انتقل إلى المحتوى

مجلة المقتبس/العدد 54/الجن

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة المقتبس/العدد 54/الجن

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 8 - 1910


عند غير العرب من أمم الشرق والغرب.

طالعنا في مجلة المقتبس الغراء ما حاكت بروده وطرزت بوده يراعة صديقنا الأبر الفاضل الشيخ جمال الدين القاسمي بقية أعلام دمشق عن اعتقاد العرب في الجن وما ورد في أسفار الدين وأشعار النابغين وأقاصيص السلف من الأحكام والنوادر والآثار الحاكية عنهم على وصفهم وأحوالهم فراقنا منها حسن التبويب ودقة النقل وبراعة اللهجة ووضوح المنهاج وسعة الاستيعاب إلى غير ذلك مما لا يستثكر في جانب ما هو مشهود من فضل الشيخ أعزه الله وحدانا الإعجاب بما هنالك إلى تحبير مقالة موجزة تكون لها كالتكملة تأتي على ما عند غير العرب من أمم الشرق والغرب من أمثال هذا الاعتقاد. وهو موضوع بكر لم يتسور جداره فيما نظن مفترع قبل ولم يحو حوله قلم شرقي على ما اتصلت إليه مطالعاتنا حتى اليوم.

ولقد بذلنا جهد المستطيع تنقيباً عن مواده المستترة في ثنايا الصحف والمبعثرة في زوايا المطولات وتخيراً للأصح من المصادر والأصدق من الروايات فجاءت مقالتنا_على ما نعهده بذاتنا من الضعف_طرفة يرغب فيها وأمنية يسعى إليها وما أحراها أن تكون مع رسالة الشيخ سفراً مستقلاًَ يرجع إليها عشاق الدراسة والاستبصار من ناشئة الوطن وأدبائه فإن أتيتم على هذه البغية كنتم من المحسنين.

تمهيد.

كثر عداد من يزعمون أن العرب هم المتفردون دون سائر الناس في الاعتقاد بالجن اعتقاداً دينياً سنداً إلى ما ورد في كتابهم الموحى من صريح النصوص القائلة بوجودهم_كما في سورة الرحمن والأحقاف والجن_وتوارثاً لما ورد في أقاصيص الجاهلية مما دونه الثقات وأثبته المؤرخون وأتى على بيانه الشيخ بحيث لم يبق مجال لتفصيل وتعليل. وفي ذلك الزعم من الخطأ والوهم وا لا يحتاج إلى دليل فإنك لو رجعت إلى كتب الأمم القديمة من كل بيئة وجنس ومذهب لرأيت في تضاعيفها ما يؤيد كون الاعتقاد بالجن كان منتشراً بين البشر مستفيضاً في كل قبيلة وفصيلة وشعب ممن أهل بهم المعمور من الأرض شرقاً وغرباً شمالاً وجنوباً باديةً وحضراً لا يستثنى منه قوم ولا تبرأ منه أمة ولكن على تباي في الآراء واختلاف ببعض الفروع.

فالظاهر أن الاعتراف بوجود أرواح يتوقع شرها كالإقرار بوجود آلهة يرجى خيرها إنما هو من مقتضيات هذا الكيان الإنساني لا محيد عنه لكل ذي لسان ناطق يرشده العقل إلى أنه من أهل الخلود وأنه ضيف مجتاز في حكم هذا الوجود وإلا فما بال الأمم على تباعد أنحائها واختلاف آرائها وتغاير مذاهبها وتناقض مشاربها تجمع على هذا الأمر اجتماعاً باتاً كأن أفرادها متواطئون عليه_منذ كانوا في عالم الغيب_فكلهم يقول بإله يثيب وشيطان يكيد وجن تخيف ونفس بين ذلك تتنازعها عوامل اليأس والرجاء ويبدو لها أنها بنت البقاء دون سائر ذوات الأرواح التي تقلها الغبراء وتظللها السماء وينعشها الهواء وإن كانت محاطة مثلهن بأسباب الزوال محكوماً على هيولاها المراكب بالانحلال وشخوصها المتحركة بالجمود ثم الفناء.

على هذا نشأت الناس وعلى هذا اجتازت عالمهم برزخي الحياة والموت ألوفاً مؤلفة من السنين قال بعضهم أنها عشرات الألوف وقال آخرون أنها ملايين حتى جاءنا الطبيعيون من متفلسفي هذا العصر_عصر الاكتشاف والاختراع_يجلسون على منصات القهارمة والأساطين وينشدون مع أبي نواس شاعر العباسيين:

ما جاءنا أحد يخبر أنه ... في جنة من مات أو في نار

ويقولون مع أبي العلاء:

ومهما عشت في دنياي هذي ... فما تخليك من قمر وشمس

  • * *

تحطمنا الأيام حتى كأننا ... زجاج ولكن لا يعادله سبكُ

وأتنه لا شيء في هذا الكون غير هذه المادة التي يتعاورها التركيب والتحليل ويتداولها الدثور والتمثيل_مع بقاءٍ في الكم وتغيير في الكيف_وأن القول بما وراء المادة من قوة تدير الحركات وهي علة الموجودات منها استمد الناس أرواحاً سرمدية إنما هو من أوهام الواهيمن وتخليط فما نحن وسائر من يتحرك بالإرادة إلا من ماءٍ وطين ولا يحيينا ويميتنا إلا الدهر!!

فأين هذا من ذاك؟ وما هذا الانقلاب العجيب والانعكاس الغريب؟ وأية منفعة من قول جعل العامة من الناس_وهم تسعة أعشارهم بل يزيدون_في أودية من الحيرة يهيمون وفي ظلمات من التردد والشك يخبطون لا يرون لأنفسهم مما ألقوهم في مهاوية مخرجاً ولا هم يهتدون.

رويدك أيها العصر عصر الحضارة والنور. وعلى رسلكم يا معاشر العلماء. أرباب الحصافة والذكاء. وحنانيكم يا من أكثروا من العمق والتبحر. واسترسلوا في الاستقراء والاستنتاج. وبحثوا في الجراثيم والذرات. وتكلموا عن الحويصلات والنقاعيات. وبرهنوا على كون السديم أصل الكائنات. والإنسان سليل من نوع القردة أو ما يشاكلها من ذوات الفقرات. ورحماكم يا أصحاب دارون وأولياء سبنسر وأشياع بخنر وتلامذة هكل وإن كان فيكم فيلسوف كفرشيما وحكيم وادي الفريكة ومتهوسو وادي النيل إننا أيم الله لسنا من يقف في سبيلكم فيما تستوحون أسراره من الأحكام والنواميس وتحاولون إجلاءه من الغوامض والمشكلات أخذاً عما تلقيه عليكم الطبيعة أمكم وأمنا من الدروس والأمثولات طبقاً لما تبعثكم إليه ميولكم وأهواؤكم. ولكن لنا كلمة نقولها الآن لكم بعد إذ كنا نتداولها بيننا همساً ونهجس بها سراً فإن أصختم إليها سمعاً واستوعيتم لها قلوباً وجربتم بمقتضاها بعد اليوم عددناكم كراماً وقلنا سلاماً وإلا فما على من استحكمت الأيبوخاندريا في معدته واستولت السوداء على دماغه من سبيل.

ليس من ينكر أن المصلح العاقل من هدى بعلمه لا من ضل. ومن أراح لا من أتعب فيا حبذا_يا أصحابنا_الجهالة أنها خير من هذه المعرفة الناقصة التي تعجلتم بها إلى نقض الأديان وتقويض أركان العقائد وتمتين دعائم التعطيل والجحود قبل أن تنضج آراؤكم وتجمعوا على ما إليه ترمون وعليه تتهافتون من بث بذور الكفر في القلوب وتعبدكم للطبيعة التي أصبحتم لكثرة دراستكم لها ومزاولتكم علومها أعلق بها من جنود بونابرت بمدافعهم أولئك الذين كانوا لكثرة اصطحابهم لها وتهوسهم باستعمالها والاحتفاظ بها يسمونها بأحب السماء إليهم ويعانقونها ويقبلونها كأنها من الغانيات الفاتنات وكذلك أنتم الآن فإن توفركم على تلك الدراسة وانصرافكم إلى استحياء دقائق الهيولى مستحكين الصامت من قواها وعناصرها غير منكفين عن مناغاتها ومباغمتها أناء الليل وأطراف النهار وقد استهواكم واستدرجا بكم إلى تأليه هذه المادة الجامدة حتى صرتم تحسبونها كل شيء أو قبلها شيء بحيث لو أمكنكم أن تحذفوا مذ الآن من كل معاجم الأرض ما حوته من الألفاظ الدالة على الخلق والإبداع والصمدانية والقدرة والبعث والخلود لفعلتم.

فيا أسفاً على الهمجية إذا كان مأتاكم هذا من نتاج المدنية ويا حسرة على الجهالة إن كان ذلك من مستلزمات العلم. أفتتركون ألفاً وستمائة مليون من الناس حائرين بائرين لا يدرون بم يعتقدون وأي جهة ينتحون فلا رأيكم تثبتون ولا عن قولكم ترجعون!!؟؟.

تالله إننا معكم لفي صفقة مغبون وما أنتم إلا غادرون وإلا فما هذا التغرير الذي يجعل كلاً من أفراد هذا المجتمع القومي يحيا بلا ضمير يسرق مستتراً ويثلب متخفياً ويقتل متوارياً وينتحر قانطاً وما عليه من وجدانه قيم ولا من دينه زاجر ولا في الآخرة على زعمه من نكير!!!

لعمرك أن العامي الذي لا يتوقع في الآخرة عن عمله حسابا ولا يرجو عن حسناته ثواباً ولا يخشى مهما تعددت سيئاته وتعاظمت كبائره عقاباً إلا إذا كانت مشهودة من الأنام مثبتة لدى الحكام ثم يحسب ذاته في هذه الحياة الدنيا كالنبات الفطري حتى إذا مات لم يعد شيئاً مذكوراً. لا يلبث أن يكون لعنة على الأرض وسخطاً من السماء لا يحفل بالمحظور والمباح ولا يبالي بالحلال والحرام بل يقضم الأخضر واليابس ويجتاح العامر والغامر وهو يقول على الدنيا السلام.

فالعالم حريص على منفعة بني نوعه الدائب على خير قومه وبلاده من اشتغل بما يريد من أنواع العلم ما يشاء على ما يشاء وأن يعتقد لنفسه بنفسه ما أحب كيفما يحب لكن على شريطة أن ينشط لتمتين أوتاد العقائد وتأليف شوارد المذاهب مع تنزيهها عما لحقها من الزوائد ولصق ببعضها من الخرافات تاركاً للجاهل وازعاً من دينه يجنبه الموبقات ورادعاً من ضميره ينكبه المنكرات وما ضر العاقل أن يكون ذا دين مثله مادام الدين لا يكلفه الشطط ولا يعنته بكثرة التكاليف وقد أباحه من طريق الحلال كل ما منعه عن طريق الحرام فلا يقفل في وجوه ملاذه وأمانيه الأبواب ولا يطالبه بأكثر مما يتقاضاه العقل ويرضى به الصواب.

إن صح قولكما فلست بخاسر ... أو صح قولي فالوبال عليكما

أو على الأقل يترك الأديان وشأنها والعقائد وحالها يتحارسها زعماؤها ويصونها أئمتها وعلماؤها_فلا يتعرض لها ولهم في أقواله ومنشوراته بما يعبث باليقين ويولد الشكوك ويبعث على الحيرة أو المروق من نزعات ومعارض وترهات وأدلة وبراهين وأقاصيص لا قوام لها حتى اليوم إلا النزق والسفسطة ولا ركن إلا الخيال والهوس يراد بها التفرد بالشهرة فيما يخالف فيما أجمع عليه الناس وإن كان حقاً تواطأت على وجوبه العقول وإن كان صحيحاً غير مفكر بما ينجم عن أضاليله وسفاسفه من تشويه النظام وضياع الأحكام وانتشار الفوضى والعود بالعالم الإنساني إلى الزمن الذي كان آباؤنا يضارعون برابرة الأوقيانوس الهندي وأواسط أفريقية حالاً وقالاً وخلقاً وأوضاعاً. متصيداً بأحاييله الإبليسية وبهتانه المزخرف ما حقائب بعض من أوتوا مالاً ولم يرزقوا عقلاً من دينار مكنوز ثم ينفقه على تمثيل أسفار ورسائل يطبع منها الآلاف من النسخ ثم توزع على الناس_ولاسيما الناشئة الأدبية منهم_مجاناً قصد إشراب قلوبهم تلك المبادئ الفاسدة وإيداع نفوسهم تلك الحماقات السخيفة التماساً للشهرة على ما ألمعنا من طرق التعميم في الإذاعة والتوسع في الإبلاغ كما فعل بعض هؤلاء المفتونين_بحب الطبيعة_هذه الأيام ففعلت نفثاته السامة في أدمغة البعض ما لا يتوقع العاقل قيامه إلا قيام دولة الشهوات وانثلال عروش الآداب وتقويض أركان الديانات وانتشار الإباحية والعدمية إلى غير ذلك من بواعث الهلكة والانقراض والبوار لولا أن يأبى الله إلى أن يعيد كيده إلى نحره بأن قيض له من أهل التبصر والاعتبار والعلم الصحيح من يكشف بصائر أهل الغرور بما يريهم عياناً زيف درهمه وزغل ديناره فإن ألحق أبلج وضاح. والباطل لجلج فضاح وإن كره الماكرون.

يقول المتعنتون من هؤلاء الملاحدة المتحذلقون_سنداً على ما سجله التاريخ من أنباء حروب وفتن واضطهادات كان منشئها الظاهري التباين في المذاهب والاختلاف في الدين.

إن الديانات ألقت بيننا إحناً ... وعلمتنا أفانين العداوات

فالدين إذن عدو النظام لا نصيره بغيض السلام لا ظهيره!!!

نحن لا ننكر أن كثيراً من المشاغبات والفتن والثورات والحروب والغارات أثيرت باسم الدين ونشبت على حساب الدين ولكن من سبر غور الحقيقة بمسبار النزاهة والإخلاص وتوفرت له سلامة الذوق وصحة الاستنتاج وأصالة الرأي وعدالة الحكم علم_بعد الاستقراء_علم اليقين أن الدين لم يكن المصدر الحقيقي لتلك الموبقات بل أن الباعث عليها في الأصل والمؤدي إليها بالفعل_ما خلا الشاذ_إنما هو شهوات الملوك ولبانات أولي الحكومات ونزوات أرباب السلطات والزعامات الذين من دأبهم_ولاسيما في تلك العصور المظلمات_التذرع بأي وسيلة كانت_حتى التغاير الديني أو المذهبي_لإثارة الفتن وإصلاء الحروب إرادة أن يتهيأ لهم من جرائها تمتين السلطة والتوسع في البسطة والاستفحال في الملك لدواعي أطماعهم اللانهائية وإشباعاً لنهمات أميالهم النفسانية.

فالمرء لا تنقضي آرابه أبداً ... إذا انقضى أرب يصبو إلى أرب

ومن ذا الذي يتجرأ أن يقول ما ينشأ عن سوء استعمال الدين إنما هو الدين؟؟؟

لا جرم أن للحروب والفتن أسباباً جمة قد يكون سوء استعمال الدين أو التذرع بالدين إحداها وقد لا يكون وما أرباب السيادة من خدمة الدين وغيرهم إلا بشر مثلنا قد يسيئون في أمورهم المعاشية وسياستهم الإدارية وقد يحسنون: فما بالنا نلصق بالدين_الذي هو من الله_ما ينجم به وعلى حسابه من مساوئ الناس؟ أفلا تفقهون!!

أجل: إن مطامع أصحاب العروش وتخالف العناصر وتباين الأجناس وطموح المم التي توفرت لها القوى إلى التغلب على المستضعفين ونزوعها إلى التكاثر والاستزادة سواء كان عن طريق الفتوح أو الاستعمار أو الدين هي هي لعمر الحق_في كل آن وزمان_مصدر الفتن ومبعث الإحن وعلة العدوان ومنشأ الحروب التي ما برحت مرافقة حيوة بني الإنسان منذ أصبحوا دولاً وأمماً وجماعات حتى الآن وهي لا تبرح ولن تبرح ملازمة لهم_ولكن على تباين بالكم والكيف_عملاً بناموس تنازع البقاء إلى منتهى الدوران. ومن ماراني في ذلك أتيته من أقوال قهارمة التاريخ وأقطاب العمران وفلاسفة طبائع البشر بما شاء من دليل وحجة وبرهان.

لنسلم جدلاً_ولو بالباطل_أن في عصور التعصب والغباوة والجهل كانت الديانات جرثومة العداوات وأرومة الحروب والثورات ولولاها كان الناس في نعيم مقيم وأمن مكين!! لا بأس عليهم ولا هم يحزنون!!!

ثم تعالوا بنا إلى هذا العصر الحديث عصر التساهل والكياسة والعلم عصر الحضارة والتمدن والنور وعصر الحرية والمساواة والإخاء ولنقف متسائلين هل خلت أممه الأعرق حضارة والأعلى في مدنية كعباً من فتن تثار وحروب تصلى وأطماع تسود وأشرار تتفاقم؟؟

أم هل علاقة للأديان بحرب بروسيا مع النمسا (سنة 1866) أو حرب ألمانيا مع فرنسا (سنة 1870) أو حرب الإنكليز مع الترنسفال واليابان مع الصين وروسيا مع اليابان والبلغار مع الصرب في خواتم القرن التاسع عشر وفواتح القرن العشرين؟؟ كلا ثم كلا.

فليصمت إذن أولئك الذين يتظلمون بتلك السفاسف والترهات تغريراً بالسذج وتمويهاً على الأغبياء وليعلموا أن الاعتقاد بمبدع حكيم يجزي ويثيب مع الاحتفاظ بقاعدة صن دينك واحترم دين سواك هو عماد السلام وركن التهذيب ومصدر الآداب ومصدر الوئام والتحاب: فكيف لا يتقي الله أولوا الألباب!!!

أجل إن في تسود العقائد المبنية على التنزيل والوحي وسلامتها من الشوائب والحشو وتنزهها عن الخرافيات واللغو وترفع أولياءها عن التشيع الشائن والتعصب الضار والتحامل الذميم يستتب الظلام ويسود السلام وتسعد الأنام لا بقول المعري:

أأترك ها هنا الصهباء عمداً ... لما وعدوه من عسل وخمر

فموت ثم بعث ثم حشر ... حديث خرافة يا أم عمرو

وقوله: اثنان من أهل الأرض ذو عقل بلا ... دين وآخرٌ دين لا عقل له

فإن هذا الفيلسوف الشاعر الضرير رهين الحبسين_حبس العمى وحبس البيت_بعد أن أوحى إليه خياله الواسع ما أوحى فباح بما هذر وجاهر بأنه كفر مطاوعة لما يستولي على أمثاله من أعراض السوداء عاد إليه بض رشده فاستحوذ عليه الشك وخامره التردد والريب فقال متوجساً لعقباه حاسباً حساب أخراه.

في القدس قامت ضجةٌ ... ما بين أحمد والمسيح

هذا بناقوس يدق ... وذا بمأذنة يصيح

كل يؤيد دينه ... يا ليت شعري ما الصحيح

ثم لم يمت إلا على دين آبائه كما حقق الثقات من معاصريه خلافاً لمن يتخذون أقواله حجة يؤيدون بها مذاهب التعطيل ويذيعونها بين الناطقين بالضاد هداهم الله.

ذلك ما رأينا إثباته استطراداً في هذا التمهيد كبحاً لجماح من ملئوا الدنيا زياطلاً تشيعاً لأصحاب تلك الأضاليل ممن يتوهمون السراب شراباً والحبة قبة وما أهون ما تخدعهم الزخارف والأباطيل إن ربك بالمرصاد وهيهات أن يفلح حزب الفساد مادام للصلاح فئة من أعلام يعملون هم في الظلمات مشكاة وفي المجاهل والمعاثر هداة وما على منفق جهده من جناح ولا إلى تأنيبه من سبيل.

عود على بدءٍ.

قلنا أن الاعتقاد بالجان قلما خلت منه أمة في غابر الأزمان ومصداقاً لذلك نقول الآن.

ورد في ميثولوجيا الهنود أن أرواحاً شريرة اسمها رقشاشة ومعنى هذا الاسم الجبابرة خلقت قبل الجو والحيوانات وهي ترصد الآجام والمقابر وتتلهى بإثارة الموتى من أجداثهم والتحرش بهم. تأكل لحوم الأحياء من البشر وتشرب دماءهم وتتخذ لها صوراً مختلفة وأشكالاً متباينة ثم هي لا تزال حاضرة عند تقدمة القرابين وذبح الضحايا للآلهة لكي تفسد على الناس شعائرهم وتغري المعبودات على تلك القرابين ورذل مدميها: من أجل ذلك يعد الهنود أشد ضرراً على البشر من سائر الجن.

وقد ذكر في الكتب السانسكريتية القديمة المحفوظة في هياكل الصين وكوريا وسيلان وسائر أمهات المدن المنتشرة في الشرق الأقصى الغاصة بأتباع برهما وبوذة من ذوي الجنس الأصفر أن النساك وخدمة الدين طالما استنجدوا القوى العلوية للنجاة من شرور هذا الصنف الغادر من الجن الكثير العدد وهو مع ذلك لا يزال يزيد نمواً وانتشاراً بزيادة عداد من يموتون من الأثمة أصحاب الكبائر لأن أرواح هؤلاء تكون إلى زمن من نوع الرقشاشة وأشهر هذه الفئة الباغية المنقسمة إلى فرق ومراتب إنما هي رافانا.

وليتك تدري ما رافانا إنما هي روج شرير زائد القحة والجرأة كثير المطامع والشهوات حتى أنه زين له في بعض الأزمنة أن يخضع الأرض وما عليها والهاوية ومن فيها والسماوات ومن فوقها إلى حكمه وسلطانه ويجعل الكيان المطلق عبداً خادماً لرغائبه ومآربه ونزعاته فتمادى جوراً وعسفاً وزاد بغياً وطغياناً حتى أنت من حيفه الأرض وشكت ظلمه الأفلاك واستولى الرعب على قلوب المعبودات في أخدارها والملوك في عروشهم وكان موطن هذا الجني الخبيث في ذلك الزمان لافكا عاصمة جزيرة سيلان.

فساء وشنو العظيم هذا الأمر الجلل ورأى أن يتجسد ثانية لينقذ الأكوان ومعبوداتها من شر هذا الطاغية ويرد إلى المخلوقات طمأنينتها وسلامها فتجسد في الجهة المقابلة في الهند في صورة راما تشندر ابن داسرتا ملك أبوذيا من امرأته كالسيا وبعد أن اتحد مع سوغريفا ملك طائفة القرود على الإيقاع برافانا مضيا إلى الأرخبيل الفاصل بين جزيرة سيلان والبر والتقيا هناك جسراً من الصخر اجتازاه إلى الجزيرة ثم باشرا القتال مع رافانا فلم يلبث الخبيث أمام المعبود المتجسد وحليفه!!! فسقط بين أيديهما هالكاً غير مأسوف عليه.

والرومانيون يقولون أنه يوجد عذراء من الجن كانت تقيم في غابة اسمها أريسيا على مقربة من رومية عاصمة الرومان وتدعى تلك العذراء إيجيريا وأن أحد ملوكهم توما بومبيليوس اتخذها له زوجة فكانت تساعده على قهر الأمم المتوحشة وإدخالها في ربقة الطاعة له والانضواء على عرشه وتشاركه في حل ما أعضل عليه من المشكلات. فلما مات زوجها جزعت عليه أشد الجزع ولجأت إلى تلك الغابة معتزلة حيث كانت تجلس في حضيض جبل ذارفة دموعاً سخية بلا انقطاع فأحزن حالها ديانا إلهة الصيد فرأت أن تحولها إلى عين ماء نضاخة لا ينضب ينبوعها فسميت عندئذ عذراء العيون وشيد بجوارها هياكل للعبادة كانت النساء الرومانيات يقصدونها بنذورهن الثمينة في مواسم معلومة متخذات لها أعياداً يحتفلن بها احتفالاً كبيراً لأنها كانت تحفظهن عند الولادات ويصون مواليدهن من سائر الجن. ولمدينة رومية جني خاص أقام له قدماء الرومانيين تمثالاً من ذهب.

والجرمانيون ومنهم البروسيون وسائر الألمان وكثيرون من التابعين للعرش النمساوي يزعمون أن للمياه جناً يطلق عليه اسم اليفنة ويدعوها الإنكليز مرميده وأهل شمالي أوربا نكسن.

قال سكان سواحل البلطيك أنها تظهر على شكل الخيل على مقربة من ثغور البحار وتداعب من يخرجون القمراء للنزهة والسمر في تلك الشواطئ وكثيراً ما أخافتهم.

أما الألمانيون فيقولون أنها تقيم في نهر البي وأنها أظرف من جن بحر البلطيق وقد تخرج أحياناً من الماء في ليالي الشتاء وتقصد النار التي يتركها رعاة المواشي لتستدفئ بها. وقد طالما نظرت هناك بهيئة نساء جميلات مستترات بشبه براقع لهن وجوه زهر وشعور شقر تسترسل على أكتافهن. وقد يعشق بعضهن الرجال فيخلصن الحب لمن كان وفياً منهم ويساعدنه في ميادين الحرب ويقين شخصه بنفوسهن من سهام العدو ولا تنفك إحداهن مولعة بمن تهوى مرافقة له ساهرة على مصلحته وراحته متحملة معه ما يكابده من برحائه وضرائه حتى الموت. ولكن إذا خانها ولو مرة ذهبت به إلى شاطئ البحر أو إلى ضفة النهر وجذبته بمنتهى قوتها إلى اللجة فتميته غرقاً!!! وهي على ما يقولون ذات صوت غريد مطرب هو_في زعمهم_مصدر حفيف الغابات وخرير الأنهار الذي يؤنس الحزين ويسلي الغريب وكان القدماء من أهالي أوربا الشمالية إذا أرادوا استمالة تلك الجن طرحوا في البحار والأنهار ثماراً وأزهاراً وذهباً ولؤلؤاً وعطراً وطيباً استعطافاً لها وقد وجدوا في بحيرة تولوز أشياء كثيرة مما كان يستعطف بها سكان فرنسا القديمة تلك الجنيات الحسان اللواتي يشبهن في بعض أمورهن بنات الماء اللواتي ذكرهن الدميري في كتابه حيوة الحيوان.

ومن أغرب ما رواه المؤرخون أن سيبيون الروماني لما فتح مدينة تولوز وجد في بحيرتها من الذهب ما وزنه مئة ألف ليبرة ومن الفضة مثله فاستأثر بها.

وقد تحقق أن الغاليين القدماء أجداد سكان جنوبي فرنسا الآن كانوا يرفعون تلك الجنيات الحسان إلى مصاف الآلهة ولذلك اشتد حنق التولوزيين على من خرق حرمة بحيرتهم سالباً حليهن وكنوزهن كما ألمعنا وربما كان لهن في بلادهن غير الأسماء الثلاثة التي ذكرناها قبل.

أما السكندنافيون وهم أهل أسوج أو السويد ونروج وهولاندة أو الفلمنك والدنيمرك فيعتقدون بوجود جن اسمها ألفة أو الفر وهي حاذقة لبيبة ذكية عالمة وتقسم عندهم إلى فئتين.

إحداهما تعرف بالجن الصالحة ويقال لها جن النار أو جن النور تقيم في بلاد الغيم التي يتولاها صاحب الشمس لها وجوه تلمع كالصبح وعيون أجمل من الكواكب وشعر ذهبي يروق مرآه للناظرين والثانية تعرف بالجن الهائلة وتسمى عندهم سفورت الفار وهي عدوة للنور وأشد سواداً من الزفت ذات منظر كريه وتقاطيع شنيعة وأعضاء مشوهة ولا تسكن إلا في باطن الأرض.

وأهل القرون المتوسطة من سكان هذه الممالك السكندنافية كانوا يزعمون أن هذه الجن الأرضية تختطف أطفالاً من أسرتها وإذا أحبت إحداهما رجلاً ذهبت به إلى موطنها تتلذذ بمداعبته ولا تدع له سبيلاً إلى تركها والعودة إلى بلاده: وهم يوقنون كل اليقين أن ملكتهم خطفت السيد توماس السيدون الملقب بالشاعر إلى حماها وحجرت عليه في صرح لها سبع سنين كان فيه تمثال غرامها وكعبة هيامها وهي على ما يرتأون لطيفة المعاني حسنة الطلعة تنسج لها أقمصة وحللاً من نور القمر وتعتم بعمامة في أعلاها جرس وتحتذي برجليها الكافور بتين زجاجاً رقيقاً نقياً شفافاً فإذا عثر إنسان عند انفلاق الصبح على حذاءٍ أو جرس مما تلبسه تلك الجنيات الرائعات المحاسن ملقى على العشب نال من التي فقدته كل ما يتمناه.

وهي تشتو غالباً في كهوف الجبال تعيش فيهات كسائر الناس وتصرف الوقت بمطالعة الأشعار وأناشيد الآلهة وكتب التاريخ وبتطريق الذهب والفضة والأخبار عن مستقبلات الشؤون متخذة لها حلياً من الياقوت والزمرد وكبار اللآلئ. ومتى بدت تباشير الربيع تزايل تلك الكهوف والمغاور متجولة في جوانب الجبال استنشاقاً للهواء العطر والنسيم البليل. وقد تتسلق الشجار لتقطف منها الأزهار والثمار أو لتراقب من يمر على مقربة منها حتى إذا أقبل الليل تجتمع في الحقول متماسكات الأيدي كالحلقة التي تؤلفها نساؤنا ليجلون العروس ثم تأخذ في الرقص والغناء في ضوء القمر. وقد ترعى ماشيتها على ضفاف الأنهر ولا تزال تلك حالها حتى يعاودها الشتاء.

ومع أن الألفة غير منظورة فالمولودون أيام الآحاد يمكنهم أن يروها. وهي على نحافتها وجمالها ولطف بنيتها لها من القوة ما يمكنها حمل أثقل الصخور وأكبرها حجماً ماشية به مسافات طويلة وإذا لمست بيتاً هزته وزعزعته من أسسه ولو شاءت لحملت بيدها رجلاً وسارت به ركضاً ولا تبالي. وهي تحب غالباً شجر البلسان والزيزفون والحور الرومي فمن أحب أن يراها من مواليد يوم الأحد يقصد من تلك الأشجار ما كان منها في سفوح الجبال يجدها تغني على قيثارها العازف تحت رواق ظلها الوارف.

وكان لها في بلاد الإنكليز وسكوتلاندة ملك وملكة وكانت جزيرتا سترن وروجن في بحر البلطيك تحت سلطانهما وقد شوهد هذا الملك يوماً في مركبة يجرها أربعة أفراس ويستدلون على تجوله في مملكته المترامية الأطراف بصهيل الخيل وسواد الماء والضوضاء التي يحدثها أعوانه في طبقات الهواء.

واليونانيون القدماء يقولون أن أغينور ملك فينيقية تزوج بالجنية ميلي فولدت له أوروبا فنشأت ذات جمال فتان وبياض ناصع فشغف بها المشتري وتمثل لها بصورة ثور وتزلف إليها كثيراً حتى ركبته معاً بلين قياده فأسرع وهي على متنه نحو البحر وسبح بها إلى جزيرة كريت وهناك اتخذها زوجة فأولدها خمسة صبيان وثلاث بنات وكلهم ابتنوا مدناً وأنشئوا قبائل وعلى هذا يكون الكريتيون من سلالة الثيران والجن فلا عجب إذا كانت نيران فتنهم لا تنطفئ وحركات ثوراتهم لا تسكن.

والروسيون الأقدمون يزعمون أن الفامبيره فريق من الجن يسكنون القبور وهم يثورون ليلاً في المدافن. متفرقين على منازل الأحياء حال نيامهم فيمتصون دماءهم. وإن الديموفوي جني البيوت يتراءى للنساء حال انفرادهن وإن في الأنهار عفاريت تدعى فوريانوي وفي الغابات أبالسة اسمها الياسنك والسلافيون يدعون أن للجن إلهاً خاصاً يسمونه وتشرنو بوغ أي الإله السود وللبشر إلهاً آخر اسمه بباليوغ أي الإله الأبيض.

وأهل جبال البريني أو البرانس يعتقدون أن الجن مقيمة في الغيوم التي تغشى ذروات جبالهم وعلى ضفاف الأنهار الحافلة بالأشجار ولهم فيها أقاصيص طويلة وروايات غريبة لا يحتمل المقام سردها أو استيفاءها.

وأهالي جزائر ملديف يقولون أنه كان يجيئهم في وقت معلوم من ناحية البحر جني كأنه مركب مملوء بالقناديل فلا ينجو من شره إلا بإعطائه فتاة بكراً يتركونها له في بيت الأصنام ثم يصبحون فيجدونها منهوكة ميتة فاتفق أن زار مدينتهم رجل صالح يدعى أبو البركات البربري فلما حان زمان مجيء الجني أخذت النساء يبكين ويندبن فسألهن عن السبب فقالت له عجوز منهن أن لها بنتاً وحيدة بارعة في الجمال أصابتها القرعة بحسب القاعدة الجارية في المدينة وستكون في الغد ضحية للجني فقال أنا أنوب عنها ثم ذهب إلى بيت الأصنام متخفياً وأخذ يتلو القرآن العزيز فلما سمع الجني تلاوته غاص في البحر ولم يعد بعد.

قال ابن بطوطة في رحلته إن هذه الحاد ثة كانت سبباً لدخول أهالي تلك الجزائر في الإسلام وهي يد كبرى تعد لأبي بركات المشهور بصلاحه على أولئك الوثنيين.

واليونانيون يثبتون أن عذارى من الجن اعتنين بتربية جوبيتر وهو طفل فأهدى إليهن قرن الخصب وهو أحد قرني العنزة التي رضع لبنها عندهن.

وهم يقسمون الجن إلى ثلث رتب يرفعون الأولى منها إلى مقام المعبودات وجدها الأعلى عندهم أجينوس باللسان الروماني القديم وهو شخص زفس أو جوبيتر.

وهي تقسم إلى فئات أو قبائل منها البانة والفونة والسانيرة والنيمفة الرتبة الثانية توابع كل شعب وكل مدينة وكل محلة وهم يعتقدون أن مؤلفي هذه الرتبة يموتون ويولدون كسائر الأحياء غير أن حياتهم تستغرق ألوفاً من السنين.

والرتبة الثالثة توابع كل شخص بمفرده وهم الذين يتولون أمور الأفراد ويؤثرون في جميع أحوالهم من معايشهم وعواطفهم وحوادثهم وأمراضهم. وللنساء توابع خاصة يسمونهن جونون.

قال سرفيوس متى ولد الإنسان يسخر له تابعان من الجن أحدهما يرشده إلى ما به الخير والآخر يميل به إلى طرق الشر.

وقال أبوليوس إن النفس البشرية ذاتها تتحول بعد نجاتها بالموت من هيولاها إلى الجن فإن كانت حياة صاحبها صالحة دخلت في عداد الجن الأنيس وبقيت في البيت لحماية ساكنيه وإن كانت شريرة سميت لارفه أي عفريتاً أو جنياً خبيثاً فلا تستقر في مكان واحد ويكون دأبها الإخافة والتهويل وإلقاء الرعب بين البشر والوسوسة والنزع في الصدور إمالة بأربابها إلى الإضرار بأوغوسطوس مادام تابعه يحميه ويذود عن حوضه.

وكان اليونان والرومان عن بكرة أبيهم يقدمون في أعياد مواليدهم نذوراً للصالحين من تابعيهم زهراً وبخوراً وخمراً يضعونها على ضفاف الجداول وتحت ظلال الأشجار في الغابات تكرمة وزلفى ولو استوفينا كل ما ورد عن هاتين الأمتين في أعصرهما الخرافية مما يتعلق بموضوعنا لطال بنا المطال وضاقت عن استيعابه الرسائل بيد أنا فيما ذكرناه عنهما غنى وكفاية.

أما الفرس فيعتقدون أنه يحكم العالم روحان متضادان متخاصمان أحدهما صالح وهو أورمزد والآخر شرير أهرمن وهذان الروحان في خصام دائم ومن غلبة الواحد على الآخر ينتج تداول الخير والشر والنور والظلام والليل والنهار كل يوم.

وما الجن إلا لخدمة أهرمن وحاشيته وسيأتي يوم يظهر فيه ثلاثة أنبياء يفلون جيوش أهرمن ويتلفون أعماله فلا يبقى جني على الأرض فيعيش الناس في سعادة كاملة وسلام دائم يتكلمون بلسان واحد ويعيشون متحدين على نمط واحد ووتيرة واحدة وهؤلاء الثلاثة أنبياء سيولدون من نطفة محفوظة في ينبوع ماءٍ صغير لم يهتد إلى مكانه بعد.

وهاذ الاعتقاد الثنائي مستفيض في الشرق منذ القديم حتى أنه يظهر بالتتبع والاستقراء التقليدي إنه كان على عهد عيلام بن سام بن نوح الذي منه تشعب الفرس وقد سرى إلى عدة شيع ونحل وبدع في القرون الأولى وأصبح ركناً بني عليه مذهب الماني الموسوس الفارسي كما لا يغرب على كل مطلع على تاريخ هذه الأمة.

وقد زعم الفرس أيضاً أن للجن مملكة خاصة اسمها عندهم جنستان أي بلاد الجن ويقولون أنها واقعة في الطرف الغربي من أفريقية وقد طالما سماها شعراءهم بأرض المردة والعفاريت: أما العبرانيون والفينيقيون والكلدانيون القدماء فيقولون أن الجن تدخل في البشر فتبليهم بالجنون وهيب تسكن الأرض وتتراءى للناس بهيئات مختلفة حتى أنها تتلبس بأشكال الحيوانات ويستخدمها السحرة والعرافون للأنباء بالمغيبات وكشف المستورات وكل هؤلاء الأمم يعتقدون كالعرب بالقرينة والتابعة والكهانة والسحر ومن يرجع إلى تواريخهم يجدها طافحة بأخبار وأقاصيص تدل على رسوخ هذا الاعتقاد فيهم منذ قرونهم الأولى شأنهم في ذلك شأن سائر الأمم الشرقية سواء.

أما المصريون فقد كانوا يهبون جني نهر النيل في كل عام عروساً حسناء من فتياتهم استرضاء له واستمداداً لفيضه ويجعلون الحيات والهررة وغيرها آلهة وأنصاف آلهة متخذين العجل آبيس أعظم معبود لهم بناء على كون الزراعة ركن معايشهم وقوام رزقهم في بلادهم فهم يكرمونه ويخصونه بأفضل أنواع العبادات ليمد الثيران من سائر بني جنسه بقوة من عنده تكفيهم مؤونة الحرث والفلاحة التي لم يجدوا إليها سبيلاً في تلك الأزمنة إلا بتسخير البقر.

ومع أن الأقدمين منهم كانوا في طليعة غيرهم من الأمم علماً ومدنية وتهذيباً كانت عقائدهم الخرافية في غاية السخف وقد زادهم فيها استرسالاً اجتياح اليونان ثم الرومان لبلادهم واستيلاؤهم عليها ردحاً من الدهر إذ قد أضيف ما عند هؤلاء من مضحكات العقائد ومبكياتها إلى ما عندهم منها حتى أصبحت مزيجاً جامعاً ما لم تجمعه أمة قبل ولا بعد.

هذا مجمل ما ورد متفرقاً في أسفار السلف وأساطيرهم_من كل أمة ونحلة_برهاناً على كون الاعتقاد بالأرواح الخفية كالجن والعفاريت والمردة إنما هو مرافق حياة البشر في قرونهم الأولى من كل جيل وجنس ومذهب ولكن على أنحاء متضاربة ووجوه متباينة واختلاف كثير في وصفها وتكييفها وتعيين قواها وطبائعها وتحديد ماهيتها ومراتب تأثيرها في أعمال الخلق وشؤونهم إلى غير ذلك مما لم يقع عليه الإجماع التام بين شعب وشعب وأمة وأمة.

ومما يجب التنبيه إليه أنه قام في كل صقع وبين كل قوم رجال أفذاذ من أبناء العصور الغابرة قائلين بما يقوله اليوم أكثر علماء الغربيين وبعض الشرقيين من أن هذه الأرواح_الضارة_لا وجود لها إلا في مخيلات الناس وأوهامهم يبعثهم على تصورها والجزم بوجودها ما يتعاورهم من الأماني والمخاوف والانفعالات المتناقضة فيما يعرض لهم من أحوال هذه الحياة الدنيا الكثيرة الكوارث والشجون مضافاً إلى ذلك ما يتوارثونه من عقائد الآباء ويتناقلونه خلف عن سلف من ترهات وعجائزيات قد أبان على تبجينها في أذهانهم ما أسدله الجهل على بصائرهم من كثيف الحجب في أعصر الظلمات ولاسيما أثناء القرون الوسطى التي استحكمت فيها المنازعات الدينية والأحن المذهبية_مسببة عن أطماع الملوك_حتى ألبست الأرض أرجواناً من الدم.

فما بدأ يتفجر في أفق العالم الغربي نور العلم الصحيح المبني على التثبت والاستقراء الحسي حتى أخذ يتقلص في تلك الأصقاع ظل الاعتقاد بوجود أرواح تتأثر بني الإنسان متداخلة في أمورهم ومصايرهم فاعلة في شواعرهم وهواجسهم ضاغطة على حركاتهم وسكناتهم في معايشهم ومرتزقاتهم وكان ذلك في أواسط القرن الثامن عشر حتى إذا أشرف محيا القرن العشرين من نافذة الدهر تلاشى أو كاد مذهب من يرى أن في العالم المحجوب قوة تناوئ إرادة الله وتناهض عباده كما يزعم الثنائيون من الأمم ومعظم المتدينين من الفلاسفة والمفكرين في أيامنا هذه يذهبون إلى أنه قبل انقضاء هذا القرن قد لا يبقى على وجه البسيطة من يصدق بوجود فاعل فوق الطبيعة غير الحق عز وجل وهو سبحانه أعلم بما يتخرصون.

دمشق: سليم عنجوري.