مجلة المقتبس/العدد 2/التعليم والتربية
مجلة المقتبس/العدد 2/التعليم والتربية
الإسراف وسوء السلوك
معربة من كتاب نصائح العملة
إن ما اعتاده بعض العملة من إهمال الأعمال ذهاباً مع هوى النفس قد يكون أبداً من ورائه ما يدعى بسوء السلوك. ومن عرف بهذا الميل فقد أطرح حلل الشرف في الإنسان ولبس رداء من الشرور قد يتعذر إطراحه في الغالب. لا يستحق اسم الإنسان إلا من جعل شهواته وأهواءه ورغائبه محكومة بنظام العقل على الدوام موضوعة على محك البصيرة والتدبر. ولا يسعد إلا من جعل هذا الخضوع عادة فيه لا يتكلفها ولا يجهد نفسه من أجلها. فعلى الشهوة أن تكون أبداً مطيعة وعلى العقل أن يأمر ولكن إذا أمرت الشهوة وأذعن العقل فقد المرء العقل والسعادة. وعدم اعتدال العامل في شؤونه دليل سوء تصرفه وبحانفه عن جادة الاستقامة وطرق الكرامة.
سهل على العامل من الأسف أن يتخلق بهذا الخلق في شبيبته وقبل زواجه أيام يكون في إبان قوته ونضارة صحته يتناول أجرة تفيض عن حاجته فيفيض منها على هواه ما يكفي رجلاً متزوجاً في إعالة عياله. فإن أجرة أمثال هؤلاء العملة الشببة الفتيان لا يكادون يقبضونها حتى يصرفوها في كل سبيل وينفقوها في لا يرضي. ومهما كثرت فإن لها مصارف تستغرقها برمتها ولا تبقي منها ولا تذر. والسرف متلفة كل شيء يتأصل على العادة في النفس مما يخشى منه بعد أن يتعذر إقلاع العامل عن هذا الخلق فيعيش بعد زواجه كما كان يعيش عزباً.
لا أجمع بين الانحراف الموقت وسوء السلوك على أن الثاني يتولد من الأول بسهولة. وما من امرئ لا يدرك إلى أين يؤدي الانحراف عن جادة الفضيلة لأول أمره. ومن الهين اللين أن يسقط الإنسان من الطيش إلى الاضطراب ومن هذا إلى سوء السلوك. وا رحمتاه لمن لا يحسن مقاومة شهواته الأولى فإن الهواء الذي يستنشق في المجتمعات وقد ركب الطيش أجزاءه ليحل في تضاعيفه اضطراباً وبحراناً في الحواس وينتهي بضرب من السكر الأدبي ويصعب تبديد شمله بقدر ما ترتاح النفس إليه. ومع هذا فقد يرجو الطائشون عبثاً إصلاح نفوسهم من هذا السكر وأنه موقت لا يلبث المنغمسون فيه أن يرجعوا عن غيهم.
ولكن تجيء الأيام تلو الأيام والأسابيع تلو الأسابيع والشهور عقيب الشهور والنفس لا ترجع عن غيها وغلوائها.
ولقد أنشئت في إنكلترا وأميركا جمعيات دعيت جمعيات الاعتدال بغية إنقاذ العامل بل اضطراره إلى عدم إهمال العمل وسوء استعمال أوقات فراغه فأسفرت هذه الجمعيات عن بعض النجاح فيقضى على من يريد الانخراط في سلك هذه الجمعيات أن يقسم إيماناً مؤداه أن يتخلى عن استعمال أي شراب من المسكرات كان. ولكن حظر استعمال شيء حسن في ذاته ليكون المرء على ثقة من سوء استعماله معناه قلة الثقة بنفسه ومن المتعذر أن يكون لامرئ لا يعتبر نفسه ويثق بها من القوة أن يتغلب حيناً من الدهر على سلوكه فيجعله تبعاً لإرادته وإرادته تبعاً لكلامه. ولذلك ترى هذه الجمعيات عرضة للسقوط كثيراً لأنه لو لم يكن للمرء من نفسه وازع يقيه المضال والانغماس في حمأة السفاهة ليس لجمعية أن تناله منه بمجرد حلف يمين والقيام بمظاهر عظيمة.
لا تنتهي الأنفس عن غيها ... ما لك يكن منها لها زاجر
ومن استنار عقله بنور العقل الصحيح هيهات أن يحيد عن الجادة المثلى ويتعدى حدود الأدب واللياقة. ومن الشبان من يأتون المنكر فيقولون هذه المرة الأخيرة ونحن لا نأتي منكراً بعد. فهلا قالوا مثل هذا القول من قبل وصرحوا بأنهم لا يأتون المنكر ولا هذه المرة أيضاً فما هو إلا أن تستلب هذه المنكرات من أرباب العقول عقولهم حتى إذا أراد أحد المتلبسين بها أن يرجع عنها بعد أن تكون نفسه مجتها يتعذر عليه ذلك. تعرف هذا من عملة انقطعوا عن أعمالهم أياماً وراحوا يقضون أوقاتهم في القصف والسكر فتراهم بادئ بدءٍ قد وجدوا شيئاً من النشاط إن صح أن يسمى نشاطاً حتى إذا اليوم الثاني تصفر ألوانهم وتنقطع أيديهم عن كل عمل فيصبحون باهتين شاخصين ثم لا يلبثون أن يعربدوا ويصخبوا وربما طالت أيديهم بالتعدي على أبناء السبيل تدفعهم إلى ذلك عوامل الخمار.
إلا وأن سوء السلوك لتستوحش منه النفوس ويفسد القلوب بما يصحبه من الإفراط الذي ينهك الصحة فيعجل الهرم ويهيئ السبل للأمراض العضالة. إفراط تتلبس به النفس فيقودها من ضلال إلى آخر حتى يتناسى صاحبها ما يقضي به الشرف ويحيد حياداً ظاهراً عن مهيع الشرائع. وعقاب سوء السلوك بسيط فهو يميت القلب ويقتل في صاحبه التوبة والإنابة وما هو إلا أن يضعف النفس عن الإحساس الطيب والأفكار الصالحة ويميت في نفسه كل شعور حي. يعمل ولكن من دون لذة. بل مكرهاً وما هو إلا كلا ولا حتى تصير البطالة في عينه عبئاً ثقيلاً والعمل عذاباً أليماً فيبلغ حالة لا يبلغها من المرء اعدى أعدائه وهل أشد خطراً من عدو داخلي ينهك القوى ويهدم الأسس. وقد قبل اعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك والانكى من ذلك أن من يألفون الدعارة ويأخذون أنفسهم بالفسق لا يلبثون أن يعاشروا من هم على شاكلتهم على نحو ما جاء في الأمثال أن الطيور على أشكالها تقع وشبيه الشيء منجذب إليه. وهناك حدث ما شئت أن تحدث عمن يلقاهم من سخاف العقول وضعاف الآداب ينشط كل منهم صاحبه ويهيئ له سبيل الرذيلة ويحببها إليه وتراهم أبداً وأحاديثهم تدور على تلاعبهم وخلاعتهم ورقاعتهم في بيوتهم وأسرتهم ومع الناس أجمعين.
وهكذا ترى سوء السلوك يفسد القلب وينضب مادة الشعور الطيب الخالص فيصبح صاحبه مكروهاً فلا يعيش عيش الإنسان بل عيش الحيوان فسوء السلوك هو ألد أعداء العامل يبعد به عن النجاح والراحة والسعادة. ويا رب ماذا تكون حال العامل إذا ضعفت قواه وأسلمه سلوكه إلى الشقاء مدى العمر مؤدياً به كل يوم إلى أحقر المساكن. فإما أن يرميه مريضاً على حصير المستشفى أو على حضيض ملجأ الفقراء أو يموت تحت مبضع تلامذة الطب في المستشفيات.
ولا تسل عما يجلب هذا الحال من فساد نظام البيوت فإن الزوج أيضاً تحذو حذو زوجها وتنصرف إلى الرذيلة فترضع أبناءها سماً زعافاً من فسادها فما هو إلا أن يضيع عليهم مستقبلهم ويتعذر عليهم التحلي بالأخلاق الصالحة ولا يزال الفساد يدب من جيل إلى آخر ينقله الأب لابنه والأم لابنتها حتى تنحل بيوت أولئك العملة وكانت من قبل يتأتى لها أن تؤسس على التقوى وتعيش في هناء ويمسي أفرادهم وهم حلفاء شقاء وامتهان.
وبعد فإني أتقدم إلى من استرسلوا في هوى النفس أن يصلحوها ولا يقولوا الصيف ضيعت اللبن ولكن جئت في الزمن الأخير فإن إصلاح النفس يتأتى في الكبر كما يتأتى في الصغر. ومن لا يضبط نفسه زمان الفتوة وهو عهد العقل وسن الأماني الطاهرة والإخلاص الشريف هيهات أن يجيء منه ما ينفع أمته وينتفع هو به. فإصلاح النفس لازم في الكبر أكثر فإذا استقام أمر المرء شهوراً بل أياماً قبل موته لابد أن ينال اعتبار الجمهور بل الإنابة مطلوبة فيمن أبيض شعره حتى لا يجمع إلى الشيخوخة إهانة الناس وما على من ابتلوا منذ شبيبتهم بهذه المساوئ إلا أن يحاولوا الإقلاع عنها وتصح عزائمهم على ذلك فللإرادة شأن في سلوك الإنسان ومن لا إرادة له لا يعد في البشر.