مجلة المقتبس/العدد 40/النقل والناقلون
مجلة المقتبس/العدد 40/النقل والناقلون
للتأليف طريقتان طريقة الاعتماد على من سبق لمؤلف ونقل كلامهم ليدعم به قوله ويؤيد رأيه وطريقة إبداء رأي المؤلف مباشرة دون الاستشهاد بأقوال غيره مهما بلغت من المكانة. والطريقة الأولى هي الطريقة العلمية المقنعة التي تبقى على الدهر ويصعب أن يتطرق إليها الخلل إلا إذا ظهرت نصوص كثيرة صحيحة تخالف ما استشهد به الكاتب.
فقد رأى ديكارت الفيلسوف الفرنسوي أن ليس في مذاهب الغير ولاسيما في الفلسفة كبير أمر وأنا الأجدر ولو ببعض أرباب العقول أن يبحثوا عن الحقيقة بما فيها من الأسرار الخاصة دون الاحتفال بالمذاهب الأخرى التي ذهب إليها غيره في هذه المسألة بيد أن بعض إشياع فلسفة ديكارت نفسهم يرون أن هذا البحث على خلوه من فائدة ضار لأنه يسلب من العقل في تقدير الأشياء قدرها.
ويرى الفيلسوف كوزين الفرنسوي غير رأي ديكارت بل أنه غالى في ضرورة درس المذاهب الفلسفية السالفة حتى تدرج إلى أن مزج الفلسفة بتاريخ الفلسفة ومن رأيه ان الطريقة الفلسفية الوحيدة الجديرة بهذا العصر أن يدرس المؤلف المذاهب كلها ويقابل بين المذاهب التي ظهرت إلى اليوم على مشهد العقل البشري من المذاهب المتناقضة.
قم عاد ديكارت أيضاً فقال أن المصنفات التي يصنفها جماعة قد تكون في كمالها دون التي يصنفها فرد واحد وتدرج من ذلك إلى أن قال أن العلوم التي تألفت على التوالي من آراء كثيرين قد يكون حظها من الأخذ بطرف من الحق أقل من العلوم التي هي ثمرة فكر واحد.
ومن العادة عند مؤلفي الغربيين إذا أرادوا الكتابة أن يطالعوا جميع ما يمكنهم مطالعته في الموضوع الذي يريدون الخوض فيه فيطالع الألماني ما كتبه الإفرنسي والإيطالي والروسي والإنكليزي والأميركي وغيره غيرهم لتكون كتابته مؤيدة بالشواهد الصحيحة ولذا قرأ سبنسر فيلسوف الإنكليز في القرن التاسع عشر 173 كتاباً قبل أن يكتب كتابه العدل. وهكذا كل مؤلف في الغرب اليوم.
وبعد فماكل قول ينقل ويستشهد به حجة لتأييد الكلام وإنما ينقل قول يكون قائله قدوة وإلا فما من قول إلا وقد قيل كما قال كثير من الحكماء. وقد نشأ من نقل أقوال كيفما اتفق اختلاف كثير حتى أن الباحث إذا دقق النظر يرى أن تلك الأقوال ترجع إلى قول أو قولين ممن يعتد بهم ولو أمكن لكل مؤلف أن يسلك طريقة الجاحظ في قوله: إنما أحكي لك م كل نحلة قول حذاقهم وذوي أحلامهم لأن فيه دلالة على غيره وغنيّ عما سواه لكان نهج السبيل الأقوم.
ومن نقل كل ما يقال ترى في كتب التاريخ والملل والنحل أقوالاً إذا بحثت عنها لم تجدها إلا عند بعض أدنى العوام فكراً ولو عين المنقول إليه لسقط موقع القول من النفوس لكن بعض الناقلين لقصورهم في النظر ينقلون كل ما يقال بدون تعيين المنقول عنه ولو عينوا المنقول لسقط الإشكال. وكثيراً ما يقصد الحذاق منهم المغالطة ليوهموا الناظر أن في المسألة اختلافاً وهو محل دقيق جداً يغلط فيه التحرير العالم على أن بعضهم يرى أن لا ينقل من قوللا الحذاق إلا قول له موقع في النفس ومن ثم يقول القائل.
وليس كل خلاف جاء معتبراً ... الأخلاف له حظ من النظر
وإن أرباب النقد ليبحثون في كل قول عمن قاله ليعلموا درجة القائل في نفسه ودرجته في اقتداء الناس به وبذلك تظهر له الحقيقة في أجلى مظاهرها وقد قال حجة الإيلام الغزالي قولاً قاله كثير ممن قبله لو سكت من لا يعلم قلَّ الخلاف في العالم.
سألنا ذات يوم أحد العلماء العارفين عن السر في اختلاف المذاهب والمشاعب المنقولة فقال: وربما نجد في كتب الملل والنحل أسماءَ فرق لها أقوال غريبة يصعب عليك بعد التتبع الشديد أن تعرف في أي عصر وجدت وأين وجدت وكيف وجدت وفي أي قطر يوجد منهم أناس وإن زعم الزاعم انقراضها يعسر عليه إثبات زمان انقراضها وأغرب من ذلك صعوبة معرفة ترجمة رجل من حذاقها فذكر فرقة من هذا النوع يعد سخافة من الناقل. والذين لهم كتب في هذا المقام منهم الناقل غير الناقد ومنهم المموه لغلبة الهوى عليه في هذا الباب مثلاً لكفينا المؤنة في ذلك نعم يقال أن الجاحظ قد يسلك طرق التمويه كما سجل عليه ذلك بعض معاصريه من أبناء نحلته كأبي جعفر الإسكافي لكن تمويه الجاحظ تمويه عاقل ذي بصيرة إذا موه يكاد يظهر الحق من خلال تمويهه وقد يصرح بغير ذلك في موضع آخر فالعاقل ذو البصيرة ينتفع بكلامه كيف كان قال ومن يخلط في نقله كالطبيب الذي ينقل كل قول لا يعود أحد يعتدُّ بمنقوله وكذلك النحوي وغيره وهذه القاعدة تكاد تكون عامة لا تتخلف في كل فن فقد نقل ابن أبي الحديد أن الجاحظ ألف كتاباً سماه كتاب العثمانية انتصر فيه للخلفاء الراشدين إلا أنه أظهر فيه ما يشعر بالنصب لما اقتضته طينة البصرة على زعم بعضهم فتصدى له من أبناء نحلته الإمام أبو جعفر الإسكافي فنقض كتابه وأطلق لسانه في الجاحظ إطلاقاً لم يقع نظيره من المضادين للجاحظ في النحلة فمن ذلك قوله: القول ممكن والدعوى سهلة سيما على مثل الجاحظ. . . قوله لغو ومطلبه سجع وكلامه لعب ولهو يقول الشيءَ وخلافه ويحسن القول وضده.
قال قاضي القضاة عبد الجبار في كتاب طبقات المعتزلة نقض الإسكافي كتاب الجاحظ في العثمانية في حياته فدخل الجاحظ الوراقين ببغداد فقال: من هذا الغلام السوادي الذي بلغني أنه تعرض لنقد كتابي وأبو جعفر جالس فاختفى منه حتى لم يره وكان أبو جعفر علوي الرأي محققاً منصفاً قليل العصبية ألف سبعين كتاباً في علم الكلام.
وقصارى القول أنه لا ينقل إلا كلام الثقات والعظماء للاستئناس به وتقوية أواصر الكلام به وقد ينقل كلام بعض الضعفاء لنكتة فيه أو لعبرة تراد منه. والكتابة بدون استشهاد بأقوال الأئمة والعظماء مهما بلغت درجة صاحبها لا يلتفت إليها عند المحققين ولو حوت من اللآليءِ كل عقد ثمين.