انتقل إلى المحتوى

مجلة المقتبس/العدد 49/مذاهب الأعراب وفلاسفة الإسلام في الجن

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة المقتبس/العدد 49/مذاهب الأعراب وفلاسفة الإسلام في الجن

مجلة المقتبس - العدد 49
مذاهب الأعراب وفلاسفة الإسلام في الجن
ملاحظات: بتاريخ: 1 - 3 - 1910


تتمة ما ورد في الجزء الماضي.

مزاعمهم في الهاتف والناقل والرائي

قال الجاحظ: والأعراب وأشباه الأعراب لا يتحاشون من الإيمان بالهاتف بل يتعجبون ممن رد ذلك فمن ذلك حديث الأعشى ابن ماس بن زرارة الأسدي أنه سمع هاتفاً يقول:

لقد هلك الفياض غيث بني فهر ... وذو البياع والمجد الرفيع وذو القدر

قال فقلت مجيباً له:

ألا أيها الناعي أخا الجود والندى ... من المرءِ تنعاه لنا من بني فهر

فقال:

نعيت ابن جدعان بن عمرو أخو الندى ... وذا الحسب القدموس والمنصب القصر

قالوا ولنقل الجن الأخبار علم الناس وفاة الملوك والأمور المهمة كما تسامعوا بموت المنصور في اليوم الذي توفيه فيه بقرب مكة. وهذا الباب أيضاً كثير.

وكانوا يقولون إذا ألف الجني إنساناً وتعطف عليه وخبره ببعض الأخبار وجد حسه ورأى خياله، وإذا كان عندهم كذلك قالوا مع فلان رئي من الجن. وممن يقولون ذلك فيه عمرو بن لحاء ابن قمعة_والمأمون الحارثي_وعتيبة بن الحارث بن شهاب في ناس معروفين من ذوي الأقدار من بين فارس رئيس وسيد مطاع.

فأما الكهان فمثل حارثة بن جهينة وكاهنة باهلة وعنز سلمة ومثل شق وسطيح وأشباههم.

وأما العراف وهو دون الكاهن فمثل الأبلق الأسيدي والأجلح الزهري وعروة بن زيد الأسدي وعراف اليمامة رباح بن كحلة وهو صاحب المستنير البلثعي وقد قال الشاعر:

فقلت لعراف اليمامة داوني ... فإنك إن أبرأتني لطبيب

وقال جبهاء الأشجعي:

أقام هوى صفية في فؤادي ... وقد سيرت كل هوى حبيب

لك الخيرات كيف منحت ودي ... وما أنا من هواك بذي نصيب

أقول وعرة الأسدي يرقي ... أتاك برقية الملق الكذوب

لعمرك ما التثاؤب يا ابن زيدٍ ... بشافٍ من راق لسير الناعجات أظن أشفى ... لما بي من طبيب بني الذهوب

وليس الباب الذي يدعيه هؤلاء من جنس العيافة والزجر والخطوط والنظر في أسرار الكف وفي مواضع قرض الفأر وفي الخيلان في الجسد وفي النظر في الأكتاف والقضاء بالنجوم والعلاج بالفكر.

وقد كان مسيلمة يدعي أن معه رئياً في أول زمانه ولذلك قال الشاعر حين وصف مخاريقه وخدعه:

بيضة قارور وراية شادن ... وخلة جني وتوصيل طائر

ألا تراه ذكر خلة الجني.

ما روي من هتوفهم بالبعثة المحمدية

روى الإمام الماوردي في أعلام النبوة ما رواه أهل السير من هتوف الجن برسول الله قبل مبعثه وأنه كان من آيات نبوته الصادرة عن إلهام فمن ذلك ما رواه عثمان بن عبد الرحمن عن محمد بن كعب قال بينما عمر بن الخطاب رضوان الله عليه ذات يوم جالساً إذ مرَّ به رجل فقيل له: أتعرف هذا المار يا أمير المؤمنين قال: ومن هو قالوا هذا سواد بن قارب قال نعم يا أمير المؤمنين فقال أنت الذي أتاك رئيك بظهور النبي قال: نعم يا أمير المؤمنين بينا أنا ذات ليلة بين النائم واليقظان إذ أتاني رئي من الجن فضربني برجله وقال: قم يا سواد بن قارب فاسمع مقالي وأعقل إن كنت تعقل أنه قد بعث رسول الله من لؤي بن غالب يدعو إلى الله تعالى وإلى عبادته وأنشأ يقول:

عجب للجن وتطلباتها ... وشدها العيس باقتابها

تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ما صدق الجن ككذابها

فارحل إلى الصفوة من هاشم ... فليس قدماها كأذنابها

فقلت له: دعني فقد أمسيت ناعساً ولم أرفع بما قال رأساً فلما كانت الليلة الثانية أتاني فضربني برجله وقال: قم يا سواد بن قارب فاسمع مقالتي وأعقل إن كنت تعقل أنه قد بعث رسول الله من لؤي بن غالب يدعو إلى الله تعالى وإلى عبادته وأنشأ يقول: عجب للجن وتخبارها ... وشدها العيس بأكوارها

تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ما مؤمنو الجن ككذابها

فارحل إلى الصفوة من هاشم ... بين روابيها وأحجارها

فقلت: دعني فقد أمسيت ناعساً ولم أرفع بما قال رأساً فلما كانت الليلة الثالثة أتاني فضربني برجله وقال: قم يا سواد بن قارب فاسمع مقالتي وأعقل إن كنت تعقل أنه قد بعث رسول الله من لؤي بن غالب يدعو إلى الله تعالى وإلى عبادته وأنشأ يقول:

عجب للجن وتجساسها ... وشدها العيس بأحلاسها

تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ما مؤمنو الجن كانجاسها

فارحل إلى الصفوة من هاشم ... واسم بعينيك إلى رأسها

قال: فأصبحت وقد امتحن الله قلبي للإسلام فرحلت ناقتي وأتيت المدينة فإذا رسول الله وأصحابه فقلت: اسمع مقالتي يا رسول الله قال: هات فأنشأت:

أتاني نجيٌّ بين هدو ورقدة ... ولم أك فيما نجوت بكاذب

ثلاث ليال قوله كل ليلة ... أتاك رسول من لؤي بني غالب

فشمرت من ذيل الأسرار ووسطت ... بي الذعلب الوجناء بين السباسب

فاشهد أن الله لا شيء غيره ... وأنك مأمون عَلَى كل غالب

وإنك أدنى المرسلين وسيلة ... إلى الله يا ابن الأكرمين الأطايب

فمرنا بما يأتيك يا خير من مشى ... وإن كان فيما جيء شيب الذوائب

وكن لي شفيعاً يوم لا ذو شفاعة ... سواك بمغن عن سواد بن قارب

قال ففرح رسول الله وأصحابه بمقالتي فرحاً شديداً ووثب إليه عمر فالتزمه وقال: قد كنت أحب أن أسمع منك هذا الحديث فهل يأتيك رئيك اليوم فقال: مذ قرأت القرآن فلا ونعم العوض كتاب الله من الجن.

يروي إبراهيم بن سلامة بسنده إلى رجل من خثعم قال: كانت خثعم لا تحل حلالاً ولا تحرم حراماً وكانت تعبد أصناماً (قال) فبينا نحن عند صنم ذات ليلة نتقاضى إليه في أمر قد شجر بيننا إذ صاح صائح من جوفه.

يا أيها الركب ذوو الأحكام ... ما أنتم وطائش الأحلام

ومستندو الحكم إلى الأصنام

هذا نبي سيد الأنام ... يصدع بالحق وبالإسلام

اعدل ذي حكم من الأحكام

ويتبع النور عَلَى الأظلام ... سيعلن في البلد الحرام

قد ظهر الناس من الآثام

قال الخثعمي: ففزعنا منه وخرجت إلى مكة وأسلمت مع النبي وروى إبراهيم بن سلامة بسنده عن رجل حدث عمر بن الخطاب قال له: خرجت وأصحاب لي في تجارة لنا نريد الشام فصحبنا رجل من يهود فلما كنا ببعض أودية الشام هتف هاتف

إياك لا تجعل وخذها موبقة ... فإن شر السير سير الحقحقة

قد لاح نجم فاستوى في مشرقه ... يكشف عن ظلما عبوس موبقه

يدعو إلى ظل جنان مونقه

فقال اليهودي: تدرون ما يقول هذا الصارخ قلنا: ما يقول قال: يخبر أن نبيّا قد ظهر خلا فكم بمكة فقدمنا فوجدنا نبيّ الله بمكة

ومن بشائر هتوفهم ما حكاه أبو عيسى قال: سمعت قريشا في الليل هاتفا عَلَى أبي قبيس (جبل) يقول:

إن يسلم السعدان يصبح محمد ... بمكة لا يخشى خلاف مخالف

فلما أصبحوا قال أبو سفيان من السعدان سعد بكر وسعد تميم فلما كان في الليلة الثانية سمعوه يقول

أيا سعد سعد الأوس كن أنت ناصرا ... ويا سعد سعد الخزرجين الغطارف

أجيبا إلى داعي الهدى وتمنيا ... عَلَى الله في الفردوس منية عارف

فإن ثواب الله للطالب الهدى ... جنان من الفردوس ذات زخارف

قال الماوردي: ولئن كانت هذه الهتوف أخبار آحاد عمن لا يرى شخصه ولا يحج قوله فخروجه عن العادة نذير وتأثير في النفس بشير وقد قبلها السامعون وقبول الأخبار يؤكد صحتها ويؤيد حجتها (فإن قيل) إن كانت هتوف الجن من دلائل النبوة جاز أن تكون دليلاً عَلَى صحة الكهانة فعنه جوابان (إحداهما) أن دلائل النبوة غيرها وإنما هي من البشائر بها وفرق بين الدلالة والبشارة أخباراً والثاني أن الكهانة عن مغيب والبشارة عن معين فالعيان معلوم والغائب موهوم اهـ كلام الماوردي.

مزاعمهم في أوصافهم ومن قتلوه

يقولون من الجن جنس صورة الواحد منهم عَلَى صورة الإنسان واسمه شق وأنه كثيراً ما يعرض للرجل المسافر إذا كان وحده فربما أهلكه فزعاً وربما أهلكه قتلاً وضرباً (قالوا) فمن ذلك حديث علقمة بن صفوان بن أمية بن حرب الكناني جد مروان ابن الحكم في الجاهلية خرج وهو يريد مالاً له بمكة وهو عَلَى حمار وعليه أزار ورداء ومعه مقرعة في ليلة أضحانية حتى انتهى إلى موضع يقال له حائط جرمان فإذا هو بشق له يد ورجل وعين معه سيف وهو يقول:

علقم إني مقتول ... وإن لحمي مأكول

اضربهم بالذهلول ... ضرب غلام شملول

رحب الذراع بهلول

فقال علقمة:

يا شق ها مالي ولك، ... اغمد عني منصلك

تقتل من لا يقتلك

قال شق:

عنيت لك عنيت لك، ... كيما أبيح مقتلك

فاصبر لما قد حم لك

(قالوا) ومن الدليل أن هذين البيتين من أشعار الجن أن أحداً لا يستطيع أن ينشدهما ثلاث مرات متصلة لا يتعتع فيها وهو يستطيع أن ينشد أثقل شعر في الأرض وأشقه عشر مرات ولا يتعتع.

(قالوا) وقتلت مرداس بن أبي عامر أبا عباس بن مرداس_وقتلت الغريض خنقاً بعد أن غنى بالغناء الذي كانوا نهوه عنه_وقتلت الجن سعد بن عبادة بن ديلم وسمعوا الهاتف يقول: نحن قتلنا سيد الخز ... رج سعد بن عباده

ورميناه بسهمين ... فلم نخط فؤَاده

من استهووه ومنهم خرافة

(قالوا) استهووا سنان بن أبي حارثة ليستفحلوه فمات فيهم واستهووا طالب بن أبي طالب فلم يوجد له أثر إلى يومنا هذا_واستهووا عمرو ابن عدي اللخمي الملك الذي يقال فيه شب عمرو عن الطوق ثم ردوه عَلَى جذيمة الأبرش بعد سنين_واستهووا عمارة بن المغيرة ونفخوا في إحليله فصار مع الوحش.

ويروون عن عبد الله بن قتادة يرفعه قال: خرافة رجل من عذرة استهوته الشياطين.

ورووا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سأل المفقود الذي استهوته الجن ما كان طعامهم قال: الروث: قال فما كان شرابهم قال البول.

توصيفهم رجل الغول وعين الشيطان

العامة تزعم أن الغول يتصور في أحسن الصورة إلا أنه لا بد أن تكون رجلها رجل حمار، وخبروا عن الخليل بن أحمد أن أعرابياً أنشده:

وحافر العير في ساق خدلجة، ... وجفن عين خلاف الأنس في الطول

وذكروا أن العامة تزعم أن شق عين الشيطان بالطول: قال الجاحظ: وما أظنهم أخذوا هذين المعنيين إلا عن الأعراب.

مزاعمهم في أرض وبار وبلاد الحوش

تزعم الأعراب أن الله تعالى عندما أهلك الأمة التي كانت تسمى وبار كما أهلك طمساً وجديساً وعملاقاً وثموداً وعاداً أن الجن سكنت في منازلهم وحمتها من كل من أرادها وأنها أخصب بلاد الله وأكثرها شجراً وأكثرها حباً وعنباً وأكثرها نخلاً وموزاً فإن دنا إنسان من تلك البلاد متعمداً أو غالظاً حثوا في وجهه التراب فإن أبى الرجوع خيلوه وربما قتلوه.

(قال الجاحظ) والموضع نفسه باطل فإن قيل لهم دلونا عَلَى جهته وأوقفونا عَلَى حده وخلاكم ذم زعموا أن من أراده ألقى عَلَى قلبه الصرفة حتى كأنهم أصحاب موسى في التيه وقال الشاعر:

وداع دعا والليل مرخ سدوله ... رجاء القرى يا مسلم بن حمار دعا جعلاً لا يهتدي لمقيله ... من اللؤم حتى يهتدي لوبار

فهذا الشاعر الأعرابي جعل أرض وبار مثلاً في الضلال، والأعراب يتحدثون عنها كما يتحدثون عما يجدونه بالدو والصان والدهناء ورمل يبرين وما أكثر ما يذكرون أرض وبار في الشعر عَلَى معنى هذا الشاعر (قالوا) فليس اليوم في تلك البلاد إلا الجن والإبل الحوشية والحوش من الإبل عندهم هي التي قد ضربت فيها فحول إبل الجن فالحوشية من نسل ابن الجن والعبدية والمهرية والعسجدية والعمانية قد ضربت فيها الحوش وقال رؤبة:

حوت رجال من بلاد الحوش

وقال ابن هرمة:

كأني عَلَى حوشية أو نعامة ... لها نسب في الطير وهو ظليم

وإنما سموا صاحبة يزيد بن الطثرية حوشية عَلَى هذا المعنى، وقال بعض أصحاب التفسير في قوله تعالى وإنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقاً إن جماعة من العرب كانوا إذ صاروا في تيه من الأرض وتوسطوا بلاد الحوش خافوا عبث الجنان والسعالي والغيلان والشياطين فيقوم أحدهم فيرفع صوته إنا عائذون بسيد هذا الوادي فلا يؤذيهم أحد وتصير لهم بذلك خفارة.

يوجد نقص فقرة مزاعمهم في الصرع وفقرة مزاعمهم في الطاعون

ما يزعمونه في تمثيلهم وتصويرهم

قال الجاحظ: تزعم العامة أن الله تعالى ملك الجن والشياطين والعمار والغيلان أن يتحولوا في أي صورة شاؤوا إلا الغول فإنها تتحول في جميع صورة المرأة ولباسها إلا رجليها فلا بد أن يكونا رجلي حمار.

وإنما قاسوا تصور الجن عَلَى تصور جبريل عليه السلام في صورة دحية ابن خليفة الكلبي_وعلى تصور الملائكة الذين أتوا مريم وإبراهيم ولوطاً وداود في صورة المؤمنين_وعلى ما جاء في الأثر من تصور إبليس في صورة سرافة بن مالك_وعلى تصوره في صورة الشيخ النجدي.

(قالوا) فإذا استقام أن تختلف صورهم وأخلاط أبدانهم وتتفق عقولهم ونياتهم واستطاعتهم جاز أيضاً أن يكون إبليس لعنة الله عليه والشيطان والغول أن يتبدلوا في الصور من غير أن يتبدلوا في العقل والبيان والاستطاعة اهـ.

ونقل الحافظ أحمد بن حجر في فتح الباري عن البيهقي في مناقب الشافعي بإسناده عن الربيع قال سمعت الشافعي يقول: من زعم أنه يرى الجن أبطلنا شهادته إلا أن يكون نبياً اهـ.

(قال ابن حجر) وهذا محمول عَلَى من يدعي رؤيتهم عَلَى صورهم التي خلقوا عليها وأما من ادعى أنه يرى شيئاً منهم بعد أن يتطور عَلَى صور شتى من الحيوان فلا يقدح فيه وقد تواردت الأخبار بتطورهم في الصور، (قال) واختلف أهل الكلام فقي ذلك فقيل هو تخييل فقط ولا ينتقل أحد عن صورته الأصلية وقيل بل ينتقلون لكن لا باقتدارهم عَلَى ذلك بل بضرب من الفعل إذ فعله انتقل كالسحر (أي الشعبذة) (قال) وهذا قد يرجع إلى الأول اهـ وسيأتي تحقيق تمثلهم في أول مباحث الخاتمة.

رأيهم في قرناء الشعراء الفحول

قال الجاحظ: يزعمون أن مع كل فحل من الشعراء شيطاناً يقول ذلك الفحل عَلَى لسانه العشر ويقولون اسم شيطان المخبل عمرو واسم شيطان الأعشى مسحل وكذلك أيضاً اسم شيطان الفرزدق عمرو وقد ذكر الأعشى مسحلاً حين هجاه جهنام فقال:

دعوت خليلي مسحلاً ودعوا له ... بجهنام يدعى للهجين المذمم

وذكره الأعشى فقال:

حباني أخي الجني نفسي فداؤه ... بأقبح جياش العشيات مرحم

وقال أعشى سليم:

وما كان جني الفرزدق أسوة ... وما كان فيهم مثل فحل المخبل

وما في الخوافي مثل عمرو وشيخه ... ولا بعد عمرو شاعر مثل مسجل

وقال الفرزدق في مديح أسد بن عبد الله:

لتبلغن أبا الأشبال مدحتنا ... من كان بالغور أو طودي خراسانا

كأنها الذهب العقيان حبرها ... لسان اشعر خلق الله شيطانا

وقال:

فلو كنت عندي يوم قرء عذرتني ... بيوم دهتني جنه وخبائله فمن أجل هذا البيت ومن أجل قول آخر:

إذ ما زاع جارية فلاقى ... خبال الله من أنس وجن

دعاني شقنان إلى خلف بكرة ... فقلت اتركني فالتفرد أحمد

أي أحمد لي في الشعر من أن يكون لي عليه من معين فقال أعشى سليم يرد عليه:

إذا ألف الجني قرداً مشنفاً ... فقولوا لخنزير الجزيرة أبشر

فجزع بشار عند ذلك جزعاً شديداً لأنه كان يعلم مع تغزله أن وجهه وجه قرد وكان أول ما عرف من جزعه من ذكر القرد الذي رأوا منه حتى أنشد قول حماد عجرد:

ويا أقبح من قرد ... إذا ما عمي القرد

وفي أن مع كل شاعر شيطاناً يقال معه قول أبي النجم:

إني وكل شاعر من البشر ... شيطانه أنثى وشيطاني ذكر

وقال آخر:

إني وإن كنت صغير السن ... وكان في العين نبوٌّ عني

فإن شيطاني كبير الجن

وأما قول عمرو بن كلثوم:

وقد هرب كلاب الجن منا ... وشذبنا قتادة من يلينا

فإنهم يزعمون أن كلاب الجن هم الشعراء. ومما دل عَلَى أنهم يقولون أن مع كل شاعر شيطاناً قول شاعرهم:

إذا ما ترعرع فينا الغلا ... م فليس يقال له من هوه

إذا لم يسد قبل شد الإزا ... ر فذلك فينا الذي لا هواه

ولي صاحب من بني الشيبا ... ن فطوراً أقول وطوراً هوه

وشيصبان وشنقان رئيسان من آباء القبائل في زعمهم وقد ذكرهما أبو النجم.

خيالهم في جن الشام والهند

قال الجاحظ: وأصحاب الرقي والأخذ والعزائم والسحر والشعبذة يزعمون أن العدد والقوة في الجن والشياطين لنزالة الشام والهند وإن عظيم شياطين الهند يقال له (سكويرك) وعظيم شياطين الشام يقال له در كاراب وقد ذكرهما أبو إسحاق في هجائه محمد ابن بشير حين ادعى هذه الصناعة فقال:

قد لعمري جمعت من أصعياب ... ثم من شعر آدم والخراب

وتفردت بالطوالق والهيكل ... والدهتمات من كل باب

وعلمت الأسماء كي ما تلاقي ... زحلاً والمريخ فوق السحاب

واستثرت الأرواح بالبحر يأتين لصرح الصحيح بعد المصاب

جامعاً من لطائف الدهمسيا ... ت كنوساً نعتها في كتاب

ثم أحكمت متقن الكرويا ... ت وفعل الناريس والنجاب

ثم لم تفتك السعاية والخد ... مة والاحتفاءُ بالطلاب

بالخواتيم والمناديل والسعي ... بسكويرك ودركاراب

توهمهم ملامح الجن في الأنس

قال القعقعاع بن زرارة في ابنه عوف ابن القعقعاع: والله لما أرى في عوف من شمائل الجن أكثر مما أرى من شمائل الأنس: وقال بجير بن أيوب:

أخو قفرات حالف الجن وانتفى ... من الأنس حتى تقضت وسائله

له نسب الأنسي يعرف نجله ... وللجن منه خلقه وشمائله

وقال الآخر:

وصار خليل الغول يعد عداوة ... صفياً وربته القفار البسابس

فليس بجني يعرف نجله ... ولا هو أنس تحتويه المجالس

يظل ولا يبدي لشيء نهاره ... ولكنه ينتاع والليل دامس

قولهم في جنون الجن وصرع الشيطان

أنشد أعرابي:

فما يعجب الجنان منك عدمتهم ... وفي الأسد أفراس لهم ونجائب

أتسرج يربوعاً وتلجم قنفذاً ... لقد أعوزتهم ما علمت المراكب

فإن كانت الجنان جنت فبالحرى ... ولا ذنب للأقدار والله غالب

وما الناس إلا خادع ومخدع ... وصاحب إسهاب وآخر كاذب

وقال دعلج بن الحكم وكيف يفيق الدهر كعب بن ناشب ... وشيطانه عند الأهلة يصرع

وأنشد عبد الرحمن بن منصور الأسدي:

جنونك مجنون ولست بواجد ... طبيباً يداوي من جنون جنون

وأنشد:

أتوني بمجنون يسيل لعابه ... وما صاحبي إلا الصحيح المسلم

وقال ابن ميادة:

فلما أتاني ما تقول محارب ... تغنت شياطين وجن جنونها

وحكت لها مما أقول قصائداً ... ترامت بها صهب المهاري وجونها

وقال في التمثيل:

إن شرخ الشباب والشعر الأسو ... د ما لم يعاض كان جنونا

وقال الآخر:

جادت بها عند الغداة يمينه ... كلتا يدي عمرو والغداة يمين

ما إن يجود بمثلها في مثله ... إلا كريم الخيم أو مجنون

وقال الجمحي:

ولو أنني لم أنل منكم معاقبة ... إلا السنان بذات الموت مطعون

أو لا خطبت فإني قد هممت به ... بالسيف إن خطيب السيف مجنون

وانشد:

هم أحموا حمى الرقبى بضرب ... يؤلف بين أشتات المنون

فنكب عنهم درء الأعادي ... وداووا بالجنون من الجنون

ما يحكونه من نيران السعالي والجن

أنشد أبو زيد لسهم بن الحارث:

ونار قد حضأت بعيد هدء ... بدار لا أريد بها مقام

سوى تحليل راحة وعين ... أكالتها مخافة أن تنام

أتوا ناري فقلت منون أنتم ... فقالوا الجن قد عموا ظلاما

فقلت إلى الطعام فقال منهم ... زعيم نحسد الإنس الطعاما قال الجاحظ: وهذا غلط وليس من هذا الباب بل الذي يقع ههنا قول أبي المطراب عبيد بن أيوب:

فلله در الغول أي رفيقة ... لصاحب قفر خائف متنفر

أرنت بلحن بعد لحن وأوقدت ... حواليَّ نيران تبوخ وتزهر

فلسفة ما تزعمه الأعراب من عزيف الجنان وتغول الغيلان

قال الجاحظ رحمه الله: كان أبو إسحق يقول في الذي تذكر الأعراب من عزيف الجنان وتغول الغيلان أصل هذا المر وابتداؤه أن القوم لما نزلوا ببلاد الوحش عملت فيهم الوحشة، ومن انفرد وطال مقامه في البلاد والخلاء والبعد من الأنس استوحش ولاسيما مع قلة الاشتغال والمذاكرين والوحدة، لا تقطع أيامهم إلا بالمنى أو بالتفكير، والفكر ربما كان من أسباب الوسوسة وقد ابتلي بذلك غير حاسب كابي ياسر ومثنى ولد الفنافر (قال) وخبرني الأعمش أنه فكر في مسألة فأنكر أهله عقله حتى حموه وداووه، وقد عرض ذلك لكثير من الهند وإذا استوحش الإنسان مثل له الشيء الصغير في صورة الكبير وارتاب وتفرق ذهنه وانتقضت أخلاطه فيرى ما لا يرى ويسمع ما لا يسمع ويتوهم عَلَى الشيء الصغير الحقير أنه عظيم جليل ثم جعلوا ما تصور لهم من ذلك شعراً يناشدوه وأحاديث يتوارثونها فازدادوا بذلك إيماناً ونشأ عليه الناشئ وربي فيه الطفل فصار أحدهم حين يتوسط الفيافي وتشتمل عليه الغيطان في الليالي الحنادس، فعند أو وحشة أو فزعة وعند صياح بوم ومجاوبة صدا وقد رأى كل باطل وتوهم كل زور وربما كان في الجنس واصل الطبيعة تفاحاً كاذباً وصاحب تشنيع وتهويل فيقول في ذلك من الشعر عَلَى حسب هذه الصفة فعند ذلك يقول رأيت الغيلان وكلمت السعلاة ثم يتجاوز ذلك إلى أن يقول قتلتها ثم يتجاوز ذلك إلى أن يقول رافقتها ثم يتجاوز ذلك إلى أن يقول تزوجتها قال عبيد بن أيوب:

فلله در الغول أي رفيقة ... لصاحب قفر خائف متنفر

وقال:

أهذا رفيق الغول والذئب والذي ... يهيم بربات الحجال الهواكل

وقال آخر:

أخو قفرات حالف الجن وانتفى ... من النس حتى قد تقضت وسائله له نسب الأنسي يعرف نجله ... وللجن منه خلقه وشمائله

ومما زادهم في هذا الباب وأغراهم به ومد لهم فيه أنه ليس يلقون بهذه الشعار وبهذه الأخبار إلا أعرابياً مثلهم والأغبياء لم يأخذ نفسه قط لتمييز ما يوجب التكذيب والتصديق أو الشك ولم يسلك سبيل التوقف والتثبت في هذه الأجناس قط_وأما أن يلقوا رواية شعر أو صاحب خبر فالرواية عندهم كلما كان الأعرابي أكذب في شعره كان أظرف عندهم وصارت روايته أغلب ومضاحيك حديثه أكثر فلذلك صار بعضهم يدعي رؤية الغول أو قتلها أو مرافقتها أو تزويجها، وآخر يزعم أنه رافق في مغارة نمراً فكان يطاعمه ويؤاكله فمن هؤلاء خاصة القتال الكلابي فإنه الذي يقول:

أيرسل مروان الأمير رسالة ... لآتيه إني إذاً لمضلل

وما بي عصيان ولا بعد منهل ... ولكنني من خوف مروان أوجل

وفي ساحة العنقاء أو في عماية ... أو الأود ما من رهبة الموت موئل

ولي صاحب في الغار هدك صاحباً ... هو الجون إلا أنه لا يعلل

إذا ما التقينا كان جل حديثنا ... صماتاً وطرف كالمعابل أكحل

تضنت الأروى لنا بطعامنا ... كلانا له منها نصيب ومأكل

فأغلبه في صنعة الزاد أنني ... أميط الأذى عنه ولا يتأمل

وكانت لنا طب بأرض مضلة ... شريعتنا لأي من جاء أول

كلانا عدو لو يرى في عدوه ... محزاً وكل في العداوة محمل

وأنشد الأصمعي:

ظللنا معاً جارين نحترس الثأي ... يشاربني من فضلتي وأشاربه

ذكر سبعاً ورجلاً قد توافقا كل واحد منهما يدع فضلاً من سؤره ليشرب صاحبه، والثأي الفساد، وخبر إن كل واحد منهما يحترس من صاحبه.

فأما من جميع ما ذكرناه عنهم فإنما يخبرون عنه من جهة المعاينة والتحقيق وغنما المثل في هذا مثل قوله:

قد كان شيطانك من خطابها ... وكان شيطاني من طلابها

حيناً فلما اعتركا ألوى بها والإنسان يجوع فيسمع في أذنه كالدوي وقال الشاعر:

دوي الفيافي رابه فكأنه ... أميم وساري الليل للضوء يعود

يعود أي يضجر، وربما قال الغلام لمولاه دعوتني فيقول لا وإنما اعترى مسامعه ذلك لعرض لا أنه سمع صوتاً.

ومن هذا الباب قول تأبط شراً أو قول القائل في كلمة له:

يظل بموماة ويمسي بقفرة ... جحيشاً ويعروري ظهور المهالك

ويسبق وفد الريح من حيث ينتحي ... بمنخرق من شده المتدارك

إذا خاط عينيه كرى النوم لم يزل ... له كانئٌ من قلب شبحان فاتك

ويجعل عينيه ربيئة قلبه ... إلى سلة من حد أخضر باتك

إذا هزه في عظم قرن تذللت ... نواجذ أفواه المنايا الضواحك

يرى الأنس وحشي الفلاة ويهتدي ... بحيث اهتدت أم النجوم الشوابك

(قال الجاحظ): ويدل عَلَى ما قال أبو إسحق من نزولهم في بلاد الوحش وبين الحشرات والسابع ما رواه لنا أبو مسهر عن أعرابي من بني تمتم نزل ناحية الشام فكان لا يعدمه في كل ليلة أن يعضه أو يعض ولده أو بعض حاشيته سبع من السباع أو دابة من دواب الأرض فقال:

تعاورني دين وذلك وغربة ... ومزق جلدي ناب سبع ومخلب

وفي الأرض أحناش وسبع وحارب ... ونحن أسارى وسطها نتقلب

ثم عد في قصيدته ما ينيف عن الثلاثين صنفاً ما بين حيوان وحشرات.

يتبع

جمال الدين القاسمي.