انتقل إلى المحتوى

مجلة المقتبس/العدد 36/حماسة الخالديين

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة المقتبس/العدد 36/حماسة الخالديين

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 1 - 1909



الخالديان أخوان شقيقان من أهل القرن الثالث كتبا بعض المؤلفات ونسبت إليهما آداب وغرر ولم يكونا يفترقان في حال من الأحوال ولا نعرف في أدباء العرب شقيقين آخرين اتفقا على إخراج بنات أفكارهما في مجلد واحد كما اتفقا على الخروج من بطن واحد إلا أولئك الأدباء الأخوة المشهورون عند الفرنسيس باسم كونكور وبول وفيكتور مارغريت ورسني.

قال الثعالبي في اليتيمة: أبو بكر محمد وأبو عثمان سعيد ابنا هاشم الخالديان: أن هذان الساحران يغربان بما يجلبان ويبدعان فيما يصنفان وكان ما يجمعهما من أخوة الأدب مثل ما ينظمهما من أخوة النسب فهما في الموافقة والمساعدة يحييان بروح واحدة ويشتركان في قرض الشعر وينفردان ولا يكادان في الحضر والسفر يفترقان وكانا في التساوي والتشابك والتشاكل والتشارك كما قال أبو تمام:

رضيعي لبان شريكي عنان ... عتيقي رهان حليفي صفاءِ

بل كما قال البحتري

كالفرقدين إذا تأمل ناظر ... لم يعل موضع فرقد عن فرقد

بل كما قال أبو اسحق الصابي فيهما:

أرى الشاعرين الخالديين سيرا ... قصائد يفنى الدهر وهي تخلد

جواهر من إبكار لفظ وعونه ... يقصر عنها راجز ومقصر

تنازع قوم فيهما وتناقضوا ... ومر جدال بينهم يتردد

فطائفة قالت سعيد مقدم ... وطائفة قالت لهم بل محمد

وصاروا إلى حكمي فأصلحت بينهم ... وما قلت إلا بالتي هي أرشد

هما في اجتماع الفضل زوج مؤلف ... ومعناهما من حيث يثبت مفرد

كذا فرقدا الظلماء كلا ... علاً أشكلا هل ذاك أم ذاك أمجد

فزوجهما ما مثله في اتفاقه ... وفردهما بين الكواكب أوحد

فقاموا على صلح وقال جميعهم ... رضينا وساوى فرقدا الأرض فرقد

وما أعدل هذه الحكومة من أبي اسحق فما منهما إلا محسن ينظم في سلك الإبداع ما فاق وراق ويكاثر بمحاسنه وبدائعه الإفراد من شعراء الشام والعراق وقد ذكرت ما شجر بينه وبين السري في شأن المصالتة والمسارقة وما أقدم عليه من دس أحسن أشعارهما في شعر كشاجم وكان أفضل الشام والعراق إذ ذاك فرقتين إحداهما وهي في شق الرجحان تتعصب عليه لهما لفضل ما رزقاه من قلوب الملوك والأكابر والأخرى تتعصب له عليهما. ثم أورد صاحب اليتيمة من أشعارهما ما هو السحر الحلال وما اتفق لهما من التوارد مع السري أو التسارق في زهاء عشرين صفحة. وقد ظفرنا للخالديين بكتابهما الحماسة أو الأشباه والنظائر فرأيناه جمع فأوعى من شعر الجاهليين واستشهد عليه بما أخذه عنهم المولدون أو زادوه عليهم من المعاني والتصورات قالا في مقدمته:

الحمد لله بلا كيفية تقع بها الإحاطة عليه والأزلي بلا وقت تنسب الصفات إليه حمداً يورد من حليل نعمه وجزيل قسمه مشرباً عذباً ومسحباً رحباً وصلى الله على سيدنا محمد ما أورق شجر وأينع ثمر وعلى الطاهرين من عترته وسلم تسليماً وبعد فسبح الله لنا في مدتك ووفقنا لما نؤثره من خدمتك فإنا ك بأشعار المحدثين كلفا وعن القدماءِ والمخضرمين منحرفاً. وهذان الشريجان هما اللذان فتحا محدثين باب المعاني فدخلوه ونهجوا لهم طريق الإبداع للمعاني فسلكوه أما زاد الله قدرك علواً ورفعة وسمواً قول الشاعر:

فهو قبل مبكاها بكيت صبابة ... إليها شفيت النفس قبل التندم

ولكن بكت قبلي فهيج لي البكا ... بكاها فقلت الفضل للمتقدم

ومن أمثالهم السائرة ما ترك الأول للآخر شيئاً إلا أن أبا تمام لم يرض بهذا المثل حتى

قال يصف قصيدة له:

لا زلتَ من شكري في حلة ... لابسها ذو سَلب فاخر

يقول من تقرع أسماعه ... كم ترك الأول للآخر

ومن المعنى الأول قول عنترة هل غادر الشعراء من متردم أي ما تركوا كلاماً لمتكلم فإذا كان عنترة وهو في الجاهلية الجهلاء وما لهم من فصاحة الفصحاء يقول مثل هذا القول فما ظنك بهذا العصر وقبله بمائتي سنة فلسنا بقولنا هذا أيدك الله نطعن على المحدثين ولا نبخسهم تجويدهم ولطف تدقيقهم وطريف معانيهم وإصابة تشبيههم وصحة استعاراتهم إلا إنا نعلم أن الأوائل من الشعراء رسموا رسوماً تبعها من بعدهم وعول عليها من قفا أثرهم وقلَّ شعر من أشعارهم يخلو من معان صحيحة وألفاظ فصحية وتشبيهات مصيبة واستعارات عجيبة ونحن أطال الله في العز بقاك وكبت بالذل أعداك نضمن رسالتنا هذه مختار ما وقع إلينا من أشعار الجاهلية ومن تبعهم من المخضرمين ونجتنب أشعار المشاهير لكثرتها في أيدي الناس ولا نذكر منها إلا الشيء اليسير ولا نخليها من غرر ما رويناه للمحدثين ونذكر أشياءَ من النظائر إذا وردت والاجازات إذا عنت وتتكلم على المعاني المخترعة ولا نجمع نظائر البيت والمتبعة في مكان واحد ولا المعنى المسروق في موضع بل نجعل ذلك في موضع ذكره وإن كنا نعلم أنك أدام اله تأييدك أعلم بما نحمله إليك ونعرضه منا عليك ومن أين لنا قرائح تنتج ما لا تزال تريناه وتسألنا عنه من دقيق المعاني وبعده في النوعين من دقة النظر ولطيف الفكر ما لا يتوهم أنه يطرد لسواك ولا يغن لغيرك وهو أنك أيد الله عزك قلت لنا من أين أخذ البحتري قوله:

ركبنا القنا من بعد ما حملا القنا ... في عسكر متحامل في عسكر

فإن يكن عندنا فيه شيءٌ من الاستحسان والتقريظ فعرفتنا أيدك الله أنه مأخوذ من قول أبي تمام:

رعته الفيافي بعد ما كان حقبة ... رعاها وماءُ الروض ينهلُّ ساكبه

ولا نعرف في النظر أدق من هذا ولا ألطف إلا إنا نوفي الخدمة حقها بما نتكلفه من الاختيار والكلام على ما ذكرناه وبالله التوفيق.

هذه هي المقدمة ومنها تفهم العرض وتدرك صعوبة ما سلكه المؤلفان وما يحتاج إليه هذا البحث من بعد النظر وسعة الاطلاع ولقد تتصفح الصفحات الكثيرة من هذا الكتاب فتقرأ فيها أشعاراً لم تكن معهودة لنا لقلة ما طبع من شعر العرب العرباء قالا بعد المقدمة.

قال المهلهل بن ربيعة:

بكره قلوبنا يا آل بكر ... نغاديكم بمرهفة النصال

لها لون من الهامات جون ... وإن كانت تغادي بالصقال

ونبكي حين نذكر كم عليكم ... ونقتلكم كأنا لا نبالي

أبيات المهلهل هذه هي الأصل في هذا المعنى ومثله قول الحصين بن الحمام المري.

نفلق هاماً من رجال أعزة ... علينا وهم كانوا أعق وأظلما

فأخذه بعضهم فقال قومي هم قتلوا ميم أختي ... فإذا رميت أصابني سهمي

ولئن عفوت لأعفون جللا ... ولئن رميت لأوهنن عظامي

وأخذه مالك بن مطفوف السعدي فقال:

قتلنا بني الأعمام يوم أٌوارة ... وعز علينا أن نكون كذلكا

هم أخرجونا يوم ذاك وجردوا ... علينا سيوفاً لم يكن بواتكا

وأخذه حرب بن مسعر فقال:

ولما دعاني لم أجبه لأنني ... خشيت عليه وقعه من مصمم

فلما أعاد الصوت لم أك عاجزاً ... ولا وكلاً في كل دهياَء صيلم

عطفت عليه المهر عطفة محرَج ... صؤول ومن لا يعشم الناس يعشم

وأوجرته لدن الكعوب مقوماً ... وخر صريعاً لليدين وللفم

وغادرته والدمع يجري لقتله ... وأوادجه تجري على النحر بالدم

فأخذ هذا المعنى ديك الجن فقال في جارية كان يحبها فقتلها:

قمر أنا استخرجته من دجنة ... لبليتي وجلوته من خدره

فقتلته وله عليّ كرامة ... ملَء الحشا وله الفؤاد بأسره

عهدي به ميتاً كأحسن نائم ... والحزن ينحر عبرتي في نحره

وإلى المعنى الأول نظر أبو تمام فقال:

قد انثنى بالمنايا في أسنته ... وقد أقام حياراكم على اللقم

جذلان من ظفر حران أن رجعت ... أظفاره منكم مخضوبة بدم

ومن هذا المعنى أخذ البحتري قوله:

إذا احتربت يوماً ففاضت دماؤها ... تذكرت القربى ففاضت دموعها

وبيت البحتري أظرف وأبدع من بيت المهلهل إلا أنه هو الذي أرشده إلى المعنى ودله عليه ومثله لقتال الكلابي:

فلما رأيت أنه غير منته ... أملت له كفي بلدن مقوَّم

فلما رأيت أنني قد قتلته ... ندمت عليه أي ساعة مندم

ولبعضهم: أتتني آية من أم عمرو ... فكدت أغص بالماء القراح

فما أنسى رسالتها ولكن ... ذليل من بنوا بلا جناح

قول ذليل من يبوء بلا جناح الأمثال الجياد المختارة.

وقال جران العود النميري ولا يعرف في نسيب الأعراب وغزلهم أحسن ألفاظاً من هذه القصيدة ولا أملح معاني والمختار منها قوله:

ذكرتَ الصبا فأنهلت العين تذرف ... وراجعك الشوق الذي كنت تعرف

وكأن فؤادي قد صحا ثم هاجه ... حمائم ورقٌ بالمدينة تهتف

فبت كأن العين أفنان سدرة ... عليها سقيط من ندى الطل ينطف

أراقب لوحاً من سهيل كأنه ... إذا ما بدا من آخر الليل يطرف

فلا وجد إلا مثل يوم تلاقحت ... بنا العيس والحادي يشل ويعطف

وفي الحي ميلاءُ الخمار كأنها ... مهاة بهجل من ظباءٍ تعطف

تقول لنار العيس صعر من السرى ... فأخفافها بالجندل الصم تقذف

حمدت لنا حتى تمناك بعضنا ... وقلنا أخو جدّ عن الهزل يصدف

وفيك إذا لاقيتنا عجرفية ... مراراً وما نهوى الذي يتعجرف

فموعدك الوادي الذي بين أهلنا ... وأهلك حتى نسمع الديك يهتف

ويكفيك آثار لنا حين تلتقي ... ذيول نعفيها بهن ومطرف

فنصبح لم يشعر بنا غير أنه ... على كل حال يحلفون ونحلف

فأقبلن يمشين الهوينا تهاديا ... قصار الخطا منهن راب ومزحف (؟)

فلما هبطن السهل واحتلن حيلة ... ومن حيلة الإنسان ما يتخوف

حملن جران العود حتى وضعنه ... بعلياَء في أرجائها الجن تعزف

فبتنا قعوداً والقلوب كأنها ... قطاً شرع الإشراك مما تخوف

علينا الندى طوراً وطوراً يرشنا ... رذاذ سرى من آخر الليل أوطف

ينازعنا لذاً رخيماً كأنه ... عوابر من قطر حداهن صيف

رقيق الحواشي لو تسمع رهاب ... يبطنانَ قولاً مثله ظل يرجف

ولما رأين الصبح بادرن ضوَءه ... كمشي قطا البطحاء أوهن أقطف وما بنَّ حتى قلن بالبيت إننا ... تراب وإن الأرض بالناس تخسف

فأصبحن صرعى في الحجال كأنما ... سقاهن من ماء المدامة قرقف

يبلغهن الحاج كل مكاتب ... طويل العصا أو مقعد يتزحف

رأى ورقاً بيضا فشد جزيمه ... لها فهو أمضى من سليل وألطف

ولن يستهيم الخرد البيض كالدمى ... هدان ولا هلباجة الليل مقرف

ولكن رقيق بالصبا متطوف ... خفيف لطيف سابغ الذيل أهيف

يلم كإلمام القطامي بالقطا ... وأسرع منه لمة حين يخطف

فأصبح في التقينا غدية ... سوار وخلخال وبرد مفوف

أما قوله:

فبت كأن العين أفنان سدرة ... عليها سقيط من ندى الليل ينطف

فمن أحسن ما قيل في الدمع وأجوده وشبيه به قول الآخر

لعينك يوم البين أسرع وأكفا ... من الفنن الممطور وهو مروَّح

وقيل هذا البيت قد جوّد أيضاً وزاد على من تقدمه وأتى بعده وذاك أنه لم يرض أن يكون دمعه مثل الفنن وهو الغصن الذي يقطر المطر على ورقه فهو يجري حتى قال وهو مروح أراد أن الريح تحركه فهو لا يهدأ من القطر وليس بعد هذا نهاية في تحاور الدمع وسرعته وقوله:

أراقب لوحاً من سهيل كأنه ... إذا ما بدا من آخر الليل يطرف

مليح التشبيه صحيح لأن من تأمله رآه كأنه عين تطرف وقوله يصف قولها له

وفيك إذا لاقيتنا عجرفية ... مراراً وما نهوى الذي يتعجرف

يقال أن النساء يملن إلى من كان فيه دعابة ولهو ولا يملن إلى غير ذلك فذكر جران العود عنهن أنهن قلن له لست على ما وصف لنا لأن فيك عجرفية وقد وصفت لنا بغيرها حتى تمنيناك وما نحب الذي يتعجرف ويذكر أن كثيراً أنشد بعض نساء الأشراف قوله:

وكنت إذا ما جئت أجللن مجلسي ... وأعرضن عنه هيبة لا تجهما

يحاذرن مني نبوة قد عرفنها ... قديماً فما يضحكن إلا تبسما

فقالت له يا ابن أبي جمعة أبهذا القول تدعى الغزل والله لا نال وصلنا وحظي بودنا إلا من يجري معنا كما نريد ويجعل الغي إذا أردناه رشدا قم لعنك الله فقام منقطعاً وإلى قولها نظر البحتري فقال:

ولا يؤدي إلى الملاح هوى ... من لا يرى أن غيه رشد

وقوله:

ويكفيك آثار لنا حين تلتقي ... ذيول نعفيها بهن ومطرف

معنى مليح وقد اشترك فيه جماعة من الشعراء فأول ذلك أمرؤ القيس في قوله:

فقمت بها أمشي تجر وراءنا ... على أثرنا أذيال مُرط مرجل

وقال ابن المعتز:

فقمت أفرش خدى في الطريق له ... ذلاً وأسحب أكماماً على الأثر

ولابن المعتز في هذا المعنى زيادة حسنة على من تقدمه وقوله:

فنصبح لم يسعر بنا غير أنه ... على كل حال يحلفون ونحلف

كلام ظريف ومعنى مليح لأنه قال لابد من تهمة تلحقنا فنحلف أنا لم نفعل ويحلفون أنا قد فعلنا وقوله:

فأقبلن يمشين الهوينا تهاديا ... قصار الخطا منهن راب ومرجف

من أحسن ما يكون في صفة المشي وقد أكثرت الشعراءُ في هذا الباب فمن مليحه قول بعضهم:

يمشين مشي قطا البطاح تأدوا ... قب البطون رواجح الأكفال

وإنما شبهوا مشية المرأة بمشية القطاة لأن فيها سرعة وتأيدا قال المنخل:

ودفعتها وتدافعت ... مشي القطاة إلى الغدير

وللأعشى في المشي شيءٌ حسن وأشياءٌ يفرط فيها فمن الجيد قوله:

غراءُ فرعاءُ مصقول عوارضها ... تمشي الهوينا كما يمشي الوجى الوجل

كأن مشيتها من بيت جارتها ... مر السحابة لا ريث ولا عجل

وقد شبه بشار بن برد خفقان القلب بالكرة في تدورها وهو قوله:

كأن فؤاده كرة تنزى ... حذار البين إن نفع الحذار

وهذا لعمري تشبيه جيد ومعنى صحيح وقال آخر وهو غير هذا المعنى فجود كأن فؤادي في مخاليب طائر ... إذا ذكرت ليلي يشد به قبضا

هذا ذكر أن فؤاده إذا ذكرت عشيقته قبض عليه ولم يذكر أنه شديد الخفقان وهو يدخل في هذا المعنى أو يقاربه فجود وأحسن وزاد وأورد معنى ثانياً وهو قوله:

من (757_767) غير مكتوبين

رجعا فسار أبو دلامة ظاهراً ... والمهر يجفل تحته أجفالا

حتى إذا وافي الأمير وقام عن ... كثب ترجل دونه إجلالا

وغدا يقول وكان روح ضاحكاً ... إني كفيتك قرني الرئبالا

وقتلته بالقول لا بمهندي ... والحرب أحرىى أن تكون مقالا

وأخذت في الهيجا عليه مواثقاً ... أن لا يعود ينازل الأبطالا

إن الهواتف لا تزال بمسمع ... مني تقول إذا شكوت الحالا

لا تيئسن فللزمان تنفس ... فأرقبه أن يتبدل الإبدالا

والدهر طاه سوف ينضج أهله ... بالحادثات يزيدها إشعالا

إن الدهور وهن أمهر سابك ... سترد أضداد الورى أشكالا

حتى كأني بالطباع تبدلت ... غير الطباع وزلزلت زلزالا

وكأنني ببني الملاحم أصبحوا ... لأبي دلامة كلهم أمثالا

معروف الرصافي