها أنواع تحل الماء والهواء إلى عناصرهما فتسهل على النيات الاغتذاء بما يلائمه من هذه العناصر.
ومما يستحق الذكر من أن أفعالها أن بعضها يعمل عكس عمل الآخر فيتكون من هذه الأعمال دورة في تكييف المواد الغذائية تشبه الدورة المائية التي تم تبخير الشمس لمياه الأبحر وغيرها فتصعد المياه إلى الجو حيث تنعقد مطراً يعود إلى الأرض فيتبخر ثانية ويصعد ثم يعود وهكذا. وعلى هذا المنوال تحول أنواع البكتيريا المواد النشادرية في التربة إلى نيترات نباتية يتناولها الحيوان بعد تحولها إلى بروتيد ثم تعيدها البكتيريا إلى نشادر ثم إلى نيترات وهكذا كأن بيدها قياد العناصر الغذائية تصرفها طبقاً لنواميس حفظ الوجود.
وفي التربة نوع من البكتيريا الخيطية الشكل تدخل أهداب جذور النباتات القرنية كالفول السوداني وتخترق نسيجها فتشله فتكوِّن عقاً أو غدداً تغذيها بالنتروجين. وهذا هو سر تولد البطاطا وسائر الأثمار التي تحت الأرض والغدد العفصية في السنديان. وهي التي تنخر قصب السكر وغيره.
وقد عني الألمان بتربية الأنواع البكتيرية التي تخصب بعض النباتات وسموها بكتيريا النتروجين لكثرة ما تقدمه من هذا العنصر لتغذية النبات. وربى غيرهم غيرها مما يحسن به نمو الورد والقمح والقطاني وغير ذلك فتفعل فعل السماد الزبل الطبيعي.
وطريقة استعمالها أنهم يربون أنواع البكتيريا في مادة تلائم نموها ثم ينقعون بهذه المادة البذار أو يذرون منه في التربة المواد زرعها فيقبل الزرع إقبالاً غريباً. وفي هذه أكثر عواصم أوربا وأميركا الآن مستودعات لبيع هذا اللقاح البكتيري فما على المزارعين عندنا إلا أن يحذوا حذو مزارعي البلدان الراقية فيستفيدون ويفيدون البلاد.
فعها في الجماد: أي المواد غير الآلية. من البكتريا أنواع إنما تعيش على الجماد كالصخور والمعادن على اختلاف أجناسها فيكون لها المكانة المهمة في بنائها وهدمها مما يشبه الدورة المائية المذكورة آنفاً. فبكتيريا الكبريت مثلاً تفعل هذا الفعل بتوليدها الكلتسيوم الذي تحوله إلى تجبسيوم ثم إلى كبريت ثم تحله وتعيده إلى سيرته الأولى. ويقال مثل ذلك عن بكثير الصخور والحديد وسائر المعادن. وتعد التربة لتكون صالحة لأن يغتذي منها النبات ولأن يغتذي من هذا الحيوان ثم تعود مفرزات هذا وبقاياه إلى التربة. فهي أول ممثل لأقدم أشكال الحياة المجهزة بقوة تحول عادمات الحياة إلى أشكال حيوية. ولذلك فلها المقام الأول في إنشاء الحياة على سطح كرتنا الأرضية حتى عدها بعضهم أول جرثومة حية في الوجود كان لها شأن على وجه البسيطة.
وفوق ذلك كله قد اتضح أنها هي التي تحدث الحرارة بشدة حركاتها عند تنضيد التبغ بعضه فوق بعض وعند تكويم القطن والتبغ الخ حتى لقد تحدث اشتعال بعض هذه المواد إذا ساعدتها حرارة الطبيعة.
وهي التي يضيء بها سطح البحر لأنها تؤكسد الهيدروجين المفصفر في الماء كما تؤكد الكحل في الخمر فينقلب خلاً.
خلاصة: نحن عائشون في وسط عوالم خفية عن النظر تدعى البكتيريا أو الميكروبات. ومعظمها نافع للإنسان بما يحدثه من التغيرات المفيدة في الجوامد والسوائل. ويمكن اتقاء الضار منها بتلقيح الجسم بسم مخفف منها كمصل الدفتيريا ولقاح الجدري وغيرهما. وإن هذه الأحياء تعيش في درجات متفاوتة من الحر والبرد. فبعضها يعيش في قلب الثلج وبعضها يبقى حياً في حرارة تبلغ أكثر من مئة درجة بمقياس سنتيغرادولذلك يجب اتقاؤها بالحيطة الصحية التي قاعدتها الذهبية أحفظ يديك وصن شفتيك.
ولنا من أجسامنا من كريات الدم البيضاء خير واقٍ من كثير من الميكروبات الضارة لأن هذه الكريات تبتلعها فتمنع انتشارها وتوليد السم بمفرزاتها.
وقد علم أن التعب والجوع الشديد والتعرض للبرد جميع هذه تقلل من مناعة الجسم فتزيده تعرضاً لفعل البكتيريا السامة. وإن الحوامض تخفف فتكها بكريات الدم الحمراء.
بعض الناس يمتنعون على بعض الأمراض لعدم وجود إلفة كيمية بين خلايا أجسامهم وبين سم البكتيريا وهذا هو السر في نجاة الكثيرين من فعل الأوبئة في حين وقوع غيرهم فريسة لها.
ويقال إجمالاً أن درس طبائع البكتيريا وإخضاعها لقوة الإنسان في كثير من الحالات من حسنات النصف الأخير من القرن الماضي الذي فتح باباً واسعاً للتوغل في البحث البكتيري الذي لا بد أن ينتهي إلى كشف حقائق نافعة تدهش العقول بما تحدثه من الانقلاب في سير العمران وترقية حياة الإنسان.
بيروت // خليل سعد