انتقل إلى المحتوى

مجلة المقتبس/العدد 39/السلطان عبد الحميد المخلوع

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة المقتبس/العدد 39/السلطان عبد الحميد المخلوع

مجلة المقتبس - العدد 39
السلطان عبد الحميد المخلوع
ملاحظات: بتاريخ: 1 - 4 - 1909



قلما جاء في الملوك من ترضيك أخلاقه وأعماله لضعف التربية الدينية والمدنية ولأن الملك يسكر فيقتضي له عقل كبير يحسن به صاحبه التصرف ويراعي فيه حقوق الخالق والخلائق. ولذا ندر في ملوك بني عثمان والملك متسلسل فيهم منذ زهاء ستة قرون من تأهل بالفعل للجلوس على عرش السلطنة فقد رأيناهم وفيهم الأخرق والأحمق والمنتهك والمسرف على نفسه والسفاك ولكن لم يأت فيهم على التحقيق مثل السلطان الخامس والثلاثين عبد الحميد الثاني.

نقول فيهم وما أخلقنا أن نقول في غيرهم من ملوك الإسلام بل وفي الأمم الأخرى فقد تدبرنا تراجم ألوف من الملوك والعظماء ولم نشهد لعبد الحميد مثيلاً في أخلاقه وأعماله. بل رأيناه يشبه الناصر لدين الله العباسي بتجسسه وحرصه والحاكم بأمر الله الفاطمي بهذيانه وتلونه والحجاج بن يوسف الثقفي ببطشه وسفكه والسلطان إبراهيم العثماني بسفاهته وإسرافه. ومن جمع في شخصه هذه الصفات مجسمة كان جديراً بأن يدعى طاغية الملوك والسلاطين.

تولى عبد الحميد زمام السلطنة وكيلاً عن أخيه مراد الخامس لمرض طرأ على عقله وكتب على نفسه عهداً دفعه لمدحت باشا ناشر أعلام الحرية في المملكة العثمانية ثم أرسل على ما يقال من أحرق دار مدحت باشا وحرق العهد في جملة ما حرق وأخذ يستجلب قلوب أهالي الأستانة مدة وكالته حتى اجتمع الصدر محمد رشدي باشا ومدحت باشا فقررا دعوة رجال الدولة إلى الباب العالي للنظر في توسيد السلطنة إلى عبد الحميد أصالةً فاجتمع نحو ألف شخص من الكبراء وقرروا أن جنون السلطان مراد مطبق لا يرجى أن يفيق منه فأفتى شيخ الإسلام بحل إمامته وبويع لعبد الحميد الذي أظهر أولاً بأنه يميل إلى الحكم الدستوري ومنح القانون الأساسي ثم سلبه وأقفل مجلس الأمة وأتعب مدحت باشا في معاناة أخلاقه وكان أول عهد نكثه معه أنه أخذ على نفسه أن يعين لرئاسة كتاب امابين نامق كمال بك الكاتب الشاعر الشهير وضياء بك رئيس المابينية فعين غيرهما ثم أخذ يدس الدسائس ونفى مدحت باشا ثم أرسل به إلى الطائف فسجن في حبسها مدة ثم أمر بخنقه.

وأخذ السلطان يكثر من التضييق على أخيه السلطان مراد وعلى سائر أفراد الأسرة السلطانية ولاسيما ولي عهد السلطنة السلطان الجديد محمد خان الخامس الحالي ويشرد ك من عرف بالإنكار عليه من الوزراء والعظماء فألقى بذلك الرهبة في نفوس قواد المملكة ورجال سياستها فأصبحوا يسيرون على رغباته وكل من خالفها ولو فيسره أقصاه وسجنه وعذبه وكلما مضت سنة على ملكه يزداد مراناً على هذه الفعال ويبالغ في الاحتياط لنفسه وغدا يتولى كل أمر بذاته ويبعد أرباب الوجدان من رجال الدولة ويستعيض عنهم بأناس ممن يصطنعهم وما يصطنع إلا الأسافل من كل جنس من أجناس الدولة لعلمه بأنهم يفادون بكل مبدأ في سبيل نصرته على الباطل حتى آلت أزمة الدولة في العهد الأخير إلى أيدي السفلة من أعوانه الجهلاء الطغاة إلا قليلاً.

وإذ كان مفطوراً على الطمع ويحسب أن المال يعمل كل شيء أخذ يملك الأملاك باسمه على خلاف عادة الملوك والسلاطين فكان كلما سمع بأن في إقليم كذا أراضي من أملاك الدولة يحتال لأخذها بلا ثمن إن كانت من الأملاك الأميرية أو بثمن طفيف إن كانت للأفراد ثم ألف الشركة الخيرية لتسيير السفن في مواني الأستانة وشركة أخرى لحسابه بين البصرة وبغداد وفتح في العاصمة مخازن لبيع البضائع ومعامل لصنع السجاد وغيره وضارب بالأوراق المالية وهكذا أصبح عبد الحميد تاجراً مزارعاً مضارباً لا يهتم بشيءٍ من أمر الملك إلا إذا كان تقريراً من جواسيسه الذين كثروا في العاصمة والولايات كثرة ضاقت بها خزينة الأمة وكلهم أمناؤه إن أخطأ وأفلهم الأجر وإن أحسنوا فحدث ما شئت أن تحدث عما ينهال عليهم من إنعامه وإحسانه. حتى لقد قلَّ جداً في عماله من لم يتجسس له لاسيما بعد أن رأى الناس أن الترقي في الوظائف لا يتأتى في الأغلب إلا من طريق الجاسوسية.

وبهذا استنزل غضب عقلاء الأمة وأحرارها وكان كلما بالغ في الضغط عليهم واشتد في إرهاقهم وإعناتهم ينمو عددهم بنمو الميل إلى التعلم. فكانت مدارس الدولة ولاسيما العالية منها على شدة المراقبة عليها لا يتصور العقل أكثر منها وعلى إصدار إراداته تترى لجعل المعارف صورية لا حقيقية ـ منبعث تلك الشعلة التي قضت على استبداده الذي لم يكد يعهد له مثيل في تاريخ الأمم فزحزح المتخرجون فيها أسس الحكومة المطلقة المدمرة وأقاموا مكانها على التقوى أساس الحكومة المقيدة المعمرة.

عرف عبد الحميد أن بالمدارس والمطبوعات تستنير العقول فيقل الراضون عن حكمه فأنشأ يضيق الخناق على المدارس حتى حظر أن يعلم فيها التاريخ وعلوم السياسة والاجتماع لأنها ترقي العقل وتلقح الأذهان وتدعو الأمة إلى سبل الرقي والأمان.

ورأت المطبوعات منه ومن أعوانه الجهلاء خصوماً يكفي في نعتهم أنهم أعداء كل فكر وارتقاء وتجديد حتى أصبح ما يطبع تحت السماء العثمانية في الثلثين الأخيرين من حكمه عبارة عن كتب خرافات وزهد وتلفيق أو أماديح كاذبة له ولأرباب المظاهر أو أموراً عادية لا ترقي عقلاً ولا تزيل جهلاً. ووصلت المراقبة على المطبوعات في أيامه إلى درجة من الهزل لم تصل إليها في أمة مغلوبة على أمرها فرفعت من المعاجم كثير من الألفاظ كالعدل والمساواة والقانون الأساسي والجمهورية ومجلس النواب والخلع والديناميت والقنابل وأصبحت الجرائد أبواقاً تضرب بتقديسه وتأليهه والعياذ بالله أو تكتب في التافه من الأخبار والأفكار. جرى كل هذا برأيه ورضاه لا كما يزعم بعض من يريدون أن يتفحلوا له الأعذار الباردة من أنها كانت من عماله ووزرائه وهو لا علم له بما يأتون.

كثرت في الأيام الحميدية أنواع المظالم وأصبح كلما طال عهده يشتد في إعنات من يخالف له فكراً أو يعرض له في الإصلاح أمراً حتى صار بعض العقلاء من عماله يتظاهرون بالبله أو ينقطعون عن الخدمة لأن سلطانهم لا يرضيه إلا أن يكونوا على قدمه في الظلم وارتكاب المنكرات. ولقد نصح به بعض سفراء الدول منذ بضع سنين أن يكف من شرور بعض العمال لأن استرسالهم فيها مما يسقط شأن المملكة ويضر بمستقبلها فقا لهم وماذا أعمل مع من ذكرتم وهم يحبونني ويتفانون في خدمتي أي إنهم في حلّ من عمل ما أرادوا من العسف في الأمة ما داموا يظهرون له الحب ويخدمون أغراضه.

اشتهر عبد الحميد بالحقد الشديد والحرص الأكيد والحدة المتناهية والاحتيال الذي ينطلي على ضعاف العقول فيقولون أنه الدهاء والحكمة.

وكانت هذه الأخلاق بادية عليه قبل أن يلي أمر الأمر حتى قال نابوليون الثالث فيه يوم رآه مع عمه السلطان عبد العزيز في باريز أن هذا الفتى سيجيء منه داهية باقعة فما هو إلا أن قيض الله له الجلوس على سرير آل عثمان حتى صحت فراسة نابوليون فيه بل برز في هذا المضمار.

كان السلطان عبد المجيد يحب ابنه مراداً أكثر من عبد الحميد لأن هذا كان يبدو عليه الخبث منذ الصغر ولما ترعرع شرع يتجسس لعمه السلطان عبد العزيز على أخوته وآل بيته لينال منه الإحسان ويغلو فيكشف عورات أخيه ماد خاصة وكانت تقاريره للسلطان عبد العزيز متصلة كتقارير جواسيسه في عهد سلطنته ولطالما كدره السلطان عبد العزيز على تشاغله بالسفاسف ويكفي في بيان الفرق بين أخلاق السلطان مراد وأخلاق السلطان عبد الحميد أن الأول كان يعنى في صباه بالشعر والموسيقى ودرس مدنية أوربا وتاريخها على حين كان أخوه لا همَّ له إلا درس السحر والطلسمات وضرب المندل وأخذ الفأل ويتقرب لذلك من المشايخ والبله والدجالين.

مضى ثلث قرن على الأمة العثمانية وهي تفنى في سلطانها فناء جنون لا فناء عقل وكنت إذا خلوت حتى بخاصته وصنائعه يحدثونك من تلاعبه وأخلاقه ما تسأل الله معه السلامة وتسجل على فساد أخلاقنا أكثر من فساد أحكامنا وأعمالنا وكل منهم يورد لك من أسباب اضطراره إلى الصبر على هذه الخدمة ما هو العجب العجاب.

فبالإسراف في مال الأمة استمال عبد الحميد قلوب الأغمار ممن تزيوا بزي العلماء وهم جاهلون فكانوا يكذبون على الله والناس ويذكرون لهم من صفات سلطانهم ما هو الزور البحت وإذا فتح المنصفون أفواههم بالنقد أسكتوهم وحرموا إنكار المنكر عليهم. وبالجواسيس اطلع على الدقيق والجليل من نيات الأمة وما كان يهتم إلا للأمور الصغيرة ولاسيما ما كان منها متعلقاً بشخصه أما عمران البلاد وترقية معارفها وصناعاتها وزراعتها وتجارتها فلم يكن لها قيد في سجل أعماله.

وكفى في عدم احتفاله بأمور الرعية وإصلاح البلاد أنه انسلخت عن جسم الدولة في أيامه المشؤومة بلغاريا والروم أيلي الشرقية ودوبروجه في رومانيا والجبل الأسود والبوسنة والهرسك وانضمت بعض الألوية للصرب ولليونان تساليا وابيروفارتا ولفرنسا تونس ولروسيا القوقاس وباطوم وأردهان وقارص ونال الجبل الأسود استقلاله وانفصلت قبرص وكريت لو كادتا واحتل الإنكليز مصر وهكذا انفصل من جسم الدولة نحو ثلثيها بعدد النفوس والعمران.

ماذا تعدد هذه الأمة من سيئات الدور الحميدي ونزع سلطة الحكم من الباب العالي وكانت من قبل فيه على شيء من العقل والقانون وانتقالها إلى المابين يعبث بمصالح الأمة الخصيان والجواري والجواسيس والدجالون والمرتشون والمنافقون والمنطبعون بطابع السياسة الحميدية.

فقد كانت الوظائف والرتب والأوسمة ومظاهر التكريم تباع بالمزاد كما يباع العقار والدار ويقتنيها في الأغلب من لا يهمهم إلا حظوظ أنفسهم وإملاء جيوبهم وبطونهم حتى هلكت البلاد ليغتني عبد الحميد والمنفذون لرغائبه وافتقر الفلاح والصانع وهما مادة حياة الوطن واغتنت تلك الطائفة الفاسدة من الموظفين الذين سماهم غلادستون كبير وزراء إنكلترا جماعة من اللصوص تألفوا في صورة حكومة.

ولكم كان عمال عبد الحميد سبباً في إهراق دماء الأبرياء ونزع روح الحياة الوطنية من الناس وما ننس لا ننس سياسة المابين في المذابح الأرمنية والحروب اليمانية والكريتية وغيرها من الوقائع الأهلية التي ألقى بها السلطان الشقاق بين أبناء هذا البيت الواحد وفرق مجتمع القلوب عملاً بالقاعدة الباردة فرق تسد ولو عقل لجرى على قاعدة اعدل تسد.

نعم كانت المدارس منبعث تلك القوة التي قضت على السلطة الحميدية بل على السلطة الاستبدادية في السلطنة العثمانية. وناشئة الأمة الذين كان يحتقرهم السلطان المخلوع ويغويهم بالمال ويطعمهم بالمراتب والرواتب هم الذين دبروا بسلطان العقل أسباب الانقلاب الأخير في المملكة وغلبوا سلطان الجهل فكان يوم 10 تموز الماضي مبدأ سعادة العثمانيين وتاج الأيام وغرة الشهور والأعوام.

كان الصدر محمود نديم باشا يقول للسلطان عبد العزيز أن بعض الوزراء يخوفونك بالأمة وما الأمة الأكمن تراهم يمشون هناك (وأشار إلى جماعة من فلاحي الأناضول) ومثلهم لا يميز ولا يعقل فاصنع ما بذلك فانتهى الأمر بخلع ذاك السلطان وقتله. وكان أحمد عزت باشا العابد يحقر للسلطان عبد الحميد أمر الأمة ويزين له البطش ويقول له أن المسلمين لا يعرفون غيرك خليفة وسلطاناً ورباً صغيراً فاحكم فيهم بحكمك فهم عبيدك لا ينازعك في التصرف فيهم منازع الأحرار أفراد طائشون. صم أذنك عن سماع خيالاتهم ودعهم يعوون ولا يضر عواء الكلاب بالسحاب. أما حكومات أوربا فأمرها إلى التفاشل إن اتحدت كلمتهن لأقبل لنا بدفعها وما دمن متخاذلات فنحن في مأمن. وهكذا جرى السلطان المخلوع في دوره الأخير على هذه السياسة الخرقاء فكانت سبباً في نزع السلطة الاستبدادية من يده يوم 10 تموز الماضي وإنزاله عن العرش يوم 14 نيسان.

يئس الناس من الخلاص من جور هذا السلطان إلا بموته ولكن تلك النفوس الكبيرة من أعضاء جمعية الاتحاد والترقي التي احتك معظم أعضائها بالأوربيين وبلادهم قطعة من أوربا أبت أن تضيع ملك بني عثمان بالإهمال والتواكل فاضطرت عبد الحميد إلى إعلان القانون الأساسي في الصيف الماضي مرغماً ولما لم تطب نفسه لما جرى وأنشأت تحدثه بإعادة الدور السالف لتكون الأحكام طوع أمره ونهيه وهو الحاكم المتحكم في الأموال والأعراض والأرواح يفعل ما يشاء ولا يسأل عما يفعل أخذ يوقد نيران الفتن بين الأمة ليقول لها وللأجانب أن العثمانيين لا يليق لحكمهم إلا الحكم الاستبدادي.

ثم احتال للتفريق بين عناصر الدولة أولاً وإغواء بعض الخونة من رجاله بالمال ليبثوا دعوته فتألفت جمعيات عناصر بعد إعلان الحرية ولكل منها نزعة خاصة. يريد الأرمن توسيع الاختصاص المأذونية أو الاستقلال النوعي بعبارة أخرى والعرب ينادون بأن الترك غمطوهم حقوقهم وهم يريدون أن يشاطروهم الوظائف أو ينفصلون عن الدولة وبعض الأرناؤود يدعون إلى مثل دعوة الأرمن. ولما رأى السلطان أن الأمة انتبهت لرد هذه الترهات وقام العقلاء يحاربونها شرع يسلك سبيلاً آخر ويحرك عامة المسلمين باسم الدين بواسطة جمعية ألفها في الأستانة دعت نفسها بالجمعية المحمدية تطالب بالشريعة الإسلامية ولا تريد القانون الأساسي لأنه بزعمها مخالف للإسلام ومن قواعده الحرية والحرية ليست من شأن الدين المحمدي. وهكذا أَلفت الجمعية فروع في الولايات تهيج العامة باسم الدين وتربطهم بالسلطان وذلك على يد زعانف كان للمال الذي بذله تأثير عظيم في نفوسهم ونفوس الغوغاء.

كاد عبد الحميد لأمته بتدبير الفتنة المحمدية بل بالفتنة العسكرية فعصت جنود الأستانة إلا قليلاً بما بذله لهم من الذهب الوهاج ولم ير أعوانه الذين أثاروا الجند واسطة لإضاعة رويتهم أحسن من إسكارهم فأسكروهم ليلة الفتنة وفرقوا عليهم الذهب الكثير الذي جمعه من دماء الفقير ليقوموا بالمطالبة بإعادة الشرع المحمدي أو يوقدون نيران مذبحة عامة يقتل فيها أحرار الأمة أولاً ثم الأقرب فالأقرب من رجال الإصلاح والتجديد ولو وفق عبد الحميد لاستعادة سلطته الاستبدادية وتمت له مكيدته الشيطانية لما هلك في هذه الفتنة الأهلية في أنحاء السلطنة أقل من مليوني رجل كما وقع في ثورة فرنسا الأولى.

ولكن الله أراد لهذه الأمة الخير وقيض لها من رجال الدستور والمتفانين في الاحتفاظ به من كان إخلاصهم الداعي الأكبر في نجاحهم فقامت بعض ولايات الروم إيلي على ساق وقدم تطلب التطوع في الجندية للدفاع عن الدستور وهب جند الفيلق الثاني والثالث أي أدرنة وسلانيك ـ ومنهما انبعثت جذوة الحرية أول مرة ـ وزحفا في جموع المتطوعة على الأستانة بقيادة البطل المغوار محمود شوكت باشا الفاروقي البغدادي فاستوليا على المواقع الحربية في العاصمة في أسبوع وقبضوا على المنتفضين والعصاة من الجند المشاغب وخلعوا السلطان عبد الحميد مدبر تلك المكايد بفتوى من شيخ الإسلام أثبت عليه فيها قتل الأنفس البريئة ومخالفة الشرع وحرق كتب الإسلام والإسراف في مال الأمة وبايعوا باتفاق مجلس النواب والأعيان لولي عهده السلطان محمد الخامس وساقوا ذاك الذي عبث بمصلحة العثمانيين إلى قصر الأتيني في ضاحية سلانيك ليجري عليه ما جرى على كل سلطان مخلوع خان أمته ودولته بدون أن يلحقوا به إهانة. فحق للدولة والأمة أن تدعو بدوام نصر الجيش العثماني المظفر لأنه كان سبب حياتنا اليوم ولطالما كان هذا الجيش سبب رفع هذه الدولة العلية كما كان في بعض الأدوار سبب خفضها.

أعلن جيش الدستور الأحكام العرفية أي عطلت القوانين الموضوعة وجعلت العاصمة تحت الأحكام العسكرية ريثما يستتب الأمر لجيش الفاتح محمود شوكت باشا ويفتك بمن أضاعوا دينهم ودنياهم بممالاة السلطان المخلوع على رغائبه فشنق كثيرون ممن كان لهم ضلع في تشويش نظام الأمة وإهاجة العامة باسم الشريعة وحكم على بعضهم بالأشغال الشاقة وعلى البعض الآخر بالنفي وهكذا تمت الغلبة لكلمة الحق على الباطل وكتب البقاء للحكم النيابي في السلطنة آخر الدهر إن شاء الله.

فكرنا ملياً في أمر عبد الحميد وأردنا أن ننصفه في الترجمة فما رأينا له مزية يذكر بها ويرحم. بلى وجدناه حسوداً يحسد حتى خصيانه وأشق خبر يترامى إليه أن يعلم بأن في إحدى أطراف مملكته عالماً ينفع الناس بعلمه فيحتال عليه ليأتي به إلى الأستانة ليدفنه حياً فإن لم يقدر فلا أيسر عليه من التقول عليه وتزوير حيلة للانتقام منه والحط من كرامته. وكان إذا عزّ لا يلحق غباره نمرود وفرعون وإذا ذل وذله يكون للأدنياء غالباً ينسى منزلته ومقامه. وكان يلذه جداً أن يشهد الشقاق مستحكماً بين حاشيته ويلقي بينهم العداوة والبغضاء. وفي أيامه كثر اختلاف النساء إلى قصره حاسرات متبرجات بدعوى أنه خليفة وللخليفة أن ينظر إلى المحارم ولا حرج عليه وعليهن ولهذا اخترع لهن وسام الشفقة. ولعل بعض من درسوا الأخلاق الحميدية عن أمم يكتبون كتاباً مفصلاً فيها ليقرأ الأخلاف عن الأسلاف ما فعلته في ذلك المخلوع قلة التربية والعلم وفساد الفطرة والله أعلم.