مجلة المقتبس/العدد 44/جابلق وجابلص أو جابلقا وجابلصا
مجلة المقتبس/العدد 44/جابلق وجابلص أو جابلقا وجابلصا
كان الإفرنج قبل أن يعنوا بدرس اللغات الشرقية ينسبون أشياء جمة إلى العرب ويقولون عنها أنها خرافات لا نصيب لها من الحقيقة بل ولا أثر لها في عالم الوجود.
ولما أخذوا بالبحث عن تلك الأمور والإيغال فيه ناموا يرجعون شيئاً فشيئاً عما عزوه إليهم تحكماً أو تهكماً وبدأوا ينضمون إليهم مستصو بين أقوالهم. إلا أنه مما يمكن أن يقال في هذا الصدد أن الناطقين بالضاد بالغوا في ذكر بعض الأمور العرضية حتى كاد الجوهر يخرج عن طوقه بما حملوه الوهمية نقلاً عمن ليسوا من فرسان الميدان. ومن هذا القبيل هاتان المدينتان اللتان نريد أن نبحث عنهما في نبذتنا هذه.
أخلاف اللغات فيها
قال في اللسان في مادة جبلق: التهذيب: جابلق وجابلص (أي بفتح البآء الموحدة التحتية وفتح اللام في كليهما على ما ضبطتا كتابة) وأما في القاموس فقد ضبطهما أيضاً بالفتح في جابلق وبالفتح أو بالسكون في جابلص. وذكرها ياقوت في معجمه: جابرس وجابلق أي براء مهملة ساكنة بعد الياء الموَّصلة التحتية. وبلام ساكنة بعد الياء في الثانية ورواها صاحب البرهان القاطع روايات مختلفة الذكر فذكر في 2: 79 ج بلسان في جابلق. ورواهما أيضاً جابرسان وجابرُسا في جابلص. وحكى في شفاءِ الغليل إن المتكلمين يقولون جابلقآء وجبلصآء بالمدّ وخطأهم. وأرردهما الطبري في تاريخه بصور مختلفة أي جابرت وجابرس وهو يريد جابلص وجابلق وجابلقا وهو يرمي إلى جابلق. فهذه اللغات والروايات وإن اختلفت فهي واحدة في المرجع والأصل ثم اختلفت تبعاً لسنة المعرب أو الأعجمي على ما هو مشهور في ما أفرغ في قالب عربي. وتعاور اللام والراء في العربي الفصيح أمر مشهور كالطلمسآء والطرمساء وداهية لبسآءُ وربساء ونافة عبهر وعبهل فكيف في الدخيل. ومثله يقال في تبادل التاء والسين في لغة معروفة في اليمن وهي الوتم. ولا حاجة في التصريح بأن السين والصاد تترادفان في العربية والأمثلة تفوت الحصر (المزهر1: 226 و 227).
أقوال العرب فيها
قال في التهذيب: جابلق وجابلص: مدينتان إحداهما بالمشرق والأخرى بالمغرب لس ورأهما إنسيٌ روي عن الحسن بن علي رضي الله عنهما أنه ذكر حديثاً ذكر فيه هاتين المدينتين. أهـ.
وقال الإمام السهيلي في كتاب المبهم: أظنها مجاورتي ياجوج وماجوج. وقد آمنوا بالنبي ﷺ إذ مرَّ في ليلة الإسراء فدعاهم فآمنوا. أهـ.
وقال الخليل: بلغنا أن معاوية أمر الحسن بن علي أن يخطب الناس. وهو يظن أن الحسن سيحصر لحداثته فيسقط من أعين الناس فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس أنكم لو طلبتم ما بين جابلق وجابلص رجلاً جدُّه ونبيٌّ ما وجدتموه غيري وغير أخي وأن أدري لعله فتنةً لكم ومتاع إلى حين وأشار بيده إلى معاوية. أهـ.
وقد جاء حرف جابلق في شعر أبي الأسود الدؤلي على أنه اسم موضع معروف قد شاهده فقد قال:
تلبس لي يوم التقينا عويمر ... بجابلقٍ في جلد أحنس باسل
فهذا كلام يشعر بأنهما التقيا بجابلق. وهي غير جابلق الواردة في حديث الحسن وهي التي ذكرها أحمد بن يعقوب الهمداني في كتاب الإكليل إذ يقول: في جابلق وجابلص بقايا عاد وثمود الذين آمنوا بهود وصالح.
وقال ياقوت في معجمه في مادة جابرس. مدينة بأقصى المشرق. يقول اليهود إن أولاد موسى عم هربوا أما في حرب طالوت (= شاول) أو في حرب بخت نصر فسيرهم الله وأنزلهم بهذا الموضع فلا يصل إليهم أحد وأنهم بقايا المسلمين. وإن الأرض طويت لهم وجعل الليل والنهار عليهم سواءً حتى انتهوا إلى جابرس فهم سكانها ولا يحصي عددهم إلا الله فإذا قصدهم أحد من اليهود قتلوه وقالوا: لم تصل إلينا حتى أفسدت سنتك فيستحلون دمه بذلك. وذكر غير اليهود أنهم بقايا المؤمنين من ثمود وبجابلق بقايا المؤمنين من ولد عاد. اهـ. وذكر في جابلق: جابلق بالباءِ الموحدة المفتوحة وسكون اللام. روى أبو روح عن الضحاك عن ابن عباس أن جابلق مدينة بأقصى المغرب وأهلها من ولد عاد وأهل جابرس من ولد ثمود ففي كل واحدة منهما بقايا ولد موسى عليه السلام كل واحدة من الأمتين. أهـ. المقصود من إيراده.
وقال صاحب التاج في مادة ج ب ر س جابرسا آخر بلاد الدنيا (من جهة المغرب) وقال في جبلق: جابلق قد أوضح المولى سعد الدين البلدين وعرَّف بهما وذكر معناهما على الوجه الأكمل في بحث المثال في شرح المقاصد. ذكر ذلك الشهاب في شفاء الغليل. . . . أهـ قلتُ أنا: لم أرَ شيئاً في شفاء الغليل المطبوع في مصر مما ذكره صاحب التاج. نعم إنه تكلم عن البلدين إلا أنه لم ينطق بكلمة بخصوص المولى سعد الدين. فاحفظه. وأما شرح المقاصد لسعد الدين فهو وإن كان يبدي إلا أنه لما كان خالياً من فهرس مرتب يهديني وحياً إلى مطلبي لم أتمكن من العثور على البحث المذكور فرجعت عنه بما رجع به حنين.
وكفانا تتبعاً لأقوال الكتبة إذ اجتزأنا بذكره وفاء بالمقصود لا سيما أن الجميع يكررون أقوال بعضهم عن بعضٍ والنتيجة واحدة. والذي يستخلص مما تقدَّم بعد طرح الزوائد الدخيلة التي جاء بها الإسرائيليون ما يأتي:
جابلص آخر البلاد المعمورة من جهة المغرب على ما كان يظنه أبناء ذلك الزمان وجابلق آخر البلاد من المشرق وجابلق تاور بلاد ياجوج وماجوج. وجابلص في أقصى المغرب وأقصى المغرب كان ينتهي في عرف الأقدمين عند بحر الظلمات في نحو الجزائر الخالدات أو في ما يسامتها. وعليه فيجب علينا أن نبحث عن جابلق أو جابلقا في ما يجاور بلاد ياجوج وماجوج ونبحث عن جابلص في ما ينتهي عند بحر الظلمات. وأول كل شيء نحتاج إليه في البحث عن ضالتنا أن ننظر إلى الكلمة ونتفحصها لنعرف مأتاها. والحال أن العلماء قد أتفقت على أن اللفظة ليست بعربية ورجحوا كونها فارسية. لأنهم يقولون أن الجيم والقاف أو الجيم والصاد لا يجتمعان في لفظة عربية وإذا وجدتا فيهما يدلان على أن الكلمة أعجمية أو فارسية. فإذا تقرر أنها فارسية يتضح لك أن وجود جا في صدر كلا الحرفين يدل على أن اللفظة مركبة وأن جا تعين معنى يصح أن يقع على الكلمتين. وهو أمر لا ريب فيه فإن جا حرف فارسيّ معناه المحل والمكان والمقام. أو كما يقول العرب الدار التي وردت بمعناها الأصلي الحقيقي وبمعنى البلد والمدينة. لأن أول ما تنشأ عليه المدينة تكون داراً ثم تبتنى دور أخرى بجانبها حتى تقوم منها البلد أو المدينة. فقد قالوا دار السلام ودار الإسلام ودار السعادة ودار الحرب إلى آخر ما هناك. وأما بلقا أو بُلقا فيجب أن تكون اسم مدينةٍ في آخر البلاد المعمورة من جهة الشرق مما يجاور بلاد يأجوج ومأجوج وهذا ما يصدق على بلدة بلقا وبالإفرنجة وهو اسم نهر عرفه العرب أيضاً لخروجهم من سقي ذلك النهر. ويشهد على صحة ذلك وجود مدينة هنالك تسمى إلى اليوم بلقاري أو بلغاري وهم يكتبونها بحرف تمييزاً لها عن أو للبلاد المشهورة. واللاحقتان بآخر الكلم تدل على البلاد كما في كما أن جا في رأس الألفاظ تفيد هذا المعنى عند الفرس ومنها جابروان وجابق وجاجرم وجاجن وجاسك وجاكرديزه وجالقان وجاورسان إلى غير هذه.
وأما جابلص أو جابرسا أو جابلسا أو جابلصا فهي: بلص أو برصا أو بلصا أو بلسا بعد تجريد جا عنها. وإذا فتشنا عن مدينة بهذا الاسم في منتهى المغرب المعروف في ذلك العهد وجدناها باسم بلسا أو بلصا في بلاد لوسينانية أي هي البلدة المعروفة اليوم باسم تافيرة في بلاد البرتقال.
وإذا علمت ذلك ظهر لك أن لا حق للأجانب أن ينسبوا العرب إلى الجهل والقول بالخرافات والله الهادي إلى كل صواب.
بغداد ـ
ساتسنا