انتقل إلى المحتوى

مجلة المقتبس/العدد 58/علماؤنا

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة المقتبس/العدد 58/علماؤنا

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 12 - 1910



وكيف ينشئون أبناءهم

إن العالم الذي أصفه في مقالي هذا ليس مما أنبتته بلدتنا طرابلس الشام وحدها.

بل يوشك أن يكون من مستنبتات كل بلدة من بلادنا الأخرى.

قضى هذا الفاضل حياته في خدمة العلم وتحقيق مسائله والتأليف فيه. وقد ورث هذا الميل من آبائه فأحبّ أن يورثه أبناً له في السابعة عشرة من عمره فلم يفلح.

وكلما ذكر علماء الطبيعيّات في كتبهم أن الأجسام أو المواد قسمان موصل ردي وموصل جيد يعنون بالأول ما تنتقل فيه الحرارة ببطء. وبالآخر ما تنتقل فيه بسرعة_كذلك الحال في بعض الأشخاص: فإن منهم من ينقل ملكات آبائه واستعدادهم العلمي إلى أبنائه ومنهم من لا ينقل. والأول يصح أن نسميه موصل جيد والثاني موصل ردي

وصاحبنا الذي نحكي عنه هو على ما يبدو من قبيل القسم الأخير: فإنه مع ما أُوتيه من سعة العلم والرغبة في تحصيل فنونه_لم يورث ابنه هذا الميل والاستعداد. فكان كسولاً. فاتر الهمة. منطفئ نار العزيمة. وهل أن ضعف الميل في ذلك الفتى أمر جيليّ فيه أو أنه عرض له بسبب الأسلوب الذي جرى عليه أبوه في تربيته وتثقيفه؟ لا أعلم.

وربما كان القارئ أشدّ علما مني به إذا أطال روحه وأصغى لإتمام الحديث:

قيل للوالد: نراك توبّخ ابنك لأقل هفوة. وتنتهره على ملأ من الناس. وقد بلغ الشابّ فيحسن بك أن تخاطبه بما يخاطب به عادة من كان في مثل سنّه.

فقال: انه يعرف هذا. ويعرف مبلغ تأثير التوبيخ العلني في تشويه أخلاق الناشئين. ولكن هناك ضرورة تستدعي العدول عن هذا الأصل في التربية أصل آخر أجلّ وأسمى.

ولما استوضح الأمر منه قال: أنه كان يؤنّب ابنه على سوء عمله في السرّ.

فكان لا يرعري ولا يزدجر. ثم أخذ يوبخه جهرة صار الولد يحاسب نفسه ويصلح سيرته.

قالوا: ولكنك تشتمه لأمر تافه لا علاقة له بما تقول. فقد سمعناك توبخه مذ وضع الكرسيّ في غير الموضع الذي تريد أن يضعه فيه. وهذا لا يحسن بحال من الأحوال أن يوبّخ عليه. لاسيما وهو لا يعلم الغيب الذي وقر في نفسك من لزوم وضع الكرسيّ في هذ المكان دون ذاك.

فتخلص الأستاذ من الجواب على هذا الاعتراض إلى وصف ذكاء ابنه. وصفاء ذهنه. وأنه يفهم ويحفظ ما يلقى عليه بسرعة. وقد حفظ مرة كتابا صغيرا في قواعد اللغة الفارسية وحذق جميع مسائله في وقت قصير. ثم قال: لكن ابني مع هذا الذكاء النادر كسول لا يهتم بحفظ دروسه. ولا يصبر على المطالعة. ولو فعل لكان من النابغين الأولين. وعد في مقدمة الطلاب الناجحين.

ثم قال: وإنني لا أطيق أن أرى ابني جاهلا وأن أعيش أنا وإياه تحت سقف واحد. وقد أعيتني الحيلة في تعليمه. ويخطر لي أنه إذا وصل إلى سن العشرين وبقي على ما هو عليه من الكسل والجهل أسلمته إلى الجندية. وضننت بدفع البدل النقديّ عنه. أو أنني أرسله إلى مكاتب الأستانة. حيث يعفى التلامذة من الخدمة العسكرية. وأخذ يصف ما يقاسي من عناء هذا الأمر وأن ابنه نغّص عليه طيب عيشه. ولذيذ حياته. قال الراوي: فخشعت نفسي لقول الأستاذ. ورثيت لحاله. وقلت أرى يا سيدي أن حياتك أثمن من أن تكدر صفوها بمثل هذا. وأن ابنك إذا لم يكن فيه استعداد وميل لطلب العلم. فاختبر ميوله الأخرى لشؤون الحياة ودعه يشتغل في العمل الذي يحسنه ويميل إليه بطبعه. فإذا كان يميل إلى التجارة والكسب فنشّطه لسلوك هذا السبيل. وإذا رأيته يميل للدخول في سلك موظّفي الحكومة فليفعل. فإن ذلك أجدى من أن تحمّله ما لا طاقة له به من التحصيل.

فارْبَدَّ وجه الأستاذ من سماع هذا الكلام. وقال: إن جميع ما تعلمه أنت أعلمه أنا وإنك للآن لم تدرك ما أقول: أما قلت لك أن ابني على جانب عظيم من الاستعداد والذكاء وإنه يحفظ ويفهم ما يلقى عليه بسهولة وإنه في ساعة واحدة حذق مسائل اللغة الفارسية التي لا يدركها غيره في بضعة أيام.

قال الراوي: قلت بلى يا سيدي الأستاذ فهمت كل ما تقول ولكنك أنت لم تفهم بعضاً مما أقول:

إن قوة الذكاء والفهم غير قوة الميل والرغبة. فما لم تتوفر في الطالب هاتان القوتان لا يقال عنه أنه مستعد للطلب. ولا ذو قابلية للعلم. وإن ابنك ذكي سريع الفهم. لكنه كسول ضعيف الميل. فهو إذن قد توفرت فيه قوة دون قوة. ألا ترى أن كثيرين من الطلاب هم على العكس من ابنك: ترى الواحد منهم كثير الرغبة والميل لتحصيل العلم متوفراً على الدرس والمطالعة جهده. لكنه ينقصه قوة الذكاء والفهم المتوفرة في ابنك. فيضيع عمره ولا يستفيد شيئاً من العلم. وإلا ليلق بمن كان كذلك_أي كان ذكياً لكنه كسول أو مجتهداً لكنه بليد_أن يدع طلب العلم ويأخذ عملاً آخر ينتفع به.

فامتعض الأستاذ وقال: من أين أتيت بهذه الفلسفة؟ يريد أنني تكلمت بكلام غير مفهوم. وهو ما يريدون بكلمة الفلسفة أحياناً. ثم عاد الأستاذ فشرح ما أوتيه ابنه من ذكاء وقوة حافظة وغير ذلك من المواهب والمزايا. هذا ما قصه الراوي علينا. وموضع العبرة فيه أن الأستاذ قد درس على زعمه علوم الأولين والآخرين ولكنه نسي علماً واحداً لم يوفق لدرسه مع أنه في أشد الحاجة إليه. ذلك العلم الذي هو علم التربية الذي هو فرض عين على كل أب عائلة. ومعلم مدرسة. وإذا زعم الأستاذ أن هذا العلم درسه في جملة ما درس. نقول له ولكنك لم تكن ذا استعداد وقابلية للانتفاع به. فيرد علينا بأنه على استعداد وقابلية لأنه ذكي وسريع الفهم. فنضطرب حينئذ إلى السكوت والصبر.

ومثل الأستاذ كثيرون يريدون أن يلزموا أولادهم بالتحصيل. ويكونون ضعيفي الميل والرغبة فلا يعتمون أن تمضي أعمارهم سبهللا. ويكون من جهة ثانية قد فات الوقت الذي يمكنهم فيه التدرب على الكسب وتوفير الثروة فيقضون حياتهم في البطالة والخمول وضيق ذات اليد.

ولو فطن أولياؤهم لحالهم من أول الأمر لربأوا بهم عن مثل هذا الموقف. وتخطوا بهم ما لا يطيقون من العلم إلى ما يطيقون من العمل. وأعانوا على الانتفاع بميولهم الخاصة. واستثمار مواهبهم الفطرية.

وأكثر ما يكون هذا الإغفال في بيوت العلم القديمة فإن الآباء فيها يحرصون على تنشئة بنيهم في العلم. وتعويدهم التحصيل منذ الطفولة. ويلزمونهم إياه بكل وسيلة. ولا يكون في كثير منهم ميل إليه. واستعداد له. فيقضون أعمارهم فيه. من غير أن يكون لهم نصيب منه. سوى القيافة الخاصة. عمامة وطيلسان. وجبة واسعة الأردان.

وهناك سبب آخر يحمل الآخرين على الاشتغال بطلب العمر من دون أن تتوفر فيهم القابلية له فلا ينالون حظاً منه: أولئك يريدون الفرار من الخدمة العسكرية وتضيق ذات يدهم في الغالب عن البدل النقدي فيشتغلون في التحصيل لهذا الغرض.

وقد ينبع بين هؤلاء أفراد يصبحون فخراً لقومهم. ونبراس هدى في وطنهم. أما الآخرون وهم معظم الطلاب فيحذقون من العلم القدر الذي ينجيهم من الخدمة العسكرية ثم لا يلبثون أن يستغلوا عنه فينسوه رويداً رويدا. ويكونون إلى سن صعب معها مزاولة عمل أو صناعة فيعيشون كلاً على أهليهم. يرمقون الرزق ترميقاً. ولو أنصف هؤلاء أن فسهم لما اشتغل بتحصيل العلم منهم إلا من أوتي نصيباً من ميل واستعداد للطلب. ورزقاً بكيفية مؤونة الحاجة. وإلا فخير للمرء منهم أن يتعاطى عملاً يرفه به عيشه. وينقذه من عار البطالة. ويمكنه من أداء البدل العسكري. أو أنه يقوم بهذه الوظيفة المقدسة. فإنها من أشرف الأعمال لاسيما في وقتنا هذا. وقد أصبحت الحكومة دستورية. والجندي فيها مرفه في معيشته. موفر الحرمة في أداء خدمته.

ولو بلغ طلاب العلوم الإسلامية في إحدى المدن مائة طالب مثلاً لكان منهم عشرة يشغلون المناصب الدينية: مثل مفتي. وموظف محكمة. وكاتب صكوك. وعشرة آخرون أغنياء عن الكسب بغنى والديهم. وعشرة سواهم أقدموا على الكسب بقوة من أرادتهم وهمة من نفوسهم. أما السبعون الباقون فيغذون ويروحون في قومهم على غير الحالة اللائقة بحرمة العلم وكرامة أهله وقد تقود البطالة بعض هؤلاء إلى انتياب أماكن اللهو. وينزل الحال بآخرين إلى تناول الصدقات. والسقوط على طعام الأموات.

وإنا لنود أن يكثر هذا العنصر فينا معشر المسلمين: عنصر الدين ولكنا نود لهم قبل كل شيء أن يكونوا موضع احترام العامة وإجلال الخاصة ليكون ذلك أدعى للانتفاع بهم. والتلقي عنهم. وأن يكون لهم من خزينة الأوقاف ومال الأمة رواتب تساعدهم على أداء وظائفهم. والظهور في مظهر التجمل بين أبناء قومهم. ثم يكون وراء ذلك من قبل الحكومة أو من قبل الرأي العام عيون تراقبهم. وتناقشهم لحساب أعمالهم. حتى إذا اقترف أحدهم ما لا يلاءم الآداب صنفه. وكرامة دينه. أكره على التجرد من زيه العلمي. ثم ليختر لنفسه صناعة أخرى أو يبقى متشرداً كما يريد. وإلا فإن ظهور أهل الدين في مظهر يزري بهم ويحط من قدرهم ويدعو إلى النفر منهم وترفع أبناء الخاصة عن الدخول في سلكهم. فلا يعود ينضم إليهم سوى الحثالة. من أهل الجهالة. وذوي البطالة.

طرابلس الشام:

المغربي.