مجلة المقتبس/العدد 5/كتاب مادي
مجلة المقتبس/العدد 5/كتاب مادي
بعث إلينا حضرة العالم الألمعي رفيق بك العظم بما يأتي:
جاءني كتاب من ذي قرابة لي سائح في أميركا بلاد العجائب توخى فيه وصف الأشياء المادية التي لها مساس بترقي البلاد المادي دون المعنوي أي الشؤون الاقتصادية التي تفيد المهاجرين إلى تلك البلاد الشاسعة والبعيدين عنها أيضاً فرأيت أن أبعث به إليك حتى إذا رأيته نافعاً لقراء المقتبس تتكرم بنشره فيها ليرى الناس كيف يعيش ذلك الشعب الراقي في بحبوحة السعادة والراحة والغنى وكيف يحاول ذلك العالم الجديد أن يبتلع في جوفه قسماً كبيراً من العالم القديم بما يمتُّ به إليه من وسائل الكسب بالطرق العلمية النافعة وبما يشمل به النازحين إلى تلك البلاد من حقوق الوطنية الأميركية بعد مضي خمس سنين على المقيم فيها من الأجانب وكيف يعلم الشعوب دروس الآداب العالية والعلم الصحيح والاقتصاد النافع. ففله در ذلك الشعب ما أعظم همته، وأبعد في الأمور نظره، فإنه ولا نكران للحق حقيقي بالثناء، حري باقتداء الأمم به، والله أعلم بما يكون له من الشأن، ما في مستقبل الزمان، وإليك نص ذلك الكتاب:
يأتي الولايات المتحدة كل سنة عدد عظيم من مهاجري أوربا وقد بلغ عدد المهاجرين في السنة الماضية نحو مليون نسمة فيهم قليل من الأرمن والروم والسوريين. ومعظم هؤلاء النازحين عبارة عن أخلاط همج من الناس لا يعرف أكثرهم الكتابة والقراءة، ولا يفقهون معنى للتربية، ولا يقيمون وزناً للأدب، وفقرهم مدقع، وعيشتهم ضنكى. تراهم بعد وصولهم إلى هذه البلاد بقليل في حال حسنة من السعادة والرفاهية. وأن بعضهم ليجني ثروة جسيمة وما ذلك إلا لانتظام الأحوال وكثرة الأعمال. ولقد زادت ثروة الأمة الأميركية وتوفرت الأشغال حتى أنك لتجدها في حاجة شديدة إلى عملة أبداً فكل فرد ينزل بينهم رجلاً كان أو امرأة يجد ما يشغله ويقوم بمعاشه وزيادة.
فيأخذ العامل الغريب خمسين ريالاً مشاهرة على الأقل. وأقل أجرة يتناولها العامل الأميركي خمسة وسبعون ريالاً في الشهر (وقيمة الريال الأميركي كقيمة الريال المصري) وهذا جدول أجرة العامل هنا وهو أقل راتب شهري يناله: فمشاهرة العامل الغريب 50 ريالاً والحوذي 60 والطاهي (الطباخ) البسيط 50 والطاهي المرتقي 150 وأجير الحلاق 60 والنجار البسيط 80 والدهان 100 والبناء 100 والكاتب البسيط 50 والشرط (بوليس) 90 وسائق الترامواي 60 وأدنى مستخدم في السكة الحديدية 75.
وأسباب المعاش سهلة ورخيصة للغاية فالعامل الغريب يعيش بإنفاق ربع ريال إلى نصف ريال يومياً عيشاً طيباً إذ التسهيلات الموجودة هنا لراحة العيش لا أثر لها في بلادنا ولا في مصر ومن ذلك يتضح لك أنه ليس في الأمة الأميركية فقير. وأفقرهم أحسن حالاً من بك في بلادنا.
ويجب أن يكون سن الغريب الذي يود الهجرة إلى هذه البلاد دون الستين وأن يكون قوي الجسم سليماً من الأمراض وإلا فلا يباح له الدخول وأن يكون معه يوم خروجه إلى البر من النقد نحو 50 ريالاً أو يكون له قريب أو صديق في البلاد يقبله ويكفله وعلى كل حال ينبغي له أن يفيدهم أنه جاء ليعمل.
وعلى من أراد أن يفلح من المهاجرين أن يكون سنه الثلاثين وذا إلمام قليل بالإنكليزية وأن يدخل إحدى المدارس الصناعية لدن وصوله إلى نيويورك يختار ما يشاء من الصنائع. وهنا مدارس للصنائع على أنواعها وأقل مدة للتخرج بصناعة الحلاقة فإنه يمكن إتقانها في شهرين وأكثر مدة تصرف لتعلم صناعة الهندسة ثلاث سنين فينال المهندس سوم خروجه من المدرسة مائتي ريال راتباً شهرياً على الأقل. ومدة تعلم الصنائع الأخرى بين سنة وسنتين من مثل دهان وحداد ونجار وكاتب تجارة ومستخدم في إدارة الأسلاك البرقية وكاتب أداة كتابية وغير ذلك ومنها أشغال يدوية وأشغال عقلية. وزبدة القول أن البلاد بلاد عمل ومضاء لا بلاد كسل ووناء.
يعتبر المرء من البلاد عندما يدوس أرضها ويصبح مساوياً لغيره في الحقوق. والأمة هنا متساوية في حقوقها لا فرق بين كبير وصغير ولا تمييز بين العناصر والنحل فيصير بائع الفحم أو تاجر المسكرات رئيساً للولايات ولا عيب عندهم سوى أمور معلومة أولها البطالة. فكل فرد رجلاً كان أو امرأة يعمل ويجد حتى أنك لا تجد هنا محال للقهوة كما هو الحال في بلادنا إذ ليس هناك عاطلون عن العمل يجلسون فيها - وثانيها السرقة والمتاجرة بالعرض وما عدا ذلك فكل صنعة شريفة بدون استثناء. وبعد أن يقضي الغريب في البلاد خمس سنين ينال حق التابعية الأميركية ويكون كذلك هو وأحفاده. في أي بلد كان وأما إذا غادر البلاد قبل قضاء هذه المدة فيعود إلى تابعيه.
يقضى هنا على كل ولد ذكراً كان أو أنثى أن يختلف إلى مدرسة حية إلى السنة الثامنة عشرة من عمره والمدارس كلها مجانية حتى أن الأولاد يعطون فيها الكتب والأوراق بلا عوض فلا عذر إذاً للوالدين في عدم إرسال الولد. ويجازى وليه إذا لم يبعث به إلى المدرسة. والتعليم خال من كل نزعة دينية وقد طالعت كتبهم المدرسية للسنة الأولى والثانية والثالثة والرابعة فلم أجد فيها ذكراً للأديان حتى ولا اسم الدين المسيحي أو عيسى أو الكنيسة أو العبادة وكتبهم عبارة عن حض الولد وبعثه على العمل والرغبة عن البطالة وعمل الخير للإنسان والحيوان والصدق والاستقامة. والحق يقال أن أصول هذه التربية ناجحة عياناً لأن الكذب والنفاق والتدليس والسرقة لا وجود لها في الجنس الأميركي على العكس من ذلك في بلادنا. والنساء الأميركيات أعفُّ من نساء مصر والأستانة على جمال فيهن وحسن بزة وشارة. ولكنه هو الجمال الذي زانه الكمال والحسن الموصوف بالاعتدال. ولاشك عندي أن هذه الأمة أرقى الأمم خَلقاً وخُلقاً. أما التعليم الديني فأمره راجع للأسرة يتعلم الولد دينه من أبيه وأمه خارج المدرسة. والدين الغالب هنا بعض مذاهب البروتستانت.
زرت كثيراً من مدارس الفقراء فوجدتها أحسن بكثير من مدارس نيشان طاش وبشكطاش أعني محال الأكابر في الأستانة ولا نسبة بينها. وشاهدت مدرسة لتعليم صب الرصاص مدة التعليم فيها من سنة إلى سنتين وينال المتعلم 150 ريالاً راتباً شهرياً بعد إتمام تعلمه ومدرسة فن إصلاح الساعات.
ومما شاهدته هنا وعددته من غرائب العقل الأميركي أن ابنة فرنسية حضرت معنا في الباخرة من فرنسا هاربة مع رجل فرنسي تود الاقتران به خلافاً لرضا والده وبعبارة أوضح هرب الرجل معها لأنه لا يجوز للرجل في فرنسا الزواج قبل بلوغه السادسة والعشرين من غير رضا وليه وإذ كان سن الولد دون ذلك اضطر أن يحضر مع خطيبته إلى أميركا ولما خرجنا إلى البر منعت الحكومة خروج الابنة وطلبوا إليها أن تعين ولياً يكفلها لان خروج النساء بدون ولي ممنوع لئلا يدخل الفاسدات فاضطر الشاب أن يخبرهم بجلية الأمر فقالوا أنهم يريدون عقد النكاح في الحال فما هو إلا أن أتى محرر المقاولات وعقد له عليها في خمس دقائق وأخذوا نفقة على ذلك ربع ريال. فانظر إلى هذه التسهيلات في نظام الزواج هنا. وكل أنثى بعد سن الثامنة عشرة وكل ذكر بعد سن العشرين يحق لهما الزواج ولو بدون رضا وليهما ولا تسأل الحكومة من جنسية ولا عن دين ولقد قرأت منذ أيام إعلاناً وأظن ناشره غنياً بأنه يدفع سبعة وثلاثين ألف ريال لكل حرمة توفق إلى الهرب من إحدى قصور العظماء في الشرق وترضى بزواج أحد التبعة الأميركية.
ومما شهدته هنا من العادات المستحسنة عند الأمريكان النظافة فإنه يوجد في كل بيت عادةً حتى في بيوت أفقر الفقراء حمام بالماء الساخن والبارد وأنك لترى أولاد العملة في هذه الديار أجمل منظراً وأحسن ملبساً وأنظف جسماً من أولاد أكابر بلادنا بمعنى أن أولاد العملة هنا يعادلون أولاد أكابر الأستانة ومترفيها وأما أولاد أكابر سورية فهم أدنى بكثير من أولاد أفقر الفقراء.
ومن عاداتهم المستحسنة في معظم البلاد هنا أن الحانات تقفل أيام الآحاد لئلا يتمكن العملة من الانهماك في شرب المسكرات وهم مشغولون بأعمالهم سائر أيام الأسبوع ولا يوجد الأحد حانة للسكر. ويحظر بيع النبيذ والجعة (البيرة) يوم الأحد والبائع الذي يخالف ذلك يعاقب وهم يعتبرون النبيذ والجعة من المشروبات المضرة. أما محال لتمثيل فإنها مرتقية أكثر من أوربا وأرخص أجوراً حتى أنك لترى في بعض الملاعب مائة فتاة يرقصن معاً وأجور الفرجة رخيصة للغاية.
صدر عن مدينة سنت لوي في ولاية ميسوري