انتقل إلى المحتوى

مجلة المقتبس/العدد 63/أوغست كونت وفلسفته

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة المقتبس/العدد 63/أوغست كونت وفلسفته

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 5 - 1911



تمهيد

نبغ في فرنسا بعد نقض الأوضاع القديمة كثيرون من المفكرين الذين بحثوا في نظريات الاجتماع وفي طليعة هؤلاء النابغين الفيلسوف أغست كونت. وقد اختلف الباحثون في مذهبه على مركزه الفلسفي فوضعه قوم بين دمتر وفوريه وقالوا بوحدةآرائهم مع اعترافهم لكونت برجاحة العقل وتوفر المكتسبات الفنية وجعله آخرون بين هيوم ولابنج وأمثالهما فأخطأ الفريقان مركزه وغرَّ الأولين ما رأوه بين الطرق التي انتهجها الفلاسفة الثلاثة إلى مقاصدهم من التشابه فشغلهم عن ذلك النظر في ضعف الرابطة بين مرامي كونت الباحث في تجديد شروط الاتحاد الاجتماعي ومرامي دمتر وفوريه وانفرد كونت عمن سواه بمبدأه المشهور أن النظام الاجتماعي لا يمكن تغييره إلا إذا جعلت التصورات النظرية في الهيئات الاجتماعية خاضعة لتأثير الفن وأدمجت فيما سواها من المستنبطات البشرية وهذه الخاصة تفسح لكونت مجالاً بين فلاسفة الاجتماع الناشئين في القرن الثامن عشر وتربطه بتورغوي ومونتسكيو وقوندوزوسه الذي كان كونت بدعوة بأبيه الفلسفي وهو تصريح يكفي لإثبات ما نقول.

يصعب علينا أن نلخص في هذه الصفحات فلسفة كونت المودعة في ستة مجلدات ضخمة ولا سيما أن كتاب الغرب الذين أجالوا أقلامهم في الموضوع كتوارت ميل وغيره ممن درسوا فلسفة كونت عن كثب وألفوا في انتقادها لم يوضحوا مذهبه إيضاحاً يزيل اللبس والإبهام ويوقف المطالع على حقائقه. ولم يكن بين من كتبوا في هذا المبحث من أوضح لنا كيف اقتبس كونت فلسفته من الرياضيات وما الذي دعاه إلى تقسيم لمعلومات البشرية إلى ستة فروع كبرى وكيف بدأت فلسفته بفكر رياضي فانتهت بفكر اجتماعي.

ولا يتسنى لنا أن نفهم حقيقة هذا الفيلسوف إلا إذا درسنا ترجمته فنحن بادئون بها وصائرون إلى مذهبه الفلسفي.

ترجمته

هو ايزيدور - أغست - ماري - فرانسوا قزاويه كونت ولد في قصبة مون بيليه سنة 1798 وكان والده يجبي الخراج في القصبة المذكورة وبعد أن أتم التحصيل الابتدائي في مدرستها دخل دار الفنون في باريس فامتاز فيها بعصيانه للقوة الرسمية الحاكمة واحترامه الشديد للكمال الخلقي والفكري وثباته الراسخ في توخي غايته ولم يطل مكثه فيها سوى سنتين رأس بعدهما احتجاجاً على أساتذتها آل إلى إخراجه من المدرسة فعاد إلى موطنه حتى كانت سنة 1816 فأمَّ باريس غير مكترث باعتراض والديه الشديد وأقام فيها يحصل قوته بإلقاء دروس خاصة في الرياضيات وجعل همه تحدي بنيامين فرانكلين الذي كان يدعوه سقراط زمانه في معيشته على أنه امتاز عن جميع الفلاسفة بصلابة العزم والثبات على مبدأه فلم تلوه عنه حياة تبكي تعاسة وشقاء.

وضاق به العيش في باريس فحثته النفس بالهجرة إلى أميركا وكان على وشك أن يؤمها لولا صديق ثنى عزمه عن المهاجرة بجملة أوردها في عرض حديث تجاذبا أطرافه عن الفكر العملي في العالم الجديد فقال له صديقه ان لا كرنج (رياضي فرنساوي شهير) لو ذهب إلى أميركا لم يجد عملاً يقوم بأوده سوى مسح الأرضين. فعدل كونت عن السفر وأقام في باريس يعالج الحياة المرة ويتبلغ بثمانين ليرة يتقاضاها راتباً سنوياً من إحدى المدارس التي انتدبه لتعليم الرياضيات حتى سعى له أصدقاؤه بوظيفة تدريس في دار المسيو كازيميريه المشهور فدخلها ووجد هناك أسباب الراحة والهناء غير أن المعيشة لم ترقه لحنينه إلى الحرية التي أضاعها فلم يستقر به المقام أكثر من ثلاثة أسابيع ودع بعدها مضيفيه وعاد إلى حاجته السابقة وقناعته الفطرية وقد يكون الفقر في الشبيبة داعية الشر إلا إذا كان الشاب الفقير متعلماً فتساعده الحاجة حينئذٍ على أن يكون أميل إلى الحقيقة منه إلى الخيال.

وسنة 1818 اتصل كوت بهنري دوسان سيمون ابن أخت الدوق دي سان سيمون المشهور وكان في عهده من كبار كتاب المذكرات السياسية فكان لهذا الاتصال تأثير شديد في نظريات كونت الفلسفية.

كان سان سيمون يوم لزمه كونت في الستين من عمره ولم يكن ذا شهرة طائرة غير أن غرابة حياته وأحواله الاجتماعية وأفكاره السياسية تستوقف الأنظار فقد قضى الرجل عمره ساعياً بما له من الملكة العقلية الرائعة لتطبيق خيالاته على حقائق الأشياء والتربية الفنية لم يكن لها أقل أثر في هذا الرجل لأنه لم ينشأ عليها ولا شعر بلزومها على أنه كان خبيراً بالاتحاد الاجتماعي وله في السياسة المثبتة وترقي البشر كثير من الأفكار الخطيرة ولكنه لم ينها عن محاكمة منطقية بل هي أِبه بتخيلات الشعراء.

هذا الفيلسوف القديم سحر كونت فلم يستطع أن يفكر في حقيقته إلا بعد أن فارقه حتى أنه لقبه بالممخرق في حديث له بعد أن انقطعت أواصر ودهما ولم يستطع إلا أن يعترف بنفوذه عليه وتأثيره في تربيته الفلسفية واشتدت وطأة التأثير على كونت حتى ناء بها وهنأ نفسه يوم مغادرته سيمون بخلع هذا النير عن عاتقه.

وتعرف ما كان للفيلسوف الشيخ من اليد عند كونت من كتاب بعث به الأخير إلى صديق له يقول فه: إن سيمون أراني الخطة الفلسفية التي أسلكها فأنا مطرد السير فيها كل عمري غير ملتفت إلى ورائي وهذا الاعتراف الصريح لا يحط من قدر كونت ولا يناقض أرجحيته العقلية وتفوقه بدرجات على صديقه الشيخ ولا ينقص من قدره أنه أخذ كثيراً من أفكاره التي أقام عليها بناءه الفلسفي من أفكار سيمون المضطربة وخلاصة القول أنه لا يصح أن نعد كونت تلميذاً لسان سيمون ولا مقلداً له وكل ما في الأمر أن الشيخ أوقف صديقه الشاب على نقطتين مهمتين كان لهما الشأن الأكبر في فلسفة الأخير أولاهما أن الحوادث السياسية هي كالحوادث الطبيعية يمكن جمعها وربطها بقوانين مقررة وثانيتهما أن غرض الفلسفة الأصلي البحث في القضاء الاجتماعي فتناول كونت هذا المبدأ وتوسع في بسطه وشرحه توسعاً لم يخطر للشيخ في بال.

دامت صحبة الرجلين ست سنوات ثم بدأ بالانحلال لما أوقر كونت من سلطة سيمون الثقلية وما دخل على نفس الشيخ من القهر والحسد لما رأى ميزة الشاب عليه بمداركه ومواهبه وحدثت ثمت حادثة قطعت العلائق التي رثت ووهت وملخصها أن سان سيمون نشر كتاباً في الاجتماع انتحل فيه معظم أفكار كونت لنفسه فغضب الأخير وعاتب صديقه عتاباً مراً ولم يكن سبيل للتوفيق بين الرجلين فكان فراقهما أبدياً.

وتزوج كونت سنة 1835 فزاد ذلك في أسباب تعاسته وشاءه لأن أسرته وهي شديدة التعصب للملكية والكاثوليكية أغضبها زواجه المدني فأقلقته باحتجاجها إلا أن ذلك لم يمنعها من الاحتفاء بزوجته وشخص العروسان إلى مون بيليه فأقاما فيها هنيهة سئمت الزوجة فيها عيشة القرية ذات النسق الواحد وبدأ نزاع انتهى بفراق الزوجين كما سيجيء وقد كتب كونت إلى صديق مخلص في السنة الأولى بعد زواجه يقول: إن الأحزان أغرقتني والهواجس استحوذت عليَّ فاضطررت أن أفادي من سعادتي بجزء إذ لم يكن أعظم أجزائها فهو ألذها وأحلاها.

نشوء الأفكار السامية في هذه البيئة الرديئة يحرك في النفوس مواضع الدهشة والإعجاب ويحملها على احترام الفيلسوف الذي كان يقوم على تنشئتها والخطوب المتوالية تفسد نظام حياته وكان الفشل حليفه في كل أعماله فأخفق في إيجاد تلامذة يتلقون أفكاره وآراءه ولم يجبه سوى شخص أضجرته الوحدة فودع أستاذه غير آسف.

وفي هذه الأثناء أخذت أفكار الفيلسوف بالتكامل وشرع بنشر مقالات في جريدة المنتج (لوبرودكتور) كان يتقاضى عنها بعض الدريهمات ولما آيس من بث أفكاره بواسطة تلاميذه عمد إلى إلقاء محاضرات وأعلن عن المحاضرة الأولى سنة 1826 راجياً أن يصيب بذلك شهرة وأن يفوز بنفع مادي يستعين به على حاجته وفقره وشجعه أحد أصدقائه على ذلك بقوله: إن كثيرين يبحثون في آرائك وأفكارك غير ذاكريك بشيءٍ فاعلن أنك أنت صاحبها فعمل فيلسوفنا بنصيحته وسمع المحاضرة الأولى رجال من جلة علماء فرنسة ونخبة آدابها.

وما كاد طالع السعادة يبسم لكونت ويتحدث الناس باسمه وفضله حتى داهمته الكوارث فمني بنزيف دماغي عقيب المحاضرة الثالثة لأن ثورة أفكاره انعقدت بتأثره لشقائه العائلي فأصيب بمرض عضال عاناه سنة فلما أخذ بالنقه من مرضه فكر فيما آلت إليه حاله وأبصر لتعاسة آخذة بسبله فيئس من الحياة وعول على الانتحار غرقاً في نهر السين ثم عدل عن الانتحار وبدأ يسترجع قواه العقلية والجسدية.

وفي هذا الدور التعس عقد لكونت عقد ديني أيضاً غير أن ذلك لم يمحِ شيئاً من اختلال بيته وكان المرض قد أثر فيه تأثيراً شديداً فظهرت عليه إمارات الجنون فقام الفلاسفة من معارضي كونت يقبحون طريقته ويتخذون هذه الحادثة حجة على سخف رأيه وفساد تعليمه ويقولون ليس من العقل في شيءٍ أن يتبع الإنسان مذهب مجنون وهذا تحامل مجرد يقصد منه تضييع تأثيره فقد أصيب نيوتن قبله بمرض دماغي فلم ينقص ذلك شيئاً من حرمته والإعجاب بكتابه المسمى (برنيب) الذي وضعه عقيب ذلك المرض.

وبعد أن استجم كونت قواه عاد سنة 1828 إلى إلقاء المحاضرات ونشر المجلد الأول في دروس الفلسفة الموجبة سنة 1830 بعد تعب كثير وعمل طويل بدأ سنة 1826 ولم يكن عمله في المجلدات الخمسة التي تلته أقل عناء فانه لم يتمكن من نشر المجلد السادس إلى سنة 1842.

كانت الاثنتا عشرة سنة التي قضاها الفيلسوف في التأليف سني خير وبركه علمه ذاق في خلالها السعادة المادية لأنه دعي في سنة 1838 إلى امتحان الطلبة الذين يتوافدون من كل صوب إلى كلية باريس وانتدبته مدرستان كبيرتان لتعليم الرياضيات فأصبح دخله السنوي أربعمائة ليرة ولما كان عهد لويس فيليب دعاه المسيو كيزويه رئيس الوزارة ليدرس تاريخ الفنون وقال له إذا كان هناك أربع كراسي لتدريس تاريخ الفلسفة وجب علينا أن نخصص كرسياً على الأقل لظهور العلوم المثبتة وارتقائها فدل الوزير بذلك على ميله للفلسفة الحسية ولولا اشتغاله بما فوق الطبيعة أيضاً لتقدمت في عهده تقدماً باهراً.

وفي كتاب أرسله كونت إلى زوجته ما يدل على رقة قلبه وسمو عواطفه فقد قال لها في ذلك الكتاب لا أود أن أصف لك هنا الحبور الذي تفيض نفسي به لما أرى الشاب فاز في امتحانه وقرب من آمال الذهبية أنت تضحكين من ذلك ولكنني لا أتمالك من أن أذرف دموعي.

وكان كونت يفكر دائماً في سعادة الآخرين ويسعى إلى منفعتهم بكل سبيل وهذا الاهتمام الدائم حمله على إلقاء الخطب والتدريس في المجتمعات العامة من سنة 1831 - 1848 على ما كان يعترضه من الموانع في هذه السنة حدثت ثورة في باريس أظهر فيها كونت عطفه على المجتمع فقد كان يفضل السجن على الدخول في الفرق الوطنية التي ألفت يومئذٍ ومع أنه لم يدع الناس لحمل السلاح على الملكية فانه لم يقسم لها يمين الإخلاص.

ولم يكن كونت يتأثر من مشاهدة الروايات مع أنه كان كثيراً ما ينتاب الملعب فالمفجعات (تراجيدي) في نظره ظواهر مصنعة ليس فيها من الحقيقة إلا ظل لطيف فقل اكتراثه بها وما سواها القصص المضحكة (كوميدي).

وقد كتب أحد تلامذته عن أحواله وصفاته الشخصية ما يأتي:

دقت ساعة لوكسنبورغ الثامنة وكان صدى صوتها لا يزال يرن في الآذان حين فتح باب الغرفة ودخل رجل قصير القامة ممتلئ الجسم نظيف الثياب ملتح ممعن في قبض شواربه حتى لم يبق لها ظل وكان يكتسي الأثواب السوداء ويتأنق في لبسه فكلما رأيته تخاله مدعواً وليمة وكانت عقدة رقبته كأن المكواة مرت عليها حديثاً فاقترب الرجل من أريكته المعدة له وراء المنضدة ووضع علبة السعوط أمامه وبعد أن استمد مرتين ومر القلم على الصحيفة ليرى ملته شرع بكتابة الدرس بادئاً فيه بقوله: كنا قلنا أنه في مثلث غير معين كالمثلث أب ج الخ.

ودام درسه ثلاثة أرباع الساعة والطلبة يدونون الموضوعات المهمة في مذكراتهم ليمكنوا من مراجعتها عل حده ثم سحب من جيبه دفتراً آخراً فأعاد تلاوة الدرس السابق وظل حتى الساعة التاسعة فتناول حقته ونفض ما على معطفه من السعوط وكانت يده في جيب معطفه وفتح الباب وخرج بسكينة تامة.

قلنا آنفاً أنه نشر المجلد الأخير من فلسفته الموجبة سنة 1842 وبينا المرء يتخيل عظم المكافأة التي يجب إسداؤها إلى هذا الفيلسوف على اثنتي عشرة سنة صرفها في الجهد والتعب المضنك يجد أن جزاءه كان تزايد المشكلات والخطوب التي تضيق الصدور تضغط على الفكر ففي تلك السنة تفاقم الشقاق بينه وبين زوجته فأدى الأمر إلى انفصالهما بعد أن خصص لها مائتي ليرة راتباً سنوياً ونرى من العبث البحث في هذه المسألة لأن أحوال الزوجين الخاصة لا يطلع عليها حتى أخاص أصدقائهما وظلت مادام كونت بعد الانفصال تفكر في سعادة زوجها ودامت المراسلات الودية بينهما عدة سنين.

وأصيب كونت بحادثة ثانية أثرت فيه وهي أن طابع المجلد السادس علَّق على الكتاب حواشي ينكر فيها حملة كونت الشديدة على أراغو فغضب الفيلسوف لذلك وخاصمه بلجاجة فربح دعواه.

وأشد المصائب التي نكب بها هو أنه ذكر منتخبيه للإشراف على الامتحان في المجلد الثالث بما لا يستحب فأدى ذلك إلى ضياع نصف راتبه الزهيد فضاق كونت بالعيش ذرعاً وأنبأ بفقره صديقاً له منذ بضع سنين وهو المستر جيمس استيوارت ميل أحد علماء المنطق الإنكليزيين الذي أثرت فيه أفكار الفيلسوف واستمد منها معظم أفكاره وآرائه في أصول المنطق وقد كثر مراسلات الصديقين ونشر جزء منها في المدة الأخيرة فهاج رغبة الجمهور للاطلاع على سائرها.

ولما انتهيت إليه كتب الفيلسوف هاجت فيه الخاصة التي عرف بها من عطفه الشديد على الرجال العظام ورثائه لشقائهم فنهض إلى مساعدته وطرق أبواب ثلاثة من أصدقائه هز أعطافهم لمساعدة الفيلسوف فتعهدوا بتقديم مائتي ليرة له سنوياً وكان ذلك سنة 1845.

ولم يوفق كونت لعمل شيء يدل على شعوره بجميل الإنكليز فلما عاد إليهم ميل في السنة التالية أعطاه الأول مبلغاً زهيداً ورفض الاثنان الآخران مساعدته قائلين يجب على كونت أن يعول نفسه بنفسه فلما أخفق استيوارت في مساعدة صديقه بهذه الوسيلة أشار عليه بكتابة مقالات للصحف الإنكليزية وتعهد له بترجمتها فرضي كونت أولاً بهذا الطلب ثم عاد إلى هوسه واغتراره فأخذ يتهم الإنكليز بفساد الأخلاق مما أسخط استيوارت وباعد ما بين الصديقين حتى انتهى الأمر بانقطاع المراسلات. ومن كلام كونت في هذا الصدد قوله: لماذا يترك الرجل بعد موته مبلغاً من المال لمتفنن لم يعرفه وهو لا يعد مساعدة الرجال الذين عرفهم في حياته فرضاً؟ إن الإنكليزيين صرحا أنهما يخدمان فيلسوفاً يقولان بقوله والرجل يحب أن لا يقبل في انتشار مبدأه مساعدة الذين يرتئون رأيه وقبوله معونة من سواهم حطة من قدره.

وما زال كونت يدفع لامرأته مائتي ليرة سنوياً من 1845 إلى سنة 1848 إذ هبطت رواتبه بدون سبب إلى ثمانين ليرة ففتح المسيو ليتره وبعض الأصدقاء اكتتاباً لمساعدته فجمعوا من المال ما وسع على كونت ردحاً من الزمن وقد كان في جملة المشتركين بهذه الإعانة المستر ستيوارت ميل الذي لم يمنعه استياؤه من معاملة كونت عن مساعدته وإسعافه.

ويرى المطالع أن كونت لم يتصرف مع أصدقائه تصرفاً يليق برجلٍ عظيمٍ مثله لأن نفسه جمعت إلى خصاله الحميدة من رسوخ العزم وقوة الإرادة والثبات والمثابرة على خدمة البشر نقائص مشينة من الغرور والعجرفة وإذا جاز التمثيل شبهنا كونت ببروتوس وكاتو.

وإذا أراد الإنسان أن يحب كونت وجب عليه أن يتصور حالته التعيسة وحياته المظلمة وخطوبه المتواترة وهو بين هذه الظلمات دائب على إنجاز مهمته لا يكل ولا ينثني فما زال يركب إلى غايته الخطوب حتى فاز بما أراد وكانت القوانين الأساسية للعلوم الموجبة قبل عهده مطلقة مبهمة فجاء كونت موضحاً لها مما يزيل الإشكال ويقيم لها حدوداً بيِّنه فكثر لذلك حساده ومزاحموه.

ولم يكن كونت يكتب كلمة قبل أن يقرر الموضوع ويكتبه جملة فجملة بعد تهيئتها في ذهنه ومتى فرغ من إحضارها جلس يكتب ببراع ميال فيسجل سلسلة من الأفكار تجري على اسلاته بدون انقطاع ولا تردد لقوة ذاكرة كونت واستغنائه عن العود إلى المذكرات ولكن أسلوبه الكتابي لم يكن بالحلة اللائقة لأفكاره البراقة وإذا كنا لا نتوقع منه كتابة كالشعر في تأثيرها وسلاستها إلا أن الكتابة في أرقى الموضوعات العلمية إذا لم تكن طلية مجها أكثر العلماء جلداً على الاستقصاء وإذا قايسنا أسلوب كونت بغيره من الفلاسفة كهيوم وديدرو وباركله رأيناه ثقيلاً جافاً وربما وقعت في كتباته بعض العبارات المتينة إلا أن جميع اصطلاحاته خالية من سلامة الذوق في الانتحاب وقد كان يكثر من أدوات الحال في بعض الجمل حتى لا يثبت على مطالعتها إلا من أوتي الصبر الجميل من تلامذته ولكن قوة فكره ونفوذ نظره وسمو آرائه تشرع له السبيل إلى ذهن القارئ وتستر هذه النقيصة وتضعف تأثيرها وإذا كانت مؤلفاته عظيمة فأسلوبه لا يؤلف جزءاً من تلك العظمة القائمة بماهية الأفكار والممثلة رجاحة العقل الذي أوجدها. وركاكة أسلوبه ناشئة عن عدم مطالعته مؤلفات بلغاء الكتاب فهو لم يقرأ إلا علماً كان يسميه علم حفظ الصحة الدماغية وقبل أن يتم فلسفته الموجبة لم يطالع سوى دواوين اثنين أو ثلاثة من الشعراء في مقدمتهم دانتي وأهمل ما سوى ذلك حتى قراءة الرسائل والمجلات ولكن أصدقاؤه كانوا ينبئونه بكل حادثة جديدة في عالم الفن فأدى هذا الانقطاع إلى تجرير نفسه من قيود الاجتماع والمؤثرات وظلت أفكاره بمعزل عن الاعتبارات الخارجية وإذا كان أفاده من هذه الوجهة فقد أضره من الوجهة الأخرى فأفرط في إهماله وضعف شعوره بالعالم الخارجي وقد وضحت فيه هاتان النقيصتان أواخر أيامه.

وقبل أن تتم ترجمة كونت نسرد حادثة جرت له عام 1845 يوم تعرف إلى مادام دي فو:

كانت هذه العقيلة أيماً لأن زوجها حكم عليه بالسجن المربد ولا نعرف إلا اليسير عن أوصاف المرأة وأخلاقها وكل ما نعلمه هو أنها وضعت قصة رفعتها في عيني كونت إلى مستوى مادام جورج سلند ولم تكن هذه القصة في ذاتها شيئاً يستحق الذكر لا أنها دلّت على ذوق سليم وفطرة حميدة فتوثقت بينهما روابط الولاء وأصبحت العقيلة عزاءه في أحزانه وأفاضت على نفسه روح الهدوء والسكينة ولو طالت مودتهما لم يظهر اضطراب الفكر في كتب كونت الأخيرة إلا أن الأقدار التي ناصبت الفيلسوف طول حياته فجعته بريحانة نفسه وموضوع سلوته سنة 1846 فجرع لفقدها جزعاً شديداً ولازمه الحزن والغم فكان يخرج إلى ضريحها مساء كل أربعاء إذا توارت الشمس في الحجاب يبلله بقطرات دموعه ويجثو في النهار ثلاث مرات احتراماً لذكرها فيستغرق في أحزانه ويستسلم إلى الجزع وكان تلامذته يقولون أنه يقدم لها من الاحترام ما قدمه دانتي لحبيبته باتريس ويشبهون حاله بحال دالامبر بعد وفاة لينياس.

الباحثون في حياة كونت يقسمونها إلى شطرين أحدها يمتد حتى تعرفه إلى العقيلة دي فو والآخر بعد ذلك ويفرقون بين الشخصين كونت الذي كتب الفلسفة الموجبة وكونت الذي ألَّف في السياسة الموجبة إلا أن أعداءه يأبون كل تفريق في هذا الصدد ويقولون إن المختل الذي كتب في السياسة هو نفسه الذي كتب في الفلسفة.

ولم يكد كونت ينهي من نشر فلسفته الموجبة حتى بدأ بنشر سياسته وهذه بالطبع تستند إلى تلك فنشر المجلد الرابع والأخير في سنة 1848 وفي هذه السنة حدثت ثورة في فرانسا لم تبد طلائعها حتى هرع كونت إلى تأليف جمعية دعاها الموجبة توقع أن يكون لها الشأن في هذه الثورة ما كان لنادي الجاكوبيين في ثورة 1789 وإذا كان كونت لم يدرك جميع آماله في إنشاء هذه الجمعية فقد أدرك بعضها باجتماع تلامذة الفيلسوف ووضعهم مذهباً فلسفياً جديداً كما يهوى ويختار.

وكان كونت سنة 49 و 50 و 51 يلقي في القصر الملكي (باله رويال) في باريس محاضرات متتالية يحضرها عامة الناس وخاصتهم فيبحث في فلسفته ومعتقداته ودعاويه وقد ختم محاضرته الأخيرة بقوله:

يا خدمة البشرية والفلسفة الحقيقية يجب أن تتولوا زعامة العالم لأن ذلك حقكم الصريح وأقصى أماني الإنسانية تأليف حكومة أخلاقية مادية فكرية فإن الحكومات التي قامت على دعامات الكثلكة والبروتستانية سقطت لأن الناس اتخذوهما وسيلة لإضرام الثورات وقضاء اللبانات.

ومن غرائب الاتفاق أن يقوم بعض هذه المحاضرة ببضعة أسابيع رجل يدعو الناس إلى طاعته لا ليخدم الإنسانية بل لدعواه أنه صاحب الحق بالسلطة المطلقة وأن يحمل الناس على معرفته كذلك بالقوة القاهرة.

وسنة 1852 نشر كونت رسالة في مذهب الإنسانية أظهر فيها ارتياحه إلى ضربة لويس نابليون للحكومة وإنشائه جمهورية هو فيها الحاكم المطلق ومهما يكن من قيمة الفكر السياسي نجد عذراً لكونت في أنه كتبه وهو لا ينتظر أن تؤول الحال لما آلت إليه من الضغط والاستبداد وإلجام المطبوعات.

وأصيب كونت سنة 1857 بداء السرطان وقضى في الخامس عشر من أيلول فانتهت حياة مرة تنكر لها الزمان وفي هذا اليوم من كل سنة يجتمع تلامذة الفيلسوف من إنكليز وفرنساويين فينوهون بذكره ويقومون بمراسم سنوها لأنفسهم وقد قبض كونت وهو دون الستين وهنا لا يسعنا إلا أن نشارك جون مورلي في حزنه لعاقبة من أشد عواقب العمر إيلاماً وهي أن يقضي أرباب الذكاء الخارق في تهالكهم على نشر أفكارهم قبل أن يدركوا أمانيهم وتنقاد لهم رغباتهم.

فلسفته

لا تعرف المقادير إلا بمقياسها وقياسها تواً يستحيل في الغالب وأبسط الشواهد يعترضنا من المصاعب في قياس طول بالوحدة المترية إذ يشترط في صحة القياس أن ينطبق المتر على السطح كل الانطباق وأدنى نتوء أو غور يخل بالاستواء يعيد هذا القياس متعذراً تلك أهون المصاعب تعترضنا تعثرنا في أقل البسائط فكيف بها في أرقى المركبات كتقدير الأبعاد بين الأجرام السنوية.

ذاك ما قاد الفكر البشري إلى وضع العلوم الرياضية فإذا تعذر أو استحال علينا أن نقيس مساحة أو نقدر كمية توصلنا إلى ذلك بالطرق الرياضية فجمعنا بين لا يقاس تواً وبين ما يقاس واستخرجنا الأولى من الثانية على قاعدة التناسب.

فلكي نقيس مساحة نمثلها بشكل هندسي كالمثلث مثلاً ونعتبر المناسبة بين الأضلاع والزوايا فتسهل علينا معرفة المساحة. وبهذه لوسيلة وبغيرها من نوعها تمكن الفكر البشري من تقدير الأبعاد بين أجرام وارتقى إلى معرفة حجومها وأشكالها الحقيقية وظواهرها الطبيعية وسعتها وامتدادها وقوة جاذبيتها إلى غير ذلك من المعلومات التي بلغها بالوسائل الرياضية وغرض الرياضيات مقايسة الكميات وتقديرها بالواسطة وذلك يدرك بمعرفة النسبة بينها فالرياضيات إذن علم تستخرج بواسطته الكميات المجهولة من الكميات المعلومة للمناسبات الصريحة الموجودة بينها.

ما هي الكمية؟

عرف الرياضيون الكمية أنها ما يقبل الزيادة والنقصان ويمكن تقدير بالوحدة القياسية.

فالعدد والطول والسطح والحجم والزمان والمكان وسرعة الجسم ووزنه وغيرها من الأركان الداخلة في الحوادث الطبيعية هي كميات لتوفر صفتي الكمية فيها وقد اكتفى الرياضيون بالمعلومات النسبية فلم يخطر لهم ذات يوم أن يبحثوا في ماهية المكان والزمان والمادة لأنها الأسس التي تقوم عليها المعارف البشرية فليس في الوسع أن تثبت أو تعرِّف ولهذا السبب حصر الرياضيون في كشف النواميس التي تؤثر في هذه الكيات وإظهار النسبة بين ما اجتمع منها في حادثة واحدة بدون أن يحاولوا بلوغ معلومات مطلقة.

والرياضيات تثبت لنا أن في وسعنا بعض الكميات الداخلة في إحدى الظواهر الطبيعية من البعض الآخر إذ لا بد من وجود روابط بينها ولم يشهد الناس حتى اليوم ظاهرة فقدت فيها هذه الروابط ولكنها قد تدق حتى يتعذر على الباحث اكتشافها.

إذا أبدلنا كلمة كمياتفي تعريف الرياضيات بكلمة حوادث كان لنا تعريف العلم الحقيقي فهو ما أوضح بعض الحوادث ببعضها الآخر مستنداً في ذاك على العلاقات الموجودة بينها. وكل علم يجمع طائفة من الحوادث ويؤلف بينها ويستخرج من جمعها نواميس عامة ويضع قواعد إذا جرينا عليها عرفنا نتائج حادثة بقياسها على حادثة ثانية من نوعها فإذا عجز عن ذلك لم تصح تسميته علماً.

ثم أننا إذا جعلنا كلمة النواميس الطبيعية بدلاً من العلاقات بين الحوادث كان ذلك أصح وقد خدمت الرياضيات في تعيين هذه العلاقات فوق خدمة كل ما سواها من العلوم فهي تدلنا على أقصى ما يراد بالعلم وإذا شئنا أن نقع على فكر صحيح في تحديده وجب علينا الرجوع إلى الرياضيات فإن الأصول العامة التي يقتضي أن يسري عليها الفكر في الأبحاث لا نصادفها في غير الرياضيات وليس من علم آخر يماثلها في حل المسائل حلاًّ تاماً يفضي إلى استخراج النتائج بدقة وضبط. هذه هي النقطة التي بدأ منها مذهب الكونتيزم لواضعه أوغست كونت.

استنبط الفيلسوف التحديد العام للعلم من الرياضيات واقتبس منها الأصول التي يجب أن يجري عليها في الأبحاث العلمية أما أساس فلسفته فهو: إن الحوادث كافة تجري على قوانين مقررة والعقل البشري يعجز عن معرفة منشأ الحوادث الأزلي ومنتهاها الأبدي وهذه حقيقة لا ينكرها من كان ذا مشاركة في العلوم الطبيعية لأنه يعلم أن الغية من إيضاح الحادثة الطبيعية ليس إلا إظهار الأحوال والشروط التي يمكن معها حدوث مثلها وتعيين علاقتها بغيرها من الحوادث وإليك مثلاً على ذلك.

اكتشف نيوتن الجاذبية العامة فأوضح بها جميع الحوادث الفلكية وبين أن كثيراً من الحوادث التي كان الناس يتوهمون أن لا علاقة بينها كالخسوف والكسوف والمد والجزر إنما هي مظاهر مختلفة لحادثة واحدة عامة كنا نعبر عنها بالثقل فبتنا نفسر جميع الحوادث الفلكية بالجاذبية ولكنا نعجز عن معرفة ماهية الجاذبية وعلتها الأصلية فإذا سئلنا في ذلك لم يكن عندنا جواب وليس هذا كل ما في الأمر بل أن الفلسفة الموجية تثبت لنا أيضاً أننا لن نستطيع إدراك ذلك فعلينا أن نتخلى عن هذه المباحث لعلماء ما فوق الطبيعة فإذا قال قائل إن اهتزازات الجواهر الفردية بسبب ذلك الثقل لا يكون قد أوضح مبهماً لأن الإشكال ينتقل من الثقل إلى الاهتزازات فلا يلبث المستطلع أن يسأل عن سبب الاهتزاز أيضاً.

إذا أردنا أن نفهم الصفة المميزة للفلسفة المثبتة وجب علينا أن نتتبع الفكر البشري في أدوار ارتقائه وقد وضع كونت لذلك قانوناً عاماً أقنعته بصحة معلومات العصر الحاضر وشهادات العصر الماضي.

وهذا القانون هو أن كل فرع من المعارف يمر في ثلاثة أدوار متعاقبة أو حالات مختلفة أولها الدور الوضعي والثاني الدور المجرد والثالث الدور المثبت.

ونكتفي بذكر هذا القانون بدون أن نتقدم إلى إثباته أو معرفة نتائجه.

شبه كونت الفكر البشري بخضوعه لنواميس الارتقاء وحالاته الثلاثة التي تتعاقب عليه بالإنسان في أدواره الثلاثة من طفولة وشبيبة وهرم.

ونشأت ثلاثة مذاهب مختلفة لإيضاح الحوادث في الأدوار الثلاثة أولها الفلسفة الوضعية والثاني الفلسفة المجردة والثالث الفلسفة الموجبة والأول مبدأ ارتقاء الفكر الإنساني والثالث غاية ما بلغه والثاني الحلقة المتوسطة بين الاثنتين.

اتجه فكر الإنسان في الفلسفة الوضعية للبحث في أسباب الحوادث الأزلية وغاياتها الأبدية فتلقى تلك الحوادث آثاراً من فواعل ذات إرادة مطلة يعزو إليها كل ما شاهده بدون أن يفكر في النواميس والسنن.

وارتقت هذه الفلسفة فبدأت الفلسفة المجردة التي أقامت القوى المجردة مقام الفواعل الوهمية وهذه القوى عاربة من الهيولى تسبب الحوادث المشهورة.

أما الفلسفة المثبتة فقد اقتنع واضعوها أن الفكر الإنساني يستحيل عليه أن يدرك معلومات مطلقة فصرفوا نظرهم عن البحث في منشأ الكائنات ومصيرها وقصروا همهم على معرفة نواميس الحوادث فمزجوا بين المشاهدات والمحاكمات العقلية لاكتشاف هاتيك النواميس.

لما ارتقت الفلسفة الموضوعة حتى قال الناس بإله واحد يدبر الكون بلغت أوج الكمال وغاية الارتقاء وأدركت الفلسفة المجردة نهاية شوطها عدما ردت الحوادث إلى الطبيعة ودعتها بالقوة العامة المجردة.

أما الفلسفة المثبتة فهي تسعى لتوضيح أن جميع المحسوسات ظواهر مختلفة لحادثة عامة فمتى تيسر لها ذلك بلغت أرقى درجاتها على أن هذا الارتقاء غير متيسر في الأحوال الحاضرة ولا تدل ظواهر الحال على إمكان ذلك في المستقبل فإذ استطعنا أن نفسر حوادث النور والحرارة والصوت والكهربائية من حوادث المغناطيسية بقولنا أنها نتيجة تموجات فإننا لا نستطيع أن نفسر الحادثات الفلكية على هذا الوجه والفلسفة المثبتة جاهدة في إظهار العلائق بين الحوادث والقوانين الطبيعية وصفتها المميزة صرف الفكر البشري عن البحث في ماهية الحوادث لأنها لا تخوض في هذا المبحث بل تدعه إلى الفلسفة المجردة التي توضح الأزل والأبد بسهولة تامة وتستقصي الأسرار العلوية حتى أدق خفاياها.

يتساءل القارئ بعد أن عرف غاية الفلسفة الموجبة عن الحد الذي بلغته وعلى أي شيء يتوقف إكمالها وما نحن متطرقون في بحثنا إلى ذلك.

لم تمر المعلومات البشرية في الأدوار الثلاثة بسرعة واحدة ولا أدركت الحال المثبتة في آن واحد بل كان أسرعها إلى ذلك الحوادث الفلكية لبساطتها وسهولها وتلتها الحادثات الفلسفية فالكيمومية فالعضوية.

ويتعذر علينا تعيين بدء انقلابها على التدقيق ولكننا نعلم أنها أخذت بالارتقاء مذ أنشئت دور العلوم في أثينا والإسكندرية ومذ حمل العرب العلوم الطبيعية إلى غربي أوروبا وأرشدوا أهليها وما زالت تتكامل وتتدرج في مراتب الارتقاء حتى نبغ باكون وديكارت وكبلر وغاليله فأثرت مآتيهم في الأفكار البشرية تأثيراً شديداً ووضعت أسس الفلسفة الموجبة التي بدأت بالانتشار والشيوع منذ ثلاثة عصور ولكنها لم تحط بكل أنواع الحوادث الاجتماعية.

هذه الحوادث لا تزال محجبة النواميس كثيرة الإبهام لم يكشف عن أسرارها الغطاء ولا استطاعت العلوم أن تحصرها تحت قوانين عامة وقد وضع الفكر البشري علم الميكانيكيات والحيوان والنبات وحان الزمان الذي يضع فيه علم الاجتماع فكان كونت أول من سمت به أفكاره نحو هذه الغاية فرمى إليها في موسوعات مجلداته الستة التي أودعت ملخص المعلومات البشرية لأن كونت لم يقصر همه فيها على الفلسفة الاجتماعية بل تعمد تدوين الفلسفة الموجبة فبحث في كل علم إلى حد إظهار علاقته بغيره من العلوم وأظهر تدرج كل منها في الارتقاء ودخوله في الدور الموجب وجعل أساس بحثه تعاقب الحوادث وارتباطها المنطقي فقسم العلوم إلى ستة فروع كبرى تنضوي تحتها فنون مختلفة وإليك هي:

(1) - الرياضيات

(2) - الهيأة (الفلك)

(3) - الفلسفة الطبيعية

(4) - الكيمياء

(5) - الفلسفة العضوية

(6) - الفلسفة الاجتماعية

وقد قدم كونت العلوم الرياضية بالذكر لأنها أقدم العلوم الموجودة وأكملها وهي أول ما دخل في الفلسفة الموجبة وقد راعى كونت في ترتيب هذه الفروع تاريخ ثبوتها ومما لا ريب فيه أن الرياضيات بدأت مثبتة وما زالت ترتقي من أقدم عهدها إلى اليوم وتهلتها الهيأة فالفلسفة الطبيعية فالكيمياء فالحكمة العضوية رقى بها إلى هذه الدرجة كبلر وغاليله ولافوازيه وبلنويل أما الفلسفة الاجتماعية فإن كونت حسبها لم تؤسس بعد. واختلف الفنون في بلوغ هذه المرتبة لتفاوت درجتها في السهولة فكان أبسطها أقربها إلى الثبوت.

وشرع كونت يفكر بعد ذلك في تعاقب هذه الفنون وارتقائها من أبسط النظريات الرياضية إلى أرقى التصورات الاجتماعية فإن ذلك الاستقصاء إنما هو تتبع ارتقاء الفكر البشري والحوادث تجري على تسلسل طبيعي وهذا التسلسل هو بمثابة رابطة عامة بين النظريات المثبتة في الفنون المختلفة ورأى كونت أن بعضها يجب أن يكون له تأثير في الآخر فجعل العلوم الرياضية أول حلقة من السلسلة لأنها فعلت فيما بعدها لترقيته إلى مرتبة الثبوت وجعل الفلسفة الاجتماعية الحلقة الأخيرة.

قايس كونت بين الفكرين الرياضي والاجتماعي فلم يجد مندوحة عن أن يتخذ الأول دليلاً على نظريات الثاني المثبتة حتى إذا أمكن حصر الارتقاء البشري تحت قوانين معينة استبدل الرياضيات بالفلسفة الاجتماعية لأنه وجد الأولى غير كافية لتأسيس فلسفة حقيقية تامة حتى قال: إن ما بذله المفكرون من المساعي في العصور الماضية لإيجاد فلسفة جديدة تحل محل الفلسفة الموضوعة ذهب أدراج الرياح لأن الذين حاولوا ذلك أرادوا أن يتخذوا الرياضيات ركناً وينشئوا مذهبهم باختلاف طفيف أو كبير وإذا أمكن اقتباس حقيقة من الرياضيات فلا يمكن التوسع في ذلك الفكر وجعله عاماً فإن الحوادث الرياضية قد ضبطت قوانينها (الهندسة والميكانيك) هي في غاية السذاجة فلا يمكن تطبيق شرائعها على المركبات وكثيرون من الرياضيين في عصرنا الحاضر يقولون أن غرائب الحوادث الفلكية والحوادث الاجتماعية الناتجة عن إرادة البشر وقدرتهم غير خاضعة لنواميس معينة.

في الفلسفة الحكمية والكيمومية لا نجد خوارق مما يحملنا على القول أن جميع الحوادث هي ذات سنن مقررة لا تتغير ولكن الحوادث المبهمة المغلقة لا يظهرها على هذا الشكل إلا الفلسفة الاجتماعية فرجح لدى كونت أن يقيم مذهبه على نقطة اجتماعية وسعى في كشف النواميس الثابتة لهذه الحوادث وقد كان الباحثون قبله يستندون إلى افتراضات أو يستعينون بفلسفة ما فوق الطبيعة فأراد كونت أن يجرد المبحث مما يخامره من الأوهام ويدخله في حال مثبته.

وكان كونت يقول بحرية الوجدان المطلقة يريد بذلك أن كل فكر وكل تعبير يستعمل للإفصاح عنه يجب أن يعفى من أنواع الجزاء من التنبيه البسيط إلى الحكم بالجناية وتبسيط في القول على ذلك حتى ادعى أن ليس من حرية وجدان في الهيأة والحكمة والكيمياء والفيسيولوجيا لأن المرء إذا لم يقبل مبادئها الأساسية اتهم بالهوس وليست الحال كذلك في الاجتماعيات لأن المبادئ القديمة قد اضمحلت ولم تخلفها بعد مبادئ جديدة.

أما أصول علم الاجتماع فكانت كغيرها من الأصول العلمية تستخلص من التجارب والمشاهدات على سبيل القياس والاستقراء فيطالع المستقرئ حوادث بسيطة يضع لها النواميس ثم يترقى إلى الحوادث المركبة بطريق القياس فيستخرج قوانينها إذ ليس في وسع الباحثين استنباط القوانين العامة مباشرة من ملاحظة الحوادث المركبة ولكن كونت لاحظ أن الحال في العلوم الاجتماعية كذلك فإن حوادثها البسيطة تتألف من أفعال الأفراد وحواسهم ونواميس هذه لا تختص بها بل تشمل الطبيعة البشرية ذاتها والحوادث الاجتماعية إنما هي نتائج لتلك البسائط.

وقد كان العلماء إلى عهد كونت يحاولون أخذ العلم الاجتماعي المثبت من قوانين الطبيعة البشرية العامة ثم يجعلون الوقائع التاريخية دليلاً على صحة تلك الاستنتاجات فرد كونت هذه النظرية وقال إذا دلت القوانين العامة على ما لا يؤيده شاهد من التاريخ وجب علينا أن نحكم بفساد التاريخ واختلاله لأن صفحاته الأولية مهزعة وكلما أعرق الناس في الحضارة ازدادوا دقة في تدوين الحوادث وإذا كان التاريخ يدلنا على مجرى الرقي البشري في غابر العصور فهو لا يوجب اتخاذ ذلك المجرى سنناً ولا يضع قانوناً فمتى شئنا معرفة القوانين تعين علينا أن نعود إلى علم النفس (البسيكولوجيا).

إن قوانين الطبيعة البشرية العامة هي في جملة موسوعات علم الاجتماع غير أنها تختلف في استعمالها عن القوانين الطبيعية فإن التجارب الخصوصية في هذه تؤدي عن طريق القياس إلى استخراج القوانين العامة وفي العلم الاجتماعي نبلغ الناموس العام من التجربة الخاصة ثم نستخرج عن طريق القياس نتيجة تؤيد صحته.

والفلاسفة الذين اشتغلوا في نظريات الاجتماع لم يكونوا يعتبرون التاريخ سلسلة من الأسباب والنتائج بل كانوا يتلقونه كأقاصيص متفرقة لا رابطة بينها حتى جاء كونت فبين فساد مزاعمهم في هذا الصدد وجعل التاريخ من أكبر مآخذ العلم الاجتماعي وحيث رأى حادثة شذت عن قوانين الطبيعة البشرية حكم باختلال تدوينها.

والخلاصة أن أوغست كونت وضع أصول العلم الاجتماعي - كما قال استوارت ميل - وإذا كان لم يوجد ذلك العلم فانه حبا من بعده من الفلاسفة قوة لإيجاده وفلسفته المثبتة في العلوم الطبيعية وأصول التحليل التاريخي ستخلد اسمه بين مشاهير الفلاسفة.

دمشق:

جرجي الحداد