مجلة المقتبس/العدد 52/حال الهند الإنكليزية
مجلة المقتبس/العدد 52/حال الهند الإنكليزية
(معربة عن مجلة الديبا الأسبوعية)
ليست أحوال الهند كما يرام والحكومة الهندية البريطانية في خوف شديد ورعب زائد. لا جرم أنه يستبعد حدوث ثورة عامة مثل ثورة سنة 1857. لأن الحكومة تتذرع بوسائل من الحزم والاحتياط تجعل أمثال هذه الثورات من قبيل المحال. خصوصاً وأن أسلاك البرق وخطوط الحديد وسرعة وصول الأخبار وسهولة المواصلات تساعد الحكومة على توطيد دعائم الأمن والراحة وتضمن لها السكون والهدوء. غير أن الهنديين يحاربون الفاتحين بأسلحة أخرى وسيظلون محاربين لهم أبداً بها وهي: الجرائد. الخطب. الدعوة إلى الثورة.
فبهذه الأسلحة الثلاثة يحاول الهنديون نزع الحكم الإنكليزي من أعناقهم. إلا وأن بين سكان آسيا على اختلاف مللهم ونحلهم وتباين عناصرهم وأجناسهم وبين أهل أوربا نفوراً ليس في إمكان البشر محوه ورفعه.
وإليك ما قاله كيبلينك في هذا الصدد: من كتاب الإنكليز ولد في بومباي سنة 1865).
الشرق شرق والغرب غرب. ولا شيء يجمع بينهما فهما ضدان لا يأتلفان. ومكن المتعذر كل التعذر أن تنشأ بين ابن الشرق وابن الغرب ألفة حقيقية أو مودة ثابتة أو ثقة تامة. فإنهما يتكلمان بلغتين متباينتين كل التباين ولا يستطيعان أبداً أن يتفاهما. وعدم الألفة وقلة الوئام هو الأصل في علائق الشرقيين والغربيين على مدى الأيام. . . .
تخرج في غضون خمسين سنة من المدارس العليا في الهند وإنكلترا ما يربو على خمسين ألف تلميذ هندي فتسعة أعشار هؤلاء غدوا كتاباً وأدباء ومحامين. أما الأطباء والمهندسون والكيماويون فهم بين ثلاثة إلى أربعة آلاف.
ويتخرج كل سنة من المدارس العالية اثنا عشر ألف هندي وهؤلاء يأتون بلادهم حاملين شهاداتهم فيزداد بهم عدد الدارسين المعلمين زيادة مستمرة.
وإن يكن قد خصص لهؤلاء الشبان بعض المناصب الصغيرة في الإدارة والمحاكم فليس في هذه المناصب ما يكفيهم جميعاً ومن لم يقدر على الدخول أو يرغب في دخول سلك المعلمين بتلك الرواتب الطفيفة التي تكاد تكون سخرية وهزؤاً يضم صوته لأصوات الجرائد ورجال السياسة المهيجين فعدد هؤلاء كبير للغاية وهو ينمو ويقوى على الدوام. .
فالتربية الأوربية جعلت الهنديين غير راضين وصيرتهم خانقين ناقمين! ينشأ الهندي من المدارس العالية على ذكاءٍ وقاد ونباهة تامة غير ميال للتجارة أو الصناعات فيدخل في برهة وجيزة غمار الساسة وهو حانق على حكومة وإدارة قد غرستا فيه آمالاً كبيرة ومنته بأحلام مذهبة لم يتمكن من تحقيقها ولا طاقة له بالحصول عليها. وإذ كان يرى نفسه على مستوى من يحكمون عليه مساوياً لهم في المعرفة والإدراك ولا فرق بينه وبينهم في شيءٍ لا يلبث أن يتمثل أمام عينه ذلك الظلم المهين الذي سجل عليه حياة بائسة تحت ربقة أناس دخلاء أجانب غرباء مع أن في مكنته أن يقوم مقامهم في تولى الأمور والمصالح والعمل في شؤون الحكمة والإدارة وقد يفضلهم ويمتاز عنهم من حيث أنه ابن البلاد عارف بأخلاقها وطبائعها، خبير بأمزجتها وعاداتها، واقف على معتقداتها وتصوراتها. . .
يتعلم الهندي في بلاد الإنكليز في أيام الدراسة قواعد السياسة وأصول الإدارة وسيقف على آراء علماء الاجتماع على نحو ما يتلقاها شبان الإنكليز فيخرج من المدرسة وعقله متشبع بمبادئ الحكم الذاتي وحكم الأمة نفسها بنفسها وعدم المركزية كما هو الحال في بريطانيا. والتلميذ الهندي يفهم هذه المبادئ كل الفهم ويعلمها حق العلم ولكنه متى جاء ليطبق أحكامها على بلاده وأوطانه يشعر بأن لسان حال الإنكليز يقول له بأجلى إشارة:
ما كان حقاً وصحيحاً على ضفاف التايمس ليس كذلك على ضفاف الغانج!.
وهذا القول يصعب إذا نظر الإنسان إليه بعين إنكليزية أما الهندي فلا يقنعه ذلك ومن هنا ينبعث النفور والحنق.
يريد الهنود إما أن يتركوا وشأنهم يحكمون أنفسهم بأنفسهم وإما أن يحكمهم الإنكليز مراعين مصلحة الثلاثمائة مليون من البشر سكان الهند رعية إمبراطور الممالك الهندية وملك بريطانيا. وبعبارة أخرى يطلبون من حكومة الهند أن توجه عنايتها لحفظ مصالح الهند.
إما الإنكليز وجرائد الإنكليز فيقولون ويجهرون بالقول غير مبالين بأن بقاء الإنكليز وحكمهم عليها هو لأجل مصالح الإنكليز فقط فالهنود محكومون للإنكليز من أجل هذه المصالح وحدها. وما دام الإنكليز في بلاد الهند فمصالحهم ومرافقهم فيها خطيرة فحرصاً على هذه المصالح ورعايةً لهذه المرافق وحباً بالوصول إليها على أكمل وجوهها يحكمون هذه المملكة الشاسعة الأطراف الوسيعة الجوانب ويدبرون أمورها.
ربما ساغ للإنكليز أن يقولوا أنهم عمروا البلاد وحسنوا حالها بإنشاء الطرق ومد الخطوط الحديدية وأسلاك البرق وإصلاح الري وسقيا الأرض وفتح أبواب الصناعات وبذل العناية في حفظ الصحة العامة ودرءِ أسباب المجاعات وتخفيف ويلاتها. ولكن هذه المواد النافعة لم تأتِ إلا من طريق العرض وهي منبعثة من المنافع الكبيرة والفوائد العظمى التي خص الإنكليز بها أنفسهم دون سواهم فهي ناشئة من حاجتهم إليها لأجل استثمار البلاد وأخذ نتاجها وغلتها. . .
وقصارى القول: إن الإنكليز لم يحكموا الهند من أجل عيون الهنود الكحلاء ولمنفعة الهنديين بل رغبة في مصلحة الإنكليز وحدها. . .
وما من أحد في الغرب يلوم الإنكليز على صنعها هذا. ولكن أليس من البديهي أن يصلح أهل الهند غير راضين عن هذه الحالة.
يقول الهنود: لا يعمل الإنكليز إلا لأنفسهم.
ويجيبهم الإنكليز: بأنهم يعملون لأنفسهم وفي عملهم هذا ينفعون البلاد الهندية. فهنا فرق دقيق لا يخفى على الناقد البصير.
وإن الهنود الدارسين في أوربا ليعلمون هذا الفرق ويدركونه وهم لا ينفكون من إلفات أنظار أبناء وطنهم إليه مشوباً بالإعظام والمبالغة. رأى الهنود المتعلمون وعرفوا ماذا حدث وجرى في جزيرة إيرلاندا ورأوا وعرفوا ماذا حدث في الممالك الأخرى فاقتدوا بهم ونسجوا على منوالهم وحذوا حذوهم وقلدوا الأيرلنديين والاجتماعيين والعدميين (سوسياليست وآنارشيست) في أعمالهم. .
خذ مثالاً لذلك حاثة عليبور سنة 1908 وحادثة لورندا سنة 1909 (وهي أن دنكرا الهندي قتل السير كرزون ويلي والدكتور لاتقا سنة 1909) وغيرهما. . .
فالمتهيجون والكتاب والصحفيون من الهنود الذين يعرفون قوة الجرائد والمطبوعات وتأثيرها فتحوا باب حرب دائمة على صحائف الجرائد ضد الإنكليز يدعون الناس فيها إلى طلب الاستقلال في الإدارة (أوتونومي وبالهندية سوراجا) ويشوقونهم لمقاطعة البضائع الإنكليزية (بويكوتاج وبالهندية سوادشي) كما صنع الأيرلنديون في جزيرتهم.
وأضافوا على ذلك عمل الفوضويين أي القتل والفتك الذريع وإلقاء القنابل والأجزاء المفرقعة والمواد النارية المنفجرة.
وهذا هو البلاء! فكيف السبيل للوقوف أمام تياره الهائل؟
لم تعمد الحكومة الإنكليزية حتى الآن إلا إلى طريقتين: الأولى العزم والرصانة. الثانية: إرضاءُ الطبقات العليا التي لها التأثير في الهنود بشيءٍ من المنافع والمناصب وهم البراهمة الذين يلتصق بهم عامة الدارسين من الهنديين الذين نشئوا نشأة إفرنجية.
وربما وجد بين هؤلاء من هو راضٍ عن الإنكليز وحكم الإنكليز. بيد أنهم قليلون جداً لا يتعدون الطبقة التي تولت مناصب الحكومة ونالت رواتب كافية.
أما جيش الكتاب الصحافيين العرمرم، جيش الناقمين الحانقين، جيش المتعلمين الذين لم يحصلوا على مراكز في الحكومة فإنهم يؤثرون في أفكار الناس جميعاً من طريق الكتابة والخطابة.
يصعب الحكم على مبلغ تأثير هؤلاء المتحمسين وإلى أين يصل وماذا حصل منه. ومعلوم أن التأثير عظيم جداً لاسيما في بنجاب وبنغاله وغيرهما من الأقطار. . .
ومما يساعد على امتداد سلطة الإنكليز في الهند انقسام الهنديين إلى طبقات متخالفات (كاست وهذه الطبقات لا رابطة بينها ولا ترغب في أن يكون لها رابطة.
ولا يوجد في الهند ما يقال له أمة هندية. وليس بين سكان الممالك الهندية رابطة مشتركة سوى بعض الإنكليز وهذه الرابطة عبارة عن شعور سلبي لا يفيد في شيءٍ إن لم يكن مشفوعاً بشعور إيجابي كحب الوطن والاشتراك في اللغة وفي الأفكار.
فهذا لا أثر له في الهند. أو لم يوجد بعد. ويختلف الهنود بعضهم عن بعض كما يختلف سكان البلاد المتفرقة في أوربا.
ثم أن العنصر الإسلامي في الهند راضٍ عن حكومة الإنكليز لأنه هو أيضاً أجنبي. ومن المحقق أن المسلمين في الهند ليسوا سوى ستين مليوناً من ثلثمائة مليون والهنود يبغضون المسلمين بقد بغضهم للإفرنج تقريباً وزد على ذلك فإن مسلمي الهند محرومون من الذكاء والميل للتعليم الذي عرف به الهنود.
فينتج من ذلك أن الحالة في الهند أو في بعض أيالاتها (كبنجاب وبنغاله وغيرهما. .) ليست على خير وإن كان لا ينبغي إعظامها والمبالغة فيها لأن وجود الطبقات المتخالفات في درجات الاجتماع واختلاف الأجناس والأديان يحول دون ثورة عامة على الإنكليز. وإنكلترا لا تخشى إلا من أن تثور الهند مدفوعة من إحدى الدول العظمى أو مستندة عليها. خطر الثورة في الهند قليل جداً بالنسبة للثورة التي حدثت قبل اثنتي عشرة سنة ولكتن المركز حرج على كل حال.
عن نهر الذهب:
عبد الوهاب.