انتقل إلى المحتوى

مجلة المقتبس/العدد 32/صدور المشارقةوالمغاربة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة المقتبس/العدد 32/صدور المشارقةوالمغاربة

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 9 - 1908


مومسن

حدث في أوروبا منذ عام 1825 بما تجدد في الحياة الاقتصادية من النواميس انقلاب هائل بفضل تمديد الأسلاك البرقية وتمهيد الطرق الحديدية وتكاثر الآلات الميكانيكية واستخدامها في العمليات أكثر من النظريات فقامت الصناعة والتجارة والطرق البحرية والسكك الحديدية والبواخر والمرافئ والترع والمعامل والمصنوعات والمستودعات بل وكل ما يدعى بلسان الاقتصاد الصناعات الكبرى وأخذت كلها تظهر على الولاء بظهور الأفكار والآثار. حدث هذا الانقلاب في ألمانيا بعد أن تأخر قليلاً أي بعد عام 1840 قال هنري تريشك: كانت الانتخابات في ذلك الزمن والمناقشات في الأمور الإدارية مطمح أنظار الرجال وموضوع تأملهم حتى جفت الحياة العائلية أو كادت. . أما النساء فإنهن أخذن بالإشرئباب إلى الدخول في الأعمال التي كان قبض عليها الرجال إلى ذاك الحين وتتطاللن للتنقيب عن السبيل المؤدية بهن إلى مضارعتهم ضاربات صفحاً عن دعوى ما يحدث مما تصفن به من صفات الأنوثة وحدها فقط من التأثير في حياة المجتمع الإنساني وقد كانت أيقظت المطبوعات العامة والآداب في الخلق لذة العمل والهمة والثبات حتى إن ميزات ذلك الزمن العظيمة قد تمثلت في الأثاث والرياش.

وقع هذا الانقلاب في حياة الشعب العلمية والفكرية والصناعية أيضاً أيام كانت ألمانيا مدينة الفلسفة والأدبيات والعلوم التاريخية فقط ومكان لها بعض الصيت في فروع العلوم الطبيعية الأخرى.

فلم يمض على الألمانيين بعد أن وجهوا نحو هذه العلوم وجهة السعي والتفكير حقبة من الزمن حتى أخذوا منها السهم الأوفر فبزوا بها وبرزوا وأتيح لفريق منهم بعض ما هو جدير بالدهشة من المخترعات والمكتشفات: فما ظهر من مستحضر وأعني بذلك المكتشف المهم في تحولات المادة العضوية بدل نواميس الحياة وما وجده دود من ناموس سير الرياح في الفلسفة الطبيعية كان أساً لعلم الظواهر الجوية الجديد.

وتبدلت الفلسفة أيضاً تبدلاً كلبيراً فقد بدأت أولاً بتعديل نمظريات الفيلسوف هيكل بعض التعديل بإخراجها من دائرة الفلسفة المحضة على أيدي تلاميذه الأفاضل وتطبيقها على الحياة العامة. وعلى أثر هذا أخذ ملشوت ينظر في قوى الدماغ وحركاته حتى وفق إلى تحليله تحليلاً كيماوياً وقام العالم كارل فوغت وأسس قبل داروين مذهب التحول ترانسفورميزم في كتابه أوقيانوس والبحر بينا كان داو سارتاوس يحدث ثورة هائلة بمصنفه حياة عيسى وتناول نظريات ديدرو وهلوشيوس المادية وانفرد ناظراً في الجزء الفرد والهيولى وأثار العالم فورباخ في ذاك الزمن عالم البابوية بمؤلفه المسمى حقيقة النصرانية.

هذه هي نسمات الأفكار التي كانت تهب في عامة أنحاء ألمانيا والآداب أول ما استهدفت لمؤثراتها فقد حل محل ذلك الجيل الخيالي جيل مفتتن بالحقائق غير المجردة مولع بالوقائع والحادثات الطبيعية وهو الجيل المادي الذي لا يعرف غير التحقيق مشرباً.

وإنك لترى حينئذ الأدبيات الخيالية أشيه بأُلهية بسيطة يما هي بها الفتيات وقد نضبت مياه الشعر المترقرقة وجف نبعه السيال.

أعظم أدباء هذا الدور غستاف فريتغ الذي كان نابغة في بث روح الحقيقة على ما هي عليه فيما كان يرويه عن سذاجة حياة الطبقة الوسطى من الناس في قصصه الهزلية ورواياته وكثيراً ما كان يكافح مذهب الخياليين.

ولقد هم فريتغ بالقضاء على هذا المذهب فقام وأسس في ليبسيك بمعونة صديقه جوليان أشميد مجلة تدعى: كرازتدن وكان صبغة هذه المجلة سياسية ونزعتها بروسية علناً.

دخل غستاف فريتغ عالم الكتابة عام 1844 بمؤلفه القصصي المسمى العالم وهو عبارة عن سلسلة أبحاث في التربية العامة. وكان رجلاً من أقوياء الفكر وعباد الحقائق غيوراً ليس في نفسه أثر للرحمة في مقاومة ما بطل من الأفكار والخيالات وبه أصبحت بلدة ليبسيك مركزاً نارياً لإذاعة الدعوة البروسية ونشرها في الأنحاء فاجتمع حول مجلته عام 1848 شرذمة من أولي الفضل الواسع ممن يحبون بروسيا وأوضاعها حباً جماً.

ومنهم فؤدالب وكاتوليك اللذان شهرا على مذهب الخياليين حرباً عواناً أدارت رحاها الأقلام وأزمعا كما قال أشميد أن يبترا تلك القطع الفاسدة من آداب الألمان وينبذاها نبذ النواة فكان يجدان في أن يكتب القول الفصل للسياسة البروسية في كل صقع آتيين على كل ما فيه أثر التصنع ومسحة التكلف والتعمل وغير ذلك مما كانا يعدانه من الآفات المجتاحة لعواطف الجرمان وأخلاقهم ومبايناً لسعادة الأمة وحسن نظامها. وعندهما أن لبروسيا فكراً سيحمل إلى ماضيها تاريخ مجد مؤثل بالرغم من مقاطعاتها الناقصة وحدودها المتنائية. ولهذا فإن الألمانيين راغبون من أجل سعادتهم عامة وسلامتهم في إعلاء اسم الجرمان باتحادهم تحت لواء تقدم بروسيا نابذين امتيازاتهم وشعورهم الشخصي ظهرياً. ولما أثنى فريتغ لأول مرة في ليبسيك على مهمة بروسيا وموقعها من ألمانيا حول قسم كبير من منوري الأفكار في ألمانيا أنظارهم نحو بروسيا التي كانت جندية الحلية أريستوكراتية المنزع غير مفكرين فيما يتخلل نظرياتهم السياسية ومذاهبهم من التناقض على أن الفرق طفيف جداً بين عالم الألمان ـ ذلك الجيل الناشئ على أفكار داروين واستراوس الفلسفية وبين جنود بروسيا: فكلاهما مولع في التقاط الحقيقة ومن ذوي القوة والبطش والاقتدار. أما بروسيا فقد كانت هيئة مسيطرة على ضروب المذهب الحقيقي: على السياسات والإدارة والجندية والاقتصاد وبالجملة فقد كانت متشبعة الروح بجميع أنواع مذهب الحقيقيين. وامتازت بخصلة هي فوق ذلك كله وهي أنها كانت تحس بوجود ميل خارق لسحق الفرنسيس كلما اقتربت منهم.

ذلك هو الفكر الذي جال في خاطر طلاب كلية ألمانيا الجديدة بروسيا منذ عام 1850 وأول من كان موفقاً لإيفاء هذه الوظيفة على غاية ما يمكن أن يكون من الإتقان والكمال المؤرخ مومسن:

تيودور مومسن من أغرب الألمانيين خُلقاً وخَلقاً اجتمعت في نفسه الأضداد بأجمعها فهو عالم كبير كما هو خيالي كبير ومع هذا فقد كان يوصي الناشئة الجديدة في أن يتلقوا ماله من الخيالات نموذجاً ليس من ورائها فائدة تذكر. وهو ديمقراطي على حين لم يوفق أحد إلى خدمة المذهب القيصري سراريزم تماثل ما عمله في مصنفه تاريخ رومية. ولد عام 1817 ومات سنة 1903 في مقاطعة غاردينغ من أعمال شلزويق حيث كان أبوه راهباً. ونشأ على هذه القطعة الساحلية الغريبة التي كانت ترى بمراعيها الواسعة وحقولها الشاسعة ذات غضار ونضارة من الداخل أشبه بلون بحيرة تضطرب بأمواج كالجبال من الخارج وإذا عمنا بآراء أحد القائلين بمذهب تين من المؤرخين كان من تنفجر عنهم الحياة في محيط كهذا مكتئبين مكدرين في حين كان مومسن من أبدع أنموذجات الإبداع البشري حياة وابتهاجاً وابتساماً. والصحيح أن هذه النموذجات غير نادرة في ألمانيا.

يظن الفرنسيس أن إقليم البلاد الشمالية البارد الذي يتخلل سكوته حزن مهيب يلد أناساً قد لعبت بهم الهموم وتقسمتهم الغموم على العكس في إقليم البلاد الجنوبية الزاهر المستنير بأشعة الشمس المشرقة فإنه يلد عنصراً خفيفاً أرعن. والحال أن عكس هذا في الغالب واقع في ألمانيا ولا سيما في الجنوب فإن في صحاري سواب الخصبة المعشبة وفي الكروم التي تروى بنهري الرين وموزل قد نشأت عقول واسعة رصينة وفي وسعها أن تحيط بالعالم بأسره. والشعراء الذين نبغوا ثمة قد تغنوا بماهية حياة الجرمان وحقيقتها بأناشيد لطيفة خفيفة غير أنها ثقيلة الأوزان. أما في الأنحاء الشمالية فإن صحاري بوميوراينا وبراندنبورغ المبتورة حدودها قد أنشأت قادة عاملين وساسة جسورين وكانت هنا حتى الأدبيات تلعب بها أميال الحرب والجدال وسرعان ما كانت تدخل في شكل المعارضة.

مومسن هذا من نابته ذاك الجنس إذا رأيته رجلاً مقداماً إن تحرك فكأنما يتهيئ لعمل جديد. وإنه بسيمائه العصبي الذي ينم عن كل خير وعينيه اللتين تبرق منهما أشعة الحيلة والمكر وشفتيه اللتين ترتسم عليهما ابتسامة الاستخفاف والاستهزاء يذكر بفولتير العظيم وهو ببعض أطواره المنبعثة منها عوامل القسوة والغدر حتى في حالة السرور والنشاط وبوجهه الذي نال منه المقراض فلم يبق ولم يذر أشبه بمولتكه القائد حذو القذة بالقذة. أما سيماؤه الذي يتراءى من خلال مصنفاته فهو عبارة عن شخصية غريبة مؤلفة من طبيعة متسرعة منفعلة متوقدة أي من حدة المزاج ممزوجة بطبيعة أخرى حقيقية ماهرة في استخراج المغالطات المادية العملية ونفخ المناطيد التي وسع نطاقها حب التفاخر والغرور.

في مومسن شخصان لا يجتمعان كل الاجتماع ولا يفترقان: عالم وصانع. ولا شبهة في أن العالم مومسن هو من خوارق القرن التاسع عشر ومن أعظم من هم جديرون بالتجلة والاحترام فإن معارفه وسعة اطلاعه منوعة تنوعاً غريباً وإنك لترى مجلته التي رأسها خمسين سنة وطاباً حفل بما لا يكاد يتناهى من الكتابات في تلك الموضوعات المختلفة كآثار رومية القديمة وعلم الألسنة وعلم المخطوطات وعلم المسكوكات والحقوق وعلم الأساطير هذا عدا () العظيم الذي جمع فأوعى من التدقيق والتحقيق العلمي الواسع وغزارة المادة وجودة المصادر مما أهله لبلوغ أقصى درجات الارتقاء. ولقد كانت للمترجم به ملكة كبيرة وقدرة باهرة في قراءة الألسنة القديمة الميتة ومؤلفاته برمتها شهادة ناطقة بالبرهان على أنه كان موسوعة من موسوعات العلوم.

كان مومسن يرى مع من يرى أن العلم غير منحصر في دائرة محدودة وأنه علم مشاع لهذا كان لا يستحسن تهافت الألمانيين على تعميم فكر الإخصاء ولا يقيم لتهالكم على انتشاره وزناً. فقد فقد قال في خطاب أورده في مؤتمر برلين العلمي في اللغة اللاتينية: الإخصاء في فرع من العلوم فقط واجب ولكن ليس من الواجب الاقتصار على ذلك الفرع والضرب دون غيره بإسداد بل يجب على الطالب لسعي لأن تتوفر لديه المعارف في هذا الفرع وأن يصيب حظاً من كل شيء. . فما أصغر هذه الكرة الرضية وأحقرها في نظر من لا يرون غير كتاب اليونان واللاتين وطبقات الأرض والمسائل الرياضية في هذا العالم الفسيح. . .

ومن غريب التضاد كون مومسن مفنناً خيالياً مع سعة اطلاعه العلمي المدهش. وإنك لتذهل عندما ترى هذا الرجل في نفس الأمر الذي يحمل تلك الجبهة ذات القوة والتؤدة والوقار من الشعراء المتأثرين غير أنه ليس نظير ميشله المؤرخ الفرنسوي الشهير تأخذه الهزة والانفعال لكل جميل فهو لا تأخذه رحمة ولا شفقة لآلام من يفترشون الأرض ويلتحفون السماء من بني آدم ولكنه صاحب عقل متأثر لا يتبين غلا بمتانته وقوة دهائه فقط في هذا العالم وهو من أجل الأشياء التي تنثر ضياءً وشرراً أشد ما يكون احتداماً هياماًَ. كان من المحتمل بقاء غرائز مومسن في العلم والصناعة طي الخفاء لولا أن قيض الله لها رجلاً في برلين عام 1850 يعنى بنشر المؤلفات فرغب إليه كتابة تاريخ لرومية إذ كان يبحث عن كاتب يشغله في كتابه أمهات التاريخ. فأصاب ذلك الرجل المرمى في اختياره هذا لأن المترجم من المشاهير الباحثين المدققين أرباب الاطلاع على تاريخ رومية. ومن المعلوم أن أساطين العلم لا يقدمون في الغالب على تأليف كتب تتناولها الأيدي عامة وتتداولها الطبقات كافة. وقد حصلت له ملكة سامية جداً عندما كان يعاني من صناعة الصحافة ما يعاني ولهذا ظهر تاريخ رومية مؤلفاً ثميناً. وليس مومسن من تلك الطائفة الشائخة أساتذة الجرمان التي اتخذت العلوم المنتسبة إليها ديدنها وقضت حياتها وقفاً خالصاً عليها بل هو أشد ما يكون تأثراً وانفعالاً للمسائل العامة.

ربى مومسن في كلية كيل فجهزته بجهاز حب بلاده حباً جماً ولطالما قرّع أولئك الذين يقولون أنه يجري في عروقه الدم الدانيماركي بقوله: إن من يدعون أن مدينتي شلزويق وهولستاين ليستا من تراب ألمانيا هم في الحقيقة معتوهون مفتونون. ولم يدخل مومسن في السياسة خلال سنة 1848 وهو وإن لم يحضر بصفة عضو رسمي في مؤتمر فرانكفورت فقد كان من أدهش المحامين عن حقوق الأفراد في ذلك الحين. فقد دافع أشهراً عن قواعد السياسة الحرة وانقطع هو ورفيقان له في مدينة زوريخ من أعمال سويسرا عندما نحي عن منصب تدريس حقوق رومية وكان أستاذاً له في كلية ليبسيك عام 1851 ولم يعتم أن أعيد كرسي التعليم ثمة وأصبح يشتغل بتدريس ذلك الدرس نفسه زهاء سنتين. وفي عام 1854 غادر سويسرا بدعوة من حزمة بروسيا إلى كلية برسلو. وكان يرجو دائماًُ تقدم شبان هذه المملكة ولطالما قال: إن حياة بروسيا تتوقف كل التوقف على سلوكها سبيل التقدم الذي مهده لها فريديك الكبير.

هذا وإن بين مومسن وبين أبناء صناعته فرقاً بعيداً وذلك أنه ظل صادقاً مستقيماً حتى نهاية زهو شبابه ولم يكن ليحفل مثلهم بفخفخة ما أتاه من إمارات النصر ولا عظمة ما ناله من بوارق التوفيق.

كان بدء احتفاظ مومسن بأفكاره على ما شوهد أشد الاحتفاظ بين سنة 1866 و1870 الأمر الذي كان يتطلبه هو أن تكون ألمانيا عظيماً سلطانها منيعاً جانبها تضيء بأشعتها العلمية العالم المتمدن بأسره. ومما حكاه: إن تلك الشؤون السياسية قد شغلت حتى علماء المملكة سنين كثيرة. وهذا وإن كان يستند على أسباب معقولة مشروعة غير أنه حان زمن الإقدام والرجوع إلى الأعمال بعد ما تبينت نتيجة كل شيء. . . وكان يقول: من الواجب معالجة ينابيع قوى ألمانيا بالقوة وتوسيع نطاق علوم الألمان وكشف غطائها بالعمل. ولطالما حقر مومسن أولئك المتعصبين الذين كانوا يناهضون الموسويين بأبلغ ما يمكن تصوره من عبارات التحقير عاداً أنواع المبارزات الجنسية والدينية من رجوع القهقرى لأظلم أيام القرون الوسطى وأشدها أسى وبؤساً. فمن ثم ندد ببعض ضعاف الفكر من حسدة حزب الوطنيين مبيناً بطلان دعاوي تلك الفئة الواهية الواهنة ممن ادعوا بأن الموسويين عقبة كؤد في سبيل تكوين أمة قوية المنعة مصونة الحمى ويبين بمستندات تاريخية جمة أنهم مستعدون لكل ضروب التقدم والارتقاء وأنهم على العكس مما يظنون وانتقد سياسة بسمرك انتقاداً شديداً فحاكمه الوزير إلى المحاكم فحكمت ببراءة ساحته وكان عضواً في مجلس الأمة.

ليس بين المؤرخين من يقاس بمومسن في تحبير الصفحات التاريخية العظيمة أو تحريرها غير أرنست رنان فقط. فتلك التصورات الواسعة واحدة والنسبة فيما بينهما واحدة كما أن قوتهما في البيان والأداء سواء. أما المهارة في إشراب روح الحياة للأشياء كما كانت بإظهار دقائق التفاصيل والفروع الواسعة التي من شأنها أن تبقى في الحافظة منقوشة فواحدة أيضاً في المؤرخين مومسن ورنان.

ولما كان مومسن أيضاً كسائر مؤرخي الألمان المتفرغين عن نيبور يهتم كثيراً بحياة الأمم الشخصية وكيفية نشوئها وانتشارها فإنه وجد تاريخ رومية مساعداً كثيراً لإيفاء هذا المقصد الذي يتوخاه. ولما حل مسألة الوطنية ووضعها رغب في تعليمها معاصريه وكان مثل هيبولت تين يستمد من المخترعات العلمية والمكتشفات الفنية بأجمعها لأن تقدم العلوم ولا سيما ما يتعلق منها بعلم الحياة قد ساعد التاريخ كثيراً. فقد نقب مومسن أولاً عن بعض ما لخصت به ولم يقبل ما في مذهب تين من المادية البحتة بل ولا جميع أفكار المؤرخين في هذا الباب ومن جملتها إمكان استخراج خصوصيات أمة من أخلاقها الخاصة بها بل من الأمور التي هي من قبيل الأسباب المادية كالتراب والهواء ونمط الغذاء.

وكان نظره متجهاً نحو الحجرة الابتدائية للأمة الرومانية لأن بها فقط أمكن لرومية أن تحكم إيطاليا فالعالم أجمع. فاجتهد في كشف أسرار الرومانيين وسبب تفوقهم على الأمم القديمة متخذاً ذلك له أساساً متيناً فإذا أراد تعليل فوز الرومانيين وغلبتهم يبدأ في إظهار ذكاء هذا الجنس البراق وما فطر عليه من حب الإقدام والعمل وما يشعر به من تقديس الواجبات والقيام بها حق القيام وهكذا بعد أن تتبع كما رأيت أحوال الأمة الروحية في سائر مظاهرها أيام كانت عروق الحياة تنبض في جسمها وهو راغب في أن يجلو تاريخه على هذه الأفكار كلها ثم يزفه للناظرين.

على هذه الأصول نفسها جرى تين أيضاً في عامة مؤلفاته الانتقادية المهمة ولاسيما تاريخ أدبيات إنكلترا. وهذا الأسلوب من جياد الأساليب غير أنه له محذوراً واحداً وهو أن الحادثات تلد طبيعية والرابطة التي في خلالها تأخذ شكلاً منطقياً متسلسلاً بحيث يخيل أن هذه كلها قد أعدت من ذي قبل والنصر المتولي الذي بدأ من أبواب رومية ثم وقف في أقصى تخوم العالم المتمدن يشبه مصوراً خارطة قد رسمت بداءة بدء وعول فيها بعد على إدخالها إلى حيز العمل.

فالمترجم نظر إلى تاريخ رومية من نقطة سياسية تماماً ويشاهد ما بذله من العناية في جماع مظاهر الحياة اليومية للنظرة الأولى. وفصول كتابه في الزراعة والتجارة والصناعة والآداب أجمع ما كتب في مصل هاته الموضوعات حتى الآن. ومما كان يرتئيه أن السياسة هي أهم واسطة لبيان أحوال حياة الأمم وهي التي تحدث تجديداً وانقلاباً في جميع الشؤون.

لتتبع التاريخ السياسي وتدقيقه خطتان الأولى: خطة توكفيل الفلسفية وهي عبارة عن اتخاذ أوضاع الأمة وقوانينها المادية والفكرية أساساً والعمل على كشف أسرار تولدها ونتائجها أكثر من النظر في حوادثها وكائناتها ويصح أن يقال أن هذه الخطة علمية لأن الكاتب لا يظهر نفوره أو ارتياحه لحالة سياسية معينة. ومن ثم كان ذلك المؤلف غيرياً لا أنانياً. والثانية تعليل الحوادث التاريخية ببعض أفكار تنطبق على آراء سياسية واجتماعية أو دينية وبها يختلف التاريخ حسب المنظر ووجهته.

ولقد وقى مؤرخو الألمان أنفسهم في الربع الأول من القرن التاسع عشر من هذا الأسلوب التاريخي الذي اتخذه كتاب الإنكليز والفرنسيس مثالاً يحتذونه. وهذا نيبور ورانك المؤرخان الألمانيان يصفان الوقائع التاريخية ويصورانها دون أن تشتم من تضاعيف سطورهما رائحة تحزب أو تعصب بتاتاً.

وفي عام 1850 نشأ صنف من المؤرخين على غير تلك الطريقة والسبب في ذلك اجتماع طائفة من الأساتذة الأفاضل في مؤتمر فرانكفورت واشتغالهم بالسياسة بعض الاشتغال حتى إذا ما نقلوا مشاغلهم الخارجية إلى أرائك تدريسهم أخذوا يضعون موضع المذاكرة والبحث هاته الأحوال السياسية الحاضرة التي أورثت المسائل السياسية الغابرة تلك أطماع وذلك هو نتيجة الثورة السياسية سنة 1848.

هذا هو مومسن قد حاز الأولية بين فريق هؤلاء المؤرخين هذا الرجل الذي كان يتخيل حينما يكتب تاريخه أن تعليلاته تنطبق على التجارب الماضية على حين أن القسم الأعظم منها كان ناشئاً في الغالب من شعوره الذاتي وتابعاً لأحوال محيطه وقوته المخيلة.

زبده فلسفة تاريخ مومسن براز في سبيل الحياة براز دائم من أجل تكوين جامعة سياسية وضمان عظمة قومية. وعنده أن تاريخ رومية يمكن تلخيصه بعدة فتن وحروب بدأت فيما فرط بإعداد الجيوش وسوقها كما بنيت على أساس تجاري ودولة رومية الزراعية التجارية التي تحيط بها قبائل الأعداء من كل ناحية وجهة تحارب أولاً صوناً لتجارتها من أن تبور حتى إذا انصبغت السياسة إذ ذاك بصبغة حكومة مطلقة تعمل على القيام على التهام ما حولها مما لا يزال فتياً.

وكثيراً ما تجد مومسن يرجع إلى هذا ناموس حياة الأمم فيتعبره بمثابة ناموس الثقل في موقعه ومساس الحاجة إليه. وكان يقول: لما كان المقصود الأعظم من التاريخ المدنية والمدنية تعمل على تشذيب ما ليس فيه قابلية للنمو واستعداد للنشوء من الأغصان كما ينبغي كانت الحرب عبارة عن آلة جسيمة من الإصلاح لإنشاء الرقي العام وإن سعادة مملكة ليتوقف على تبدل مبارزاتها إلى حروب!. . . .

إلا وأن فلسفة تاريخ كهذي تناسب جداً حال أمة بروسيا تحارب نفسيها بنفسها مرات ثلاثاً متتالية وتساعد كثيراً على تعميم الرقي والتقدم في ألمانيا أولاً ثم في أوروبا والعالم أجمع. ومع هذا فالمترجم لا يضم صوته إلى صوت الفيلسوف هيكل في قوله: إن وراء كل حرب فكراً أخلاقياً والقوة والفضيلة (لفظتان مترادفتان) ولا هو أيضاً من أرباب الاشتغال بالأخلاق. وكان يقول بهذا الناموس التاريخي: الحق مع القوة والتاريخ يكسر في مهب عواصفه العاتية الأمم التي لا صلابة فيها ولا مرونة كسر الفولاذ دون أن يشعر بأثر رحمة أو شفقة مطلقاً.

هذه هي نظرياته التاريخية التي يظل الإنسان حائراً حينما يرى أنها وأمثالها يدافع عنها ويحامي في وطن رجل مثل ذلك الفيلسوف كانت. لكن مظهر ألمانيا عام 1850 تغير عما كان عليه على عهد الفيلسوفين العظيمين فيختي وكانت. إذ أن فلاسفتها المحدثين أروها أن الأحوال والمواقع في تبدل دائم وأن قيمة الحقوق نسبية والقابض على أزمتها هي القوة فقط. ذلك هو ناموس العام الذي ليس في إمكاننا مهما أحسنا النقد نقضه أو تبديله. وناهيك بناموس كانت فلسفة بسمارك بأسرها عبارة عنه.

أول درس رغب مومسن في إلقائه على مواطنيه وصيته العظيمة: لا تكونوا بلهاً أغراراً ولقد تحققت أمنيته تلك. فإن الجنس الذي أوجد بسمارك لا يمكن أن ينسب إليه بله أو غباوة في حال من الأحوال. وإن تقدم أمة الجرمان ليصادم النظر في أغلب فصول كتابه فبينا هو يبحث عن الغاليين مثلاً إذ يشرع في وصفهم بقوله: إنهم شعراء أذكياء ذوو قلوب صافية سرائرها وليس بهم قوة ولا طاقة غير أنهم طائشون يرتاعون من العمل في الحقول والمزارع ويرتاحون للحانات والعربدة ويعتبرون قسيسهم أباً ومنه يرجون النصح في كل شيء. وكان مومسن لا يحب الفرنسويين بتة ومن أجل هذا فإنه أحيا تلك المعركة التي نشبت سنة 1870 على أنها للألمانيين مخلصاً لهم يحررهم من داء تقليد فرنسا. وقد بحث في كتاب كتبه لإرجاع الإيطاليين عن فكر اتفاقهم مع فرنسا في اضمحلال بابل الجديدة (باريز) وسقوط أدبيات فرنسا التي هي أشبه بنهر السين اتساخاً ودنساً.

هذا الميل الذي كان يشعر به مومسن نحو بلاده كان يجول في خلال كل سطر من تاريخه وفوق ذلك فإنه كان يرى العناصر الأخرى بجاني العصر الجرماني منحطة جداً.

ولم يكن يميل للأمة اللاتينية وإن كان يتظاهر بذلك أحياناً ولم يكن مصدر ذلك هو حب حقيقي وزد على ذلك فإنه كان لا يرتاح إلى أفكار هذه الأمة مع ما أوتيه من المواهب الطبيعية وما فيه من المبادئ السامية وما أتيح له من معرفة العظماء ومما قاله في ذلك إن الإيطاليين لا يمكن أن يدخلوا في مصاف الأمم التي تلعب في طبائعها الغرائز الشعرية لفقدان تأثر أفئدتهم إنما لا تقاس أمة الإيطاليين في البلاغة والفاجعات. . . .

وأنت لتجد لسانه الجائل في تلك الأبحاث وهو يحكم حكماً باتاً قاطعاً مرتبطاً بفكره وشعوره تمام الارتباط. فهو مثل تين حذو القذة بالقذة لا ينحرف عن الأسلوب الذي تمسك به فيد شبر. وفيما هو يكتب في التاريخ يبين الآراء ويثبت ما أتى به من نظرياته الخاصة تراه يطرح من الوقائع كل ما يوشك أن يوقع في هذه الآراء والنظريات خللاً.

فهو يريد أن تكون الأمة الرومانية سالكة السبيل الذي اختطه لها لا تحيد عنه ذات اليمين أو ذات الشمال. خذ إليك مثلاً ذهابه إلى أن الدهاء في غير السياسة لا أثر له في الرومانيين وجزمه بما ذهب إليه جزماً باتاً تجده يعزز هذا الحكم باستنتاجات قوية وبراهين جلية متينة. وأن الألمان ليتراؤن له من جهة الانتظام أتم من الرمانيين الذين هو وألئك في السياسات والمعارك سواء وكذلك يشعر المطالع من طرف خفي بمدحه الألمان من خلال حطه من العنصر اللاتيني وأنه ليفاخر قائلاً: إن القسم الذي وقف سداً منيعاً بكل ما فيه من قوة ورابطة جأش أمام هجمات المغول على رومية كان مؤلفاً من جماعة الوطنيين فقط الذين يجري في عروقهم دم الجرمان.

وهكذا جاء الكتاب من أوله إلى آخره على هذا المنوال فهو أشبه بقصيدة نظمت للذب عن ألمانيا والألمانيين. وبعد فليس بالنزر التافه القليل الذين استفادوا من تلك الدروس التي ألقاها مومسن في تاريخه وأفادوا بما جمعوا من المؤلفات الجمة في أحوال عصر الجرمان الروحية التي دعت أساتذة التاريخ والجغرافيا وأهل الإخصاء في علم الحيوان إلى أن بينوا أفضل عنصر الجرمان على رؤوس الأشهاد فعلت الضوضاء حتى في الكتب الجغرافية المدرسية بأن ألمانيا قلب أوروبا حقيقة وأن ما في فرنسا من كل شيء جميل إنما هو مدين لعنصر الجرمان.

معربة عن التركية

دمشق

ص