مجلة المقتبس/العدد 47/المرأة
مجلة المقتبس/العدد 47/المرأة
(علمها علماً صحيحاً أو دعها عَلَى سذاجتها)
لأن تبقى المرأَة جاهلة خير من أن تتعلم تعلماً ناقصاً. أو تتربى تربية تافهة.
المرأَة التي تظل محافظة عَلَى سذاجتها الأولى: فلم تتلق شيئاً من مبادئِ العلوم والفنون. ولم تمارس القراءة والكتابة قد يتيسر لنا أن نقنعها بأنها جاهلة. ثم نوصيها بلزوم الرجوع في تربية طفلها إلى رأْي من هو أعرف منها بشؤون التربية.
ومثل تربية طفلها تدبير منزلها وإدارة أحوالها ورؤية مصالحها: نحسن لها في جميع ذلك أن تعتمد عَلَى مشورة زوجها والخبيرين من ذوي قرابتها. أما تلك التي تعلمت تعلماً ناقصاً ورأى أولياؤها أن لا يعطوها من مباديءِ العلم سوى قراءة القرآن. وكتابة (أبجد هوز) و (جناب الأكرم) حاسبين أن ذلك القدر أليق بها وأحوط في سلامة دينها وآدابها ـ هذه المرأة تصبح بهذا التعلم الخداج ذات عجب وعناد ولجاج. فلا تعود تصغي لمشورة من هو أعلم منها. ولا تقف في إفساد ابنها وتدبير منزلها عند حد!
تسيء الظن بزوجها فتغل يده عن استثمار مالها والإنفاق عَلَى أطيانها لتحسينها وتنميتها. تدير شؤون المنزل عَلَى غير ما تقتضيه قواعد الاقتصاد وأصول الصحة ووسائل التطهير والنظافة. تحاول تربية أولادها فتخل بقوانين التربية وتفتات عَلَى المربي الخبير اعتداداً بكفاءتها وإن معرفتها لقراءة القرآن جعلتها أهلاً لكل شيء، وعالمة بكل شيء، وخبيرة بكل شيء أيضاً.
تريد أن تلقن ابنها المراهق شيئاً من مباديء الأخلاق والآداب فتحكي له قصص العفاريت والأساطير المكذوبة أو تملي عليه أبيات عُشق وغرام كانت سمعتها من بعض أترابها في كتاب سخيف ركيك وضعه واضعه لتعليم الأحداث صناعة الترسل والإنشاء ها هي واقفة في رأس السلم تقول لابنها وهو ذاهب إلى المدرسة. حرطتك بكلمات الله التامة. سلمتك إلى واحد أحد. امسك يا بني بالدرابزين جيداً لئلا تزلق رجلك.
خرج الولد من باب الدار فإذا أمه تهتف به من النافذة وتوصيه بالابتعاد عن شاطيء البحر لئلا يفرق. وعن الكلاب لئلا تزعجه أو تعضه. وعن الحفر لئلا يقع فيها. ثم تلح عليه أن يشد المنديل عَلَى عنقه خوف لذع البرد وأن يطبق المظلة عَلَى رأَسه خشبة أذى الح رجعت الأم بعد هذه الوصاية المتكررة إلى غرفتها. أرادت الإدلال عَلَى زوجها والتباهي عَلَى جارتها فرفعت صوتها بتلاوة القرآن تارة ودلائل الخيرات تارة أخرى أواني المطبخ لم تزل من دون تنظيف. أرض الدواليب لم تزل من دون مسح. طعام الغداء لم يزل الزوج يجهل أمره. ويتساءل ماذا عساه يكون؟ وضيوفه كرام يجب أن يتجمل أمامهم ويكافئهم عَلَى أياد لهم عليه. الطفل الصغير غلبه النوم في إحدى زوايا تلك الدار والذباب يتطاير من فوقه. والروائح الخبيثة تنبعث من تحته.
رأى الرجل الحالة عَلَى ما وصفنا فنادى امرأَته ورغب إليها أن تنهض لمراقبة أمور البيت وتهيئة الطعام.
تغافلت المرأَة عن زوجها. أو أن دوي صوتها بقراءة دلائل الخيرات حال بينهما وبين سماع النداءِ!
هتف بها ثانية فردت عليه بخشونة. وجعلت تؤنبه عَلَى اساءته الأدب مع مؤلف دلائل الخيرات وأنها تخشى عليه أن يبطش به!!
ضاق صدر الرجل فكاد يتفوه بما لا يليق في حق أهل الله ثم سكت عَلَى مضض ولا نعلم ماذا جرى بين الرجل وامرأَته. ولا كيف كان أمر الغداء. ولكن نذهَب مع القاريء إلى تلك المرأَة التي عرف أولياؤُها كيف يعلمونها وكيف يجعلونها تستفيد من الذي تلتقه.
تزوجت فيا سعد زوجها بها. رزقت أولاداً فيا لسعادة أولادها من أجلها.
تعلمت القراءة والكتابة ولكن لم تتعلمهما لذاتهما وإنما تتعلمهما لكي تتوصل بهما إلى درس حقائق أعلى وتحصيل فوائد أغلى.
قرأت القرآن بإمعان وتفهم: فكانت تتناول بعض الآيات وتشرح معناها لأولادها شرحاً مفيداً غاية في السهولة والتقريب، غرست في نفوس أولادها عظمة الله تعالى ووجوب خشيته واستمداد المعونة والتوفيق منه.
وكثيراً ما أَسمعتهم الآيات التي تحض عَلَى ممارسة الخير والفضيلة. وتطلب منهم أَن يستظهروا أَلفاظها ويتفطنوا لمعانيها.
ولم نكتف من العلم بهذا القدر فقط بل رأت (من الواجبات) عليها باعتبارها ربة منزل أَن يكون لها إِلمام ومشاركة بفن الهيجين (حفظ الصحة) ثم لاحظت أَنها لا تقدر عَلَى تربية أولادها تربية صحيحة ما لم تدرس فن الأخلاق وعلم النفس ومعرفة.
قالت: إنما أَكون سعيدة إذا كان زوجي وأولادي أصحاء الأجسام ولا تدوم الصحة لهم ما لم أَكن عارفة بالأصول والقوانين التي قررها العلماء في حفظ الصحة.
ثم ماذا تكون فائدة الصحة إذا لم يقترن بها أَخلاق حسنة وتربية فاضلة؟ فمن ثم كان الواجب عليّ أن أجمع بين درس الفنيين فن الصحة وفن التربية.
كانت تختلس فرصاً من وقتها ثم تقبل عَلَى مطالعة الكتب التي وضعت في هذين الفنين الجليلين. وكثيراً ما كان يستعصي عليها فهم بعض المسائل فتستأْذن زوجها أَن تكتب لبعض الأخصائيين في هذين الفنين. فكان يأْذن لها منشرح الصدر هاديء البال.
قالت إذا كان الحجاب يحول بيني وبين التردد على أَفاضل العلماء في منازلهم فها أنا ذا بحمد الله أَستطيع الكتابة إليهم بعبارة فصيحة فلا أَدع الحجاب يحجبني عن القيام بالفريضة الدينية وهي (طلب العلم).
وقد كتبت مرة إلى بعض نطس الأطباء تسأله رأْيه في مهد طفلها عل تتخذه مما يهزُّ باليد هزاً أَو يكون ثابتاً يتحرك فكتب إليها يقول: (الأفضل أَن يكون المهد ثابتاً لأنو الولد إِذا اعتاد الترجح في الأرجوحة اضطرب نومه. وغلب عليه القلق والأرق أو تبقى يد الأم قابضة عَلَى دفة السرير طول الليل وهذا مما يذهب براحتها ويحرمها طيب المنام. وإذا أرادت الأم أن تستزيد من الراحة لها ولطفلها فلا تستعمل عادة التقميط فتشد إلى أعضاء الطفل وتجعله كطرد) البوسطة (أو كالمومياء المصرية. وشد الطفل عَلَى هذه الصورة يضايقه ويضطره إلى البكاء ومتابعةِ الشكوى من هذا الظلم الفادح. ولكن الأم الجاهلة لا تنتبه لسبب بكائه فتحسبه إنما يبكي فجوراً منه أو نكاية بها فتأخذ في هز المهد والتسخط عليه وعلى القدر طول الليل أه.
ومما رأت هذه الأم الفاضلة أنها في حاجة إلى تعلمه ـ مباديءُ الكيمياء ودرس طباع المعادن وخواص الأجسام فتعرف الضار منها من غير الضار والسام من غير السام. وبعد خمس عشرة سنة من زواجها صار لها بضعة أولاد فكانت بعد رجوعهم من المدرسة تكثر من مفاكهتهم ومداعبتهم ثم في غضون ذلك تودع نفوسهم مسائل العلم واحدة فواحدة.
ولا أنسى إذ كانوا مرة في صحن الدار وكانت الحاجة (طباختهم) قد ذهبت إلى بيت الجيران في بعض شأْنها.
فنادت الأم أولادها قائلة ذهبت (الحاجة) وسوف تمكث عند الجيران أكثر من ساعة إذ أننا نعرفها تكثر الحديث وتحسن الأقاصيص فلنغتنم فرصة غيابها أيها الأولاد ولننزل إلى المطبخ ونشاهد ما فيه من الأواني والأدوات المختلفة. أظنكم أيها الصغار لا تعرفون أنواع المعادن. وأن في المطبخ من المعادن مجموعة نفيسة: هلموا معي إليها ـ فتراكض الأولاد وراء أمهم مسرعين.
آه ما أحسن تصفيف هذه الأواني وما أشد ما اعتنت الحاجة بتنظيفها. شكراً لك أيتها العجوز.
انظروا هذه المقالي والقدور الصغيرة فهي من النحاس. والنحاس معدن نافع جداً يستخرج من جوف الأرض والذي يصنع منه الأواني يسمى نحاساً. وهذا النحاس يتوصل إلى صنع القدور النحاسيةِ بوضعها على السندان وضربها بالمطرقة الضخمة ثم التفتت إلى ابنها الصغير (وهبي) وقالت هل تعرف يا وهبي ما هو السندان وما هي المطرقة؟ قال نعم يا أماه كنت أريتنيهما في حانوت الحداد القريب من دارنا.
انظروا هذه القدر التي وضعتها (الحاجة) في ناحية بعيدة عن سائر القدور.
أتعرف السبب في ترك استعمالها؟
كلا يا أماه!
ألستم ترونها كامدة اللون؟
بلى يا أماه.
احترزوا أيها الأولاد من أن تضعوا شيئاً من هذه المادة الخضراء في أفواهكم: هذه البقع يسمونها (الزنجار) وهو أحد السموم القتالة لننظر الآن في القدور الأخرى النظيفة التي نطبخ فيها.
داخلها لامع نظيف. وهو مغطى بطبقة رقيقة من معدن أبيض وهذا المعدن يسمى (قصديراً) وليس القصدير كالنحاس في تولد سم الزنجار عليه ولذلك يطلعون به النحاس إذا طليا النحاس بطبقة رقيقة من القصدير قيل أنه (مبيض) أما إذا مزجنا النحاس والقصدير معاً بعد صهرهم كان لنا منهما معدن يسمى (برنزاً). والفتت إلى ابنها (حسني) وسألته هل تعرف معنى الصهر؟ قال لا. قالت الصهر تذويب المعادن وجعلها بحالة السيلان. ثم قالت لهم هو ذا شمعدان من معدن البرونز. والجرس الصغير المعلق على باب الدار يعلن مجيء القادمين من وقت إلى آخر هو من البرنز وأجراس الكنائس التي تسمعون أَصواتها متخذة من البرنز أيضاً. وكانوا قديماً يصنعون المدافع من البرنز وبقوا عَلَى ذلك زمناً.
وكان الشر في أول أمرهم يستخدمون شظايا الأحجار (أي قطع) في ضروب مرافقهم فكانوا يتخذون منها سكاكين وفؤوساً ويسمى ذلك العصر بالعصر الحجري. ثم اهتدوا إلى النحاس ومزجوه بالقصدير فحصلوا عَلَى معدن البرنز ومن هذا البرنز كانوا يصطنعون أسلحتهم وأدواتهم وما زالوا عَلَى استعماله حتى عرفوا الحديد في العصور الثالثة ويسمى هذا الطور الثالث للبشر (العصر الحديدي).
والحديد أنفع المعادن قال تعالى (وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس). فاعترض (حسني) والدته وكان أكبر أخوانه قائلاً: يا أماه وهل نزل الحديد من السماءِ؟ قالت كلا وإنما خرج من الأرض قال فكيف يقول الله تعالى (وأنزلنا) قالت أن معنى (أنزلنا) هنا وهبنا ومنحنا.
ثم قالت لهم: ليس الحديد جميل المنظر ولا هو بذي لمعان وبريق كغيره من المعادن ولكن مع هذا لا ينبغي لكم أن تحكموا عَلَى الشيء بمجرد النظر إلى هيئته الظاهرة. فإن للحديد مزايا لا توجد في سواه. أعظم تلك المزايا صلابته ومقاومته للضغط الشديد الذي يقع عليه. وهذا الموقد من الحديد. ويستخرج الحديد من الأرض ممزوجاً بشوائب أخر فيصهرونه بواسطة موقد كبير حتى يمحصوه من تلك الشوائب. ويسمى الحديد بعد هذا التمحيص (حديد الصلب) وهذه القدر الصغيرة من ذلك الحديد. وإذا طلينا الحديد بالقصدير خرج لنا معدن هو (الصفيح) وهذه الآنية الصغيرة التي نسوي فيها القهوة من الصفيح. وإذا أضيف إلى الحديد مقدار قليل من الكربون ازداد صلابة وسمي حينئذ (فولاذاً) وهذه السكين التي ترونها عَلَى (الترابيزة) متخذة من الفولاذ.
لنفتح الآن درج) الترابيزة). (هذه ملاعق من القصدير الممزوج بمعدن آخر لين ثقيل هو الرصاص).
ثم قالت لهم مشيرة إلى الجدار: انظروا إلى المرآة. المرآة نديم المرأَة ومن عجيب أخلاق النساء أنهن يحرصن عَلَى اصطحاب هذه الأداة حتى في المطبخ!
هذه الطبقة اللامعة التي تغطي سطح زجاج المرآة من وراء والتي بسببها تنعكس صوركم إلى عيونكم ـ هي مزيج من القصدير والزئبقِ.
والزئبق معدن أبيض لونه كلون الفضة وإذا كانت حرارة الهواء اعتيادية كان الزئبق في حالة ميوعة. حتى إذا أردت القبض عليه بيديك فر وتفلت من بين أصابعك. ومن أجل ذلك كنى عنه غواة الكيمياء القديمة بالعبد الفرار. واشدوا في بعض منظوماتهم:
خذ الفرار والطلقا ... وشيئاً يشبه البرقا
فإن أحكمته سحقا ... ملكت الغرب والشرقا
ومعدن الزئبق يذكرنا بالفضة. انظروا أدوات الفضة. ها هي منضودة بعضها فوق بعض في الخزانة. انظروا الملاعق والشوك ما أشد لمعانها وما أكثر بريقها. والفضة من المعادن الثمينة. وهو قلما يتغير لونه مهما تعرض للهواءِ وهناك معدن آخر أثبت منه وأقل تغيراً. هو معدن الذهب. انظروا إلى خاتمي هذا: فهو من الذهب. ولست في حاجة إلى جلائه أو تنظيفه. فإذا ضفتم إلى هذه المزية مزية لمعانه الجميل ومزية ندرة وجوده عرفتم إذ ذاك مبلغ نفاسته وفضله على سائر المعادن. والنقود ذات القيمة العالية تتخذ من الذهب لكنهم يضيفون إليها قليلاً من معدن النحاس ليكسبها فضل صلابة. هلموا بنا أيها الأولاد تضع كل شيءٍ في محله ونرتب الأدوات الفضية كما كانت أولاً ولنعد النظام إلى هذه المملكة فإن المطبخ هو مملكة (الحاجة) التي لها فيها مطلق التصرف.
كيف أيها الأولاد أما جعتم؟ إن هذه الروائح الطيبة المنتشرة فوق القدور تبشرنا بغذاء شهي لذيذ. ها هو اللحم ينضج. وإني أقول لو كانت طباختنا (الحاجة) هي وقدورها في بلاد (الإسكيمو) لكان لها شأْن بذكر.
قالوا ولماذا يا أماه!
قالت الإسكيمو سكان الشمال حيث الجليد الدائم وليس لديهم معدن يتخذون منه قدوراً ولا تراب يصنعون منه أواني خزفية. فإن التراب إذا استحكم جفافه أصبح صلداً صبوراً عَلَى احتمال النار. ومن لم يقدر عَلَى اقتناء قدر من نحاس اقناها خزفاً. وإذا فقد النحاس والخزف فكيف يمكنه طبخ طعام! والإسكيمو كيف يصنعون؟ يتخذ الإسكيمو مكان القدور جراباً من جلد وفي هذا الجراب يطبخون ما يقتاتون به من لحم. فصرخ أحد الأولاد: كيف ذلك يا أماه: إنهم إذا أدنوا الجراب من النار احترق وإذا أبعدوه عنها لا يغلي الماء ولا ينضج اللحم.
قالت أمهم نعم. ولكن الإسكيمو اهتدوا إلى طريقة وافية بالغرض. وذلك أنهم يبحثون في شواطيء البحار عن مقادير من الحصى الصغيرة ثم يطرحونها في النار فتحمى حتى تصل إلى درجة الحمرة فيتناولونها إذ ذاك ويضعونها في جراب الجلد حيث يكون اللحم والماء. فلا تلبث الحصى أن تنطفيءَ وتحدث حرارة قليلة في الماءِ. ثم يكررون العمل ويزاولونه المرة بعد المرة وبهذه الصورة تشتد حرارة الماءِ ثم ينضج اللحم.
ولم تصل أم الأولاد في حديثها إلى هذا المكان حتى سمعت صوت الجرس (البرنز) يرن على باب الدار يعلن رجوع (الحاجة) فصرخت لأولادها هلموا بنا قبل أن ترانا فتزعم أننا أفسدنا مملكتها وشوشنا عليها نظامها. فتراكضوا جميعهم من باب المطبخ مسرورين ضاحكين ولأبيهم المقبل مصافحين ومعانقين.
المغربي