انتقل إلى المحتوى

مجلة المقتبس/العدد 39/الرتب والأوسمة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة المقتبس/العدد 39/الرتب والأوسمة

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 4 - 1909



كانت الرتب والأوسمة العامل الأقوى في إفساد الأخلاق على عهد الحكومة الاستبدادية الماضية فاستعملها الظالم ذريعة لرفع من شاء ولو كان وضيعاً وتصغير من أراد ولو كان كبيراً وفي تقلد الأوسمة ونيل علائم الرتب كم خربت بيوت وشتت شمل أسرات وكانت أقل الوسائط إليها وأقربها تناولاً أن يعمد من يرغب في التشرف بها إلى التجسس على الأحرار وإيجاد السبل لإرهاق من يطالب الحكومة السالفة بإصلاح المختل ومداواة المعتل.

ومن نظر في التاريخ يجد الألقاب عند العرب والإفرنج من بقايا القرون الوسطى قرون الهمجية والانحلال. فمنشأوها عند العرب كما قال ابن الحاج في المدخل الترك فإنهم لما تغلبوا على الخلافة تسموا هذا شمس الدولة وهذا ناصر الدولة وهذا نجم الدولة إلى غير ذلك فتشوقت نفوس بعض العوام ممن ليس له علم بتلك الأسماء لما فيها من التعظيم والفخر فلم يجدوا سبيلاً إليها لعدم دخولهم في الدولة فرجعوا إلى أمر الدين فكانوا أول ما حدثت عندهم هذه الأسماء إذا ولد لأحدهم مولود لا يقدر أن يكنيه بفلان الدين إلا بأمر يخرج من السلطنة فكانوا يعظمون على ذلك الأموال حتى يسمى ولد أحدهم بفلان الدين فلما أن طال المدى وصار الأمر إلى الترك لم يبق لهم بالتسمية بالدولة معنىً إذ أنها قد حصلت لهم فانتقلوا إلى الدين ثم فشا الأمر وزاد حتى رجعوا يسمون أولادهم بغير ما يعطوه على ذلك ثم انتقل إليه بعض من لا علم عنده ثم صار الأمر متعارفاً متعاهداً حتى أنس به العلماء فتواطأوا عليه. قال أبو بكر الخوارزمي:

مالي رأيت بني العباس قد فتحوا ... من الكنى ومن الألقاب أبوابا

ولقبوا رجلاً لو عاش أولهم ... ما كان يرضى به للحش بوابا

قلّ الدراهم في كفي خليفتنا ... هذا فأنفق في الأقوام ألقابا

أما في الغرب فكانت الرتب العلمية والجندية في القرون الوسطى تباع بيع العروض والعقار يمنحها الملك لمن يريد من حاشيته أو لمن يرى هو ورجاله أنه قام بخدمة لبلاده وربما ورثها عنه أبناؤه وأحفاده من بعده على نحو ما أصبح أولاد العالم في العهد الأخير في هذه الديار يرثون وظائفه ومقامه كما يرثون أرضه ومتاعه وتطلق عليهم ألقاب هي العجب العجاب وأسماءٌ ما أنزل الله بها من سلطان كأن يقال لا جهل الجاهلين أعلم العلماء المحققين وللخالع المارق ناصر السنة والدين.

الرتب على النحو الذي يعهد في الشرق والغرب اليوم لم يكن لها ما يماثلها في الدولة اليونانية ولا الرومانية وغاية ما في الأمر أن الظافر في الألعاب الأولمبية في آثينة كان يذكر بالمحمدة ذكراً يورثه الشرف هو وأهل بلاده وينال جائزة سنية وكذلك من كتب به النصر على أعداء رومية ولكن لا يرث أبناؤه وأهله ما كان هو أبا عذرته وداعية مفخرته.

ولما انتظمت حكومات الغرب ألغيت الرتب من معظم الممالك الأوربية ولا يزال لها أثر في بعضها ولكنه ضئيل لا ينمُّ عن شرف ولا ينبئ عن فضيلة ورجع الناس هناك أو كادوا إلى عادة السذاجة التي كانت عليها دولة العرب ثلاثة قرون وأكثر فكان يدعى الكبير باسمه أو بكنيته ولم يكن للألقاب سوق معروفة.

كان براد بالرتب والأوسمة وعلائم التشريف في الأصل تحريك نفوس الناس إلى مباراة بعضهم بعضاً في طلب الكمال والمجد الحقيقي لأن من واجبات الحكومة أن تنشط العامل وتأخذ بيد صاحب الكفاءة ليكون مثالاً صالحاً لغيره والرتب والأوسمة من الأمور التي قد تساعد على هذا الشأن ولكن المتأخرين من أهل الغرب شاهدوا كما شاهد المتأخرون في الشرق أيضاً رداءة تلك الطريقة فأسقطوا بعض تلك الرتب والأوسمة وبقي غيرها عضواً أثرياً من حكومات القرون الوسطى يدل بأصرح بيان على أن من الصعب جداً على حكومة لها بعض التقاليد وإن كانت غير معقولة أن تنسفها جملة واحدة اللهم إلا إذا كانت كحكومة الولايات المتحدة لم تبن أصول حكومتها على أنقاض غيرها بل جعلت فيها العلم قائداً والعقل مرشداً ورائداً ولذلك تساوى بها العامل الصعلوك مع رئيس الجمهورية في الألقاب والتشريف.

قال أحد علماء الفرنسيس: ومن الواجب الاقتصاد في منح الأوسمة والألقاب وأن يتوخى المنعم بها لا يهبها إلا لمن يستحقها ممن لا ينكر عليهم استئهالهم لها أبعد الناس عن معرفة الحقيقة ومن الخطأ الفادح أن يذهب بعضهم إلى أن عدد الراضين يزيد بمضاعفة علائم الشرف إذ الأمر بخلاف ذلك وكلما خفضت المطالب والقيود درجة زادت الدعاوي الطويلة العريضة وما أنت بصاحبها في هذا المطلب إلا كأنه يتقاضى حقاً وأمراً مشروعاً وكلما زاد إعطاء الأوسمة وقعت الحكومات في شر أعمالها فتصبح في ذلك بين أمرين ما أن تعطيها لأناس لأخلاق لهم ولمن لهم علم واقتدار ولكنهم معروفون بالأخلاق السافلة وكلا الحالتين قبيح وأقبح. وما حال الشعب إذ ذاك إلا حال الأطفال في المدرسة يطمحون إلى المكافآت المدرسية ويحرصون عليها أكثر من طموحهم إلى التقدم الحقيقي.

قلنا أن الظافر في الألعاب الأولمبية بآثينة كانت تنظم له الجوائز وكذلك الظافر في البر أو البحر يجازى أحسن الجزاء في رومية ويقلد أوسمة أشبه بأوسمة هذه الأيام علاوة على المكافآت المالية ومنها تيجان للجنود وأكاليل من ورق الزيتون وأكاليل من أغصان البلوط وأسورة وقلائد من الذهب والفضة تناط في الصدور أو في قرون صغيرة تجعل في أطراف الخوذ.

ولم تكد ترفع عن الأفواه والأقلام في البلاد العثمانية كمائم الاستبداد والحجر هذه ألسنة حتى قام عقلاء العثمانيين يكتبون في إسقاط الرتب والأوسمة لأن في إسقاطها رفع شأن أرباب الكفاءآت وتوعوا لذلك الأساليب وفي مقدمة الكاتبين المتخرجون من المدرسة الملكية العالية في الأستانة وهي من أرقى مدارس الدولة فقام من تعلموا فيها وفيهم الولاة وكبار العمال وتجردوا عن رتبهم مختارين قائلين أن الرتب من قبيل الامتيازات الشخصية المخلة بقاعدة المساواة وأن البلاد الشوروية لا يجوز أن يكون فيها فريق من الناس محكوماً لفريق آخر من أجل هذه الامتيازات الوهمية التافهة.

وبعد فإنه لا أثر لهذه الرتب الشخصية في البلاد المتمدنة ولا وجود لها إلا في بلادنا وفي بلاد إيران على أننا نعد هذه المسألة قد حلت حلاً نهائياً لأن مجلس الأمة مصمم على إلغائها بتاتاً وبما أن آخر الشيء ينبه إلى أوائله أحببنا أن نبحث في نبذة من تاريخها ليبقى حسرة في قلوب عشاقها المولعين بوضع القصب على الصدور وفوق العمائم.

كان الرومانيون واليونانيون يوجهون المناصب لغير طبقة العسكرية ولكن لا يوجهون عليهم رتباً شخصية. أما العرب فكانت الرتبة عندهم هي الفضيلة والمزية الشخصية وكانوا يوجهون الرتب العسكرية عند الحاجة مؤقتاً.

وإنا إذا تصفحنا التاريخ نرى النبي عين وزيره ورفيقه في الغار أبا بكر الصديق رضي الله عنه جندياً في الجيش الذي عقد لواءه لأسامة بن زيد وكان هذا ابن أمة ولكن خبرته في أمور الحرب وشجاعته أهلته لقيادة جيش فيه مثل أبي بكر الصديق ونرى عمر بن الخطاب عزل خالد بن الوليد وجعله تحت قيادة أبي عبيدة بن الجراح وكان جندياً في جيش خالد بن الوليد لما عهده عمر في أبي عبيدة من التأني والاحتياط في أمور الحرب.

وأخذت الحكومات في القرون الوسطى بأوربا على عهد الإقطاعات توجه الرتب والألقاب على المأمورين الملكيين قياساً على رتب الرهبان فرتبة فارس (شفالية) كانت شخصية ولها درجات معينة وليس عند الأوربيين اليوم رتب شخصية توجه بالإنهاء بها.

كانت الدولة العثمانية في أول أمرها توجه لقب باشا بمعنى الأخ الأكبر على من يخدم الدولة والدين خدماً فائقة ولقب جاويش وآغا على من يخدم خدماً صغيرة ولما أصلحت الأمور العسكرية والملكية والعلمية في زمن السلطان أورخان ومن يليه من السلاطين أحدثت بعض رتب خاصة بالمناصب لا يتجاوز عددها الأربعة وهي (خوجكانلق) و (قهوجي باشيلق) و (ميرميرانلق) و (الوزارة) ولا يتجاوز أصحاب هذه الترب السبعين أو الثمانين في الغالب فرتبة الوزارة كانت توجه على الصدر الأعظم وعلى (توقيعئ ديوان همايون) وعلى (دفتر دار الشق الأول) يعني ناظر المالية وتوجه نادراً على عامل الولايات الكبرى المهمة وتعلو أقدار رجال الدولة (خواجكان) و (قهوجي باش) وتوجه رتبة (الروم إيلي بكلربكي) التي كانت لها صبغة عسكرية على المتخرجين من أصحاب رتبة (ميرميران).

كان لقب (سعادتلو) خاصاً بالسلطان إلى عهد سليمان القانوني ويخاطب الصدر رجال الدولة بلقب (عزتلو) ومع هذا كله كانت الرتبة توجه وقتئذ في مقابل خدمة مهمة. وفي سنة 1248 أدخل بعض التغيير في الرتب والألقاب رتبة (أولى) مع لقب (سعادتلو) على (كتخدابكي) ناظر الداخلية أو مستشار الصدارة اليوم وعلى (رئيس الكتاب) وهو ناظر الخارجية وعلى ناظر (الضربخانة) وتوجه الرتبة الثانية مع لقب (عزتلو) على (أمين الترسانة) و (أمين دار المدافع) وعلى (الباش جاويش) يعني ناظر العدلية والضبطية وأمثالهم. والرتبة الثالثة مع لقب (فنوتلو) على أمناء المكوس وبقية رؤساء المأمورين. والرتبة الخامسة مع لقب (حميتلو) على مديري الأقلام ومميزيها.

وقسمت بعد ذلك التربة الثانية والثالثة إلى قسمين وجه أول منها على رجال الباب العالي والثاني على أرباب اللياقة من مأموري الولايات وقد أهملت منذ ربع قرن فروع الرتبة الثالثة كما أهملت في زماننا رتبة (خواجكان) و (قهوجي باشى) و (الخامسة). وفي سنة 1255 سمي القسم الأول من الثانية متمايزاً وقسمت الرتبة الأولى إلى قسمين وسمي القسم الأول (أولى أولي) بالإضافة مع زيادة (حضرتلري) على الألقاب و (المشار إليه) بين العبارات وسمي القسم الثاني (أولى ثانيسي) وبالنظر لتكاثر سواد أصحاب الرتب الأولى وتجاوز عددهم الأربعين شخصاً أحدثت في سنة 1261 رتبة (بالا) مع لقب (عطوفتلو) ليكون خاصة بالرجال المحلين والممتازين على شرط أن لا يزيد عدد أصحابها على السبعة. اهـ