انتقل إلى المحتوى

مجلة المقتبس/العدد 59/مقابر المصريين وجنائزهم

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة المقتبس/العدد 59/مقابر المصريين وجنائزهم

مجلة المقتبس - العدد 59
مقابر المصريين وجنائزهم
ملاحظات: بتاريخ: 1 - 1 - 1911



في المقابر المنفية

ابتدأت المقابر بلحود تحت الثرى تدفن فيها الأموات بعد درجها في لفائف الأكفان إما مباشرة في جوف الأرض أو في جرار كبيرة من الخزف ويظن أنه سرى لهم ذلك اقتداءً بقابيل حين قتل أخاه هابيل وعجز عن مواراة سوأته فبعث الله غراباً لبرية كيف يواري سوأة أخيه ففعلوا مثله.

وأقدم الجثث ما وجد مقرفصاً على الهيئة التي خلقت بها في أحشاء الأمهات سولا الرأس فإنه يبقى منتصباً لا منطوياً بين الرجلين وقد وجد منها العدد الكثير في وادي القطار بجوار أطفيح من الجهة القبلية الشرقية وفي جهة أبي صير التابعة لمديرية الفيوم وفي نقاده والكوامل وأم الجعاب وجبل السلسلة.

ثم استعمرت اللحود لدفن الفقراء على تمادي الزمن وكان للموميات في بادئ الأمر ثلاثة أحوال:

الحالة الأولى_يكون هيكل المومية مجتمعاً فترى فيه الركب منضمة إلى الصدر وموضوعة فوق الوجه وتلحد في القبر على جنبها الأيسر متجهة حو الجهة القبلية.

الحالة الثانية_يجمعون عظام الميت بعد تجريدها عن اللحم ويفصلون الرأس عن العنق بتحنيط الرأس وحفظه سليماً وذلك في بعض الموميات.

الحالة الثالثة_حرق بعض شيءٍ من الجثة أو حرقها كلها مع بعض الأثاث الذي يتهيأ لوضعه في القبر معها ثم يؤخذ رماد ذلك المحروق ويوضع في قدر.

وقد خالف الفقراء في صناعة اللحود ولو الثروة والأعيان فاتخذوا مقابرهم منحوتة في صميم الجبال وعلى الأخص في جبل لويه كالمقابر التي نراها الآن في جوار الأهرام في مديرية الجيزة فإنها آبار تبتدئ فوق صخر الجبل ثم بعد عمق يختلف بعداً وطولاً حسبما يشاؤن تنتهي بمنامة مستطيلة يوضع فيها تابوت الميت فهي بهذه الصفة لا تختلف عن مقابرنا الآن إلا بعمق الآبار وقد تكون البئر شبه منزل للمنامة غير ضيق فينحتوها في سفح الجبل ويتركون وجهتها الغربية عالية ويجعلون في آخرها منامة مربعة لدفن الميت فيها ويصورون في الجزء الأعلى الذي ترك فوق السطح على حافة البئر صورة الميت وبجانبه باب وهمي لإرشاد الروح (كما كانوا يعتقدون) عند نزولها من السماء إلى جثتها حيث ترى شبه صاحبها أمامها وباباً معداً لها فلا تضل الوصول إليها ويجعلون تحت هذا الباب الصوري مائدة من الحجر ينصب بجانبها مسلتان صغيرتان وقد كان يوضع فوقها الخبز المقدس والشراب ولحم الطيور مما هو مبين بقلم النقش على جدران القبر.

وإن كان الميت من أعيان الدولة أو من سراة القوم شادوا له مسطبة وهي بناء جسيم مرتفع كالهرم الناقص شكلاً أو كالهرم لمدرج الناقص ويجعلون فيها بئراً منحوتة في صخر الجبل يوصل إلى سرداب طويل يفضي إلى منامة معدة لمواراة جثة الميت فتكون المسطبة عبارة عن تركيب القبر ثم يرسمون في طول وجهتها من الأعلى نقوشاً تتضمن عنوان صاحب القبر ويكون تحت هذه النقوش المستطيلة عنوان باب المكقبرة محلى بالنقوش والصور الدالة على الميت وعلى أهله وذويه وتكسى ظاهر تلك المصاطب بنحيت الأحجار أو يبيتونها باللبن_وفي بعض الأحيان يجعلون لبعض المقابر المنحوتة في صخور الجبال قاعات بطرق متواصلة وعلى جدرانها دعوات وصلوات وصور مرسومة بالألوان كما ترى في مقابر سقارة فيستدل من تلك النقوش والصور على عقائدهم الدينية وعلى نسب الميت وسلسله حسب مرتبته في ألواح ترتيباً حسناً من قبيل الحلية والزينة للمكان وفي بعض الأحيان يجعلون أمام القبر أيماناً يعمل فيه مدخل يفضي فيه إلى المنامة_وأما الملوك فإنهم ميزوا مدافنهم عن مدافن الرعية بأن جعلوا تحتها أو في حجمها الأماكن اللازمة للجثة أو للأثاث والقرابين والصلوات وشحنوا في بعض الأحيان جداران هذه الأماكن الداخلية بالنقوش الدينية الصعبة المعنى وإليها الآن وجه الأثريون مباحثهم ورعايتهم لإيضاحها وحل مغمضاتها_وتبنى الأهرام بطريقة بسيطة جداً وهي أنهم يتفقون أولاً على الرسم المراد إيجاده من البيوت الداخلية وعلى ارتفاع الهرم وطول قاعدته وعرضها ثم يسلمون هذا الرسم الظاهر البيان إلى المهندس المعماري وهو يقوم بالعمل بقاً للأوامر الصادرة إليه فإذا أنجز الأشغال اللازمة في صخر الجبل من نحت وتفريغ شرع في البناء فيكسوا الأماكن الداخلية المراد كتابتها بالأحجار الملساء ثم يرتفع فوقها البناء فإذا ما علا فوق الأرض جعل البناء على هيئة المسطبة المائلة الأجناب أو المستقيم بحيث يجعلها ناقصة عن المقياس المطلوب بمقدار الكسوة الظاهرة التي يغطي بها الهرم بعد بناءه ومتى أتم المصطبة الأولى وأراد الشروع في الارتفاع بنى مسطبة ثانية فوقها أقل حجماً منها بحيث يجعل في الفضاء الذي ترك في المسطبة الأولى زلاقة للعمال توصل إلى المسطبة الثانية وهذه الزلاقة تقام بدون مونة وتملأ بالرمل والحصا ويستمر العمل من الزلاقة التي فوق الأرض إلى الزلاقة الثانية التي فوق المسطبة الأولى حتى تنتهي المسطبة الثانية ثم يشرعون في المسطبة الثالثة يجعلونها أقل حجماً من الثانية ويقيمون لها زلاقة بالكيفية السابقة وهكذا يستمر البناء في إقامة مسطبة بعد أخرى حتى ينتهي العمل بأخر مسطبة فتكون المساطب مدرجة بعضها فوق بعض ثم يهرمون المسطبة العليا ثم الثانية لها وهكذا يستمرون في ملئ الفوارغ الموجودة بين المساطب وبعضها متتبعين بعض الكسوة الحجرية من القمة إلى القاعدة حتى يتم الهرم أما الأهرام الباقية المقامة باللبن فإنها كالأهرام المقامة بالأحجار من حيث الوضع والرسم والأماكن السفلى ولا تختلف عنها إلا بالمادة لأنها تقام بوضع اللبن المصنوع بالطين وخلط القش بهيئة مدامك بعضها فوق بعض ويكون بين المدماك والآخر طبقة خفيفة من الرمل في مقام المونة لتثبيت اللبن فلا تدركه زلازل الأرض ولا تزعزعه الزوابع العواصف.

مقابر طيبة

هذه المقابر منحوتة في جوانب الجبل بوادي يعرف الآن ببيبان الملوك وبآخر يعرف ببيبان الحريم وغالب هذه المقابر يشتمل على طرقات وبيوت بعمد وفيها نقوش بألوان وبدون حفر تتضمن تقديم القرابين وإقامة الصلوات بناءً على ما هو مدون في كتاب الموتى المنقوش صورته على حيطان الأهرام.

ولا بد لكل قبر من الباب الوهمي لكونه يقوم مقام الإيوان الذي شاد أمام المقابر مشحوناً بالرسوم والنقوش وينقشون على هذا الباب توسلاً إلى أسوريس أو إلى (خونومو) أو مينو أو أمون أو بيتاح أو أتومو أو (رع) أي إلى معبودات منف وعين شمس التي عمت عبادتها في المدن والقرى في بعض الأقسام بعد أن كانت معبودات للحاضرات الشهيرة تلك هي أوصاف المقابر على وجه عام.

تشييع الجنازة

إذا حضر أحدهم الموت جهزوه مدة سبعين يوماً وهي المقررة عندهم للتحنيط ثم وضعوه فوق سرير جميل كالموجود منه بعض نماذج في المتحف المصري ووضعوا تحت هذا السرير أربعة قدور فيها أحشاؤه التي نزعت من جوفه وقت التحنيط ولكل قدر غطاء له صورة مخطوطة إما كرأس إنسان أو كرأس ابن آوى أو كرأس الباشق أو كرأس القود أي أنها تمثل أولاد حوريس الأربعة وهم (حور) و (أسيت) و (قبح سنو) و (ديوموتف) لمعهود لهم حفظ الأحشاء الضرورية للحياة وفي هذه الأثناء يكون القبر قد تهيأ واستعد للميت ويكون نعيه قد بلغ أحبابه ومعارفه حتى إذا أصبح الصباح وحان الوقت (أخفا رأسه في وادي الموتى واجتماعه بالأرض) حسب تعريفهم هنالك تحضر وفود الناس ويرفعون النعش فتقوم زوجته وخادماتها ويتعلقن بالنعش ويمنعن خروجه من البيت وتأخذهن عبرات الحزن فيبكين وينحن ويولولن فتجتهد الرجال في خلاص النعش ويخرجونه عنوة من باب داره ثم يسيرون به إلى القبر فتبتدئ الجنازة بطائفة من العبيد والخدم ومعهم القرابين وهي فطير وأزهار وجرار ماء وقارورات فيها شراب ونوافح عطر وطيور مجهزة فوق سلال وعجل يسحبه رجل ليضحي بكفارة للميت وعلب في بعضها مأكولات وفي بعض تماثيل صغيرة لازمة لروح الميت_ومعهم أيضاً صوان فيها صحاف فيها فاكهة حولها جريدة النخل الأخضر.

والطائفة الثانية تحمل الأثاث المعتاد كصناديق الملابس والأرائك التي تفتح وتغلق أو ذات المخادع والسرر الجميلة اللازمة للميت تليهم خدمة الإصطبل يقلون ربة كاملة الأدوات فيها الجعب والسهام ثم المبراخور يقود عربة يسحبها اثنان متن جياد الخيل. والطائفة الثالثة وهي أكثر عدداً من الطائفتين الأولى والثانية تقل القناني وصندوقاً لقدور الأحشاء ثم قدور الأحشاء نفسها فالوجه المستعار المصنوع من القوى والمصبوغ باللون الأزرق والمموه بالذهب ثم الأسلحة والقضبان وعصي الإدارة والقلائد والعجلان والنسور المبسوطة الأجنحة على هيئة الدائرة لوضعها فوق صدر الميت من قبيل الزينة ايام الأعياد ثم السلال والتماثيل الصغيرة وباشقاً برأس إنسان يرمز إلى الروح وقد يكون بعض هذه الأشياء من الذهب المصبوب والبعض الآخر مموه بالذهب حتى أن كل من رآها مارة أمامه أخذت ببصره لكثرة بهجها وبريقها.

والطائفة الرابعة فيهن النائحات يسرن بضجة وغواش وعبد يصب فوق الأرض من وقت لآخر بعض نقط من اللبن كأنه يشير إلى إرقاد التراب الثائرة ثم يعقبه قسيس متشح بجلد النمر ينثر بملعقة من الذهب العطر على جموع الخلق_ومن خلفه يأتي النعش وهو على شكل سفينة أسورس فيها نائحتا أسيس ونفتيس وفي مقعدها المحكم الوضع قد وضعت جثة الميت محجوبة عن العيون وحولها زوجته وأولاده يليهم أحبابه بأفخر الملابس وبيد كل واحد عصا يتوكأ عليها ثم يأتي جيران الميت سائرين بدون نظام وعلى هذا الترتيب تمر الجنازة في الطرقات المعوجة بنظام تام وفيها سفينة النعش فوق السحافة تسحبها الثيران وتسير الهوينا مستمرة على ذلك مدة ساعات.

فيما يحصل أثناء تشييع الجنازة

متى خرج النعش من بيت الميت كثر البكاء والنحيب وضجت النائحات المأجورة بالصراخ فيصحن ويقطعن شعورهن ويبدين من الأمور ما استوجب الزافرات والحسرات والأسف الزائد وهذا خلاف ما يحصل من أهل الميت وأحبابه فتراهم في صراخ وأنين وبكاء وعويل بالنساء نهم يتناوبن الرثاء والتأبين طائفة بعد أخرى ويقلن ما معناه:

إلى المغرب مسكن أسوريس. إلى المغرب أنت الذي كنت أحسن الناس وكنت تبغض الرياء فتجبن النائحات ويقلن المعبودات نفسها تنعيك لأنك ذاهب أيها الرئيس إلى المغرب.

هذا ما يحصل من طوائف النساء وأما ما يحصل من سائق الثيران التي تسحب النعش فوق الأرض فإنه يحث هذه الثيران ويقول لها:

إلى المغرب أيها الثيران السابحة للنعش إلى المغرب (إلا ثرى) أن سيدكم آت خلفكم فتجيبه الأحباب قائلين:

لقد أفل طالع الرجل العظيم الذي طالما أحب الصدق وكره الكذب اهـ.

ثم تستمر الجنازة بعد ذلك في سكوت تام برهة من الزمن وبعدها تصيح إحدى النائحات بالرثاء والندب فيجيبها النسوة بما يناسب ندبها وهكذا تسير الجنازة بين نعي ونحيب كما هو حاصل الآن في الجنازة وعلى الخصوص في الوجه القبلي وكل من سمع بالجنازة وجب عليه الإسراع بها مراعاة لخاطر أهل الميت ووفاءً بما تقضيه عادات البلاد وكذا كل من حضر قدم واجب التعزية والسلوان قائلاً إلى المغرب مضيفاً إليها_بعض عبارات تشف عن حسن خصال الميت وفضائله ومحاسن أعماله المبرورة وعما ناله من الرقي والشرف في دار دنياه. وقد يدرجون في تعازيهم ما يشير إلى فناء هذه الدنيا والى بقاء الآخرة والى التحفظ والوقاية من هول يوم القيامة. ومتى أقبلت الجنازة على شاطئ النيل نزلت حملة القرابين في السفن المعدة لهم ونزلت النائحات وعائلة الميت في سفن أخرى ويضعون النعش في مقعد السفينة بعد كساء ظاهره إما بالأنسجة المزركشة المدبجة بأنواع الألوان أو بستار من الجلد المصبوغ بالألوان والمصنوعة صناعة جميلة تشهد لصانعها بالفضل والذوقالسليم وفي أثناء جواز النيل يكون الناس وقوفاً في السفن ووجوههم نحو النعش وفيما أسلفنا القول أن هذا النعش صنع على النمط الفلكي السري الذي أعد للمعبود أسوريس وأقيمت له عبادة في مدينة العرابة ويعرف عندهم باسم نشميت أي مبرقش بنقط سود ونقط بيض أو المرفوع الذكر. وهو رقيق الجسم خفيفة وشكله مستطيل وفي مقدمته ومؤخره زينته من المعدن على هيئة زهرة اللوتس وكلاهما مائلاً ميلاً خفيفاً إلى الأمام يخالهما الرائي أنهما ينوءان لثقل ما في السفينة وما في وسط هذا الفلك مقعد مزين بباقات من جريدة التنخل الأخضر فتطوف حوله زوجة المتوفى وأولادها نائمة ويكون معها قسيسان عليهما لباس وعصابات كزي المعبودتين لاسيس وتفتيس ومحلهما خل ف النعش لوقايته وي قف القسيس المترئس على الجنازة أمام النعش وبيده مبخرة يحرق فيها البخور وتكون سفينة النائحات خلف سفينة النعش.

أما باقي السفن فإنها تسبح على مقربة منها بقوة المجاديف وقوة الرجال وهذا التشييع يعرف عندهم بالرحلة أو الانتقال إلى الدار الاخرة فإذا ما رسا النعش على الشاطئ استقبله جموع الناس بالتبجيل والإكرام مودعين له قائلين:

لقد حان لك الدخول بسلام في القبر فعليك منا السلام فاذهب بسلام إلى العرابة واهبط بسلام نحوها ونحو الغرب اهـ

ولقد لكان لجواز النيل عندهم شأن عظيم لأن الانتقال من هذه الدنيا إلى دار الآخرة تختلف أحواله عند الأمم أما المصريون فقد عرفوا المكان الذي تذهب منه الأرواح لدخولها في دار البقاء وهو عبارة عن فجوة في الجبل الواقع غربي العرابة المدفونة ولا يتأتى للأرواح العبور منه في سفينة أسوريس ومن ثم كان عبور الميت للنيل هو استعاد روحه وتأهبها لتوجهها نحو الفجوة الآنفة الذكر وهناك تترقب مجيء الشمس في سفينتها فمتى أقبلت بما فيها من طائفة المعبودات نزلت فيها وسبحت في السماء مخترقة باللجة السماوية برسومها في أثناء ذلك أما حالة في جثتها ومحلاة بملابسها المعتادة كأنها حية في دار دنياها أو يجعلها نائمة في نعش حوله النائحات والقسوس ومن خلفها سفن مشحونة بالقرابين ولقد ذهب اليونان بناءً على ما بلغهم من الروايات إلى أن أغنياء المصريين كانوا يفضلون دفنهم في العرابة بجانب أسوريس هي البقعة المباركة عندهم ولكن علمنا من بعض جثث أولئك الأعيان الذين قيل بدفنهم في العرابة أنهم ملحودون في مقابرهم التي أقاموها في ثمنف أو في بني حسن أو في طبيعة فاتضح أن الرحلة المنصوص عنها في النقوش المصرية القديمة سهي للروح لا للجسد - ولنرجع إلى أمر الجنازة فنقول أن جموع العالم تصيح أثناء تشييع الجنازة وتقول: إلى المغرب إلى المغرب دار الحق لقد نعاك وبكاك الملكان الذي كنت تهواه وتقول النائحات بسلام بسلام اذهب بسلام أيها الممدوح إلى المغرب سنراك إن شاء الله يوم الحشر لأنك ستذهب الآن إلى الأرض التي تمزج الناس بعضها ببعض.

ثم تصيح الزوجة قائلة يا بعلي يا أخي يا حبيبي قف واستقر في مكانك ولا تبتعد عن المكان الدنيوي الذي انت فيه واوجيعتاه مالي أراك ذاهباً إلى السفينة لتجتاز النهر - يا أيها الملاحون لا تسرعوا به بل دعوه لأنكم ستعودون إلى منازلكم أما هو فراحل إلى دار الخلود_لماذا أتي أيتها السفينة الأسورسية ونزعت مني هذا الذي يفارقني؟؟

أما الرملاحون فلا يعبأون بهذه العبارات المحزنة ولا يعيرون لها أذناً واعية بل يقولون كن ثابتاً فوق سطح السفينة لأنا اقتربنا إلى الشاطئ.

ومتى أقبلت السفينة المقلة للنعش بقوة وتصادمت بالشاطئ ربما يقع منها بعض الرجال في النهر وذلك لما تأتي باقي السفن وترسو بجانبها يتساقط منها في لجة النيل بعض القرابين لشدة تلاطمها بالشاطئ لكن لا يفلت أحد لذلك بل يستمر الأحباب في تأبينهم ورثائهم قائلين

ما أسعد هذا الممدوح حيث ساعده الحظ فتوجه إلى الراحة في قبره الذي أعده لنسه وسينال من المعبود الرحمة الواسعة فيسمح له بالذهاب إلى المغرب محفوفاً بالخدم من جيل لآخر_وهذا الرثاء لا يمنعه عن البكاء والعويل.

ثم إنهم يخرجون الموميا من السفينة ويضعونها ثانياً فوق السحافة وتنتظم الجنازة في سلكها الأول وتسير في هذا النظام إلى سفح الجبل وهناك يتعذر على الثيران سحب النعش فتحمله الرجال فوق أعناقهم ويسيرون به الهوينا إلى باب بالقبر المعد لدفنه حيث يجدون هناك نوع مسطبة يوضع النعش عليها فينصبون صندوق الميت فوق كثيب من الرمل ويجعلون وجهه نو جموع العالم كأنه حلبيته الجديد صحبة أحبابه وكبأنه قد تأهب لوداعهم للدخول في سكنه الجديد هنالك يتجدد البكاء والعويل وتعلو الأصوات بالنحيب والأنين ويرتفع الصياح والصراخ ويأتي أهل الميت بالأزهار فيضعونها فوق صندوقه ثم يعانقونه ويوعونه فتقول الزوجة:

أنا أختك أيها العظيم فلا تتركني فهل تقصد حقيقة أيها الأب العزيز أن أتباعد عنك؟ متى فارقتك صرت وحيداً فهل لك من أنيس يرافقك - أنا أخاطبك أنت الذي كنت تود المزاح معي مالي أراك ساكبتاً لا تتكلم اهـ

تكون جاريها في هذا الوقت جاثية خلفها فتقول:

ها قد أخذ سيدي مني وترك خدمه

ثم تقول النائحات

نوحوا عليه نوحوا وابكوه بلا انقطاع وصيحوا بأعلى أصواتكم (وقولوا) أيها الحالة العظيم المتوجه إلى أرض الخلود لقد نزعت منا فالآن نخاطبك أنت الذي كنت تحب حراك رجليك للمشي مالنا نراك مغلولاً مقيداً مكفناً أنت الذي كان لك الكثير من الملابس الفاخرة وكنت تحب القماش الأبيض مالنا نراك الآن راقداً في ثيابك (التي كانت عليك) بالأمس

لقد أصبح الذي يبكيك (كأنه) يتيم الإمام والقلب محترقاً عليك لما أصابه من الحزن وحائماً حول جثتك

وفي أثناءالبكاء والعويل على الميت يحرق القسيس البخور ويهرق التراب ويقول (هذا) لجثتك أيها المتوفى فلان الصادق القول لدى بالمعبود العظيم عند ذلك تختف الموميا في جدثها وتستقر في ظلمات القبر إلى دهر الداهرين

ولما كان القبر مسكناً للميت كمساكن الدنيا للأحياء رأوا أن يجعلوا سفيه أماكن للزينة ومصلى يأتي فيها أهل الميت بالقرابين والضحايا في كل يوم عيد وفيه أماكن خصوصية لا يدخلها سوى جثة الميت ويزينون داخل تلك الأماكن بالرسوم والكتابة بعد تمليطها ملاطاً لطيفاً يظهر محاسنها ويجعلون تلك الرسوم ألواحاً متعاقبة يعلو بعضها بعضاً بهندام ونظام حتى تصل إلى السقف فيصورون حرث الأرض والزراعة والحصيد وتخزين الغلال وتربية الحيوانات وصيد البر والبحر ومعامل النجارين وصناع العربات والنقاشين والصناعة والزجاجين والخبازين وتحضير الطعام واستعاد الموائد مرفقة بالأغاني ورقص العوالم ول ذلك طلاسم يعتقدون أنها تتحول إلى حقائق بسر صيغ يتلونها ليتمتع به الميت في قبره فإن اشتهى شيئاً يتغذى فما عليه إلا أن يختار ما شاء من الأبقار أو الأشياء الأخرى المرسومة في قبره ومتى وقع نظره عليها تحولت إلى حقيقة وتلذذ بها كما كان يتلذذ في دار دنياه تلك هي عقائدهم التي ساقتهم إلى زخرف المقابر ولذلك ترى في رسومهم صورة صاحب القبر قد أخذت فخذ الثور من يد خادمها وتغذت منه هذا بما تفعله أموات فقرائهم.

أما أموات الأغنياء وأرباب المظاهر فإنهم لا يحتاجون غالب الأحيان في أوائل موتهم إلى شيء من المرسوم على جدران القبور لأن أهلهم وذويهم يقدمون لهم في المواسم وغيرها ما تشتهيه أنفسهم من المآكل والمشارب فيذبحون الضحايا من بقر وإوز ويقدمون بالنبيذ والجعة وغيرهما إلى أمون أو سوريس أو فتاح أوخونسو فيأخذ المعبود شيئاً منها لنفسه ويرسل الباقي إلى الميت المراد تلك القرابين ومن ثم وجدت الأوقاف على الموات وبنوها على شروط كانوا يبرمونها مع قسوس المعابد هؤلاء يقدمون ما هو موقوف للقبر من الأشياء ويقومون بالصلوات والدعوات في الأوقات المعينة وعليه كانت العنابية بإحياء ذكر الأموات من الأمور المهمة عندهم لكن مع وجود هذه العناية ومرور المدد الطويلة على الأوقاف كان ينتهي أمرها بالانقطاع إما لانقراض العائلة واندراسها أو تبديد الأوقاف عقب الانقلابات الكبيرة وبذلك ينقطع الوارد عن الميت فعندئذٍ لا يجد أمامه إلا ما هو مرسوم فوق جدران قبره لكن كيف يتسنى للميت لقيام والقعود واستمرار الحركة مع أن الموت أفقد ذلك والتبصير حول جثته إلى جسم حراك له ولا قدرة فلا يستطيع المشي ولا بالتكلم ولا النظر ولا تأدية شيء من الوظائف التي عليها مدار الوجود فلأجل خلاص الجثة من هذه المقيدات المعطلة لعامة حركات الجسم أوجدوا طريق يسمونها (فتح الفم) وهي أن رئيس القسوس وأعوانه وهم أولاد حوربس يوقفون الجثة المحنطة فوق كثيب من الرمل في آخر المصلى المعدة لها ويقرأون عليها الصيغة المقدسة السرية التي تلاها حوريس على جثة أسوريس ثم يطهرونها بالماء القراح وبالماء الأحمر ويبخرون الجنوب وبالشب الوارد من الوجه البحري كما يفعل لتمايل المعبودات عند الشروع في تقديم الضحايا لهم ثم يعملون له العمل اللازم لإيقاظه من السبات والأمانة ولخلاصه من لفائف الأكفان ويرجعون له الظل الذي تقلص منه وقت خروج روحه ويبردون إليه جميع حركاته فيصير جسمه المحنط حياً في عقيدتهم فيتغذى ويتنعم في ديار دنياه فإذا كان الجزارون يذبحون ثور الجنوب ويقطعونه بعد دفن الميت أسرع القسيس بتناول فخذ الثور وبتقديمه لفم الوجه المستعار الموضوع فوق رأس الجثة المحنطة لاعتقاده أنها حية وأنها تتناول شيئاً من ذلك ولما يجد عدم الفائدة يأخذ ألة من خشب لها أنصال من حديد ويشير بها على فمخ الجثة مريداً بذلك فتح فمها ثم يتلو صيغة على الموميا فيصبح في استطاعتها حسب عقيدتهم الذهاب والإياب والسمع والكلام وتناول شيءٍ من القرابين التي تقدم لها بل تستطيع أن تدعو كل من رافقها في يوم الجنازة إلى أول وليمة تقدم لها في قبرها بعد الدفن وذلك أنهم متى وضعوا تابوت الجثة في منامتها أتت العبيد بالقرابين وبالقدور الأربعة التي فيها أحشاء الميت والصناديق والأثاث والمأكولات التي أحضروها مع الجنازة فيتلو عليها القسيس صلاة معلومة عندهم بعد وضعها في القبر ثم يخرج من عندها ويقيم عليها البناؤون سداً محكماً في نور المشاعل وبعد تنجيز هذا العمل تقدم العبيد مائدة للحاضرين أمام القبر أو في المص لى فيحضر في هذه الوليمة تمثال الميت المرسوم رسماً بارزاً في آخر القاعة الثانية ويتوهمون أنه يتناول ما يخصه من هذه الوليمة حسب عقيدتهم القاضية بأن للأشياء روحاً وشبحاً كما للإنسان والحيوان فمتى ذهبت الموميا إلى قبرها تلبسها الحياة وتتمتع بفضائلها كما كانت في دار دنياها فالشيخ الموهوم للكرسي أو للسرير هو كرسي وسرير حقيقي لجثة الإنسان المدفونة فيتمتع بهما ويتلذذ بما يقدم من الشراب واللحوم لعالم الجنازة كما كأنها حية معهم وبينما يكونون مغمورين في ملاذ المطاعم تشتغل النساء بالرقص والقصف ويشرن في أغانيبهن تارة إلى الميت وطوراً إلى الأحياء مع مراعاة السجع فيقلن:

اكتسب حظ يومك ما الحياة إلا لحظة اكتسب حظ يومك لأنك متى دخلت قبرك مكثت فيه مكوثاً أزلياً إلى دهر الداهرين.

فإذا انقضت هذه الوليمة تأهب الجموع للرحيل فعندئذ يقوم العواد أمام بيت التمثال وبيده العود ويشرع في نشيد الأغاني القديمة فيقول ما معناه:

الدنيا دار انقلاب وتجدد مستمر إذ الأمر الذي قضى به أسوريس المعبود الكبير من الغرابة بمكان وهو أنه من حسن القضاء (والقدر) إنه كلما فني جسم وانقضى حل غيره مكانه وهذا معروف من قديم الزمان (كيف لا) وأن الفراعنة الأول الذين كانوا يعبدون ودفنوا في أهرامهم ودفنوا معهم في تلك الأهرام جثثهم وأشباحهم تركوا ما كان لهم من مقاعد القصور التي شيدوها فانقضى نحبهم فلا تيأس (أيها الحي) بل اتبع شهواتك وسرورك قدر ما تستطيع وطول ما تعيش في هذه الدنيا فلا تضني نفسك إلى أن يأتيك اليوم الذي يتوسل فيه الإنسان إلى أسوريس صاحب القلب الثابت فلا يسمع له_كل بكاء الناس لا يفيد الميت الذي في قبره فاكتسب حظ يومك ولا تهمل ما فيه مسرتك فلم يستطع أحد أخذ شيءٍ من أمواله إلى دار آخرته ولا أحد ذهب إليها وعاد اهـ.

أما اعتقادهم في الجثة فبعضوهم يقول أنها تبقى في القبر مرتابة الوجود قليلة التحمس بنفسها فلا تبرحه إلا إذا انقطع عنها وارد المؤونة أي القرابين التي تقدم لها من لدن أهلها واعتراها الجوع ويحكون نهم يرونها هائمة في القرى وتلقي بنفسها بشراهة على البقايا الموجودة فوق الأرض وعلى أقبح القاذورات ويحدث عندها القحط عوامل الغيظ وحب الانتقام من الأحياء الذين أهملوا أمرها فتهجم عليهم وتعنفهم وتجدد فيهم الأمراض_ويحكون أيضاً أن بعض الجثث أو أشباحها مع تقديم القرابين لها والقيام بما يلزمها فإنها شرسة الطبع فتحملها شراستها على اضطهاد أقرب أهلها فقد جاء عنهم في الآثار أن رجلاً أحسن معاشرة زوجته واقام لها جنازة فاخرة يوم وفاتها وأوقف لها أشياء كثيرة إلا أنها تقصده بالأذى فكانت تأتيه كل يوم بهيئات فظيعة ولم يتيسر له الخلاص من سوء أعمالها فلما فرغت جعبة صبره ولم يستطع تكبد هذا التعنيف المستمر كتب لها جواباً ذكر لها فيها حسن المعاشرة والتودد الذي كان بينهما وسألها عن الأسباب التي دعتها إلى هذه الأعمال السيئة فقال لها ما تعريبه:

منذ صرت زوجاً لك إلى هذا اليوم ما الذي فعلته نكاية فيك وأخفيه عنك ماذا تفعلين حينما أعترف (أمام الرب) بما فعلته لك يوم عرضنا عليه أمام مجلسه حينما أدافع بنفسي عن مظلمتي أمام معبودات الآخرة ويحكم عليك بناء على ما أحرره لهم في مظلمتي من مساويك (أخبريني) ماذا تفعلين اهـ.

ثم أنه علق هذه الكتابة في تمثال من خشب على هيئة المرأة ووضعه في قبر زوجته فلما وصلها هذا الجواب خافت من لقاء ربها ومحاسبتها أراحته من تعنيفها_وكثير منهم يقول أن الروح تغادر قبرها وتهاجر إلى أرض أخرى كائنة خلف الفجوة الآنفة الذكر وهي الواقعة في جبل العرابة وفي تلك الأرض ممالك حقيقية للأموات كل مملكة تحت رعاية معبود مثل خنتامنمتي وبتاح سكري وأسوريس وهذه المعبودات تقتبل أرواح المصريين الذين عبودهم في دار دنياهم فكل من توسل مثلاً إلى أسوريس كان تابعاً له وفي ملكته وكل من انتمى إلى بتاح سكري كان من أتباعه وفي مملكته وسمى وميق أسوريس أو وميق ختيامتي_وأمر تلك الممالك وأكثرها سكاناً مملكة أسوريس وهي عبارة عن جملة جزر نرى من هذه الدنيا أكتافها الظاهرة فجهتها البحرية الشرقية السماء ووجهتها الشرقية المجرة وزهي الشهيرة بآم النجوم. ولا يمكن الوصول إليها إلا بعد سفر دونه مشاق وأخطار فمتى غادرت الروح جدثها جعلت ظهرها نحو الوادي وزجت بكل جسارة وجرأة في أغوار الصحراء فتصادفها إحدى الجميزات الباسقات هناك في وسط الرمال وتعرف عند فلاحيهم بالشجرة المسحورة فتشاهد بين أفنانها أما المعبودة (نيت) أو (حاتحور) أو (نوت) فتقدم لها هذه المعبودة صفحة بها خبز وأخرى بها ماء فكل روح قبلت هذه العطية كانت من أتباع هذه المعبودة ولا يمكنها الخروج من مملكتها إلا بإذنها ورضاها ويوجد فيما وراء الجميزة بلاد محفوف بالمخاوف مشحونة بالثعابين والحيوانات الضارية وفيها سهول فيها حميم وأباطح تسكنها نسانيس كبيرة تصطاد \ الرواح بالحبائل يحكون أن كثيراً من الأرواح وقعت في تلك المخاطر فهلكت أما ما يكون منها محصناً بالتمامئم والتعاويذ متوقياً بسر الطلاسم السحرية القوية فإنها تقتحم الأخطار وتنجو منها حتى تصل إلى شاطئ بحيرة تسمى (خا) فتشاهد هناك الجزائر السعيدة فيأتيها بحوت على شكل طائر أبيس المعروف (بأبي نحس) ويأخذها على جناحه أو يأتيها الملاح المقدس ويأخذها في سفينته إلى أن يأتي بها إلى أسوريس فيسألها هذا المعبود أمام أعضاءه وهم اثنان وأربعون قاضياً عن أعمالها في دار دنياها ويناقشها الحساب ويزن قلبها تحوت في كفة ميزانه وحينئذ تأتيها معبودة يقال لها (معيت) أي العدالة فتلقنها الاعترافات السلبية لتتبرأ كم كل تهمة توجهت إليها ثم تدخل بعدئذ في رياض يقال له (سخيت أيالو) في زمرة الأرواح السعيدة وهي أراض طيبة الخصوبة يعلو فيها القمح إلى سبعة أذرع بما في ذلك السنابل التي تبلغ ارتفاع الواحدة منها ذراعين.

والموتى هم المكلفون بزراعته وجمع محصولاته وتخزين الغلال وقد ينوب عنهم في هذا العمل الشاق تماثيل صغيرة توضع بجانب جثثهم في القبور ويقال لها (شبتى) أي المجيبة وقت نداء صاحبها لمباشرة أعمال الفلاحة في حقل (أيالو) المذكور في الأوقات المعينة أما باقي أوقاتها فتكون في ولائم مستمرة وفي أغاني ومسامرات ومسرات لا نهاية لها.

وكثير منهم يقول ببطلان هذه العقيدة وفسادها لما فيها من الخشونة والفظاعة وهؤلاء كانوا يجتهدون في الوقوف على الحقائق وينسبون للأرواح درجة أشرف وأرقى من ذلك.

وكان لكهنته (أمونرع) مذاهب في حقيقة ما تؤول إليه الروح وكلها ضروب من تخمين اللاهوتيين لا دخل لأفراد الشعب فيها ومضمونها أن الإنسان سيبعث بعد موته ولا يعلم سر ذلك إلا الله الخفي اهـ.