مجلة المقتبس/العدد 58/الضوء اللامع
مجلة المقتبس/العدد 58/الضوء اللامع
ُ اللامع
من كتب التراجم الممتعة التي تجمع بين الفائدة واللذة هذا التاريخ لمؤلفه محمد بن عبد الرحمن الملقب بشمس الدين السخاوي الأصل القاهري تكلم فيه على رجال عصره بما اعتقده فيهم وأطلق لقلمه العنان أيما إطلاق حتى لتظنه لا يعرف غير الهجاء مذهباً وكشف عورات أهل جيله وقبيله مشرباً.
قال في كشف الظنون: الضوء اللامع في أعيان القرن التاسع لشمس الدين محمد ابن عبد الرحمن السخاوي المتوفى سنة 902 اثنتين وتسعين رتبه على الحروف وقد صنفه السيوطي في رده مقالة سماها الكاوي في تاريخ السخاوي وشنع عليه فيها وانتخبه الشيخ زين الدين عمر بن أحمد الشماع الحلبي المتوفى سنة 936 ست وثلاثين وتسعمائة وسماه القبس الحاوي لغرر ضوء السخاوي والشهاب أحمد بن العز محمد الشهير بابن عبد السلام المتوفى سنة 931 إحدى وثلاثين وتسعمائة وسماه البدر الطالع من الضوء اللامع لأهل القرن التاسع واختصره الشيخ أحمد القسطلاني وسماه النور الساطع في مختصر الضوء اللامع.
وفي المكتبة الظاهرية بدمشق نسخة صحيحة من هذا الكتاب ربما كانت أصح نسخة في سورية ومصر وهي في نحو ثلاثة آلاف صفحة كبيرة بخط وسط وقعت في خمس مجلدات ضخام. والمؤلف عالم من علماء الحديث وغيره وله مصنفات أخر وترجم نفسه في كتبه وقد جرت عادة كثير من الأعلام أن يترجموا أنفسهم من غير نكير فمما قاله أنه أخذ عمن درب ودرج وذلك لأنه ارتحل من القاهرة على عادة العلماء لأن الرحلة ولاسيما للمحدثين والمؤرخين من لوازمهم وحج فمر على الينبوع وعقبة أيلة رابغ خليص ثم ارتحل إلى حلب ماراً ببلبيس وقطيا وغزة والمجدل والرملة وبيت المقدس والخليل ونابلس ودمشق وصالحيتها والزبداني وبعلبك وحمص وحماة وسرمين وحلب ومرّ أيضاً بطرابلس وبرزة كفر بطنا والمزة وداريا وصالحية مصر.
وله تصانيف كثيرة في الحديث ومنها تراجم من أخذ عنهم في ثلاثة مجلدات سماه بغية الراوي بمن أخذ عنه السخاوي وفهرست مروياته في أزيد من ثلاث مجلدات والتبر المسبوكفي الذيل على تاريخ المقريزي في نحو أربعة أسفار والضوء اللامع الذي نحن بصدد الكلام عليه ويكون ست مجلدات بحسب تقديره. والذيل على قضاة مصر نسخة في مجلدة والذيل على طبقات القراء لابن الجزري في مجلد على دول الإسلام للذهبي والوفيات في القرن التاسع وترجمة نفسه والتاريخ المحيط وهو في نحو ثلثمائة رزمة على حروف المعجم قال أنه لا يعلم من سبقه إليه. طبقات المالكية أربعة أسفار إلى غير ذلك من ال شروح والتلاخيص ولد سنة 831 وقد استغرقت ترجمته نفسه في كتابه هذا 11 ورقة ونصف ورقة ولم نر فيه أكبر منها.
وفي هذا الكتاب من المشاهير الناشري وإبراهيم بن ظهيرة والبقاعي والبرهان الطرابلسي وأحمد الكوراني وابن الهمام وابن الشحنة والمقريزي والحافظ ابن حجر وابن عربشاه وتيمورلنك والقاضي زكريا والحافظ العراقي وابن خلدون والجلال البلقيني والجلال السيوطي. وفيه من غير هذه الطبقة أيضاً طرف صالح جداً منهم من نسب إلى بلده ومسقط رأسه ومنهم من اشتهر بألقاب أخرى فتقع فيه على تراجم البعلبكي والعجلوني والطنبوني (نسبة لبلدة من إقليم المنوفية بمصر) والأدفوي والزنكلوني والمنوفي والأسنوي والقوصي والدمياطي والبوصيري والسمنودي والأسيوطي والسنباطي والشموني والملوي والمنفاوطي والفارسكوري والبنهاوي والبيجوري والمنشاوي والرشيدي والسكندري والأذرعي والعكاري والبقاعي والسقطي (من سقط الحنا في شرقية مصر أو سقط قليشا في البحيرة) والديروطي والفاقوسي والمحلي والدمنهوري والإخميني والأبشيهي والقليوبي والعاهري والمناوي والمحلاوي والكركي والشوبكي. والصعيدي والبلينائي والبلبيسي والبصروي والصيداوي والنووي والزفتاوي والبلقيني (نسبة لبلقينية في الغربية) والأسواني والجعبري (نسبة لقلعة جعبر من بلاد حلب) والحمصي والحموي وغير ذلك من الأعلام الذين نشأوا من قرى مصر والشام ومدنها في ذاك القرن.
بل وتجد فيه ما هو أغرب وأعجب من تراجم أمراء الجراكسة والمقدمين في الحكومة تلك الأيام أمثال قتيباي أحد ملوك مصر ترجمة في ست ورقات وقشتمر وقطباي وقطليك وقطلعوبغا وقطج وقمرقاس وقراجا وقراسنقر وقرا بلوك وقرا يوسف وقراقجا وقاتباي وقان ويرد وقانصوه وقانيك وقانم وكانور وكمشبغاواق سنقر ولاجين ومنكلي وبغا والطنبغا وأمثالهم ممن لا تعثر لهم على ذكر في غير هذا السفر الحاوي.
وترجم كثيراً من العامة وأرباب الأحوال والنساء وأورد بعض أشعارهن ومنها الجيد مثل شعر فاطمة ابنة القاضي كمال الدين محمد ابن شيرين الحنفي وقد كتبت إلى المؤلف بعد مجيء الخبر بموت أخويه من نظمها:
قفا واسمعا مني حديث أحبتي ... فأوصاف معناهم عن الحسن جلت
أناس أطاعوا الله نارت قلوبهم ... وأبصرت الأشياء من غير نبأة
وقد كوشفوا عن كل ما أضمر الفتى ... ونارت قلوبهم منهم وبصيرة
وهاك ما قاله السخاوي في مقدمة كتابه وفيها الغرض الذي يرمي إليه:
الحمد لله جامع الشتات ورافع من شاء في الحياة وبعد الممات ومقيل المقبل على الإكثار من الطاعات من ذوي إلهيات من بعد ما عمله صدر عنه من الزلات وقابل التوبة من أخلص ورجع عما اقترف من البليات سيما الصادرات في الصبا الغالب معه ترك النظر في العاقبات فضلاً عمن نشأ في الطاعات إلى أن قال: وبعد فهذا كتاب من أهم ما به يعتنى جمعت فيه من علمته من هذا القرن الذي أوله سنة إحدى وثماني مائة ختم بالحسنى وسائر العلماء والقضاة والصلحاء والرواة والأدباء والشعراء والخلفاء والملوك والأمراء والمباشرين والوزراء مصرياً كان أو شامياً حجازياً أو يمانياً رومياً أو هندياً مشرقياص أو مغربياً بل ذكرت فيه بعض المذكورين بفضل ونحوه من أهل الذمة اقتفاء في أكثرهم (؟) لمن اضفتهم إليه في غزوه لأنه اجتمع لبي منهم الجم الغفير وارتفع عني اللبس في جمهورهم إلا اليسير مستوفياً من كان منهم في معجم شيخنا وأنباءه وتارخي العيني والمقريزي سيما في عوده الذي رتبها النجم ابن فهد مع أصله للفاسي والطبقات والوفيات المدونة والتراجم كشيوخ ابن فهد التقي وولده تخريجه وغيرها من المعاجم وما علقته من مجامع مفيدنا الزين رضوان أو رأيته في استدعاءات شيخنا ونحوه من الأعيان وسائر من ضبطته ممن أخذ عن شيخنا أو عني أو أخذت عنه ولو لم يكن خبيراً كبيراً عينا وربما أثبت لمن لا يذكر لبعض الأغراض التي لا يحسن معها الاعتراض وألحقت فغي إثباته كثيراً الموجودين رجاء انتفاع من لعله يسال عنهم من المستفيدين مع غلبة الظن الغني عن التوجيه ببقاء إن شاء الله منهم إلى القرن الذي يليه مرتباً له تسهيل الكشف على حروف المعجم الترتيب المعهود في الأسماء والآباء والأنساب والجدود مبتدءاص من الرجال بالأسماء ثم بالكنى ثم بالأنساب والألقاب وكذا المبهمات بعد الأبناء مراعياً في الترتيب لذلك كله حروف الكلمة المقصودة بحيث ابتدأ في الألف مثلاً بالهمزة الممدودة ثم بالهمزة التي بعدها موحدة وألف ثم بالتي بعدها على ما ألف مردوفاً ذلك بالنساء كذلك وكل ما أطلقت فيه شيخنا فمرادي به ابن حجر أستاذنا وكنت أردت إيراد شيءٍ مما لعله يكون عندي من حديث من نشاء الله من المترجمين فخشي التطويل سما أن حصل إيضاحه بالتبيين ولذا اقتصرت على الرضي والزكي والسراج والعضد والمحيوي ممن بلغت رضي الدين أو زكي الدين أو سراج الدين أو عضد الدين أو محي الدين ممن المصنف عليه محتوي أعرضت لذلك عن الإفصاح بالمعطوف عليه للعلم به فاقتصر على قولي مات سنة ثلاث مثلاً دون ثماني مائة وتوفي. . . . . . . ثم ليعلم أن الأغراض في الناس مختلفة والأعراض بدون التباس في المحظور مؤتلفة ولكنني لم آل في التحري جهداً ولا عدلت عن الاعتدال فيما أرجو قصداص ولذا لم يزل الأكابر يتلقون ما أبديه بالتسليم ويتوقون الاعتراض فضلاً عن الإعراض عما ألقيه والتأثيم حتى كان العز الحنبلي والبرهان بن ظهيرة المعتلي يقولان أنك منظور إليك في بما تقول مسطور كلامك المنعش للعقول وقال غير واحد ممن يعتقد بكلامه وتمتد إليه الأعناق في سفره ومقامه من زكيته فهو المعدل ومن مرضته فالضعيف المعلل إلى غيرها من الألفاظ الصادرة من الأئمة الإيقاظ بل كان بعض الفضلاء المعتبرين يصرح بتمني الموت في حياتي لأترجمه بما لعله يخفى عن الكثيرين نعم قد يشك من يعلم أنني لا أقيم له وزناً فمرق بل يختلف (كذا) ما يضمحل في وقته حساً ومعنى ويستفيد به التنبيه على نفسه فيتحقق منه ما كان حدساً أو ظناً والله أسأل أن يجنبنا الاعتساف المجانب للإنصاف وأن يرزقنا كلمة الحق في السخط والرضى ويصرفنا عما لا يرتضى ويقينا شر القضا وسميته الضوء اللامع لأهل القرن التاسع اهـ.
هذا هو أقل ما يقال في الضوء اللامع والأمل معقود بأن يمثل للطبع عما قريب على يد إحدى جمعيات المستشرقين في أوربا ولذا اكتفينا بإيراد ترجمتين منه لفاضلين أحدهما دمشقي والآخر مصري وإن كان شامي الأصل وذلك إنموذجاً لأسلوب المؤلف وإنشائه قال في ترجمة العالم المؤرخ الكاتب المشهور ابن عربشاه:
أحمد بن محمد بن عبد الله بن إبراهيم ابن أبي نصر محمد ابن عربشاه ابن أبي بكر الأستاذ الشهاب أبو محمد ابن الشمس الدمشقي الأصل الرومي الحنفي والد التاج عبد الوهاب ويعرف بالعجمي وبابن عربشاه وهو الأكثر وليس بقريب لداود وصالح ابني محمد عربشاه الهمدانيين كالأصل الدمشقيين الحنفيين أيضاً. ولد في ليلة الجمعة منتصف ذي القعدة سنة إحدى وتسعين وسبعمائة ونشأ بها فقرأ القرآن على الزين عمر بن اللبان المقري ثم تحول في سنة ثلاث وثمانمائة في زمن الفتنة مع أخوانه وأمهم وابن اخته عبد الرحمن بن إبراهيم بن خولان إلى سمرقند ثم بمفرده إلى بلاد الخطا وأقام ببلاد ما وراء النهر مديماً بالاشتغال والأخذ عمن هناك من الأستاذين فكان منهم السيد محمد الجرجاني وابن الجزري وهما نزيلا سمرقند الأول بمدرسة أيدكوتمور والثاني بباغ خدا وعبد الأول وكعصام الدين ابن العلامة عبد الملك وهام من ذرية صاحب الهداية وأحمد الترمذي الواعظ وأحمد القصير وحسام الدين الواعظ أمام مسجد السيد الإمام محمد بخارى الزاهر ولقى في سمرقند في سنة تسعة وثمانمائة الشيخ عربان الأدهمي الذي استفيض هناك أنه ابن ثلثمائة سنة فالله أعلم وبرع في فنون واستفاد اللسان الفارسي والخط الموغولي وأتقنهما وجمع في بلاد الموغول بالبرهان الأيدكاني والتاخي جلال الدين السيرامي وأخذ عنه وقرأ النحو على حاجي تلميذ السيد ثم توجه إلى خوارزم فأخذ عن نور الله وأحمد بن شمس الأئمة السيرافي الواعظ وكان يقال له ملك الكلام الفارسي والتركي والعربي ثم إلى بلاد الدشت وسراي وحاجي خان وبها (البحر) الزاخر مولانا حافظ الدين محمد بن ناصر الدين محمد البزازي الكردي فأقام عنده نحو أربع سنين وأخذ عنه الفقه وأصوله ومما قرأ عليه المنظومة إلى القرم واجتمع بأحمد بيرق وشرف الدين شارح المنار ومحمود البلغاري ومحمد اللب أبي (؟) وعبد المجيد الشاعر الأديب.
ثم قطع بحر الروم إلى مملكة ابن عثمان فأقام بها نحو عشر سنين فترجم فيها للملك غياث الدين أبي الفتح محمد بن أبي يزيد ابن مراد بن عثمان كتاب جامع الحكايات ولامع الروايات من الفارسي إلى التركي في نحو (. .) مجلدات وتفسير أبي الليث السمرقندي القادري بالتركي نظماً وباشر عنده ديوان الإنشاء وكتب عنه إلى ملوك الأطراف عربياً وشامياً وتركياً فبالعجمي لقرا يوسف ونحوه بالتركي لآمر الدشت وسلطانها وبالموغولي لشاروخ وغيره وبالعربي للمؤيد الشيخ كل ذلك مع حرصه على الاستفادة بحيث قرأ المفتاح على البرهان حيدر الخوافي وأخذ عنه العربية أيضاً فلما مات ابن عثمان رجع إلى وطنه القديم فدخل حلب فأقام بها نحو ثلث سنة ثم الشام وكان دخوله لها في جمادى الآخرة سنة خمس وعشرين فجلس بحانوت مسجد القصب مع شهوده يسيراً ليكون معظم أوقاته الانعزال عن الناس وقرأ بها على القاضي شهاب الدين بن الحبال الحنبلي صحيح مسلم في سنة ثلاثين فلما قدم العلاء البخاري سنة اثنين وثلاثين مع الركب الشامي من الحجاز انقطع غليه ولازمه في الفقه والأصلين والمعاني والبيان والتصوف وغيرها وكان مما قرأ عليه الكافي في الفقه والبزدوي في أصوله وتقدم في غالب العلوم
وأنشأ النظم الفائق والنثر الرائق وصنف نظماً ونثراً مرآة الأدب في علم المعاني والبيان والبديع وسلك فيه أسلوباً بديعاً في التلخيص وعمل قصائد غزلية في كل باب منه قصيدة مفردة على قافية أشار إليه شيخنا بقوله وأوقفني على منظومة في المعاني والبيان وأجاد نظمها وجعل كل باب قصيدة مستقلة غزلاً يؤخذ منه مقصد ذلك الباب انتهى. ومقدمته في النحو. ومقود لنصيحة. والرسالة المسماة بعقد الفريد في التوحيد. ونثراً تاريخ تيمورلنك سماه عجائب المقدور في نوائب تيمور. وفاكهة الخلفا ومفاكهة الظرفا. وخطاب الأهاب الناقب وجواب الشهاب الثاقب. والترجمان المترجم الأرب في لغة الترك والعجم والعرب.
وأشير إليه بالتفنن
حتى كان ممن يجله ويعترف له بالفضيلة شيخنا واثنى على نظمه التلخيص كما قدمته بل كتب عنه نظمه لدخله في البلدانيات فقال أنشدني بمنزلة برزة بالقرب من قرية القابون التحتاني في سابع رمضان سنة ست وثلاثين لنفسه:
السيل يقلع ما يلقاه من شجر ... بين الجبال ومنه الأرض تنفطر
حتى يوافي عباب البحر ينظره ... قد اضمحل فلا يبقى له أثرا
مع حرص صاحب الترجمة حين كونه بالقاهرة على ملازمته والاستفادة منه بل امتدحه بقصيدة بديعة أتى فيها بالغار وتعامي وأهاجي وجناسات تلعب فيها بضروب الأدب أودعتها الجواهر والدرر سمعتها منه ومن لطيف أبياتها بيت جمع فيه حروف الهجاء وهو:
خض بحر فظ حديثه تغش العلا ... وأجزم بصدقك ناطقاً إذ تسند
وبيت عاطل هو العالم العالم الإمام لدى العلا ... العامل الحكم الهمام الأوحد
وبيت شطره الأول مما يستحيل الانعكاس وشكره الثاني عاطل مع كونه مما لا يستحيل أيضاً فالأول مركب من آمن والثاني من أحمد وهو:
نم آمناً من نمّ إنما آمن ... دم حامداً ما أمّ آدم أحمد
وكثر اجتماعهما وطرح شيخنا عليه من الأسئلة التي فيها الفكاهة والمداعبة مما لا تعرف منه الملاءة والقدرة على التخلص منه ما أودعته منه أشياء في الجواهر عند الكلام على قدرة شيخنا في التفسير وغيره رحمهما الله.
وكان أحد الأفراد في إجادة النظم باللغات الثلاث العربية والعجمية والتركية مجيد الخط جيد الإتقان والضبط عذب الكلام بديع المحاضرة مع كثرة التودد ومزيد التواضع وعظة النفس ووفور العقل والرزانة وحسن الثكالة والأبهة وسيماء الخير ولوائح الدين عليه ظاهرة وقد لقيته في القاهرة في الخانقاه الصلاحية سنة خمسين فكتبت عنه من نظمه أشياء وسمعت متن لفظه العقد الفريد وعقود النصيحة وكتبهما لي بخطه وبالغ في الأدب والتواضع ومات بالخانقاه المذكورة في يوم الاثنين منتصف رجب سنة أربع وخمسين ودفن بتربتها والناس مشغولون بالاستسقاء عند توقف النيل غريباً عن أهله ووطنه بعد أن امتحن على يد الظاهر جقمق وطلبه لشكوى حميد الدين عليه وأدخله سجن المجرمين فدام فيه خمسة أيام ثم أخرج واستمر مريضاً من القهر حتى مات بعد اثني عشر يوماً عوضه الله خيراً وترجمته محتملة للبسط فقد كان من محاسن الزمان وممن ترجمه المقريزي في عقوده ومما كتبه عنه لنفسه:
قميص من القطن من حله ... وشربة ماءٍ قراح وقوت
ينال به المرء ما يبتغي ... وهذا كثير على من يموت
ومنه معمياً:
وهك الزاهي كبدر فوق غصن طلعا ... واسمك الزاكي كمشكاة سناها لمعا
في بيوت أذن لها الله أن ترفعا ... عكسها صحفه تلقى فيه الحسن (؟) أجمعا
ومنه:
فعش ما شئت في الدنيا وأدرك ... بها ما شئت من صيت وصوت فحبل العيش موصول بقطع ... وخيط العمر معقود بموت
ومنه:
وما الدهر إلا سلم بقدر ما ... يكون صعود المرء فيها هبوطه
وهيهات ما في نزول وإنما ... شروط الذي يرقى إليه سقوطه
فمن صار أعلى كان أوفى تهشماً ... وفاءً بما قامت عليه شروطه
وترجمه بعضهم فقال: العلامة أحد أفراد الدهر في الفضل والسجع وعلم المعاني والبيان والبديع والنحو والصرف والنظم والنثر كان ممن أسرع مع اللنك (أي العرج تيبمورلنك) ونقل إلى سمرقند ثم خرج منها سنة إحدى عشرة وجال في بلاد الشرق ورجع إلى دمشق سنة خمس وعشرين وصنف عجائب المقدور في نوائب تيمور من ابتدائه إلى انتهائه أبان فيه عن فضل كبير وملكة للسجع وغزارة إطلاع بحيث لخصه المقريزي وترجم مؤلفه فقال: نثره سجعاً فعلا ورشحه بالأشعار فحلا. إلى أن قال: بأنه بحر بلاغة وفصاحة أنشدنا كثيراً من شعره وله معرفة بالفقه واللغة ولكن الغالب عليه الأدب وله نظم كثير منه مرآة الأدب يشتمل على المعاني والبيان والبديع وهو نظم بطريقة الغزل يكون نحو ألفي بيت وكتاب في علم النحو نظمه بطريقة الغزل أيضاً محو مائتي بيت وقصيدة غزلية في الصرف بديعة ماح بها بعض أعيان الدولة وقصيدة قي نحو مائتي بيت وشرحها في مجلد في مجلد وخضاب الأهاب الناقب وجواب الشهاب الثاقب بينه وبين البرهان الباعوني وحميد الدين القاضي أبان فيه عن حفظ كثير للغة وكثرة إطلاع وغزارة وفضل وسبب منعه أن الباعوني كتب له بستة أيام التزم فيها بانطا (؟) المسألة أولها:
أأحمد لم تكن والله فظاً ... ولكن لا أرى لي منك حظاً
واستوفى كثيراً من اللغة وكان قد وقع بينه وبين حميد الدين فحصل للشهاب سنة أخرى مثل نظره في كتاب اللغة وعملها في ستة أبيات التزم فيها الراء قبل الألف والراء بعدها:
من مجيري من ظلوم ... منه أُبعدت مزارا
واستوفى ما في الباب قال الشهاب فلم أجد له قافية فكتب على لسان حميد الدين قصيدة بغدادية أولها:
أي خدانود عجعبو ... عن موالاة التناغي فلم يقدر على الجواب بمثلها وكتب إليه يقول:
يا شهاب الدين يا أح ... مد يا ابن عربشاه
واستوفى القافية فظفرت بأشياء ترككها فقلت:
قد أتى الفضل عليه ... حلل اللطف موشاه
فتعجب من سعة دائرته وكثرة اطلاعه ثم قال له أنا والله ما عرفتك إلا الآن قال فقلت له والى الآن ما عرفتني وطال الجواب بينهما على هذا المنوال حتى ألف ذلك مجلداً فمن ذلك ما كتب به البرهان:
ابن عربشاه كف عني ... أو لا فخذ ما يجيك مني
واعلم بأني خصم ألد ... الشر دابي والمكر فني
خلفي رجال لهم مجال ... في الحرب لا يخلفون ظني
إلى آخرها ومن جملة المراسلات أن البرهان أرسل عليه بعشرة أبيات التزم فيها الباء والياء واستوفى ما في الصحاح أولها:
إن الذميم وأنت يا ... هذا ابن عين الخبير كذا
واستوفى القوافي وظن أني لم أجد قافية فأجبته وآخر الأمر توجه عبد الحميد إلى مص ر وشكاهما إلى السلطان وقال لبه البرهان هجاني فلم يرد عليه إلا بقوله يكتب له من اليوم بكفه عن هجائه فلما خرج قال السلطان للشمس الكاتب أن الباعوني رجل جيد لولا أنه عرف منه شيءٌ ما قاله وألغز إليه أبو اللطف الحصكفي فأجابه بعد أن أجاب شعر القاهرة (؟) بغير المراد ثم ألغز هو إليه وأجابه بما لم أطل بإيراده هنا وشعره كثير جداً وتصنيفه الماضي فاكهة الخلفا ومفاكهة الظرفا في مجلد ضخم فيه عجائب وغرائب على لسان الحيوانات من أواخر ما ألف.
ولما دخل مصر بعد الخمسين في الطاعون وجد غالب من ببيت الكمال ابن البزازي مات كزوجته وأخته فرثاهم بقصيدة طنانة على عدة قوافي وأظهر في مخالصها من كل قافية إلى الأخرى قوة كعجيبة وملكة للنظم لا ينهض غيره بشق غبارها من قافية اللام إلى قافية الألف إلى الهاء إلى غيرها تزيد عل سبعين بيتاً أولها:
إلى مَ يردى بالكمال ... ويودي بالردى أهل الكمال اه.
وقال في ترجمة العلامة المقريزي: أحمد بن علي بن عبد القادر بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن تيميم بن عبد الصمد بن أبي الحسين ابن عبد الصمد ابن تميم ال ثقفي أبو العباس ابن العلا ابن المحيوي لحسيني العبيدي البعلي الأصلي القاهري سبط ابن الصائغ ويعرف بابن المقريزي وهي نسبة لحارة في بعلبك تعرف بحارة المقارزة وكان أصله من بعلبك وجده من كبار المحدثين فتحول ولده إلى القاهرة وولي بعض الوظائف المتعلقة بالقضاة وكتب التوقيع في ديوان الإنشاء وأنجب صاحب الترجمة وكان مولده حسبما كان يخبر به ويكتبه بخطه بعد الستين وقال شيخنا: إنه رأى بخطه ما يدل على تعينه سنة ست وستين وذلك بالقاهرة ونشأ بها نشأظة حسنة فحفظ القرآن وسمع من جده لأمه ابن الصائغ الحنفي والبرهان الآمدي والعز ابن الكويك والنجم ابن رزين والشمس ابن الخشاب والتنوخي وابن أبي شيخة وابن أبي المجد والبلقيني والعراقي والهتيمي والفرسيسي وغيرهم بل كان يزعم أنه سمع المتسلسل على العماد ابن كثير ولا يكاد يصح. وحج فسمع بمكة من النشاوري والأميوطي والشمس ابن سكر وأبي الفضل النويري القاضي وسعد الدين الإسفراييني وأبي العباس ابن عبد المعطي وجماعة أجاز له الأسنوي والأذرعي وأبو البقا السبكي وعلى ابن اليوسف الرريدي (؟) وآخرون ومن الشام الحافظ أبو يكر ابن المحب وأبو العباس ابن العز وناصر الدين محمد ابن محمد بن داود وطائفة واشتغل كثيراً وطاف على الشيوخ ولقي الكبار وجالس الأئمة فأخذ عنهم وتفقه حنفياً على مذهب جده لأمه وحفظ مختصراً فيه ثم لما ترعرع وذلك بعد موت والده في سنة ست وثمانين وهو حينئذ قد جاز العشرين تحول شافعياً واستقر عليه أمره لكنه كان مائلاً إلى الظاهر ولذلك قال شيخنا أنه أحب الحديث فواظب على ذلك وكان يتهم بمذهب ابن حزم ولكنه كان لا يعرفه انتهى هذا مع كون والده وجده حنبليين ونظر في عدة فنون وشار في الفضائل وكتب بخط الكثير وأنقى وقال الشعر والنثر وحصل وأفاد وناب في الحكم وكتب التوقيع وولي الحسبة بالقاهرة غير مرة أولها في سنة إحدى وثماني مائة والخطابة بجامع عمرو وبمدرسة حسن الإمامة بجامع الحاكم ونظره وقرأ الحديث بالمؤيدية عوضاً عن لمحب ابن نصر الله حين استقراره في تدريس الحنابلة بها وغير ذلك وحمدت سيرته في مباشراته وكان قد اتصل بالظاهر برقوق ودخل دمشق مع ولده الناصر في سنة عشر وعاد معه وعرض عليه قضاؤها مراراً فأبى وصحب بشبك الداودار وقتاً ونالته منه دنيا بل يقال أنه أودع عنده نقداً وحج غير مرة وجاور.
وكذا دخل دمشق مراراً وتولى بها ونظر وقف القلانسي والبيمارستان النوري مع كون شرط نظره لقاضيها الشافعي وتدريس الأشرفية والإقبالية وغيرها ثم أعرض عن ذلك وأقام ببلده عاكفاً على الاشتغال بالتاريخ حتى اشتهر به ذكره وبعد فيه صيته وصارت له فيه جملة تصانيف كالخطط للقاهرة وهو مفيد كونه ظفر بمسودة الأوحدي كما سبق في ترجمته فأخذها وزادها زوائد غير طائلة ودرر العقود الفريدة في تراجم الأعيان المفيدة ذكر فيه من عاصره وإمتاع الأسماع بما للرسول من الأنباء والأحوال والحفدة والمتاع. وكان يجب أن يكتب بمكة ويحدث به فتيسر له ذلك. والمدخل له. وعقد جواهر الأسفاط في ملوك مصر والسفساط. والبيان والإعراب عما في أرض مصر من الأعراب. والإلمام في تأخر من بأرض الحبشة من ملوك الإسلام. والطرفة الغريبة في أخبار حضر موت العجيبة. ومعرفة ما يجب لآل البيت النبوي من الحق على من عداهم. وإيقاظ الحنفا بأخبار الأئمة الفاطميين والخلفا. والسلوك بمعرفة دول الملوك يشتمل على الحوادث إلى وفاته. والتاريخ الكبير المقفى وهو في ستة عشر مجلداً وكان يقول أنه لو كمل على ما يرومه لجاوز الثمانين. والأخبار عن الأعذار. والإشارة والكلام ببناء الكعبة البيت الحرام ومختصره وذكر من حج من الملوك والخلفاء والتخاصم بين بني أمية وبني هاشم وشذور العقود وضوء الساري في معرفة خبر تميم الداري والأوزان والأكيال الشرعية وإزالة العتب والعنا في معرفة الحال في العنا وحصول الأنعام والمير في سؤال خاتمة الخير. والمقاصد السنية في معرفة الأجسام المعدنية وتجريد التوحيد ومجمع الفرائد ومنبع الفوائد يشتمل على علمي العقل والنقل المحتوي على فني الجد والهزل بلغت مجلداته نحو المئة وما شاهده وسمعه مما لم ينقل في كتاب. وشاع النحاة الحق منها والإشارة والإيماء إلى حل لغز الماء وهو ظريف وغير ذلك وقرض سيرة المؤيد لابن ناهض وقد قرأت بخطه أن تصانيفه زادت على مائتي مجلدة كبار وإن شيوخه بلغت ستمائة نفس وكان حسن المذاكرة بالتاريخ لكنه قليل المعرفة بالمتقدمين ولذلك يكثر له فيهم وقوع التحريف والسقط وربما صحف في المتون.
ومما رأيته في ذلك أن ابن بدر وهو بفتح الموحدة والدال المهملة فضبطه بخطه بالبدل وعلى ابن منصور الكرخي شيخ السلفي وهو بالجيم فضبطه بالخاء المعجمة وكثيراً ما يجعل عبد الله عبيد الله وعكسه بل وبلغني أنه جعل أبا طاهر ابن محمش راوي الحديث المسلسل بالأولية حين حدث به بالخاء المعجمة بدل المهملة وأما في المتأخرين فقد انفرد في تراجمهم بما لا يوافق عليه كقوله في ابن الملقن أنه كان يبني (؟) الصلاة جداً وكان مع ذلك يكثر الاعتماد عل من لا يوثق به من غير عزو إليه تى فعل ذلك في نسبه فإن مستنده يكون من العبيديين كونه دخل مع والده جامع الحاكم فقال له: يا ولدي هذا جامع جدك ولاسيما وما قاله ابن أرفع في نسبة عبد القادر جده أنصارياً يخدش في هذا وإن توقف صاحب الترجمة فيه لكنه مع ذلك لم يكن يتجاوز في تصانيفه في سياق نسبه عبد الصمد ابن تميم وإن أظهر زيادة على ذلك فلمن يثق به ثم رأيت ما يدل على أنه اعتمد في هذه النسبة العرياني لمشهور بالكذب فالله اعلم. ومن يصف من يكون كذلك بالحافظ مريداً الإصلاح فقد جازف وما أحسن قول بعضهم مما في بعضه توقف (كذا).
وكان كثيرا الاستحضار للوقائع القديمة في الجاهلية وغيرها وأما الوقائع الإسلامية ومعرفة الرجال وأسمائهم والجرح والتعديل والراتب والسير وغير ذلك من أسرار التاريخ ومحاسنه فغير ماهر فيه وكانت له معرفة قليلة بالفقه والحديث والنحو وإطلاع على أقوال السلف وإلمام بمذاهب أهل الكتاب حتى كان يتردد إليه أفاضلهم للاستفادة منه مع حسن الخبق وكرم العهد وكثرة التواضع وعلو الهمة لمن يقصده والمحبة في المذاكرة والمداومة على التمجد والأدوار وحسن الصلاة ومزيد الطمأنينة لبيته حتى أن بعض الرؤساء فيما بلغني عتب على انقطاعه عنه أنسد قول غيره:
قالت الأرنب للفوت كلاماً ... فيه ذكرى لتفهم الألباب
إنا جرى من الكلاب ولكن ... خير يومي أن لا تراني الكلاب
لكن أحسن و (له) الخبرة بالزايرجة والاصطرلاب والرمل والميقات بحيث أنه أخذ لابن خلدون طالعاً والتمس منه تعيين وقت ولا ينه فيقال أنه ين له يوماً فكان كذلك وعد من النوادر.
كل ذلك مع تبجيل الأكابر له إما مداراة له خوفاً من قلمه أو لحسن مذاكرته وقد حدث ببعض تصانيفه ومروباته بمكة والقاهرة سمع منه الفضلاء وأخبر أنه سمع فضل الخير للدمياطي على أبي طلحة الحراوي مرتين فاعتدوا أخباره بذلك وقرئ مرة بل كتب بخطه من قبيل موته بسنة أنه لا يعلم من شاركه في روايته ورأيت بخط صاحبنا النجم ابن فهد أنه حضره في الرابعة علي الحراوي وما علمت مستنده في ذلك.
وقد ترجمه شيخنا في معجمه بقوله وله النظم الفائق والنثر الرائق والتصانيف الباهرة خصوصاً في تاريخ القاهرة فإنه أحيا معالمها وأوضح مجاهلها وجدد مآثرها وترجم أعيانها ولكنه لم يبالغ في أنبائه لهذا الحد بل قال وأولع بالتاريخ فجمع منه شيئاً كثيراً وصنف فيه كتاباً وكان لكثرة ولعه به يحفظ كثيراً منه قال وكان حسن الصحبة حلو المحاضرة وقال العيني: كان مشتغلاً بكتابة التواريخ وبضرب الرمل وتولى الحسبة بالقاهرة في آخر أيام الظاهر يعني برقوق ثم عزل بمسطره ثم تولى مرة أخر في أيام الدوادار الكبير سودون ابن أخت الظاهر يعني برقوق عوضاً عن مسطره بحكم ابن مسطره وعزل نفسه بسبب ظلم سودون المذكور وقال ابن خطيب الناصرية في ترجمة جده وهو جد الإمام الفاضل المؤرخ تقي الدين وقال غيره: جمع كتاباً فيما شاهده وسمعه مما لم ينقله من كتاب ومن عجب ما فيه أنه كان في رمضان سنة إحدى وتسعين ماراً بين القصرين فسمع العوام يتحدثون أن الظاهر برقوق خرج من سجنه بالكرك واجتمع عليه الناس قال: فضبطت ذلك اليوم فكان كذلك ومن شعره في دمياط:
سقى عهد دمياط وحياه من عهد ... فقد زادني ذكراه وجداً على وجدي
ولا زالت الأنواء تسقي سحابها ... دياراً حكت من حبسها جنة الخلد
وهي اكثر من عشرين بيتاً مات في عصر يوم الخميس سادس عشرى من رمضان سنة خمس وأربعين بالقاهرة بعد مرض طويل وذلك على ما قاله شيخنا بتكملة ثمانين من عمره ودفن يوم الجمعة قبل الصلاة بحوش الصوفية البيبرسية رحمه الله وإيانا اهـ.
هذان نموذجان من الكتاب وكله فوائد جزيلة وهو مرآة صادقة لأحوال القرن التاسع وفيه دب الانحطاط على أشده في جسم الأمة الإسلامية.